حكمة عبد الحمن المهدي ذلك الحديث المنذر، وتلك الرسالة المتوعدة، لم تتوقف النخبة السياسية في الخرطوم عند رفض المطلب الجنوبي البسيط: الفيدرالية، وإنما ذهبت في جرأة بالغة إلى التضييق على السياسيين الجنوبيين الذين يدعون للفيدرالية. مثال ذلك تقديم عضو مجلس الشيوخ، ستانسلاوس بياساما للمحاكمة بعد إعفائه من الوزارة وتجريده من الحصانة البرلمانية. ومما يدعو للأسى أن ستانسلاوس هذا كان من أكثر الساسة الجنوبيين حرصاً على وحدة السودان على أساس الحكم الفيدرالي، بل كان من أكثرهم إلماماً بثقافته. ولد ستانسلاوس في دارفور وحفظ القرآن عن واحد من شيوخها ثم ارتحل إلى بحر الغزال حيث تنصر على يد قس قبطي يدعى بطرس غالي، ولا نحسب أن للرجل صلة ببطرس غالي باشا. ومع تنصره ظل ستانسلاوس يستشهد في الكثير من مداخلاته البرلمانية بالقرآن الكريم. واظب ستانس (كما كان يسميه أصدقاؤه تصغيراً أو ترخيماً لا أدري) على الدعوة للفيدرالية منذ ابريل 1955 عندما أعلن عن قيام حزبه: حزب الأحرار. ولتأكيد حرصه على الوحدة، يروي ستانسلاوس في مذكراته التي نشرت في عام 1990 قصة لجوئه إلى الإمام عبد الرحمن المهدي، أحد الراعين للحكومة القومية، ليستنجد به. استدعى الإمام ثلاثة من أهل الحل والعقد في تلك الحكومة للحوار مع السياسي الجنوبي: الصديق المهدي رئيس حزب الأمة، وإسماعيل الأزهري رئيس الحكومة القومية، وعبد الله خليل الأمين العام لحزب الأمة ووزير الدفاع في تلك الحكومة وقال لثلاثتهم، حسب رواية ستانسلاوس: «لقد عجز الأتراك عن هزيمة الجنوبيين، ولم يستطع والدي المهدي السيطرة عليهم. كما لم يتمكن الإنجليز من دحرهم إلا بصعوبة. هؤلاء الجنوبيون، كما أبلغني بياساما، يريدون أن يحكموا بلدهم بالطريقة التي تُطمئنهم في إطار السودان الموحد. اذهبوا وأعطوهم ما يريدون». هذا ما لم يحدث. ومن ذلك التاريخ، أخذت حكومة الخرطوم «القومية» تعامل كل جنوبي يدعو للفيدرالية وكأنه شوكة في الخاصرة. قُدم ستانسلاوس للمحاكمة بتهمة الدعوة للفيدرالية وكأن تلك الدعوة قد أصبحت جريمة. أما ساتيرنينو فلم يتعرض لمحاكمة وإنما ترك أمر محاكمته وعقوبته للأجهزة الأمنية التي اغتالته في الحدود اليوغندية. في ذات الوقت، اندفع بعض السياسيين، كما اندفع ذوو التأثير على الرأي العام في صحف الخرطوم، إلى حملة عنيفة ضد الفيدرالية تشي بغير قليل من سوء الفهم لها أو، على الأقل، وهم مريب حولها. فمن بعض دعاواهم، مثلاً، أن الفيدرالية «استراتيجية استعمارية» تهدف إلى تقطيع أوصال السودان جاء بها المستر لوس، مستشار الحاكم العام. ومن المدهش أن الحزب الشيوعي السوداني (الجبهة المعادية للاستعمار) الذي كان الأكثر تقدماً من بين الأحزاب البرلمانية المعارضة في نظرته للمشكل الجنوبي ودعوته لحكم ذاتي للجنوب انضم إلى معارضي الفيدرالية، ربما لظنه أنها فكرة أراد بها الاستعمار زرع جيب له في جنوب البلاد. فشل هذه الطبقة السياسية، ومن والاها من المعلقين الصحافيين، في ان تعي أن الفيدرالية لم تكن، عبر الانقسام الايديولوجى في العالم، عائقا لوحدة الدول الاتحادية، وإنما كانت اللحُمة التي حافظت على تماسك تلك الدول، أمر يدعو للأسف. يخيل لنا أن ذلك الجيل من رجالات السياسة والصحافة كان يتظنى أن السودان نسيج وحده، لا يسري عليه ما يسرى على الدول الأخرى، أو بلسان سوداني فصيح هو «فريد عصره ما مثله شيء».
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة