شكرا لك على المداخلة القيمة. وحقيقة الأمر أن سؤالك عن جدوى ضرورة ربط تحقيق الإشتراكية والديمقراطية بالأديم الديني، سؤال مشروع، وفي مكانه تماما. وتقديمك للتجربة الإسكندنافية، والكندية، في محاولة الجمع بين الإشتراكية، والديمقراطية، كدليل عملي، على أن ذلك الربط ممكن، بغير الوقوع في إشكاليات الدين، وإشكاليات الدولة الدينية، استشهاد موفق. وسؤالك: ((هل يمكن تحقيق (الأشتراكية و الديمقراطية) وفقا لمناهج بحث علمية فى كل مجال على حدة، قد يشترك فى تطويرها و تنفيذها مسلمين ، ووثنيين ويهود وبوذيين و....ملاحدة؟)) سؤال مشروع، بل ومهم جدا، ولا يمكن القفز عليه، دون مقاربته بإيضاحات شافية. وأحب أن أطمئنك، أن الطرح الجمهوري، لا ينكر إسهامات الغير، وإنما يبني عليها. ليس المهم اللافتة التي يتحقق تحتها الإنجاز الإنساني، وإنما المهم، الإنجاز الإنساني نفسه. والفكرة الجمهورية، كما أفهمها، ليست في مجملها سوى إشارة إلى المعاني الإنسانية الرفيعة، الواقعة وراء، أسوار العقيدة الضيقة، التي تهتم، أكثر ما تهتم، بالشكل، وبالطقس، وتهمل المعنى الإنساني. وفي كتابات الأستاذ محمود الكثير مما يشير إلى هذا البعد الإنساني الرحيب. يتجه العالم، اليوم، وجهة روحية. وهذا أمر تدل عليه الكثير من الكتابات، التي تذخر بها سوح الأكاديميا، وبالأخص في الفضاء الغربي. فحركة لاهوت التحرر، وبعض تيارات ما بعد الحداثة، وتيارات ما يسمي بـ ((روحانية العصر الجديد)) New Age Spirituality، كلها تشير إلى ضيق النسق الحداثوي، وهو ما أصطلح على تسميته في الأكاديميا الغربية: The Modernist Paradigm عن الإجابة على الأسئلة الكبرى، واستيعاب طاقات الإنسان المعاصر. فإنسان اليوم، قد وضع قدمه على الأرض، التي تأكد له فيها، عمليا، أن الخبز، ليس بديلا عن الحرية، وإنما هو مجرد طريق إليها. وهذا ما أشارت إليه عبارة السيد المسيح القائلة: ((ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان)). فالإشتراكية، والديمقراطية المجتمعتان في جهاز حكومي واحد، ليستا غاية في ذاتهما، وإنما هما مجرد وسيلة إلى الحرية. بل هما، إنما يمثلان أول عتبة، وأهم عتبة في سلم الحرية. ولأمر ما، فإن الإحصائيات تقول، أن أعلى معدل لحالات الإكتئاب، الإنتحار، في العالم، إنما توجد في الدول الإسكندنافية، رغم وجود النظام الإجتماعي الرحيم، الذي يكفل رفاها معقولا للجميع. فمشكلة الإنسان الحقيقية هي الإغتراب. وقد علاج ذلك الوجوديون، في رواياتهم، وكتاباتهم، منذ حقبة الستينات في القرن الماضي. غير أن الإنسان المقهور، والجائع، كما هو الحال، في الدول الفقيرة، ليس في أفقه سوى تحقيق الأمن من غوائل السلطة، وغوائل الجوع، والعري، والمرض. ولكنه حين يحقق الأمن من هذا النوع من منقصات العيش، على النهج الحداثوي، الغربي، فإنه سوف يدخل قدمه، لا محالة، في حذاء الإغتراب. وسوف يعرف أن وراء أفق ملء المعدة، وإحراز السكن، وتأمين العيش المريح، أفق آخر، ومشاكل أخرى، لا تقل عواصة. فالحاجة للدين اليوم، أكبر منها في أي وقت مضى. ولكن أي دين؟ وهنا تجيء أهمية تساؤلاتك. فتدين ما قبل الحداثة، لا يفي بمتطلبات ما بعد الحداثة. لا بد للمتدينين أن يخرجوا بمفهوم الدين، من ضيق العقيدة، إلى رحاب الروحانية الفسيحة. ولقد تفطن الصوفية إلى ذلك منذ وقت طويل. وأبيات الشيخ محي الدين بن عربي، التي وضعها الأخ اسر كشعار له، في ذيل كل (بوستاته) تمثل الإتجاه المطلوب اليوم. وهي الأبيات التي تقول:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه داني لقـد صـار قلبي قابلا كل صـورة فمرعى لغـزلان وديرا لرهـبـان وبيتا لأوثـان وكعـبة طـائف وألواح تـوراة ومـصـحـف قـرآن أدين بدين الحـب أنى توجهـت ركائـبه فالحـب ديني وإيمـاني
والإسلام في سبحاته العليا، هو دين الحب المستوعب للآخر، والمعترف بالإختلاف. لابد للبشرية أن تتحلق حول المعاني الإنسانية الكبيرة. ومن هذا، ألا ينكر أحد على أحد عقيدته، أو طقوسه. يجب الكف عن الإعتقاد بأن من ليس معنا فهو حتما هالك. أعني يجب الكف عن التحدث بإسم الرب، وإصدار فرمانات، وصكوك إرسال الأفراد، إلى الجنة، أو إلى النار. ((إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين)).. ((إن الذين آمنوا، والذين هادوا، والنصارى، والصابئين، من أمن بالله، واليوم الآخر، وعمل صالحا، فلا خوف عليهم، ولا هم يحزنون)). هذ هىهي المعاني التي تؤخذ من وراء مجالي الشريعة، والعقيدة. وهذه هي المفاهيم التي سعى الأستاذ محمود لترسيخها. يقول جون نسبت، عن روحانية العهد الجديد:
In turbulent times, in times of great change, people head for the two extremes: fundamentalism and personal, spiritual experience...With no membership lists or even a coherent philosophy or dogma, it is difficult to define or measure the unorganized New Age movement. But in every major U.S. and European city, thousands who seek insight and personal growth cluster around a metaphysical bookstore, a spiritual teacher, or an education center
خلاصة القول، وباختصار شديد. المجتمع الإشتراكي الديمقراطي المقبل، هو مجتمع كوكبي، يلتقي على القيم الإنسانية الرفيعة. ثم هو لابد أن يكون مجتمع روحاني، ولا أقول ديني، بالمعني المؤسسي للدين. ودعنا نقول مجتمع روحاني، يجمع بين أقصى حالات التحضر المادي، الممكنة، وأقصى حالات التمتع بالوجدان الصوفي، والقيم الإنسانية الرفيعة. والتصوف بمعنى كلمة Mysticism ليس قصرا على الإسلام، بمعناه التاريخاني. وإنما هو موجود في المسيحية، واليهودية، وفي الديانات الشرقية الكثيرة. وهذا البعد، في كل دين، على إختلاف الأديان، هو البعد الإنساني، الذي سوف تتوافي عليه إنسانية الأزمنة المقبلة. وكتابات مثل كتابات هادي علوي، وسيد القمني، تعين في هذه الوجهة.
أما في فضائنا العربسلامي، فإن النقلة لابد أن تستصحب تراثنا، وموروثنا. فالناس لا يقفزون قفزا. ولذلك لابد من استخدام المصطلح الإسلامي، والقصص الإسلامي Narratives، وهو قصص توراتي أيضا. باختصار يجب استصحاب كل مكونات العقل الإسلامي، و العقل، العربسلامي، على وجه الخصوص، لإحداث النقلة إلى فضاءات الإنسانية الرحيبة. وهذا أمر يفوت على كثير من العلمانيين العربسلاميين. وأخير، فإن الأستاذ محمود دعا إلى فكرة الدستور الإنساني، المأخوذ من وراء أسوار العقيدة. ولذلك فأرجو ألا يظن المتخوفون من الدولة الدينية، أن فكر الأستاذ محمود يستهدف دولة دينية بالمعنى التاريخي، للدولة الدينية. أرجو أن يكون في هذه المساهمة، بعض جلاء لما أشكل حول هذا الأمر. وهو أمر كبير، وخطير، ولا تفي في شأنه المقارابات المختصرة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة