رواية الصالح العام بقلم بهاء جميل

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-18-2024, 11:02 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
11-30-2014, 11:10 PM

بهاء جميل
<aبهاء جميل
تاريخ التسجيل: 11-30-2014
مجموع المشاركات: 26

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
رواية الصالح العام بقلم بهاء جميل

    مقدمة

    ان العمل الادبي وظيفته الاساسية هي القاء الضوء على المشاكل الاجتماعية وابراز التجارب الانسانية حتى يستفيد منها الناس والمجتمعات في الحاضر والمستقبل لان الماضي لا يمكن معالجته من هذا المنطلق هذا العمل ليس نقدا سياسيا او محاولة لتجريم فئة او حزب او فكر ولكنه نظرة تحليلية لتجربة واقعية مر بها المجتمع السوداني كان لها اثارها الواضحة التي اردنا ان نبينها للناس في سياق ادبي حتى تعم الفائدة
    (تحذير )

    حقوق الطبع محفوظة للمؤلف لذا يمنع الاقتباس او النسخ او الاستفادة من هذا العمل باي طريقة كانت الا باذن من المؤلف ..

    ( 1 )

    إرتَفَع صوت رنين جرس طابور الصباح في مدرسةِ السيدة أسماء وعم كربوس يدقه في عنف بطريقته التي يدُقه بها مُنذ عشرين سنة مضت في ميعادهِ الذي لم يتأخر عنه ولم يتقدم دقيقة واحدة ، وتأرجح القضيب المعدني المُعلّقْ على احد أفرُع شجرة النيم العتيقة القائمة بين مكتب المدير وبين السور الخارجي في قوة ، وظل يتأرجح حتى بعد أن وضع الرجل الاصلع الرأس .. الناحل الجسد .. المعروق اليدين .. المحني الظهر ، اليد الحديدية التي كان يطرقه بها - في مكانها المعتاد - وأتجه في خطوات نشطة نحو المدخل الرئيسي ، وأسرعت الفتيات المنتشرات في ساحاتِ المدرسة وداخل الفصول بالتوجه إلى ميدان الطابور الصباحي عندما سمِعنّ الصوت القوي المألوف يتردد صداهُ في آذانهن ...

    وهرولت اللّائي تأخرنّ قليلاً نحو البوابة الخارجية المطلية باللون الازرقْ ، والتي تتوسط السور الطويل الذي بهت لونه الأصفر بفعل حرارة الشمس قبل أنْ تُغلق فلا يستطِعنَ الدُخُولْ ومن ثُمّ يتعرضنَ للعقاب ، فأثرن موجةً من الغبار ، وأفزَعنَ مجموعة الأغنام التي كانت تُطارِد بعض الأوراق المتساقطة التي يُحركها النسيم الهاديء من حينٍ لآخر...

    وأمتَدّتْ أعناق صِبيّةْ محطة الوقود التي لا تفصلها عن البوابة الزّرقاء إلا بضعة أمتار في فضولٍ ، وفَرَحٍ مُتجاهلين نداءات صاحب لوري نقل التُراب للإسراع في تعبئة خزان سيارته بالوقود ، وأتسعت أعين عساكر مركز الشرطة الذي يقع في الطرف الجنوبي من السور ، ودارت في محاجرها ، فأختلّت خطوات التنظيم التي يقومون بادائها أمام الملازم الطويل القامة ، المتناسق الجّسد ، الذي وقف منتصباً أمامهم كأنّهُ ساريةُ علم فأضطرّ للصياحِ بصوتهِ الجهور في غضبٍ حتى وصلَ صوتهُ إلى موظفات دار الرّعاية الاجتماعية اللّائي ضحِكن في سعادةٍ ، ورُحن يتناوبن على السُخرية مِن صيحته التي إعتدن على سماعها في مِثل هذا الوقت مِن كل صباح .

    وأزدادت حركة عُمّال كافتريا دار السّلام الواقعة في الطرف الشّرقي من سور المدرسة داخلين وخارجين متذرعين بجمع كاسات الشّاي الفارغة التي خلّفها بعض مُوظفي المحلّية وعمال المزارع أمام بائعات اللّقيمات بعد أن شربوا شاي الصباح ، وذهب كلٌ إلى حالِ سبيلهِ فأمتلأ المكان كله بالحركة والحيوية ..

    داخل المدرسة وقف الأستاذ جلال في منتصف الصالة الواسعة التي تطل على المدخل من الناحية الغربية وعلى الساحة الكبيرة من الناحية الشرقية ، يراقب الطالبات المتجهات نحو الساحة ، ويتابع في نفس الوقت آخر الداخلات الى المدرسة ويتأكد من إغلاق البوابة في وقتها المحدد ، فوقع بصره على فتاة وهي تمشي - برغم وقوفه ، وبرغم أنها كانت من آخر الداخِلات الى المدرسة - في بُطءٍ ملحوظ حتى بدت وسط كل ما حولها من حركة .. ومن حيوية .. ومن نشاط بدت كأنها لوحة حزينة وضعت في غيرِ مكانها ، أو كأنها لحنٌ جنائزي في حفل عُرسْ... أنعم النظر في وجهها الجميل الذي كستهُ سحابة حزن واضحة فعرف أنها سلمى ، ظل يتابعها بنظره وهي ترخي حقيبة كتبها حتى تكاد تلامس بها الارض.

    غرِق في افكارهِ وهو يتذكر أن تلك هي المرة الثانية في هذا الاسبوع التي يرى فيها تلك الفتاة وهي بهذا الحزن وهذا الإنكسار .. المرة الأولى كانت يوم السبت .. عندما كان يمُر من أمام الفصل الذي تدرس به ، فرآها من النافذة جالسة لوحدها بعد أن خرجت جميع زميلاتها ، وقد وضعت حقيبة كتبها على الطاولة الخشبية القديمة التي أمامها وأمسكت غطاء رأسها بكلتا يديها تمسح به الدموع التي تسيل على خديها ، فوقفَ ينظُرْ اليها ويتساءل عما يبكيها .

    ظنّ أنّ بُكائها يتعلق بأمرٍ منْ أُمور المدرسة فدَخَلَ إلى الفصلِ ، وشعَرتْ هي بدخولهِ فأسرعتْ تمسح ما تبقى مِن دموعٍ على عينيها .. وتعتدِل في جلستها ... وتُعيد غطاء رأسها الى مكانهِ .. وتخرج كتاباً ضخماً من حقيبتها ، وتُغرِق وجهها فيه ...
    تسرب شيئا من حزنها إلى نفسهِ ، وجَثَمَ على صدرهِ ، وهو يُلقي إليها بالتحيةِ ألتي ردّتها في صوتٍ خافت ، مخنوق ، فسألها عن سبب بقائها لوحدها .. وعن عدم خروجها لتتناول طعام الافطارمِثل رفيقاتها ، فأخبرتهُ انّ لديها واجباً تُريدُ أن تفرَغ مِنهُ .. وأنّ افطارها في حقيبتة كٌتبها ، وأنها ستتناوله بعد انْ تفرغ من أداءِ واجبها ..

    سألها إنْ كان هُناك ما يُضايقها ... أجابته بالنفي فاضطّر لان يسألها لم كانت تبكي ؟؟؟
    أربكها السؤال فردت في سرعةٍ :
    - لم أكن أبكي رُبمّا ... رُبّما .. هي الحساسية التي أُعاني منها فأحياناً تجعل عيناي تدمعان ..

    كانت تُعاني فعلاً من حساسية تجعل عينيها تدمعان في بعض الاحيان.. ولكنّها كانت تكذِب فلم تكن الدموع التي في عينيها بسبب الحساسية التي كانت تعتريها بين الحينِ والآخر .. ولم يكن لديها واجباً تريد الإنتهاء منه كما أنه لم يكن في حقيبتها أي إفطار .. أدرك أستاذ جلال ذلك وأدرك انها تعاني من مشكلة .. ولكنه أدرك أيضاً انها لن تخبره الآن أي شيء ...

    كان في طريقه لمقابلة الطبيب ، ذلك الطبيب المشهور الذي أنتظر لثلاثةِ أشهر كاملة حتى حصل على موعد اليوم لمقابلته .. ولم يكن معه من الوقت إلا ما يكفي لادراك موعده في وقته المحدد ، وكان ضياع ذلك الموعد يعني أنْ ينتظر على الاقل لثلاثة أشهر أخرى ، وربما أكثر حتى يحصل على موعد جديد ولكنه - برغم كل ذلك - توجه عائداً نحو مكاتب المدرسات ، متجاهلاً الصداع الذي يطن في رأسهِ .. والإجهادْ الكبير الذي يشعر بهِ .. والموعد الذي حصل عليه بعد جُهدٍ كبير ووقت طويل .

    مرّ في طريقهِ بالقربِ مِن حوض الازهار الواقع وسط الساحة الواسعة التي تتَوسّط الفصول فرأى وردةً حمراء وطأتها إحدى الاقدام في قسوةٍ حتى الصقتها بالطين من تحتها ، فانحنى في قلقٍ ، وأمسك بالساقِ في لهفة ، وانتزعه من الطين في رفق ، كان يخشي أن يكون ساق الوردة قد انكسر ولكنّه وجدَ الساقَ سليماً فأخرج منديله ومسح به في حرصٍ شديد بعضاً مما علق بالساق، ثم تناول الخرطوم وصب – في رفق - قليلاً من الماء على الاوراق ..
    ترك الساق فأنتصبت الوردة واقفة من جديد .. حركها الهواء فتمايلت يمنة ويسرة في رشاقة كانها تشكره ، فأبتسم راضياً ، وبرغم أنّ بعض العوالق كانت لا تزال ملتصقة بالاوراق الصغيرة الحمراء الا انه واصل طريقه مطمئناً الى أنها ستعرف كيف تتخلص منها طالما أنها أنتصبت من جديد...

    وصَلَ الى مكتبِ شُعبة اللّغة العربيّة والرياضيّات ، وطرَقَ البابَ المفتوح على مصراعيهِ منبئاً بحضوره .. سمعِ صوتاً نسائياً يدعوه إلى الدخولِ ، فخطا خطوة واحدة الى الدّاخلِ ، بحيث يستطيع فقط أن يرى من بداخل المكتب ، ويراه من بداخله ... وقع بصره أول ما وقع على حفصة مدرّسة اللّغة العربية ، ومُرشدة الفصل الذي تدرس به سلمى .. جالسةً الى مكتبها الضخم .. مُسندة سماعة الهاتف إلى أذنها بكتف يدها اليُسرى بينما راحت تقلّب بين أناملها قلماً ذهبياً غالي الثمن وقد بدت ربطة رأسها الصفراء ، واكمام بلوزتها الخضراء من تحت ثوبها الابيض الشفاف ، في حين تدلى من أُذنيها قرطٌ طويل في نهايته دائرة حمراء كبيرة الحجم و قد انهمكت – كعادتها - في حديثٍ هامس لا يستطيع أقرب الجالسين اليها أن يسمعه فبدت كلاعبِ سيرك في استراحة ...

    على يسارها جَلَستْ إقبال المٌشرفة الاجتماعية للمدرسةِ ، والمكلّفة بحل مشاكل الطالبات تتصفح إحدى المجلات النسائية المصورة ، و ترتدي ثوباً ابيضاً ناعماً ، وتحيط وجهها المُستدير الجميل بربطة رأس تناسقت تناسُقاً تامّاً مع لون بشرتها الناعمة فعكست ذوقها العالي في إختيار الثياب ....

    زوّت حفصة ما بين حاجبيها في ضيقٍ حينما رأتهُ ، وأزداد همسها خفوتاً وهي تشعر بذلك الشعور المزدوج الذي ينتابها كلما اجتمعت مع أستاذ جلال ومع اقبال في مكان واحد يتسلل الى نفسها ، و أعترى اقبال الارتباك الذي كان يعتريها كلما رأته ، ففتحت احد أدارج مكتبها في حركة غيرملحوظة ، وألقت بالمجلة التي كانت بين يدها بداخله في هدوء ، وأعتدلت في جلستها في سرعة .. أما سامية مُدرّسة الرياضيات والتي تتقاسم المكتب مع حفصة ومع اقبال فلم ترفع رأسها من كومةِ الدّفاتر المُكدّسة أمامها على الطاولة والتي كانت تقوم بتصحيحها إلا عندما سمتعه يلقي بالتحية قائلاً :
    - السلام عليكم !
    فردت مع اقبال في وقت واحد قائلة :
    - وعليكم السلام
    وجّه حديثهُ الى سامية وهو ينقل بصره بين حفصة و اقبال :
    - يبدو أنه لديك - كالعادةِ - عملٌ كثير .
    ردّت وهي تبتسم :
    - مسائل وتمارين الرّياضيات ألتي لا تنتهي كما تعلم ..
    - هل تستطيعين المرور على مكتبي بعد أن تنتهي مما بين يديك ؟؟..
    - إن كان الامر عاجلاً ولا ينتظر ساقوم بتاجيل التصحيح لوقتٍ آخر لانه لم يتبقى على انتهاءِ وقت الراحة الا نِصف ساعة وبعدها ساكون مُنشغلة حتّى نِهاية اليوم فلدّي خمسة حصص مُتبقّية ...
    ردّ أُستاذ جلال وقد اكتسى صوته بنبرة جد :
    - إنّ الامر عاجل .
    - إذن سوف الحق بك بعد قليل

    كانت اقبال تتابع الحديث الدائر بين أستاذ جلال وبين الاستاذة سامية وهي تتميز حِنقاً ، وغيظاً ، فبرغم المشاكل العديدة التي تفجرت بينها وبينه منذ أن استلمت عملها في هذه المدرسة ... وبرغم انه كان الشخص الوحيد الذي انتقدها باستمرار لفترة طويلة ، وبالرغم انه الشخص الوحيد الذي أتهمها بالاهمال و التقصير في صراحة ووضوح إلا أنّ شيئاً من االغيرة كان ينتابها كُلما رأتهُ يُحادث إحدى المدرسات أو يسأل عن إحداهُن ...

    غيرة لم تعرف لها مُبرَّراً ، وحاولت دائماً في بدايتها ان تُنكِرها وأن تعزوها لغيرِ سببها الحقيقي .. وكانت الغيرة التي تشعر بها تتضاعف أضعافاً عندما كان يتحدث إلى ساميةِ بالذّات ... كانت كثيراً ما تراهُ يتحدّث إليها .. أو يأتي إلى مكتبها ليُكلّفها ببعضِ الاعمال .. أو يطلبها في مكتبهِ ، وكانت كثيراً ما تسمعه يُثني على جُهْدَها ، و إخلاصها لعملها فأبغضتها برغم وجودها معها في مكتبٍ واحد وبرغم أنها لم تُسيء إليها ، أو تختلف معها في أي شيء ..

    كانت اقبال تجتهد في رسمِ قناعٍ زائفٍ من الضّيق والكدر على وجهها بمجرد أن تراه لتخفي به اهتمامها, وتداري به اضّطرابها ، ولهفتها ، يساعدها في ذلك إحساس الغيرة الذي كانت تشعر به على الدّوام ، ولقد إستطاعت أن تخدع جميع من حولها بذلك القناع ، فظنوا أنها تبغض الاستاذ جلال ، وانها لا تطيق رؤيته ، ولكن رفيقتها حفصة التي كانت تشعر بإضّطرابها في نبراتِ صوتها .. وتميز إهتمامها في ملامح وجهها ... وترى لهفتها في نظراتِ عينيها ، وفي تشتت انتباهها ، لم تنخدع بذلك القناع ابداً فهي تعرفها جيداً ..

    ورغمَ أنّ بُغض حفصة للاستاذ جلال كان بُغضاً حقيقياً نابعاً من دواخلها ، وبرغم أنها كانت تكره الالتقاء به في أي مكان ، الا انّ مقابلته مع اقبال في مكان واحد كانت تولّد في داخلها إحساساً مزدوجاً ومُتداخلاً .. كانت تكره وجوده ولكّنها كانت تحُب الاثر الذي يتركهُ ذلك الوجود في نفسِ رفيقتها ، كانت العلاقة بين ضيقها من وجوده ، وبين التغيرات التي يحدثها ذلك الوجود في نفس رفيقتها علاقة عكسية محضّة ، فكُلّما إزدادت رفيقتها إضّطراباً ، وارتباكاً ، وتكدُّراً ، كُلّما تناقص ضيقها من رؤيتهِ حتى أنها كانت آخر الامر تنساهُ تماماً ، وينحصر كل تفكيرها في التغيّر الكبير الذي يطرأ على اقبال ، وفي الراحةِ التي تتسربَ الى نفسها تسرب النّسيم العليل من كوةٍ صغيرة الى غرفةٍ مكتومة محكمة الاغلاق عندما ترى ذلك الوجه الجميل وقد غشته سحابة الم .. وترى تلك العينين الواسعتيّن الواثقتّين وقد فقدتا كل ثقة ، وتحولت نظراتهما الى نظراتٍ متردِّدة ، حائرة ، وترى تلك الشفاه المكتنزة اللّامعة ترتجف في عصبية .. وترى تلك الأنامل الرقيقة الجميلة تتحرك في توترٍ وانفعال..

    وبالرغم مِن إنشغالها بالحديثِ في التليفون عندما دخل أستاذ جلال إلى المكتب الا أنها بَذَلْت اقصى ما لديها مِن إمكانيات ، وأعلنت حالة الاستنفار القصوى لكلِ احاسيسها لتوفِقَ بين حديثها الهامس الهام - الذي لا تستطيع ان تنهيه لاهمية الشخص الذي تُحادثه - وبين مراقبة كل صغيرة وكبيرة تحدث أمام عينيها ، فما لبثت ان شعرت أنّ دواخلها قد ابتدات في التقاطِ ذلك الشّعور وهي تتابع وجه رفيقتها في شغف .

    وعندما خرج أُستاذ جلال ، وخرجت سامية في أثرهِ ، ومطّت اقبال شفتيها ، وفتحت دُرج الطاولة التي تجلس اليها وأغلقته عُدة مراتٍ دونَ أنْ تأخذَ مِنه شيئاً ، وهمهمتْ متمتمة بعض الكلمات في غيظٍ مكتوم .. عندها ازدادت إبتسامة حفصة إتّساعاً حتى بدت نواجزها الصفراء ، ووصل شعورها بالراحةِ إلى قمته ، فواصلت حديثها في الهاتف ووجهها يطفحُ بشراً وسروراً كأنها تلقت خبراً سعيداً ...
    ***

    وضع أستاذ جلال أقراص الأسبرين جانباً ، ورَشَف رشفةً مِن كوب الشّاي الموضوع أمامه على الطاولةِ ثم قال موجهاً حديثة للأُستاذة سامية التي تجلس في الكرسي المُقابِل لمكتبهِ :
    - توجد تلميذة تُعاني مِن مُشكلة ويبدو أنّ مُشكلتها كبيرة نوعاً ما .. إنها في الصف الثالث ، وكالعادة أحتاج إلى مساعدتك لمعرفةِ مُشكلِتها حتى نساعدها على تخطيها وتجاوزها .

    - لعلك تقصُد سلمى ؟؟..
    قال وابتسامة مجهدة ترتسم على شفتيه :
    - كيف عرفت ان سلمى هي من أعنيها بحديثي ؟؟
    - أنسيت انني أدرس الرياضيات لصفها ، وأنني أراها كل يوم ؟؟
    - منذ متى وأنت تعرفين بامرها ؟؟
    - منذ عُدة أسابيع .
    - لِمَ لمْ تُخبريني طالما انك تعرفين بامرها حتى نعمل معاً على علاج المشكلة ؟
    - أنت كثير الإنشغال في هذه الفترة كما انك تعاني من بعض التوعك في صحتك فرأيت ان لا أزيدك متاعباً وانشغالاً لقد درست ملّفها جيداً ، ولكني حتى الآن لم افلح في جعلها تخبرني بما تعانيه وبالتاكيد كنت سأخبرك عندما اصل معها الى نتيجة ملموسة ..
    أخذ نفساً طويلاً وهو يقول :
    - أخبريني الآن ما تعرفيه عنها .. كل ما تعرفيه ...

    تنهدت سامية وهي تعتدل في جلستها ثم قالت :

    - جاءت سلمى الى المدرسة بمجموع كبير من المرحلة المتوسطة ، ويبين ملفها أنها كانت الاولى على فصلها منذ الصف الاول الابتدائي وحتى نهاية مرحلة الاساس وانتقالها الى مدرستنا ، ولكن في سنتها الاولى هنا احرزت نتيجة عادية لا تتناسب ومستواها السابق ، ولا تتناسب أيضاً و المجموع الكبير الذي قُبلت به وان لم يلحظ عليها أنها تعاني من شيء ، أو تشكو من مشكلة .. وفي سنتها الثانية هنا أي في العام الماضي تمّ إرسالها الى المُرشدة الاجتماعية مرتين فازدادت إنعزالاً وانطواءً ، و أحرزت نتيجة اكثر سوءً ، أما في هذا العام وعندما انتقلت لصفي ، ورأيت شرودها وحزنها بدا لي جليا انّها تواجه مُشكلة كبيرة فحاولت بطريقتي الخاصّة ان أعرف ما بها ولكنني لم انجح في ذلك حتى الآن ولقد ارسلت في طلب والدها لابحث الامرَ معه ولكنّ الوالد لم يحضر..
    ضغط استاذ جلال على جبينه في قوة ليخفف من وطاة الالم الذي يشعر به وهو يقول :
    - متى أرسلت في طلبه ؟؟
    - الأسبوع الماضي .. حمّلتَ سلمى رسالة اليه ولكنه لم يحضر لمقابلتلي ..
    - إنّ عدم حضوره يؤكد أنّ المشكلة ليست صغيرة .. استمري انت في محاولاتك معها .. وسأحاول أنا أن أعرف ِلمَ لمْ يحضر والدها .. سابذل جهدي حتى التقيه .. ساحاول ان التقيه اليوم او غداً على الاكثر فما ذكرتيه شديد الاهمّية وليس علينا ان ننتظر اكثر من ذلك ، فمُستقبل فتاة ناحجة على المحك وأي يوم يمر عليها في هذا العام لن تستطيع أن تعوّضه بسهولة مهما اجتهدت بعد ذلك .

    انتبه أُستاذ جلال الى أن التلميذات قد إكتَمَلَ اصطفافهنَّ ، وان الاساتذة المسئولون عن الاشرافِ على الطّابور الصباحي قد وقفوا في انتظاره ، فاتجه نحو الميدان وقد وضَعَ في قرارةِ نفسهِ ان يقابل والد سلمى ان يقابله اليوم مهما كلفه ذلك ...
























    ) 2(

    تمَّ تعيين حفصة واقبال ومُدرِّساً آخر في مدرسةِ السّت اسماء للبناتِ قبل عام ونصف العام من التاريخ الذي عرف فيه أستاذ جلال بمشكلة سلمى ، ورغم أنَّ حفصة واقبال كانتا رفيقتين داخل المدرسة ، وخارجها ، الا انهما كانتا متناقضتين في كلِ شيء ، فاقبال أبنة أحد الاثرياء النافذين في الحزبِ الحاكم والذي أستولى على السلطةِ بانقلابٍ عسكريّ ، قاده احد الضُباط التابعين له قبل سنوات عديدة ، مجُهِضاً بذلك حكماً ديمُقراطّياً كان يتلمّس طريقهُ في سنواته الاولى .. أما حفصة فقد كانت إبنة احد المزارعين البسطاء في إحدى القُرى النائية في الريف الفقير.

    وكانت اقبال سمراء اللون .. رشيقة الجّسد .. ناعمة الشّعر .. نجلاء العينين .. خارقة الجمال تتدفق الأنوثةُ مِن كل حركة ، أو لفتة ، من جيدها الرشيق .. وكانت حفصة بيضاء البشرة ... طويلة القامة عريضة المنكبين ... ضيقة العينين .. انتشر النمش الأسود على خديها و جبينها وانفها الكبير فلم تنجو منه الا عينيها الصغيرتين ، وشفتيها النحيفتين .. وكانت اقبال قنوعة تميل الى الراحةِ .. والدّعة .. وحياة الرفاهية ... بينما كانت حفصة موفورة النّشاط طموحة ... في داخلها نهم غريب للمال ، وللسّلطة ، والشّهرة ..

    التقتا للمرة الاولى في الجامعة بعد أن ضمتهُما حُجرة مُحاضرات واحدة ، ولانّ حفصة كانت توّاقة دوماً لمُصاحبة بنات الاسر الثّرية ، ولانه كان في داخلها تعطُّشا مُستمِرا للبقاءِ بالقربِ ممن يعيشون حياة الرفاه ، ولانّها كانت قد سمعت الكثير عن والد اقبال ، وعن نفوذه داخل الحزب الحاكم في أروقةِ المُنظمة النسائية التي عملت فيها في منطقتها قبل أن تنتقل للدراسةِ في الجامعةِ ، فقد تعمّدت ان توطّد صلتها باقبال ، وسعت سريعاً الى التقربِ منها ، وكسب مودّتها ، فقد كانت تُدرك ان اقترابها من والد اقبال - بأي صورة من الصّور - سيوفّر لها الكثير مِن الدّعم .. ومن المُساندة اللّذان ستحتاج اليهما في المستقبل ..

    ورغم أنَّ حفصة كانت قد انضمت الى الحزبِ في البدايةِ بسبب قناعتها بعدالة ما طُرِح عليها مِن مباديء العدالة ، والمساواة ، وحق العيش الكريم ، مثلها مثل معظم الفقراء ، والبسطاء الذين عادة ما يكونون أسرع من غيرهم إلى احتضان شِعارات القيم الفاضلة ، الّا انها سُرعان ما تأثرتْ بمن حولها ، وبالمحيطِ الذي بدأت فيه ممُارسة عملها السياسي ، فاصبح الكسب الشّخصي ، والحصول على المالِ ، واعتلاء المناصب ، هي أهم أهدافها التي تسعى إليها في السّر ، برغم كلامها الجميل عن الزهد ، والتقشّف ، واخلاص النية في العمل ، وبرغم تظاهرها بالايمان .. والتقوى والصلاح ..

    أما اقبال التي لم تكن شديدة الحماس للدرس، والتّحصيل ، والتدّوين فقد وجدت في حفصةِ خير مُعين لها في كتابةِ المُحاضرات ، وتلخيص المُقررات ، وتوفير الكُتب فتوطّدت العلاقةُ بينهما بعد أن وجدت كل منهما في رفيقتها ما تحتاجه أو ما تسعى اليه ..

    واستطاعت حفصة بحكم خبرتها وحنكتها ان تلعب دوراً بارزاً في مجريات العمل السياسي للحزب داخل الجامعة ، وسرت في سنتها الثانية من دخلوها للجامعة شائعة عن تزوير الانتخابات التي فاز حزبها بها فحدثت بعض الاضطرابات في اوساط الطلاب الا ان الاجهزة العسكرية سرعان ما تدخلت لفض النزاعات ، فنالت حفصة رئاسة اتحاد الجامعة وبقى حزبها يفوز بعد ذلك عاما بعد اخر بالانتخابات الشكلية التي يتم اجراؤها فبقيت هي على رئاسة الاتحاد حتى تخرجت من الجامعة ، ومثلما برعت من قبل في العملِ في المنظمة النّسائية في منطقتها ، برعت أيضاً في الجامعة في التّنسيق بين الطلاب ، وفي تنفيذ خُطط الحزب ، وبرامجه السرية داخل الكليات المختلفة .

    ونَمتْ خِبرتها في رفعِ التقارير ، وفي تحليلِ المواقف السياسية ، وفي إستخلاص النتائج المتوقعة ، فأزداد نجمها بريقاً ، ونالت إعجاب رؤسائها ، فعمدوا إلى تعيينها مُديراً لاحدى المنظمات السّرية التابعة للحزب فور تخرجها ، وكسِتارٍ وغِطاء ، ولتحقيق هدف آخر هو إستقطاب النابغات من الجيل الجديد قبل أن تصل اليهنّ أيدي الأحزاب الأُخرى ، تم تعيينها في مدرسةِ السّت اسماء أسوة بالعديد من كوادر الحزب الذين كان يتم توزيعهم كل عام على المدارسِ .. و المستشفيات .. وعلى المؤسسات الحكومية المختلفة للهيمنة على جميع أجهزة الدولة ومرافقها ..

    ولانّها لم تشأ إبتعاد اقبال عنها فقد استغلت علاقاتها التي توسّعت وطلبت أن يتم تعيينها معها في نفس المدرسة مُشرفة للرعايةِ الاجتماعيّة بعد ان أقنعتها بأنها ستختار لها وظيفة سهلة لا تتطلب أي مجهود ، فكان لهما ما أرادتا ، ولكنهما فوجئتا بوجود الاستاذ جلال في المدرسةِ فابتدأت المشاكل بينهما وبينه منذ الاسبوع الاول ، فقد رأى الاستاذ جلال المعروف بحرصه ، وباهتمامه ، وبجديته .. رأى في القادمتين الجديدتين تعالياً .. واستهتاراً .. واهمالاً .. ورغم أن حفصة كانت تتصرف وكانها تملك المدرسة بمن فيها إلا أن مشاكل الاستاذ جلال مع إقبال نالت نصيب الاسد فقد كان يؤمن ايماناً كاملاً ان وظيفة المشرفة الاجتماعية هي أهم وظيفة في المدرسةِ كُلها ..

    كانت اقبال منصرفة إلى قراءةِ القصص والروايات ، والمجلّات النسائية ، فبدأ النقاش بينهما هادئاً في البداية في محاولةٍ منهُ لحثها على الاهتمام بواجبها ، ولكنه إزدادا حدةً ، وعُنفاً ، عندما لمِس عدم إهتمامها ، وتجاهلها ، ثمّ تطور بعد ذلك ليصبح ولفترةٍ طويلةٍ روتيناً يومياً ، والغريب في الامر أن كل نقاش كان يحدث بينها وبينه ، كان يقلل من قيمتها في نظره في الوقت الذي كان يجعل شيئا ما يتحرك في داخلها شيء من الغيظ والغضب ولكنه غيظ ممزوج بالالم .. كانت تشعر بالغيظ لانها لم تعتد طوال حياتها ان ينتقدها أحد ، أو أن يوجه لها أي إنسان لوماً ، او عتاباً ... وكانت تشعر بالالم لانها كانت تُدرِك أنّ استاذ جلال يراها أقل من أي مُدَرِسةٍ أُخرى في المدرسةِ ...

    ربما لو كان شخصاً آخر لما آلمها ذلك ، ولما أهتمت له كثيراً ، لكن هو بالذات أصبحت مع كرور الايام تتمنى أن تكون مكانتها في نفسهِ أفضَلَ مما هي عليه .. وحاولت جاهدة بعد ذلك ان تضغط على أعصابها لتغير من نظرته اليها ، حاولت أقصى ما أستطاعت ولكنّه عند ذلك الوقت كان قد اكتشف أنهّا غير مؤهلة لاداء وظيفتها ، وأن أي نقد يوجه إليها ، وأي نصح يُلقى على مسامعها لن يفيد شيئاً ، ولن يزيد الامور إلا تعقيداً ، فأنصَرفَ عنها كلّية ، بعد أن اقتنع أن أفضل ما يفعله هو أن يقوم باداء وظيفتها نيابة عنها ما وسعه ذلك ، حتى لا تتضرر الطالبات ، وفكّر طويلاً في شخصٍ يساعده فيما قرر القيام به ، فوقع أختياره على سامية مُدرّسة الرياضايات ، وأخبرها بما انتواه فوافقت على الفور ، لانّها كانت تتابع في صمت - مثل باقي المدرسين والمدرسات - عدم إهتمام المُرشدة بواجبها ، فتحوّل غيظ إقبال وألمها تحولا إلى بغض ونار تستعر في داخلها تجاه الاستاذة سامية .

    وانتهى العام الاول وحلّت إجازة الصيف فشعرت بالضيق لانتهاءه ، كانت هذه الاجازة الاولى في حياتها التي تشعر انها جاءت في غير وقتها ففي السابق كانت تتنظر موسم الاجازات كمن ينتظر فك قيده ... وحل أسره ...

    وخَلَتْ إلى نفسها في إجازة الصيف الطويلة وفكّرت كثيراً فاقتنعت بانها في حاجة ماسة لان تغير من أسلوبها ، لذا فقد فحاولت مع بداية العام الجديد أن تجتهد ، وأن تُبدي نوعاً من الاهتمام بواجبها وبوظيفتها ، ولكنها لم تُفلِح في تغيير نظرة استاذ جلال اليها ، ولا في صرف إهتمامه ناحيتها ، فلجأت عندئذ إلى الاعتراض على تدخله في شئون وظيفتها ، وعلى قيامه بادائها نيابة عنها ، الا ان اعتراضها لم يأتِ باية نتيجة ، فقد اعرض استاذ جلال عن توجيهات مدير المدرسة ، وعن نصائحه التي كان يذكره فيها بان اقبال تستطيع ان تلحق به الاذى ، واستمر في القيام بدورها مُتجاهلا اعتراضاتها وشكواها ..
    وأعجزتها الحيلة في فعل ما يجعله يلتفت اليها ، او أن يوقف تدخل سامية عن طريقه فيما تعتبره عملاً يخصها ، فوافقت على ما اقترحته حفصة من رفع شكوى ضده ، ورغم قناعتها بخطأ ما تفعله ، ورغم عدم ارتياحها لما ستقوم به ، الا أن الغيرة التي كانت تشتعل في داخلها ، جعلتها توافق حفصة على اقتراحها ، في محاولة أخيرة ، يائسة ، لارغام أستاذ جلال حتى يشعر باهميتها ، وبمكانتها .

    وأنتهزت حفصةُ الفرصة التي انتظرتها طويلاً فمن ناحية ستنتقم منه ، ومن ناحية أخرى سيكون في مقدورها أن ترى مزيداً من المعاناة ، والالم ، في وجه اقبال اذا تم إبعاده عن المدرسة ، أما ان لم يتم إبعاده فشقّة الخلِاف المُتسعة أصلاً بينهما ستزدادُ اتساعاً ، وذلك سيُدخل أيضاً مزيداً من الراحةِ ، والسرور إلى نفسها ، فأسرعت ترسل شكوى الى المكتب الاقليمي للحزب ، ذكَرَتْ فيها انّ الاستاذ جلال يلفت اليهما الأنظار بانتقاداته المُتكرّرة ، وأنه يعملُ جاهداً على تقويض المشروع الذي تقومان بتنفيذه لصالحِ الحزب ، وانه من اشد المعارضين لسياسات الدولة ، ثمّ أضافت انه سيتمكن من النجاح في مساعيهِ ان لم يتم وضع حد له ، فما كان من المكتب الاقليمي الا ان قام بارسال مندوب على جناح السرعة ، الى مكتب الاشراف الذي تتبع له المدرسة ، شرح الأمر لمديره ، وطلب منه في وضوح إسكات ذلك المدرس ، أو إستبداله باحالته الى الصالح العام ، فأسرع مدير مركز الاشراف بدوره يستدعي الاستاذ جلال .

    ***
    فتَحَ أُستاذ جلال باب مكتب المُشرف التربويّ بعد أن سمح له السكرتير بالدخول فلفح وجهه هواءٌ بارد إنبعث من اجهزة التكييف التي كانت تعمل على تلطيف الجو داخل المكتب ، وغشت انفه رائحة جميلة هي مزيج من عطرِ نفّاذ وبخور شرقي ، فشعر بانّه يستعيد نشاطه وحيويته ، ويستعيد تركيزه الذي كان قد فقده بسبب الحرّ الشديد في الخارجِ وبسبب الضجيج في زحام المواصلات ، فسار مُتمهلاً على السجاد العجمي الغالي الثمن وهو يقطع الأمتار الخمسة من بوابة المكتب وحتى الطاولة الابنوسية اللون التي إستقرت في نهاية الحجرة ، وجلس على أحد الكرسيين المتاقبلين الموضوعين في عناية أمام الطاولة الأنيقة حينما أشار له الشاب الجالس خلف الطاولة بالجلوس وهو يواصل حديثه عبر الهاتف .
    إنتقلَ بَصَرهُ مِن الوجه الشّاب المتورد الخدين ، ذي اللحية الخفيفة ، والعينان الحادتان ، والنظارة الايطالية الشفافة ، والذي تبدو عليه مخايل النعمة ، والراحة ، إلى الطاولة الزجاجية التي تفصل بين الكرسي الذي جلس عليه وبين الكرسي الاخر والتي وضعت من فوقها مزهرية رخامية صفت بداخلهامجموعة من الازهار المختلفة الالوان والاشكال ثم تجاوزها الى قطع الاثاث اللّامع ، البرّاق ، لغرفة المكتب والذي كان كله من الخشب المستورد ، فابتسم في سخرية حينما تذكر الشعارات التي تتردد في اجهزة الاعلام منذ عدة سنوات مبشرة بوقف الاستيراد ، وبالاعتماد الكلي على الإنتاج المحلي .
    إزدادت إبتسامة السُّخرية اتِّساعاً عندما رأى لوحة ذهبية ، أنيقة ، مُعلّقة على الجدار خلف كرسي المدير وقد كُتِب عليها بالخطِ الكُوفيّ الجميل (( العمل أمانة )) ثم بخط الثُلث ( العدل أساس الملك ) ، أخرجه من تأمُلاته صوت المدير الشاب وهو يضع سماعة الهاتف ويقول في برود :
    - أهلاً ..
    - اهلاً وسهلاً ..
    إرتفع صوت المدير وهو يسال وقد ازدادت لهجته بروداً :
    - الاستاذ جلال ؟
    - نعم !!
    - أضاف وهو يفتح ملفاً أمامه ويتصفحه في عناية :
    - لديك ملف خدمة ممتاز .. فلماذا تريد أن تخسره بلا مقابل ؟؟
    تجاهل أستاذ جلال - الذي لم يكن يعرف حتى الآن لم تم استدعاؤه - نبرة التهديد التي حملها صوت محدثه وكلماته وتساءل بدوره في دهشة :
    - وما الذي يجعلني أخسره ؟؟
    - مشاكلك التي لا تنتهي ... و تدخلك المُستمِر فيما لا يعنيك .. وإعاقة عمل زميلاتك في المدرسة ِ.
    أدرك على الفور انّ الامرَ يخُص حفصة واقبال فبدت نبرة السُّخرية واضحة في صوتهِ وهويقول :
    - عن أي زميلات تتحدث ؟؟
    - أنت تعرف تماماً عمَن أتحدّث .. نحنُ لا نُريد المزيدَ مِن المشاكل لذا ساقول لك في وضوحٍ إنْ أردت أن تحُافظ على وظيفتك فلا تعود للتدخّل باي شكلٍ مِن الاشّكال في شئونِ زميلاتك في المدرسةِ ، اهتم بنفسك فقط وقم باداء واجبك ، ولا تزد على ذلك شيئاً .
    أغضبه أن يحدثه ذلك المشرف المتغطرس والذي يصغره بعدة اعوام بتلك الطريقة ، وأحنقته السخافة ، والتعالى اللّذان يتحدث بهما ولكنّه ابتسم وهو يقول :

    - إنّ مِن صميم واجبي كوكيل أنْ أُعالج المشاكل التي تحدث في المدرسةِ التي أعمل بها ، كما ان اللّائي تتحدث عنهُنّ لا يعرفنّ عن واجباتهنّ شيئا ، هذا بالاضافة الى أنهنّ غير معنيات لا بالمدرسة ولا بمن فيها فهنّ يقمنّ باداءِ مهامٍ أُخرى ، لصالحِ جِهاتٍ أُخرى ، إنّ اسلُوب التهديد ، والوعيد ، هو أكثر أسلوب أحتقره في حياتي ، وإذا كانت وظيفتي ستكون سبباً في إسكاتي عن الحق ، و نكوصي عن أداء واجبي على أكمل وجه فلتأخذوها .. على الاقل إن تم ذلك الآن فلن أشْعُرَ بالأسى لانني أعرف أن الذين يديرون المؤسسة التعليمية هم مجموعة من أصحاب القبضات الضخمة التي يرفعونها فقط في وجه الضعفاء لاسكات أصواتهم لانّ ذلك وحده هو ما يجيدون فعله .

    إمتَقَع وجه المُشرف التربّوي وهو يستمع لحديثِ أُستاذ جلال الذي واصل يقول في هدوء :
    - حتى ذلك الوقت سأفعل كُلَ ما أراهُ صحيحاً يخدُم مصلحة المدرسة التي أعمل بها ، ويخدم مصلحة الطالبات ، ثُم رفع بصره ناحية اللّوحة المعلّقة على الجدارِ واضاف :
    - لان تلك هي الأمانة التي سيسألني الله عنها ...

    وقبل أن يرد عليه المشرف التربوي الّذي الجمتهُ المُفاجأة كان يتّجه نحو باب المكتب وهو يشعر وكأنّ أجهزة التكييف قد توقفت عن العملِ فجأة ، أو كأنّ حُجرة المكتب الضّخمة قد تضاءل حجمها ، وأقتربت جدرانها حتى كادت ان تنطبق عليه ، وتكتم انفاسه ، وبالرغمِ من حرارةِ الجوّ في الخارج الّا انه شعر بشيء من الراحةِ يعود اليهِ وهو يخرج الى الشارع ..

    كان أُستاذ جلال يعلم انّ المحسوبية قد انتشرت ، وأن الفساد قد عم كُلّ مؤسسات الدولة ، وأنّ التعيين في الوظائفِ لم يعُد بالمقدرةِ والكفاءة ، بل أصبح بالوساطة والتوصية ، ولكنّه ظلّ يؤمِل دوماً ان لا يطول ذلك حقل التعليم الذي يعمل فيه ، فقد كان يرى في التعليمِ شيئاً مُقدّساً ، يجب أن يُنزّه عن أي دنس ، لانه إن انهار التعليم ، فستنهار البلد بكامِلها ، وكان يعتقد ان المسئولون مهما فسدوا ، فهُم ولا شك يُدركون أهميته ، وأنهم لن يخاطروا بالتلاعُب به ، كما أنه كان مُقتنعاً بان ليس في المدارس شيئاً يُغري أمثالهم بالدخولِ اليها ، والسيطرة عليها ، ولكنّه مع الوقت أدرك أن أمنياته تلك محض خيال ، فلقد أمتدت الايدي العابثةُ المسيطرةُ الى كل مرفق مِن مرافق الحياة ، وطالت كل مكان ، مُقدساً كان أو غير مُقدس .

    والغريب في الأمر أن مدرسة السّت أسماء التي كان يعمل بها ظلت بعيدة عن أي نوع من أنواع التدخل المباشر طوال السنوات السابقة مما ساعدها على الحفاظ على مستواها ، بالرغم من تغيير المناهج ، وبالرغم من تغيير السلم التلعيمي الذي تاثرت من تغييره جميع المدارس ، ولقد قنع هو والعديد من زملائه من البلد بكاملها بتلك المدرسة ، وبقوا يحمدون الله على انه ابقاها بمناى عن التدخل المباشر، فساروا بها نحو التفوق عاماً بعد عام حتى تم تعيين حفصة واقبال

    لقد سيطر عليه غضبٌ عارم حينما رأى استهتارهما ، وتجاهلهما ، وإستخفافهما ، بقوانين المدرسة تملّكهُ الغضب ليس عليهما فقط بل تملّكه في الاساسِ على المسئولين الذين كانوا على استعداد لفعلِ أي شيء حتى يحققوا مآربهم ، وينالوا مقاصدهم ، ويوماً بعد يوم كان الغضب في داخلهِ يزداد ، ويتنامى ، وقد كان في قمة إستياءه عندما قابل ذلك المُشرِف التربويّ الذي كان يرى فيه أحد الأيدي التي تتلاعب بالعلمِ ، وبالتعليمِ ، وبالمواطن ، فتعمّد ان يقول له كل ما قاله بالرغم من أنه كان يعرف تماماً أن ما قاله سيكون سبباً في فصله وطرده ..

    كان يعرف انهم سينتهزوا أوّلَ فُرصة ليلقوا به إلى قارعةِ الطّريق فتلك هي طريقتهم ، وذلك هو أسلوبهم ، ما أن يجدوا فُرصة للخلاصِ ممن لا يوافقهم الرأيّ حتى يجيدوا استغلالها تماماً ، فاما أن تكون معهُم في كل شيء ، واما ان تكون لا شيء .

    لذا مضى يفكر في كيفية الاستعداد لما هو مُقبِل عليه فلا زالت في عنقهِ مسئولية ، ولا زالت بين يديه أمانة تركها له والده قبل ان يموت ، ونصيبهم من دخل الارض التي يقوم عمه بزراعتها في قريتهم لا يكفي وحده للايفاء بمتطلبات الأسرة التي تزدادُ يوماً بعد آخر ، وهو لا يجيد أيُ مِهنة أُخرى ، ولا يعرف ماذا يفعل غير أن يكون مُدرساً ، ذلك فقط ما يعرفه ، وما يستطيعه ، وما يجيد عمله ، وحتى لو كان يجيد شيئاً آخر فهم لن يسمحوا له بالعمل في أي مكان ، وشقيقه تبقى له عام كامل حتى يتخرج ، وبعد ان يتخرج لا أحد يعرف متى يمكنه الحصول على فرصة عمل ، كما أنهم ربما يعاقبوا أخاه نكاية به فيشردوه هو الاخر...

    ظل طوال الطريق يفكر فيما سيفعله ، وعندما وصل إلى بوابة المدرسة كان قد قرر الاتصال على ابن عمه الذي يعمل في الخارج ، والذي ظل لسنواتٍ طوال يطلب منه السفر إليه ليعمل معه فكان هو يرفض ذلك العرض باستمرار بالرغم من الفوائد العديدة التي كان ابن عمه يعددها له ويقول له أنه سيجنيها في زمن وجيز ، لان الوطن كان أحب إليه من أي وطن آخر ، ولان التدريس كان أحب إليه من أي مهنة أخرى , ولان السماء التي يستطيع أن يرى القمر فيها هلالاً ، وقمراً ، وبدراً , ويرى فيها الغيم يرسم أكواخاً ، ووجوهاً ، وطيوراً ، وصغاراً عُراةً ضاحكين كانت أحب إليه من نفسه ..

    (3)

    وقفت سلمى أمام منزل والدها خائرة القوى .. مُنهكة الجّسد .. تطرق البابَ في وهنٍ بعد أنْ قطعت كلّ تلك المسافة من المدرسة وإلى البيت سائرة على قدميها في حرِ الظّهيرة اللافح ، وظلّت تستمع في صبرٍ عظيمٍ إلى صوتِ زوجة أبيها وهي ترُد عليها بعد كل طرقة تطرقها قائلة في استياء :

    - اوووه ... انتظر قليلاً أيها الطارق ....

    كانت تعلم أنّ زوجة أبيها تعرف أنها هي التي تطرق الباب لذا فهي تتعمّد التاخير في فتحه ، فلقد كانت تفعل معها ذلك كل يوم تقريباً ، وظلت سلمى تنتظر - برغم الشمس الحارقة ، وبرغم الظمأ الذي يحرق جوفها - لوقتٍ طويل قبل أن يُفتح الباب أخيراً ، ليطلّ مِن ورائهِ وجه إخلاص - زوجة أبيها - مليئاً كعادته بالاصباغِ والالوانِ، وهي تبتسمُ في سخريةٍ .. وتسألُ في تهكمٍ :

    - أأنت التي تطرق الباب ؟؟ اعتقدتك شخصاً .. ثم ها ها ها ها اااااااى .. ضحكت ضحكة طويلة ، ماجنة ، قبل ان تضيف قائلة :
    - اااااخر .. أهلاً ..أهلاً وسهـلللللاً .. دخلت سلمى دون أن تنطق بحرف فقد كانت تعرف أنّ أي حديث يخرج من بين شفتيها قد يجر إليها مزيداً من المتاعب .

    كان البيت مكون من غرفتين .. غرفة لابيها وزوجته .. وغرفة لها ولاخويها من أبيها - واللّذان لم تشُعر أبداً بعاطفة الاخوة تجاههم - وللضيوف فقد كانت تلك الغرفة المبنية من الطين والطوب المحروق ، والمسقوفة بعروق الدوم ، وجريد النخيل، والقش ، والمطلية من الداخل باللون الاخضر .. كانت تتحول إلى صالون استقبال عندما يكون هناك ضيوف في المنزل ، وإذا كان الضيفُ او الضيوف رجلا أو رجالا فقد كانت سلمى تجد نفسه مضطرة للمبيت في المطبخ الصغير بجوار الحلل والاطباق ، وطشت الغسيل إن كان الفصل شتاءً ، وفي الساحة الصغيرة التي أمامه إن كان الوقت صيفاً مما يضطرّها لقضاء الليل كله تحت أنظار ليلى زوجة أبيها ، وقد كانت تفضل الاطباق ، وطشت الغسيل على ذلك ، لذا كثيرا ما كانت- حتى في أيام الصيف - تنام داخل المطبخ إن كان هناك أحد في المنزل بالرغم من الحر الشديد بداخله ، وبالرغم من روائح الحطب المحروق ، و العجيبن الجاف ، والارض الرطبة ، العطنة ، من أثر تدفق مياه الغسيل ...

    مرّت في طريقها نحو الغرفة بالزّيرين الموضُوعين على الحمالةِ الحديديةِ الصدئة ، المغروسة وسط الحوش ، و تناولت كوز الالمنيوم من فوقِ الغطاء الخشبي والذي كان عبارة عن قطع صغيرة من الخشب صُفّت بالطولِ وتم تثبيتها بالمساميرِ على قطعة أُخرى من نفس الحجم .. أزاحت الغطاء عن أحد الأزيار وملأت الكوز ثم شربت قليلاً ..

    شعرت بالماء ينزلُ بارداً الى معدتها الخاوية حتى آلمها ... وضعت الغطاء على الزير، وأعادت الكوز الى مكانه ، وأتجهت نحو غرفتها لتضعَ عنها حقيبتها المهترئة التي تُثقل كاهلها ، ولتخلع عنها ثوبها المدرسيّ حتى تذهب بعد ذلك إلى المطبخِ لتأكُل شيئا تسد به رمقها - فهي لم تاكل منذ الصباح - لتعود بعد ذلك الى غرفتها حتى تأخذ قسطاً من الراحةِ بعد المشوار الطويل الذي قطعتهُ في الذهابِ والاياب ، ولكنّها ما ان وصلت إلى باب الغُرفة حتى أصابتها المفأجاةُ التي كانت تنتظرها بالذهولِ ، فأنستها جوعها .. وظمأها.. وتعبها ..

    لقد كانت الخزانة الصّغيرة التي تحتفظ فيها بملابسها ، وببعض كتبها المدرسية ، وبصورة والدتها الوحيدة التي لديها ، مفتوحةً على مِصراعيها بالرغمِ مِن أنّها كانت تضعُ عليها قِفلاً حدِيديّاً .. كانت كُتبها ممُزّقة ، ومُلقاةً ، على النوافذِ والاسَّرة ، وكانت ثيابها القليلة مُنتشرة على أرضِ الغُرفةِ .. وكانت ملابسها الداخلية مُبعثرة في كلِ مكان .. أما صورة والدتها الوحيدة فقد كانت مقطوعة إلى نصفين ومُلقاةً على الأرضِ في وسط الغرفة يعلوها التُراب ، والغُبار ..

    سقطت حقيبتها من يدها .. وتسمّرت في مكانها لبُرهة تنظر إلى كتبها ، وإلى ثيابها في جمودٍ ، وقد اعترتها مشاعرٌ مخُتلفةٌ ، من حياءٍ لمنظر ثيابها الداخلية ، ومن غضبٍ عارمٍ ، ومِن إحساسٍ بالعجزِ ، وبالظلمِ ، ومن ألمٍ لصورة والدتها المقطوعة الى نصفين . ثم قفزت فجأة كانها أفاقت مِن حُلم لِتلتقِط الصورة ، وتنفُض عنها الغبار ، وتضمّها إلى صدرها ، ثم أنحنت بعد ذلك في ألمٍ كليمٍ تجمع ملابسها ، وما تبقى من أوارق كتبها ، وهي تحس ضعفها ، وعجزها وقلة حيلتها .

    أعادت ما أستطاعت أن تجمعه داخل الخزانة العتيقة واغلقتها في هدوءٍ ، ثم ألقتْ بنفسها على السريرِ المتكوّر اللّحاف ، وأنخرطت في بُكاءٍ مرير .. كانت تعرِف الفاعل .. وكانت تعرف من وراءه .. لقد كان أخويها لا يجدوا فرصةً لايذائها ، او لمضايقتها ، الا انتهزوها .. فقد كانت والدتهم تحرّضهم عليها باستمرار.. وتغرس بغضها في نفوسهم .. وتدفعهم ما أستطاعت للاساءة اليها .. والإنتقام منها فكانا يستجيبان لذلك بشكل جعلها تتساءل في أحيان كثيرة هل هم حقا من لحمها ودمها ؟؟

    ونال الاجهاد ، والحزن ، والظمأ ، والجوع ، من جسدها الضّعيف فلم تدري متى ، ولا كيف نامت ، ولكنّها أستيقظت فجأة على يد تهزها في عنفٍ .. وعندما فتحت عينيها طالعها وجه زوجة ابيها العابس باصباغهِ الكريهة ، والوانه الفاقعة ، وهي تقول في حدة :

    هيا أنهضي .. كفاك نوماً فالبيت يحتاج للكنسِ والتنّظيف .. وملابس الصبيين تنتظر الغسيل ... كان ذلك واجباً يومياً لا مفر لها منه ..
    ***
    كرِهت إخلاص سلمى قبل أن تنتقل للعيش معها في منزلها بوقتٍ طويل ، مثلما كرِهت والدتها من قبل .. كانت إخلاص قد نشأت مع احمد والد سلمى في حي واحد ، وبرغم الفارق الكبير بين أسرتها البسيطة المتوسطة الحال ، وبين أسرة احمد الميسورة ، ذات الحسب ، والمال ، والجاه إلا أنها قضت - بحكم الجوار- شطراً كبيراً من طفولتها ، وصباها في بيت أحمد ، وأسرته ، مع شقيقتيه ، صفاء ، وهناء ..

    كانت وهي طفلة صغيرة تمضى جُلّ نهارها في ذلك البيت الكبير، الجميل ، تلهو ، وتلعب ، وتتفرج على التلفزيون ، وكانت لا تعود الى بيتهم الذي يبعد عُدة خطوات إلا باحدى طريقتين ، فاما أن تعود وهي مُكرهةً ، باكيةً ، مغلوبة على أمرها ، واما أن تعود وهي نائمة ، محمولة ، على كتف والدتها والتي كانت كثيرا ما تتركها تحت إصرار من ام احمد لتاخذ كفايتها من اللهو ، واللعب ، والمرح .

    ولانها لم تكن تكتفي أبداً فلم يحدُث مُطلقاً أن عادت مِن تلقاء نفسها إلى البيت ، لذا فقد كانت والدتها تجد نفسها مضطرّة للذهابِ كل يوم في آخر النهار لتعود بها إلى البيت ، فكانت تحملها في يسر وسهولة ، ان وجدتها قد نامت من أثر الجهد الذي تكون قد بذلته في اللعبِ وفي الجّري ، اما ان وجدتها مُستيقظة ، فقد كانت كل محاولاتها للتحايل عليها من أجل العودة إلى المنزل تبوء بالفشل ، فلا تجد أمامها غير ان تحملها رغماً عنها ، فتبدأ عندئذ في الصِراخ ، و العويل ، كانها تُنقل من الجنَّةِ الى النّارِ ، وكانت لا تسكُت ، ولا تهدأ ، الا حينما يغلبها النُّعاس فتنام ودمعها على خدها ، لذا كانت والدتها تفضل دائماً ان تجدها قد نامت ، حتى لا تعود الى البيت كُلّ مساء ، باكيةً ، منتحبةً .

    و دلفت من مرحة الطفولة إلى مرحلة الصبا فأزدادت تعلُّقاً بذلك البيت ، وبأهله ، فقد شعرت بشيء يشدها تجاه أحمد ، وبرغبة قوية في رؤيتهِ كُلّما غاب عن نظرها ، وفجأة بين ليلة وضُحاه أصبح الالتقاء به والذي كان أمراً عاديا لا تُعيره أدنى اهتمام في السابق ، أصبح أمراً عجيباً يجعل وجهها يتورّد وقلبها يرتعش .. ويجعل فؤادها يضطرب .. وصارت مشاهدته خِلسة تُدخل إلى نفسها سروراً لم تكُن تعرفه قبل ذلك ، وبهجة تفوق كثيراً بهجة اللعب البريء والذي كانت تظُن ان لا شيء في الحياة يفوقه جمالاً ..

    ونما إهتمامها به في داخلها شيئا فشيئا دون أن يشعر به أي انسان آخر ، فأصبحت تشعر بسعادة لا توصف وهي تساعد هناء وصفاء في عمل أي شيء يخصه كــأن تشارك في إعداد شايه ، أو كي ملابسه ، أو ترتيب غرفته ، بل انها في بعض الاحيان كانت تجد في نفسها الجُرأة لتبادر بفعل ذلك من تلقاءِ نفسها حتى بلغ تعلّقها به مداه فظنت وهماً مِن فرط ذاك التعلّق أنه يبادلها ماتشعر به فأصبحت تُفسر كل تصرف من تصرفاته ، وكل كلمة من كلماته – كان يمدح الشاي الذي أعدته مع شقيقته - تفسيراً يرضى دواخلها ، ويشبع رغبتها المحمومة ، ولهفتها الكبيرة في سماع أي كلمة ثناء من جانبه ...

    وتركت لاوهامها العنان فتنامى مع الايام احساسها بأن أحمد يخُصها وحدها ، وأنه ملكها ، وأنها أحق الناس به ، وبخدمته ، فأصبحت تشعر بشيء من الغيرة إن قام أي شخص آخر بعمل أي شي يخصه ..

    ورافق ذلك الاحساس المُرهف الذي كانت تشعر به ، وتلك الاحلام الصبيانية التي لا تستند الى واقع ، رافقها تفكيرٌ آخر في الحياة المُرفهة التي ستحياها الى جواره ، وفي البيتِ الذي سيصبح ملكاً لها وفي السيارةِ التي ستصبح تحت تصرفها ، وفي المال الطّائل الذي سيئول آخر الامر اليها إن هي ربطت حياتها به .

    وشغلتها أحلامها فأزدادت إهمالاً لدراستها التي كانت مُتعثّرة اصلاً فلم تستطيع ان تجتاز المرحلة المتوسطة ، واكتفت باكمالِ المرحلة الثانوية - بعد عناء - في مدرسةٍ ليلّية فمستواها لم يكن يؤهلها للتقدم اكثر من ذلك .. ولم تُفكر في القيام باي عمل من شأنه أن يساعد أسرتها الفقيرة ، ولم تكن من النوع الذي يحب القراءة أو الاطلاع لذا بقيت محدودة الثقافة ، وانحصرت حياتها كلها في أحلامها ، فقضت جُلّ وقتها بين بيت أحمد وأسرته ، وبين بيوت المناسبات التي تلم - من حين لاخر - بالحيّ وبالاهل والمعارف من زواج ، وعزاء ، وإنجاب وختان ..

    وبالرغم من أنها كانت تجد في اجتماع الناس في مكان واحد - حتى وان كان اجتماعهم بسبب فقد عزيز ، أو موت قريب - راحة نفسية كبيرة ، إلا أن إجتماعهم بسبب الزّواج كان هو الاثير لديها لانّ مُناسبات الزواج لم تكُن تضطرّها للتظاهُر بحزنٍ لا تشعُرَ بهِ ، ولا بالمٍ لا تحسّه ، بالاضافةِ إلى أن مُناسبات الزواج عادة ما تجمع أكبر عدد من الاهل ، والمعارف ، والأحباب ، وتتيح فرصة الالتقاء بمن طال الالتقاء بهم ...

    كان إحساسها بالرّاحة النّفسية وبالسرورِ يبدآن من اليوم الاول الذي تبدأ فيه المهام المخلتفة للتّجهيز للزواجِ من تفصيل الملابس ، وجمع الاواني ، وإعداد الحلوي والفطائر ، وتجهيز العطور، وعمل الحنّاء ، وما يصاحب ذلك عادة مِن غناءٍ ، وأهازيجٍ ، ودفوف ، ثم يستمرّ إحساسها بالسعاة صُعوداً حتى يصِل إلى قمّته يوم الزفاف نفسه عندما يصبح المكان مثل خلية النّحل وتسمع اسمها يتردد بين العديد من الالسن ، وعندما تنشغل تماماً في تقديم الخدمات لكل من يحتاج اليها فلقد اشتهرت - برغم سنها الصغير - بأنها ست بيت ممُتازة ، و بأنها يُعتمد عليها في كثير من الامور التي تخص ربّات البيوت ذوات الخبرة والكفاءة ، لذا أصبح من المألوف أن توكل إليها المهام العديدة ، والمختلفة في بيوت المناسبات مما يجعل الجميع في حاجتها ، و ذلك ما كان يشعرها بالثّقة ، ويملأها بالسرورِ ، ولكن ما أن يأتي مساء اليوم الموعود ، وينتهي إنشغال الناس بالضّيافة ، وبتقديم الطّعام والشّراب ، ويلتفوا كلهم حول العروس حتى تتبَدَدَ سعادتها ، وتصيبها غيرةٌ تُفسد عليها ليلتها .. غيرة تجعلها تتمنى في ألمٍ ان لو كانت هي من سُلّطتْ عليها الاضواء ، وتعلّقتْ بها الأبصار ، حتى وان كانت العروس أختها ، أو أعز صديقاتها ، ثم تبدأ تلك الغيرةُ بعد ذلك في التحولِ إلى حُزن دفين يبدأ في السيطرة عليها مع مُغادرة أولّ مُغادر لمكانِ الزواج ويزداد شيئاً فشيئاً حتى يصل إلى قمتهِ عندما تأتي ساعة مغادرتها هي ، كانت عادة ما تبقى حتى اللّحظة الأخيرة ، ولا تغادر الّا بعد أن يُغادر الجميع ، كأنها تُريد أن ترشِف آخر قطرة من قطرات السّعادة ، التي سببها إجتماع الناس في المكان وكانت أشقّ اللّحظات عليها هي اللّحظة التي تفارق فيها بيت مناسبة ، وتودّع أهله عائدة الى بيت أسرتها ..

    كانت عادة ما تأتي فرحةً مسرورة ، وتُغادِرُ حزينةً مُكتئبةً ، فقد كان تفرّق الناس بعد إجتماع يشعرها دوماً بكآبة عجِزت برغم محاولاتها العديدة عن التخلص منها ، أو التحرر من قيدها، وكانت تشعر بعد إنقضاء كل مناسبة بفراغٍ كبير، وبوحدةٍ خانقة ، وكانت لا تعود إلى طبيعتها ، وتعتاد حياتها السابقة الّا بعد مرور عدة أيام ، وبعد ان تكون قد حكت تفاصيل المناسبة لهناء ، وصفاء – حتى وان كُنّ من الحاضرات – عشرات المرات .

    مضت الايام على هذه الشّاكلة حتى تزوجت صفاء ، وهناء ، وأنتقلت كل واحدة منهما للعيش في مكان آخر فشعرت هي بمزيد من الفراغ بالرغم من أنها وجدت في ذلك مبرراً إضافيا ضاعفت به ساعات وجودها في بيت أحمد بحجة مساعدة والدته والتي وجدت فيها تعويضاً كبيراً عن ابنتيها اللتان فارقتاها فأعتمدت على مساعدتها في الكثير من مهام البيت الواسع الكبير مما زاد من إحساسها بأحقيتها في أحمد فأصبحت تماما مثل الزوجة التي تفعل كل ما في وسعها حتى إذا عاد زوجها من عمله ، وجد كل شيء كما يريده ، ويتمناه ،

    ورسخت مع مرورالايام قناعتها بان إنتقالها للعيش في بيت اسرة احمد بصورة نهائية ما هو الا مسالة وقت ... ولكن أحمد الذي ظلت تحلم به كل تلك السنين ، وأعتقدت أنه يُريدها مثلما تريده ، وبنت كل أحلامها على أساس وجوده في حياتها ، لم يكن يشعر بها ، ولم يكن يعرف بما تفكر به و تخطط له ، كان مشغولاً بعمله الناجح ، وبحياته الخاصة ، لا ينتبه لمن يكوي ملا بسه ، و لا يعرف من يرتب غرفته ، فلم تكن اخلاص من النوع الذي يثير اهتمامه ، أو يشغل فكره ..

    كان ذهنه مشغولاً إلى اقصى حد بعمله الهام ، وكان قلبه مليئا حتى آخره بليلى والدة سلمى والتي تمت لهم بصلة قرابة من ناحية والدته ... كانت ليلى التي تسكن في حي آخرتتفتح في ذلك الوقت كوردة ندية ، وكان كل شيء فيها كما يتمناه أحمد ويحلم بوجوده في رفيقة حياته ، جمالها الفتان .. خُلقها السامي.... عقلها الراجح .. حياؤها الجميل .. هدؤها الساحر .. ولكن احمد لم يبح بما يفكر به لاي إنسان حتى لليلى نفسها ، وظل ينتظر إلى أن حان الوقت المناسب واطمان إلى أنها تريده مثلما يريدها ، وتهتم له مثلما يهتم لها ، فأسرع يُفاتح والديه اللذان باركا اختياره فتقدم يخطبها ..

    ولم تصدق اخلاص عندما سمعت بنيته للتقدم لخطبة ليلى ، رفض ذهنها الخبر كُليَة وصمت أُذنيها عنه كانها لم تسمع به فظلت غير مصدقة حتى بعد أن تمت الخطبة بصورة رسمية .. وبقيت تحاول أن تُقنع نفسها بأنّ أحمد يريدها هي .. وأنه لن يتزوج بغيرها .. وأنه ُربما يكون قد قام بخطبة ليلي ليُرضي والده ، أو والدته ، أو أي شخص آخر ، وأنه سرعان ما سيتركها ليعود اليها ..

    وأستمرّت في خداعها لنفسها شأن العاشق المكلوم حين يدهمه خبر فراق محبوبه فيتعلق بالاماني الكاذبة وبالاوهام الواهيّة ، ليطمئن قلبه الواجف ، وليخفف مِن وطأة الالم على فؤاده الملتاع ، وعندما أصبح الامر واقعاً و تم الزواج بالفعل سقطت طريحة الفراش ترتجف صامتة الا من همهمة مكتومة ، وبضع كلمات غير مفهومة مثل ، الخائنة ، السارقة ، السيارة ، الفلوس تهذى بها وترددها وهي تنتفض كالمصروع عندما تشتد عليها نوبة الحمى التي كانت تفقدها أي نوع من انواع السيطرة على نفسها وتجعل أنفاسها تتسارع ، وعيونها تجحظ ، وجسدها ينتفض حتى يظن من هم حولها أن روحها ستغادر جسدها .

    وأخذوها إلى الطبيب لكن الطبيب لم يعرف ما بها ولم يُعطها غير مسكنات كانت تعمل على تخفيف الحمى حينما تشتد وطأتها ، فاخذوها بناءً على إصرار إحدى قريباتها إلى الشيخ صالح الذي أكد لهم ان عيناً أصابتها ، وأنه ستشفى في أسرع وقت ان التزموا بتعليماته وبما يطلبه منهم ، الا ان بخراته التي عبقت في أنحاء الغرفة لعدة أيام متتالية لم تأت بنتيجة ...

    هي وحدها كانت تعرف ما بها .. هي وحدها كانت تعرف سبب مرضها ، وتعرف أن دواؤه أصبح عسيراً جداً لذا بقيت طريحة الفراش غير راغبة في الشفاء ، تتمنى الموت في كل لحظة ، ولكن الموت شأنه شأن أي أمر آخر يصير عزيز المنال عندما يصبح أُمنية وغاية ، فلزمت فراشها لفترة طويلة لا تبارحه ولا تنطق بحرف تناجي الموت في سرها والموت معرض عنها لا يلقي اليها بالاً حتى حار الجميع في أمرها .

    وجلَسَت أمها التي أعيتها الحيلة إلى جوارها تُمارِضها وتُبدي لها التصبُّرّ في لحظاتِ يقظتها ، ويسيل دمعها مِدراراً حزناً عليها عندما تسرقها نوبات الحمى وتخرجها مِن عالم الوعي إلى عالم اللّاوعي ، فتفضح أسرارها ، وتكشف مكنونَ صدرها ..

    (4)

    في عصرِ أحد أيّام الخميس وقد مالت الشّمُس الى المغيبِ ، وتسرّبَ شيئٌ مِن ضوءِ الشّفق الأحمر من خلال شقوق نافذة غرفتها الخشبية الصغيرة إلى السرير الذي تضطّجع عليه اخلاص ، وأرتفعت أصوات صبيّة في الشارعِ المجاوِرِ يتضاحكون ويصرخون وهم يلعبون الكُرَة ، سمعت طرقاً خفيفاً على الباب الخارجي المصنوع من الزِنك والواح الخشب و المُثبّت على السورِ المبني من الطين بالاسلاكِ والمساميرِ فاصاخت سمعها و أرهفت أُذنيها ..
    كانت نوبة الحمى قد فارقتها مُنذ يومين ، وكانت تشعر بشيء من الهدوءِ والسّكينة اللذان يشعُر بهما المكلوم عندما يبكي طويلاً ويجف دمعه ، وتسكُن آلامه ، وتخمد جذوة أحزانه .

    كان من النادر أن يطرُق باب منزلهم أحد لانّ الباب كان مفتُوحاً على الدّوام ، وكان معظم الذين يأتون إليهم - من الاهل والجيران - يدخلون مُباشرة إلى الحوشِ الصّغير ، ويرفعون أصواتهم بالسلامِ أو الحديث إشعاراً بدخولهم إلى حرمِ المنزل المتواضع لذا فقد توقعت أن يكون الطاّرق شخصاً غريباً ..

    كان البيت خالياً الّا مِن والدتها التي كانت تقوم ببعض الاعمال في المطبخ الذي يقع في الطرف الاخر من الحوش ، مرت برهة من الصمت ثم سمعت صوت والدتها يرحب بالقادمِ في حرارةٍ ، ثمّ سمعت صوت أحمد ووالده وهم يردان على ترحيب والدتها ويستئذنان في الدخولِ إليها للاطمئنان عليها لم تصدق أذنيها ..

    كان والده قد زارها مرتين قبل ذلك ولكن كانت هذه المرة الاولى التي يزورها هو فيها ، فشعرت عندما سمعت صوته أنّ كل آلامها قد أختفت ، وغمرت قلبها موجة فرح مفاجئة ، فتسارعت دقاته في خفة ، وعنف وغادرها وهنها الذي أصابها بسبب الحمى .. وبسبب عزوفها عن الطعام .. وبسبب بقاءها لفترة طويلة في الفراش ، فأستوت جالسة على السرير في لحظة ، وتناولت كوب الماء الموضوع بجوارها ، وغسلت وجهها في سرعة ، و جمعت شعرها الثائر المنكوش ، وربطته في مؤخرةِ رأسها في لحظات ، ثم عادت وأضطّجعت على ظهرها ، وسحبت الغطاء على جسدها كلّه ما عدا وجهها ..

    وشعرت وهو يصافحها كأن شحنة كهربائية تتسرب إلى جسدها الواهن وتمنحه مزيداً من القوة ومن الحيوية التي شعرت بها لسماع صوته ..

    ولاذت بصمتها تسترق النظر إليه بينة الفينة والأُخرى وهو يتحدث إلى والدتها محاولاً إدخال الطمأنينة إلى نفسها بقوله لها ان اخلاص بخير ، وأنها سرعان ما ستشفى وتجتاز محنتها وتعود كما كانت من قبل .

    الغريب في الأمر أنها برغم قناعتها بأن أحمد كان يعرف تعلقها به ، وبرغم قناعتها بأنّه كان يُريدها مثلما تريده إلّا انّها لم تشعر بأي ضغينة تجاهه.. لم تشعر أبداً أنه خانها ، أو غدر بها ، أو تخلّى عنها ، ولم تشعر أنه يسحتق منها أي نوع من أنواع اللّوم أو العتاب بل القت بلومها كله على ليلى ، شعرت تجاهها ببغضٍ رهيب .. وحقدٍ مرير... وتمنّت الا يخرج احمد من غرفتها أبداً ولكنّ الوقت مرّ سريعاً فاستأذنا هو ووالده وخرجا ، وخرجت والدتها معهم تشيعهم إلى البابِ الخارجي فأستوت هي جالسة وسط السّرير تُفكر ..

    لماذا تتمنى الموت ؟ ولماذا أستسلمت للأمر بهذه السّهولة ؟ ولماذا سمحت لفتاة أقل منها شأناً أن تسرقها حلمها وتتزوج بالرجلِ الوحيد الذي تمنّته وتمنّت أن تعيش حياتها معه ؟؟

    وماذا ستكون قد جنت أو كسبت إن هي ماتت اليوم أو غداً غير أنها ستكون قد تركت أحمد ليلى لتعيش حياتها معه في هناءٍ وسعادة ؟؟

    ليلى التي خدعته ، وغررت به ، والتي لا بدّ انها فعلت اكثر من ذلك بكثير حتى جعلته يتزوجها ، وخطر على ذهنها وهي تفكر في ذلك خاطر لمع مثل البرق الخاطف ، لا بد ان ليلى قد عملت له عملاً عند أحد الشيوخ حتى يتركها ووتزوج هي به ..

    بالتاكيد قد فعلت ذلك والا فكيف تزوج بليلى وهو يعرف أنها تريده ، ويعرف انها تفعل كل ما تفعله لاجله ؟؟

    كيف غاب هذا الأمر عنها ؟؟ ألم تكُن تسمع كل يوم العديد من حكايات نساء الحي مع الشيوخ ؟؟

    ألم تتزوج سعيدة بنت محمود مِن الرجل الذي تمنّت أن تتزوج به بعد أن فاتها قطار الزواج ، وبعد أن بقيت سنيناً طوالاً تنتظر أن يعود بالرّغم أنه لم يكن ينوي الزواج بها قبل أن يُسافر فعاد بعد أن ظن الجميع أنه لن يعود وتزوج بها ؟؟

    ألمْ يُفرّق الشيخ بين مريم بت اسماعيل وخطيبها أسامة بعد أن ذهبت إليه مرضيّة التي كانت تتمنى أُسامة زوجاً لها فتزوجت به بالرغم من أنها كانت تكبره سنّاً بعد أن قام بفسخ خطبته واعرض عن مريم من دون أي سبب معروف ؟

    حتى عبده مجنون الحي الذي يمشى عاريا وهو يحدّث نفسه ، وينام في الطرقاتِ ، ويأكل مع الحيوانات ألم يكُن سبب جنونه ما فعلته له زوجته عند الشّيخ الغضبان بعد أن تزوج عليها امرأة أُخرى ؟؟

    إن الشيوخ قادورن على فعل أي شيء ولا بد أنّ اخلاص قد ذهبت الى أحدهم فحقق لها ما تريد، ما أغباها وما أقل حيلتها !! لقد جلست تنتظر مُطمئنة إلى رغبتها فيه ، وإلى رغبته التي تصورت أنها لديه حتى قامت ليلى بسرقته منها عن طريق شيخ !!!

    ولكن أليس الشيوخ موجودون حتى الآن فلماذا تستسلم ؟؟

    أليس في إمكانها أن تذهب إلى أحدهم فتعيده مرّة أخرى إليها ؟؟

    ليس من العدل أن تستسلم فأحمد يخصها وحدها وعليها ان تفعل أي شيء حتى تستعيده ، وان لم تسطتع إعادته إليها فعليها على الاقل أن تأخذ بثأرها ، وأن لا تتركه لتلك السّارقة لتعيش حياتها معه في هدوء وسعادة !!! نعم !!! ليس عليها ان تتمنى الموت بعد اليوم وأن كان هناك أحد يجب أن يموت فهو ليلى وليس هي .. ليلى السّارقة الخائنة .. الخبيثة ..

    يجب عليها منذ اليوم أن تُغادر فراشها ، وأن تسعى بكل ما لديها من قوة لإستعادة أحمد الى حياتها ، أو إلى إبعاده عن ليلى بأيّ صورةٍ مِن الصّور ، ليس عليها أن ترفض الطّعام بعد اليوم ، و ليس عليها ان تلزم فراشها عاجزة ، يائسة فلن يفعل الياس لها أي شيء ..

    وشعرت براحةٍ لم تشُعر بها منذ فترة طويلة ، وداخَلْ نفسها تصميمٌ عجيب ، ورغبة رهيبة في الثارِ أمدتها بمزيدٍ من القوة ، فأنطلق صوتها - الواهن - للمرةِ الاولى منذ أن دهمتها شدة الخبر ، يُنادي والدتها التي كاد أن يُغمى عليها من شدّة الفرح وهي تسمع ابنتها تتحدث إليها ، وتطلب منها أن تاتيها بالطعام ...

    و في أيام قلائل تمكنت اخلاص من مغادرة فراشها ، وابتدات رحلتها نحو الأضرحة والشيوخ ، وولجت باختيارها إلى عالمٍ لمْ تُكن تعرف عنهُ فيما مضى إلا ما كانت تسمعه من حكايات النساء ورواياتهّن.

    (5)
    عندما تزوّج أحمد بليلى وانتقلتْ للعيشِ معه في منزلِ أُسرته أدرك مقدّار النّعمة التي أنعم اللهُ بها عليه في زوجته ، ولمِست هي مِقدار الكنز الموجود بين يديها فتفانى كُلٌ مِنهُما في إسعادِ صاحبه فكانا مثالاً للزّواج الناجح السّعيد..

    وصقل الزواجُ ، والألفّةُ ، والعشّرةُ الطّيبةُ ، مشاعرِهمُا فازدادا حُباً على حُبٍ ، ولم يمر عامان حتى رُزِقا بسلمى التي جاءت صورة مُصغّرة من والدتها الجّميلة ، الرقيقة الفاتنة ، فأضفت على المنزلِ السّعيد أصلاً ، لوناً جديداً من الوان السعادة والمرح جعلا أحمد لا يطيق عنه بُعداً حتى ولو لوقتٍ قصيرٍ ، فقد كان يخرج إلى عملهِ في الصباحِ و يعود في الظهر ، ولكنّه كان يشعُر وهو عائد وكأنه غاب عن البيت وعن زوجته وابنته أياماً طِوالاً .

    وأكلمت سلمى عامها الثاني فقررا ان ينُجِبا طفلاً آخر فقد كانت ليلى تتوق إلى انجاب صبي يكون مثل أبيه في كل شيء ، وفيما هي تحلم بذلك وتخطط له ألمّ بها علي حين غرة مرض غريب ، شعرت في البدايةِ بالمٍ خفيف فظنّت أنه أحد الآلآم العارضة التي سُرعان ما تزول دون الحاجة إلى الذهاب إلى طبيب .

    وازداد الالم فتذرعت بالصّبر حتى لا تصيب أحمد ووالديه بالقلق والإنشغال ، ولكنّ الأمر تطورَ سريعاً فعجزت في أيامٍ قلائل عن النهوضِ من فراشها فأسرع أحمد ينقلها إلى الطبيب الذي أجرى لها فحصاً شاملاً من دون أن يتوصل الى شيء ..

    وأخذها أحمد الى طبيب ثاني فلم يجد بها أي علّة معروفة ، وذهب بها الى ثالث ورابع ولكن كل الفحوصات والتحاليل كانت تؤكد ان جسمها خال تماماً مِن أي نوع من انواع الامراض المعروفة ، ولم يفهم أحمد ما يجري فقد كانت ليلى تذوي كالشمعةِ ، ويشحب لونها يوماً بعد يوم في الوقت الذي كان الاطباء يقولون فيه انها غير مصابة باي مرض .

    ونصحه أحد أصدقائه المقربين والذي كان يعمل طبيباً بالسّفر بها إلى الخارج فالاجهزة الطبية هناك أكثر تطوراً ، والامكانيات والخبرات أكثر توفراً فأسرع يأخذ إجازة من عمله و يركض كالمجنون يسابق الوقت ليحصل على تأشيرة السفر له ولزوجته .. كان يعتقد أنه سيتمكّن خلال يوم أو يومين على الاكثر من أخذ التأشيرة اللّازمة لسفرهِ ولسفر زوجته ولكن الايام تتابعت وتوالت دون أن يستطيع فعل أي شيء ..

    رُفِضَ طلب سفره من دون أسباب .. أتي بعشرات الشّهادات الطبية التي تؤكد حاجة زوجته للسفر إلى الخارج ووسّط كل من كان يعرف ولكنّه وبرغم علاقاته الواسعة ، وصلاته العديدة لم يستطيع الحصول على التأشيرة ولم يُسمح له بالسفر ، وحاول ان يعرف سبب ذلك الرفض ولكنه كان كمن يسال صُمّا وبُكماً..

    كان قد وُضِع على رئاسة اللجنة الطّبية المسئولة عن النظر في طلباتِ السّفر للعلاجِ بالخارجِ في تلك الفترة شاباً في الثلاثينيات من عمره بعد أن أُحيل رئيسها السابق الطبيب المختص ، والجّراح المشهور إلى الصالح العام ، ذلك الطبيب الذي ظل يرفُض وباستمرار كل العروض المُغرية التي كانت تُقدم إليه من العديد من المستشفيات في الخارج لانه كان يريد أن يخدم وطنه ، وينفع بعلمه البلد الذي يحبه ، والمواطن الضعيف المغلوب على امره والذي يحتاج اليه .

    ورغم أن ذلك الشاب لم تكن له أي علاقة بالطّب والاطباء لا من بعيد ولا من قريب إلا ان حماسه الزائد ، وعدم إدراكه لعواقب الأمور دفعاه إلى رفض كُل الطلبات التي رُفعت إليه بحُجة أن في البلد مستشفيات قادرة على شفاء المرضى ، كما أن فيها أطباء أكفاء يُضاهون أبرع الاطباء في العالم .

    وبالرغم من أن الشهادات التي أُرفقت له مع تلك الطلبات جاءت كلها من تلك المستشفيات ، ومن أولئك الاطباء الذين يعنيهم إلا أنه كان مقتنعاً في قرارة نفسه بخطئها وبمخالفتها للواقع المعاش . لم يكن رفضه ناتج عن سوء نية ، أو عن لا مبالاة ، ولكنه كان ناتج عن جهل وعن إحساس بالقوة وبالعظمة ينتابُ كثيراً من الذين يجلسون في مركز القرار للمرة الاولى في حياتهم ، وعن تعصب أعمى يجعله يرى الكمال في كل ما هو وطني ، فقد كان ذلك الشاب لا يقبل أي مقارنة لأي شئ من الوطن بأي شيء أخر من خارجه .

    لا يهم ان يكون الشئ المُقارن بطيخاً أو حجراً أو خروفاً أو إنسان ، فأي شاعر وطني هو أبرع شاعر في العالم ، وأي لاعب كرة وطني أفضل من أي لاعب ، وأي عالم في أي مجال من المجالات أفضل من نظيره في أي مكان آخر ، مثلما أن الطماطم الوطني هو أفضل طماطم في العالم ، والماء الوطني افضل ماء على وجه الارض ، بل وحتى الحمار الوطني هو أفضل حمار في الدنيا كلها ، يكفي أي شيء او أي انسان حسب اعتقاده ان يكون في حدود الجعرافيا لينال شهادة الكمال ..

    لم تكن لديه المقدرة على نقد الذات ورؤية عيوبها أو إدراك مناقصها ، لذا لم تكن لديه المقدرة على إدراك النقص الموجود في الأجهزة والمُعدات والخبرات ، كما لم يكن في مقدوره أن يلم بالتقدُم العلمي في العالم الخارجي فرفض الطلبات جُملةً وتفصيلاً ، وكاد أحمد أن يجن وهو يرى ليلى تضيع من بين يديه دون أن يستطيع فعل شيء .

    وعلِمت إخلاص في تلك الفترة أن أحمد يحاول أن ياخذ ليلى لاجل أن يُعالجها في الخارج فتحول الفرح الذي شعرت به للمرض الذي المّ بها إلى خوفٍ وقلق .. لقد ظلت طوال السنوات السابقة تتردد على الاضرحة ، وعلى الشيوخ ، ليساعدوها في التفرقةِ بين أحمد وليلى ، ذهبت الى الكثير منهم ، ولكنها كانت كلما ذهبت الى أحدهم إضطّرت آخر الامر لتركهِ والذهاب إلى شيخ آخر بعد أن يُعجزها بالطلبات التي تبدأ دائما بسيطة ، ثُم تزداد شيئاً فشيئاً حتى لا يصبح في مقدورها ان تحصل عليها ..

    ورغم أن الشيوخ الذين كانت تذهب اليهم إختلفوا في ما يطلبونه ، وما يريدونه منها لتحقيق غايتها ، إلا أنهم جميعاً إتفقوا على أن ما تريده عسير ويحتاج الى الكثير من الجهد ، والوقت ، والمال ، وكادت أن تيأس حتى وجدت الشيخ علي .

    سمِعت به وبمقدرتهِ الخارقة في أحد بيوت العزاء فسألت عن عنوانه وأنطلقت من فورها الى بيته الواقع في أحد الاحياء الشعبية في أطراف المدينة وهي تمني نفسها أن يكون أفضل من جميع الذين سبقوه ، ولم تكد تدخل إلى غرفته الصغيرة المبينة من الطّين ، والمعلق على جدراتها قطعا من جلود الحيوانات المختلفة التي تفصل بينها رسوماً شيطانية غاية في الغرابة حتى أقتنعت تماماً أنه هو من تبحث عنه ، فلقد نادها بأسمها قبل أن تذكُره ، وأخبرها بمشُكلتها قبل أن تخبره بها بل لقد سألها حتى عن ألم السّاق الذي كان يصيب والدتها بين الحين والآخر إن كان قد زال ..

    ولم تطل جلستها معه .. ولم يطلب منها أي شيء ولكنّه وعدها قبل أن تغادر بأن ليلى ستُصاب بنوع من المرض سيتعذر شفاءه أو البرء منه ، وأن أحمد سيهتم بها في البداية وسيحاول مداواتها ولكنه سُرعان ما سينُفر منها نفوراً تاماً بسبب ذلك المرض , ولن يلبث بعد ذلك طويلاً قبل ان يطلقها ، فقط طلب الشيخ من اخلاص أن تعود اليه بعد أن يقع الطلاق ، ولقد صَدَق في كُل ما أخبرها به فلقد أصاب ليلى المرض الذي ذكره فعجز جميع الاطباء عن شفائه فهل تقف مُتفرّجة حتى ياخذها الى الخارج وهي لا تعرف إنْ كانت قُدرة الشيخ ستصل إلى هناك أو لا ، فتشفى سلمى ويضيع كل تعبها هباء ؟؟

    فكرت جيداً فوجدت أن أفضل ما تفعله هو أن تعود إلى الشيخ في سرعةٍ لتُخبرهُ بما يحدث فلا يجب ان تترك أي شئ للظروف بعد كل ما عانته في سبيل الوصول الى تلك النتيجة ، وفي غرفة الطّين الصّغيرة المُنخفضة السّقف أسرّت إلى الشيخِ عليّ بمخاوفها وتوسّلت إليه أن يقوم بأي عمل من شأنه أن يحول دون سفر أحمد وليلى إلى الخارج .

    ونظر الشيخُ اليها طويلاً حتى شعرت بقشعريرةٍ تسري في جسدها ، ثم حول بصره عنها وغرق في تأمُلاته لفترةٍ وجيزةٍ ، وأغمض عينيه بعد ذلك ، ورفع رأسه إلى أعلى ، وفرد رجليه فانطلق من فمه صوتٌ مخُيف ، وأمتدت يداه كأنه يُصارع شيئً غير مرئي ، وانطلق صوت صرخات مدوّية لم تعرف مصدرها، فشعرت بالرعب يتمكن منها ، وفكّرت في أن تُولّى هاربة ولكنّها عجِزت عن الحركة ، ثم تحوّلت الصرخاتُ الى أنينٍ يشبه أنين شخصً تتقطّع أوصاله ثُمّ صمت كُل شيء فجأةٍ ، وفتح الشيخ عينيه في بطءٍ كأنّه يُعاني ألماً عظيماً ، وقال لها في هدوءٍ مُخيفٍ إنّ هُناك طريقة واحدة لتحقيق ما تطلبه وأن تلك الطريقة ستجعل ليلى لا تغادر فراشها أبداً .. وصَمَتَ قليلاً ثُم سألها ان كانت تواقف على تلك الطريقة ، وان كانت مُستعدة لفعل جميع ما يطلبه منها في سبيل تحقيق ذلك ؟؟

    صمتت .. وطال صمتها .. وتردّدت كثيراً وكادت أن ترفض فلم تكن تعتقد ابداً ان الامر سيصل الى هذا الحد ، فلم يسبق لها ان أضّرت بإنسان أو تسببت في أذي لاي شخص كان.. ولكنّها إن رفضت فربما تسافر ليلى وتتمكّن مِن الشّفاء وسيكون عليها أن تبدأ من جديد ولا تدري إن كانت ستنجح ، أو إن كانت ستفشل .. لا ليس في مقدورها أن تنتظر أكثر مما إنتظرت للانتصار على غريمتها ، ولعودة أحمد إلى حياتها ، وطالما أن تلك الطريقة الوحيدة فليس أمامها أي خيار ..

    يجب أن لا تُمكّن ليلى مِن الإنتصار عليها مرةً أُخرى ، إنها في حالةِ حربٍ معها ولا بدّ للحربِ من ضحايا .. ألم تقتلها ليلى قبل ذلك عندما سرقت أحمد من حياتها ؟؟ ألم ترقد هي وقتها على فراش الموت تتمنى ان تفارق روحها جسدها في كل لحظة ؟؟ ألم تتعهد لنفسها من قبل انها ستفعل أي شيء من شأنه ان يفرق بينها وبينه ؟؟
    وتمكن منها حقدها ، وبغضّها ، وغلّها فطردت كُلّ مخوافها ، وتعهدت للشيخِ بانها ستفعل كل ما يطلبه منها .

    (6)

    نفّذت إخلاص أوامر شيخها بالحرفِ الواحد ، و قامت بكلِ ما أمرها بأن تقوم به ، فلم تقرب الماء ولم تتطهرّ، ولم تُصلي لمُدة ثلاثة أيام كاملة ، وشربت السّائل الشديد السواد ، المُرّ المذاق ، الكريه الرائحة ، الذي كان قد أعطاه لها وطلب منها أن تشربه في اليوم الرابع ، والقت بالقارورة الفارغة بعد أن لفتها بأوراق من المصحف المطهّر في دورةِ المياه ، وفي اليوم الخامس أسلمت سلمى الروح وهي في ريعان شبابها ، وعنفوان جمالها وفتنتها ، فكادت إخلاص أن ترقُص طرباً والناس كلهم من حولها يبكون ويصرخون .

    وملأ الحزن قلب أحمد لوفاة زوجته التي أحبها حُباً جماً .. فأسودّت الدنيا أمام عينيه ... وظلّ لفترةٍ طويلة مذهولاً تائهاً حتى أعتقد البعض أنه سيُصاب بالجنونِ .. وبذل كل من هم حوله جُهداً كبيراً ليخففوا من وطأة أحزانه ، وليخرجوه مما هو فيه من ألمٍ وعذاب .. ومضوا يذكرونه بابنته الصغيرة الوحيدة ، وبحاجتها إليه ، فثاب إلى رشده شيئا فشيئا ..

    وأنتهت أيام العزاء فتفرق الناس ليواصلو مسيرة الحياة التي لا تتوقف لموتِ إنسان ، فطوى نفسه على حزنها وعاد إلى عمله ، وأغرق نفسهُ فيه في محاولة لتناسي الألم الكبير الذي كان يحس به ، ولكنّ سؤالاً حائراً ظل يُلاحقه ويقضّ مضجعه ، ويعذبه ليلاً ونهاراً ، لماذا رفضوا أن يسمحوا له ولزوجته بالسفر؟ أي جريمة ارتكب ، وأي جناية قد جنى وهو لا علاقة له بالسياسة ، ولم يعرف طوال حياته غير دراسته ، وعمله ، وأسرته وبعض الهوايات البسيطة التي لا تهم أحداً آخر ؟؟
    حتى في إطار أسرته لم يكن هناك من يهتم بالسياسة كثيراً ، أو يمارسها بالصورة التي تجعلهم يعاقبونه هو من أجل ذلك ، فوالده كان تاجراً ثرياً وناحجاً ، شغلته تجارته عن الدخول في متاهات السياسة والسير في طرقاتها الملتوية الشائكة .. فلماذا تسببوا في موت زوجته وفي تحطيم سعادته ؟؟

    كان ذلك السؤال يلحّ عليه في إصرارٍ وينغّص عليه حياته ، ولانّه كان يعلم أن والدته تتألم في صمتٍ حينما تراه يتألم ، ولانّه كان يعرف أنها تُعاني اكثر منه عندما ان تراه ساهماً ، شارداً ، متفكّراً ، فقد كان كثيراً ما يغادر البيت ليريحها من رؤية عذاباته وآلامه ، و يفر إلى شاطيء النيل ليخلو إلى نفسه وإلى أحزانه ، ويتعمد البقاء هناك حتى يتأكد من أنها أوت إلى فراشها ليعود بعد ذلك ويدخل متسللاً إلى البيت مطمئنا الى أنها قد نامت .

    ولكن والدته التي كانت تعرف سبب هروبه من المنزل ، وتعرف سبب عودته متُاخِراً مساء كل يوم ، لم تكن تستطيع ابدا ان تنام قبل أن يعود ، كانت تبقى ساهرة ، قلقة ، تتقاذفها الهواجس والهموم حتى ياتي و يأوي الى فراشهِ ، كانت تُراقبه في صمتٍ وتنتظر في صبرٍ أن تسليه الايام حزنه ، وتنسيه آلامه حتى يعود مثلما كان في الماضي ، فرِحاً ، مُتفائلاً نضِراً ، دائم الابتسام ، ولكن الشهور والسنين تتابعت وطال انتظارها وهو على ذات الحال يزدادُ عزلةً ، وانطواءً ، وحُزناً يوماً بعد آخر ، ومرّت ثلاث سنوات على وفاة زوجته فتشاورت والدته التي كانت تمزق حالته فؤادها مع أباه في أمره فلم يريا بُداً من أن يفاتحاه في أمر الزّواج فلا شيء سيُخرجه من حزنه على ليلى إلّا زوجة جديدة تشمله بحبها ، وعطفها ، ورعايتها ، وأستغلت ، والدته إحدى ساعات الهدوء في البيت وتحدثت معه فقال لها أنه لا يستطيع أن يتزوج الآن وأن عليها أن تؤجل الحديث في ذلك الموضوع إلى وقت آخر ، فرات ان تمهله بعض الوقت وانتهزت بعض الفرص التي سنحت بعد ذلك وألحت عليه عدة مرات فاخبرها بانه لن يستطيع أن يتزوج مرة أخرى ، وأنه سيوقف حياته من أجل تربية إبنته سلمى فازدادت حزناً وقلقاً عليه .

    ولم يكن حب أحمد لليلى ووفائه لها هُما السببان الوحيدان لرفضِ احمد للزّواج مرة ثانية فقد كان يؤمن ايماناً عميقاً بأنه لا توجد إمرأة في الدنيا تستطيع أن تُربّى طفل إمرأة أُخرى بالرحمةِ وبالحبِ والإنصاف ، وأنْ تحتمِل مُتطلبات طفولته دون أن تعامله بقسوةٍ وظُلمٍ وإجحاف ، لذا لم يكن في نيته أبداً أن يأتي لسلمى بزوجة أب تكيل لها العذاب الواناً ، وتُجرّعها الذُّلّ والهوان فكان رده لوالدته حاسماً ونهائياً .

    و طالت في إحدى اللّيالي جلسته على الشاطيء وهو غارق في ماضيه وذكرياته حتى مضى من الليل أكثره فقام يقطع طرقات البلدة الهادئة الصّامتة إلا من نباح كلب ، أو نقيق ضفدع ، أو صرير جندب حتى وصل الى البيت ...

    دخلَ وأغلق الباب وراءه في هدوء .. ومشى في حذر ، مُتسللاً الى غُرفته ، ومرّ في طريقة قريباً من فراش والدته فرأى جسدها يهتز ، وسمع صوت بكاءها المخنوق من تحت غطاءها فطار فؤاده .. جلس إليها .. وضمّها إلى صدره .. ومن دون أن تنطُق بحرف عرف أنه سبب بكائها .. فهدأ من روعها ومسح دموعها ولم يتركها حتى أرتاحت تماما ً.

    وأضطجعَ على سريرهِ تلك اللّيلة يلوم نفسه ويُعاتبها حتى الصباح ، فما ذنب والدته حتى يتسبب لها في كل هذا العذاب والألم ؟؟ إنّ من حقها مِثلَ أيّ أُمٍ أن تطمئنّ عليه ، ومن واجبه هو أن يكون سبباً لسعادتها وليس العكس ، إنها ليست في عمر يحتمل التوتر والقلق والحزن ، لقد تملكته الأنانية وهو يفكر في نفسه فدفعه خوفه على إبنته إلى تجاهل خوفها هي عليه ، وإلى تناسي قلقها وراحتها وإطمئنانها وسعادتها ، هي التي بذلت كُل حياتها في سبيلِ راحته واطمئنانه وسعادته .

    كان يشعر في اعماقه أنه ارتكتب جُرماً عظيماً لن يستطيع أن يغفره لنفسه أبداً .. انّ هناك شيئاً واحداً سيريحها وسيجعلها تطمئن وعليه أن يقوم به على الأقل من أجل راحتها وسلامتها وسكينة نفسها ، أما أبنته سلمى فهي لا تزال صغيرة كما أن جدتها لوالدتها لن تتخلى عنها قريباً ..

    و جلسا كالعادة يتناولان شاي الصباح قبل أن يغادر إلى عمله في اليوم الثاني فقال لها مبتسماً ومن دون أي مقدمات :
    - لقد قررت أن أتزوج ..

    ولم تصدق أُمه ما يقول فضمّته الى صدرها في قوةٍ و سالت دموعها على خديها ، لقد كانت تبكي فرحاً هذه المرة فلقد شعرت في تلك اللحظة بهم كبيرٍ ينزاحُ من على صدرها ، كانت تعرف ان ما دفعه لذلك القرار هو ما حدث في الليلة السّابقة وكانت مُدركة ان القرار الذي اتخذه لم يكن عن رضا أو اقتناع ، ولكنها كانت واثقة تماماً ، انّ إمراة جديدة قادرة على أن تُخرج إبنها الحبيب من وهدة أحزانه وآلامه حتى لو لم يكن دافعه للزواج هو رغبته فيه ...
    (7)

    تفانت إاخلاص في خدمةِ الأُسرة – أسرة احمد – بعد وفاة زوجته حتى أثنى الجميع على وفائها ، وهمتها ، وأصلها الطّيب ، فلم تكن تُفارق البيت إلا لاوقاتٍ قصيرة ، ولم تكُن تترك أحداً مِن أفراد الأُسرة يقوم بأي عمل من الاعمال طوال أيام العزاء ، كما أنها أحاطت والدة احمد بعناية واهتمام فائقين ، كانت تدُور مِثل النّحلة تستقبل وفود النساء المُعزّيات وتقوم بواجبات الضّيافة حتى ظنّ كثيرٌ من الذين لا يعرفونها أنها أحد أفراد الاسرة ، وكانت هي تقوم بما تقوم به في سعادةٍ لا توصف بالرغم من الحزن الظاهري المُرتسِم على ملامحها ، يدفعها إلى ذلك إحساس كبير بالراحة وبعودة الأمل، فلقد شعرت – عقب وفاة ليلى - بانّ الحياة قد عادت كما كانت في الماضي أيام كانت تقضي معظم أوقاتها في هذا البيت ، وأيام كان أحمد واحتياجاته ملكها وحدها .

    ورغم أنها نالت ودّ الجميع وكسبتهم في صفها ، إلا أنها عجزت تماماً عن أن تنال ودّ من تريد ، و ظنّت أنّ الامر يحتاج شيئاً من الصبرِ وقليلاً مِن الوقت فصبرت ، ولكن الايّام والشّهور بل والسنين تتابعت دون أن يجد جديد ، وملّت الإنتظار فعادت مرة أُخرى تبحث عن الشيخ عليّ ..

    كان الشيخ قد ترك الحيّ القديم الذي كان يسكُن فيه ، وأنتقل إلى حيّ آخر فبحثت في همة حتى أهتدت إلى مكانه الجديد ولكنّها عندما وصلت الى المكان وجدت ان الشيخ قد أنتقل مرة أُخرى إلى حي آخر، فعادت تبحث من جديد ، كان الشيخ كثير الأنتقال لذا فقد أنفقت وقتاً طويلاً جداً حتى أستطاعت ان تهتدي الى مكانه وتلتقيه ..

    كانت قد مرت ثلاث سنوات مُنذ لقائهما الأخير ولكنّها وجدته مثلما رأته آخر مرة لم يتغير فيه أيّ شيء ، حتى الغُرفة التي وجدته يجلس بداخلها ، ظنّت وهي تدخُل اليها أنها نفس الغرفة التي كانت تقابله فيها في البيت القديم ، ولولا ان البيت الاول كان من الطيّن لظنّت انه حملها معه حملاً ووضعها في هذا المكان .. وأطال هو النظر اليها وهي تدخل تدخل عليه ... كان صدرها قد اكتنز .. وكان عودها قد امتلأ .. و كان ردفها قد استدار ...

    كان شيطانه قد وسوس اليه بها منذ لقاؤهما الاول لذا تعمد ان لا ياخذ منها أي شيء وطلب منها أن تعود إليه ليبُقى حبل الودّ مُتّصِلاً بينها وبيه فلقد رأى فيها النّوع الذي يستطيع بمجهود بسيط أن يجعله طوع أمره وملك بنانه .. كان الشيخ مهووسا بالنساء بصورة عامة ولكنّه كان اكثر هوسا بالفتيات العذارى ، وكان صاحب حدس لا يكاد يخيب تجاه الضّعيفات مِنهُن فلقد كان في داخله شيء أشبه بانذار الحريق أو موشر البوصلة فما أن تجلس المرأة أو الفتاة أمامه ، وينظر في عينيها ، وتبدأ في التحدث إليه حتى يبدأ ذلك الموشر في الحركة والاهتزاز ان كانت من النوع الذي يستطيع النيل منه .

    وعندما رأى إخلاص لاول مرة شعر بذلك المؤشر يهتز في قوة حتى ظن أنه سينفجر في داخله ولكنّه في ذلك الوقت كان مشغولا بمن هن افضل منها ... وها هي الآن تعود إليه بعد أن كاد أن ينساها ، لقد نضجت وأزدادت أنوثة ، وحلاوة ، وتحوّلت ْإلى النوع الذي يُفضّله تماماً ، وعليه ان لا يتركها تغيب عنه مرة أخرى قبل أن ينال مراده ...

    دارت كلّ تلك الافكار في راسهِ وهو يستقبلها هاشاً باشاً في حرارة قل أن يستقبل بها امرأة أُخرى حتى لا يفسد صورة الطّهارة والقُدسّية اللّتان يرسمهما حوله ، فسُرّت هي لذلك وجسلت تحكي له عن معاناتها في سبيل الوصول اليه ، ثم عرجت بعد ذلك تخبره عن فشلها في نيل ما تريد حتى بعد أن ماتت ليلى ، أصغى اليها في إهتمام إعتاد أن يوليه لمحدثاته من النساء وهو يرسم خُطة النّيل منها من التفاصيل الدقيقة التي تخبرها به .

    وعندما أنتهت من حديثها كان قد أدرك ان ليس عليه إلا أن يعيد معها ذات اللعبة القديمة التي لعبها مع الكثيرات قبلها ، فطلب منها أن تعود اليه بعد أسبوع حتى يكون قد استشارالاسياد في أمرها ..

    وعادت بعد اسبوع فاعطاها بخرات طلب مِنها ان تشعلها في أي مكان داخل منزل احمد .. وعادت اليه بعد اسبوع فاعطاها بخرات اخرى لتتبخر هي بها وطلب منها ان تعود اليه بعد اسبوع ، وعادت بعد اسبوع فاعطاها سائلاً أحمر اللون وطلب منها ان تضع قدراً قليلا منه في أي مشروب سيشربه أحمد ثم تخلط الباقي بالماء وتغسل به صدرها وتنتظر بعد ذلك ثلاثة ايام قبل أن تعود اليه ففعلت ما طلبه ، وانتظرت ثلاثة أيام ثم عادت اليه ، فطلب منها أن تعود اليه بعد اسبوع اخر ..

    كانت اخلاص تذهب إلى الشّيخ وقد نال منها الهم والقلق واليأس ، وتعود منه يملأ الأمل قلبها فبقيت تتأرجح بين هذا وذاك فترة تعمد الشيخ أن يٌطيلها حتى يوصِلها إلى المرحلة التي تجعلها تستجيب فيها لاي شيء يطلبه منها دون تردد ، ودخلت عليه في إحدى الأمسيات بائسة ، حزينة ، متضجّرة ، فأدرك أن صبرها قد نفذ ، وأنها ما عادت تستطيع الانتظار أكثر مما انتظرت ، فأغمض عينيه كعادته كلما أراد ان يُوهم شخصاً بصعوبة الامر الذي يقوم به ثم قال لها بطريقته المؤثرة وبصوته الذي يُضفي عليه نوعاً كبيراً من الاهمّية أن الامر بالغ الصعوبة وأنّ جُزءً من العمل الذي عملته ليلى لاحمد والذي هو خليطٌ من السّحر الهندي والزئبق الاحمر لا يزال باقياً في جوفهِ وهو الذي يسيطر عليه ويجعله على الحالة التي هو عليها الآن ، وأن هناك طريقة واحدة لفك ذلك السحر ، وجعل أحمد يشعر بها ويميل إليها من جديد فتتحقق غايتها المنشودة بعد ذلك ..

    ومرة أخرى شَعَرت وكان حلمها يكادُ يفلت من بين يديها فسألته في اضطراب عن تلك الطريقة فقال لها أنه لا يستطيع أن يخبرها باي شيء ، وأنها ستعرف كل شيء في حينه ، وأن عليها فقط أن تعرف إنها إن وافقت على تلك الطريقة ، وشرع هو في العمل ، فلن يكون في مقدورِها التراجع ابداً ، كما لن يكون في مقدورها أن ترفض أي شيء يطلبه منها ، والا ستعرض حياتها وحياة كل إنسان تحبه أو يمتّ لها بصلة إلى خطر عظيم ... ولم تفكر طويلا ، ولم تتردد كثيراً أخبرته أنها لن تتراجع وأنها لن ترفض أي طلب يُطلب منها طالما كان في مقدورها أن تقوم به ؟؟

    كان الشيخ يعرف أنها ستوافق فاعطاها بخرات جديدة طلب منها أن تتبخر بها لمدة ثلاث أيام بعد صلاة العصر ، وأن تذهب مباشرة بعد أن تتبخر بها إلى بيت احمد ، وأن تبقى هناك حتى ينادى لصلاة العشاء ، أما في اليوم الرابع فعليها أن تغتسل ، وتتطيب ، وتلبس أجمل ثيابها ، ثم تعود إليه في نفس الميعاد ، دون أن يعرف أي انسان آخر أنها ستاتي اليه ، ثم ذكّرها مرة أُخرى وهو يضع البخرات في يدها أنه لن يكون في مقدورها التراجع أبداً إن قامت باستخدامها ، وأنها إن عصته بعد أن تستعملها فستحل عليها اللّعنات ، وستجلب الشّقاء لنفسها ، ولكلِ من حولها.

    ونُودي لصلاة العصر في اليوم الثاني فدخلت إخلاص إلي المطبخ الصّغير وأشعلت النار، و أنتظرت حتى تحول الفحم إلى كُرات حمراء شديدة التّوهج ، ثم وضعت البخرات من فوقها ، ووقفت تنتظر ، وعندما بدا الدّخان يتلوّى مُتصاعداً وضعت المُبخر الصغير على الارض ووقفت من فوقه بعد أن باعدت بين رجليها ، ورفعت فستانها حتى حدود ركبتيها ليُغطّي الدخان جسدها كله مثلما أخبرها الشيخ ، وبقيت منتصبة كذلك حتى أنقطع خيط الدخان تماماً ، فاطفأت باقي الجّمر المُتّقد ، ووضعت المبخر في مكانه ثم خرجت على عجل ، وذهبت إلى بيت أسرة احمد وهي تشعر على نحو غير مألوف بأنها تخطو خطوتها الأخيرة نحو الانتصار على غريمتها الميتة ، ولانّها كانت تُعتبر فرداً مِن افراد الأُسرة ، ولانّ وجودها لساعاتٍ طوال كان شيئاً طبيعاً هُناك ، فلقد استطاعت أن تبقى حتى نودي لصلاةِ العشاء دون أي حرج ..

    وكررت في اليومين التاليين ما فعلته في اليوم الاول ، وفي عصر اليوم الرابع أتجهت نحو بيت الشيخ وهي في كامل زينتها وقد سيطر عليها قلق خفي لا تعرف سببه ....

    وصلت إلى الحي العشوائي الفقير ، ودخلت الى الغرفة الصغيرة المعتمة المليئة بالتصاوير ، فغشت أنفها الرّائحة المألوفة للبخور المحترق والتي إعتادت أن تشمها كلما جاءت الى الشيخ .. وظلّت واقفة في مكانها لبرهةٍ وهي تكاد لا ترى شيئا أمامها بسبب كثافة الدُّخان ، وعندما اعتادت عينيها على ضوء الغرفة المُعتمة ، التي زادها الدخان عتمة ، رأت الشيخَ جالسٌ في مكانهِ وعيناه مُغمضتان ، وشفتاه تتحرّكان ، دون أن تصدرا أي صوت ، بينما راحت حبّات المسبحة تتابع بين أصابعه في انتظام وراسه يتحرك الى الخلف والى الامام بطريقة آلية.
    (8)

    أدركت والدة أحمد الطّيبة البسيطة ، أدركت بغريزتها الأنثوية رغبة إخلاص القوية في الارتباط بابنها أحمد ، ورأت إصرارها ، وسعيها الحثيث للفوز به ، ولمِست إهتمامها ، وحرصها ، على خدمته والقيام بكل شئونه ، فاقتنعت بأنها الزوجة التي تناسبه وتناسب ظروفه ، فإن اكثر ما يحتاجه أبنها هو إمرأة تحبه و تستطيع إحتماله ، واحتمال أحزانه ، وتعمل جاهدة للخروج به من عُزلته ووحدته ، وإخلاص تعرف ظروفه جيداً ، وتُدرك كلّ ما مرّ به ، وستتعامل معه من خلال ذلك الادراك ، ومن خلفيه تلك المعرفة ، وذلك سيجعلها أكثر مقدرةً على الصبر عليه حتى يتجاوز محنته ، لذا لم تألو والدته جهداً - بعد أن وافقها على الزواج - للفت نظرهِ إليها من خلال المديح الذي تكيله لشخصها أمامه كلما جلسا يتحدثان سويا .

    ولم ياتِ مديحها وثناءها على اخلاصٍ بأي فائدة ، فقررت أن تتحدث إليه في صراحة ، فتأهّبت في ظُهر اليوم الذي ذهبت فيه إخلاص إلى مقابلة الشيخ وجهزت نفسها للحديث إليه... وجاء أحمد في ذلك اليوم من عمله مُتأخِراً أ فاعدت له طعام الغداء بنفسها ، وجلست بجانبه وهو يتناوله ، ثم سألته قائلة :
    - ترى هل وجدت عروساً أم انك نسيت أمر الزواج الذي قلت أنك تريده ؟؟
    كان قد نسى أمره فعلاً ولم يكن يتوقّع أن تتحدث إليه والدته في موضوعه في ذلك الوقت فأجابها دون أن يفكر:
    - لا لم أنسى ولكن كما تعرفين يا امي لا وقت لديّ لاختيار عروس او للبحث عنها ..

    كان تعرف أنه يتهرب ، وكانت قد قررت أن تحسم الأمر فحاصرته قائلة :
    - أنت لا تقابل أحداً ، وتكاد لا ترى أي فتاة فكيف ستختار عروساً ؟ .

    لم يكن الحديث في مثلِ هذه الامور يروق له فأرد أن يُنهيه سريعاً فردّ عليها وهو يبتسم:

    - إختاري أنت العروس التي ترينها مناسبة يا أمي فأختيارك سيناسبني من دون شك ..
    كانت تتمنى أن يكون الخيار خياره هو ولكنها لم ترد ان تترك الفرصة تفلت من يدها فقالت :
    - ما رأيك باخلاص ؟؟
    ورغم أنه لم يكن يعنيه من ستختار له إلا انه تسائل مندهشا :
    - إخلاص ؟؟ اخلاص من ؟؟
    ردت أمه مستنكرة سؤاله قائلة :
    - ما بالك يا بُني..إخلاص التي تقوم بكل شؤونك دون أن تشعر بها ودون ان تُلقي لها بالاً صحيح أنها متوسطة الجمال ولكنها بنت مهذبة وخدوم .. وبرغم بساطة اهلها الا انهم اناس طيبون كما اننا نعرفهم مُنذ زمنٍ طويل .

    فاجأه اختيارها فشعر باللّقمة تتوقّف في حلقهِ ، فسعل مرات مُتتالية حتى دمعت عيناه ، فبرغم حزنه الكبير ، وبرغم عدم تفكيره في الزواج اصلاً ، إلا أنّ إخلاص كانت آخر انسانة كان يمكن ان يفكر فيها كزوجة .. ليس بسبب جمالها وليس بسبب فقر أُسرتها ، ولكن لانهّا كانت لا تُناسبه من نواحي شتى فهُما مختلفان في كل شيء ، وكاد ان يعترض ولكن .. إخلاص أو غيرها ما الفرق طالما أنّ ليلى قد رحلت ؟؟
    إن المراة التي أحبها قد ماتت و لن يجد إمرأة مثلها أبداً .. وهو لن يتزوج لانه يريد الزواج او ييرغب فيه ، ولكنه يتزوّج لان أمه تريد ذلك ، وما دام يتزوج لاجل أن يُرضيها ويريح بالها فلماذا يرفض المراة التي إختارتها له ورأت في قربها منها راحة له ولها ؟؟
    - لم لا تردّ على سؤالي ؟ ..
    أخرجه سوال والدته من أفكاره .. كان تفكيره بتلك الطريقة وقبوله باخلاص برغم عدم اقتناعه بها فيه ظُلم كبير لها وظلم كبير لنفسه ولكنّه رد على والدته في هدوء :
    - لا بأس أساليها إنْ كانت تقبل بي ؟؟
    قالت أُمه في فرح :
    - تقبل بك ؟؟ يبدو أنك فعلاً غير منتبه لما تفعله من أجلك ..


    (9)

    بقيت إخلاص تُراقب حبّات المسبحة التي تتابعُ في انتظام بين أنامل الشيخ الذي أغمضَ عينيه ، وراح يُتمتم بشفتيه هامساً لوقت ليس بالقصير حتى ظنّت أنّه لم يشعر بدخولها ، وأنه رُبما يكون لا يعرف أنها تجلس أمامه ، وفكرت في أن تُصدر أي صوت لُتنّبهه إلى وجودها ، ولكنّها لم تجرؤ على ذلك ، فلزمت الصّمت مُفضّلة أن تنتظر على أن تقطع عليه ما هو فيه ، وتتسبب في إزعاجه ، وربما غضبه ، وطال أنتظارها قبل أن يخاطبها أخيراً وهو يقول لها دون أن يفتح عينيه ، ودون أن يتوقف عن تحريك المسبحة بين أنامله :

    - إقتربي مني يا إخلاص ، إجلسي إلى جواري هاهنا ... واشار الى مقدمة السّجادة التي كان يجلس عليها لم تشعر بالدّهشة لانّه عرف انّها هي التي تجلس امامه ، دون ان يفتح عينيه ، فلقد عوّدها الشَيخ على فعل العجائب ، فقامت وجلست حيث أشار لها ، فكادت ركبتيها ان تلامسا ركبتيه ، فانحنى الى الامام ، ومد يده ، ووضعها على رأسها وهو مستمر في تمتمته بالكلّمات التّي لا تفهما ، وفجاة وزاد ضغط يده على راسها وازداد صوته ارتفاعا و سرعة ، وأصبح تنفسه عسيراً ، وأرتجفت يده في عصبية فوق رأسها ، ثم بدأجسده كلّه ينتفض ، ويهتز حتى ظنت ان اعضاءه ستنفصل عن بعضها البعض وامتلا قلبها بالخوف ، والرعب ، والهلع ، قبل أن يعود الشيخ الى هدوءه ، ويزيح يده من على رأسها ويطلب منها في لهجة آمرة ،حاسمة ، أن تُعري نصفها الاعلى ، شعر بترددها ففتح عينه المُحْمَرّتان ، ونظر اليها نظرة قاسية ثم قال لها في صوت خافت ولكنه بارد ومخيف :

    - تذكّري .. لقد وعدتِ أنْ تطيعي دون تردد فأسرعي حتى لا تغضبيهم .

    ثم أغمض عينيه مرة أخرى ورفع يده اليسرى شأن من يريد أن يرد عنها خطراً مُحدقا .. دفعها الخوف ورغبتها في تحقيق غايتها إلى فعل ما أمرها به فخلعت ثيابها ، وعرت نصفها الأعلى كاملاً فتناول إناءً فُخّارياً كان موضُوعاً بجانبه وأخذ قليلا ًمن السائل الذي كان موجوداً فيه ثم بدأ يمسح به على شعرها وعنقها وكتفيها ، ثم أنزلقت يده إلى صدرها فاحتقن وجهها وتسارعت أنفاسها ..

    وتوقف بُرهة وتناول إناءً آخر طلب منها أن تشرب ما به فشربته على عجل ، فنزل المشروب على حلقها حاداً لاسعاً .. فعادت يده مرةً أُخرى إلى صدرها ، وعنقها ، وكتفيها ، وتركّزت أخيراً على صدرهاً فجعلت ترى الاشياء تدور من حولها ، وسيطرت عليها رغبة عارمة متاججه ، ثم شعرت بخمول في أطرافها فلم تعد تقوى على الجلوس .

    ومالت باتجاهه فتلقاها بيديه ، و حملها ، ووضعها على سرير كان موضوع في جانب من جوانب الغرفة طالما تساءلت قبل ذلك عن سبب وجوده في ذلك المكان طالما ان لا احد يجلس عليه ابدا ، ثم شعرت بثيابها تُنتزع عن جسدها قطعة قطعة ، دون أن تستطيع أن تُحرّك ساكناً فبالرغم مِن أنها كانت لا تزال واعية مدركة لكل ما يحدث حولها ، إلا انها كانت أشبه بالمشلولة ، غير قادرة على تحريك أي جزء من أجزاء جسدها ، و شعرت باليدِ السمراء تتحرك صُعوداً وهبوطاً ، فازداد الدم الحارُ تصاعُداً وحرارة ، ثم شعرت به أخيراً قبل ان تفقد إدراكها تماماً ، شعرت به من فوقها ، وشعرت بانفاسه الحارة تلفح وجهها و.... تضاءل الكون كله فوسعته تلك الغرفة الصغيرة الُمعتمة المليئة بالتصاوير والبخور ... وتعالت قهقهة الشيطان وهو يضحك سروراً بالإنتصار الجديد ، وتواصلت قهقهته طويلاً دون أن يسمعه أحد ..
    ***
    لا تدري إخلاص كم بقيت في حالتها تلك ولكنّها حينما إستعادت وعيها كاملاً وجدت نفسها عارية من جميع ثيابها ، ورغم أنها شعرت بالكثيرِ مما جرى إلا أنّ عقلها لم يستوعب على وجه اليقين ما الذي حدث بالضبط .. كان ذهنها مُشوشاً .. وكانت لا تزال تشعُر برأسها يدور .. وكان الشّيخ يجلس في مكانه مغمضاً عينيه ، تتابع حبات مسبحته بين أصابعه في خشوع واطمئنان .. فأرتدت ملابسها ووقفت أمامه مُطاطةً رأسها في خجل .. فقال لها في هدوء أن المرحلة الصعبة قد إنتهت ، وأن أحمد سيتزوجها ، وانها ستنجب منه بنيناً وبنات ، وأنها سترى خلال قريبا جداًنتيجة ما حدث معها اليوم ، وأنّ عليها أن تعود اليه مرةً أُخرى بعد أن ينتهي كل شيء ..

    وخرجت من عند الشيخ وهي تشعر بشيء يكتم أنفاسها وتفكّرت في أمرها فسال دمعها غزيراً على خدودها ، وكرِهت ان تعود إلى بيت اسرتها مُباشرة فمرّت في طريقها على منزل أحمد .. لم يكن بالمنزل غير والدته التي إستقبلتها بلهفة فرحة وهي تسألها قائلة :

    - اين أنت اليوم لقد انتظرتك طويلاً وعندما لم تأت ارسلت في طلبك ولكن والدتك أخبرتني أنك خرجت دون ان تخبريها الى أين .. فأين كنت ؟؟

    اضطرت ان تكذب فقالت :
    - لقد ذهبت إلى احدى صديقاتي .. لقد أرسلت تدعوني لامر عاجل وهام فخرجت دون أن اخبر أحداً
    تعالي ، اقتربي مني .. أجلستها ام احمد إلى جوارها ، ووضعت يدها حول كتفها وهي تسألها قائلة :
    - ما رأيك باحمد ؟؟؟
    إتسعت عيّناها ، وأرتجف قلبها فتسارعت دقاته في عنف فلم تستطيع أن ترد .. فعادت والدته تقول في بساطتها ، وصراحتها ، وطيبتها ، وهي تبتسم :

    - إن أحمد يُريد أن يتزوج .. ولقد طلبك للزواج ويريد أن يعرف ان كُنت ستقبلين به حتى نطلبك من والديك !!

    بصعوبة كتمت صرخة كادت ان تفلت منها بين شفتيها .. ثم قفزت راكضة الى الخارج ، ولكنّها قبل ان تصل الى الباب كرّت راجعةً ، واكبّت على أم أحمد تقبلها في رأسها وفي خديها وفي يديها وفي كل جزء من اجزاء جسدها في فرح غامر ، ثم عادت تركُض مرّة أُخرى نحو منزلهم ..

    وأنساها طلب أحمد للارتباط بها ، أنساها ما حدث في غرفة الشيخ ، ففارقها الغم الذي سيطر عليها لوقت يسير ، وتبددَ الهم الثقيل الذي كتم على أنفاسها ، وانزاح عن كاهلها كانه لم يكن .

    (10)

    إنفتحت نوافذ الامال و الاحلام عِراضاً أمام اخلاص وأهلها يعدّون العُدّة لزفافها من أحمد ويولونها إهتمامهم ورعايتهم والتفت حولها قريباتها ، ومعارفها ، وصديقاتها ممن هُم في مِثل عمرها مثلما كانت تتمنى فاصبحت تنتظر يوم زفافها في شوقٍ ، ولهفة ، وفرح ومرّ الشّيخ وما حدث معه في غرفته على ذهنها مرات عدة وهي تُجهز لليومِ الموعود ، فعكّر مروره صفو سعادتها ، وجعل سحابة من الهم والحزن والقلق تخيم على نفسها ...

    لقد كانت تشعر عندما تتذكر ما حدث بانها دفعت غالياً و تتمنى ان لو كانت هناك وسيلةً أُخرى غير ما حدث لاتمام مُرادها ، ونيل غايتها الا أنها سُرعان ما كانت تطرد تلك السّحابة ، وتُعزّي نفسها بانّ ما حدث معها ليس شيئا ذِي بال طالما انها استطاعت ان تصلحه فلقد تحججت في احدى المرات وذهبت مُتسلّلة الى احد الاطباء المعروفين والذي اكّد لها ان المُشكِلة ليست كبيرة وقام بمعالجتها في وقتٍ وجيز ، بعد ان اخذ منها مبلغاً كبيراً من المال ،كما ان ما حدث كان لا بد ان يحدث حتى تصل الى غايتها .. يكفيها انه أتى بثماره ، ويكفيها أنّ الشيخ قد صدق في وعده معها ، و حقق لها في يوم واحد ما سعت عُمرها كله لتناله فكانت تعود الى طبيعتها ، والى مرحها ومرت الايام سراعاً وتم الزواج .

    ورغم انه تمّ مِثلما ارادت أن يتم ، فقد أصرّت على ان تتزوج مثل أي فتاة أُخرى بالرغم من ظروف أحمد ، الّا انها لم تشعر بالسعادةِ التي كانت تظن انها ستشعُر بها عندما كانت ترى الفتيات الى جوار أزواجهنّ في ليالي الزفاف التي كانت تشهدها ، كانت تشعر وهي تجلس بجوار أحمد أنَّ هُناكَ شيئاً ناقصاً ، شيئاً لم تكن تدرك كنهه ، ولا تعرف ما هيته ، ولكنها كانت تشعر بغيابه ، وبعدم وجوده .

    وأمضت عدة أيام بعد الزواج في منزل والديها شعرت فيها أن الرجل الذي تزوجها غائب عنها تماماً ، ولكنّها تذرّعت بالصبر فلقد أخبرها الشيخ علي أن الامر سيحتاج شيئا من الوقت ، وأنتقلت إلى البيت الذي طالما حلُمت بالعيشِ فيه وبالتمتع بكل ما يحتويه من سيارات ، وأموال ، وعيش هانيء رغيد ، مُمنيّة نفسها بأن يتحقق ما وعدها الشيخ به من أهتمام سيولّيه إليه زوجها ، ومن محبّة ستجعله طوع أمرها فلا يرُد لها طلباً ، ولا يعصي لها امراً بعد أن يتخلص من آثار السّحر تماماً .

    ولكن وبرغم صبرها فقد كان أحمد يزدادُ نائياً ، وبُعداً ، ونفوراً كان يقضي جُلّ نهاره في العمل .. وكان يقضي بقية يومه بين إبنته التي تعيش في بيت جدتها لامها ، وبين شاطيء النيل الذي لا يعود منه الا بعد أن ينتصف الليل فازدادت إخلاص حقداً و كُرها للمرأة التي سرقت منها احمد من قبل ، وتسرقه منها الآن برغم أنها تزوجت به ، حتى عُطلة نهاية الاسبوع وهي الوقت الوحيد الذي يقضيه كاملاً في المنزل كان يأتي فيها بسلمى ، وينشغل بملاعبتها ، ومُداعبتها ، وبالاستجابة إلى رغباتها ومطالِبها عن أي شيء آخر ، فلقد اعتاد أحمد أن يذهب يوم الخميس من العمل مباشرة ليأتي بسلمى حتى تقضي يوميّ الخميس والجمعة معه ومع جدها وجدتها ، وكانت أخلاص تجد نفسها مضطّرة للضغطِ على أعصابها ولممارسة أقصى ما تستطيع من نفاق ، ومِن كظم غيظ حتى لا يبدو بُغضها لسلمى واضحاً جلّياً في تصرفاتها.. كانت تمازحها ، وتداعبها ، وتضحك لها ، بينما كانت في سرها تلعنها وتتمنى أن لا تراها ...

    كانت تحملها بين يديها متصنّعة حبها والشوق اليها وهي تود لو أنها استطاعت ان تلقي بها أرضاً ، لتدق عنقها فتموت مثل أمها ، بل أن تلك الرغبة كثيراً جداً ما سيطرت عليها حتى همّت فعلاً بتنفيذها لولا أنّها كانت تُسيطر على انفعالاتها في آخر لحظة…

    وتحدّثت إلى أحمد أكثر مِن مرّة في ان يعطيها شيئا من وقته الذي يمضي معظمه خارج البيت ، فوعدها بذلك ولكنّها لم ترى منه أي تغير أو إهتمام ، وشعرت بالفراغ الكبير يزداد من حولها كِبراً واتّساعاً .. لقد ماتت ليلى ولكن يبدو أنها تركت لها ما سينغص عليها عيشها طوال حياتها ..

    إنّ مشكلتها الكبرى الآن هي هذه الطفلة الصّغيرة وعليها ان تجد لها حلاً والا فانها ستفسد عليها حياتها فاحمد لا يرى من الدنيا سواها ، ولا يشعر بغيرها ، إنّ أفضل ما تفعله هو أن تبعده عن تلك البنت الكريهة بأيّ صورة من الصّور ، ولكن كيف تبعده وهو لا يكاد يفارقها ؟؟ ليس أمامها غير الانجاب ؟؟ ولكن كيف تنجب منه وهو يكاد لا يخلو بها أو يقترب منها ؟؟ كيف وهو زاهد فيها وفي الأنجاب ، وفي الدنيا باسرها ، وزاهد في كل شيء الا تلك البنت البغيضة ؟؟ عليها أن تجد وسيلة ما ، عليها أن تعود الى الشيخ فهو وحده من سيجد لها حلاً مثلما وجد لها قبل ذلك !! لقد وعدها ان أحمد سيتغير، وأنه سيهتم بها بعد أن تتزوج به ، وأنها ستعيش الى جواره في سعادةٍ وسرور ولكن شيء من ذلك لم يحدث حتى الآن ، لقد طلب منها أن تعود اليه بعد ان تتزوج ولكنّها لم تفعل وربما ما تعانيه الان سببه الرئيسي هو عدم عودتها إليه لذا عليها ان تسرع في العودة اليه قبل ان يغضب عليها فتحل بها اللّعنات والمصائب .. وانتهزت أول فرصة سنحت لها وذهبت إليه ...

    كانت هذه المرة تعرف تماما ما يمكن أن تدفعه ولكنها عادت .. لقد جعلها الحقد والبغض الذي في داخلها تستهين بكل شيء لتصل إلى ما تريد فعادت إلى الشيخ وتكررت عودتها له .. وعادت اليد السمراء تتنقل من المسبحة الى تقاطيع الجسد اللّدن .. وأصبحت الشفتان الغليظتان الجافّتان تُسبحان فوق العنق والصدر ، و تقرآن التعاويذ بين النهدين ، وأصبح اللسان الاحمر الرقيق ، الشبيه بلسان الافعى هو الذي يمسح المناطق الحساسة بالدهان الطهور... وعاد الشيطان ينتصر من جديد وهي في كامل وعيها ، وإدراكها ، ورضاها ..

    وأنتقلت الصلاة من السجادة إلى السرير الموضوع في جانب الغرفة …. وطالت ساعات الدعاء الهامس يتخللها أنين الشكوى .. وأصبح عدد الركعات من دون حساب ، فقد كانت ظمأى لكل شيء ، وتكررت زياراتها وتكرر معها انتصار الشّيطان فغرقت حتى أذنيها في وحل الخطيئة غير مبالية...

    وطلب منها الشيخ أن تاتيه بقطعة من ثياب زوجها الدّاخلية ثم أعطاها ما تدسه له في شرابه ، وما تضعه تحت فراشه وأخبرها أنه في أيام قلائل سيمل أبنته ويتجاهلها تماماً ويتفرغ لها هي وحدها وكعادة الشيخ عندما يعدها سرعان ما شعرت بشيء من التغير في سلوك زوجها ، لقد أصبح أكثر سكينةً واكثر اقتراباً .. وأقل نفوراً ... وازدادت ساعات تواجده في البيت عمّا كانت عليه .. وأنقطعت دورتها الشهرية فشعرت بالهلع .. وتاكدت انها حبلى فكادت الهواجس والهموم أن تقتلها..

    إنّ الجنين الذي في بطنها لا يخص زوجها ولكنّه يخص شيخها فماذا ستفعل ؟؟ وكيف تتصرف ؟؟ كيف تتخلص منه قبل ان يعرف به أي انسان ؟؟ الى من تلجأ ؟؟ وبمن تثق ؟؟ وحارت في أمرها ، وأسودّت الدّنيا أمام ناظريها ، وفكّرت في والدتها فهي الوحيدة التي من الممكن أن تكتم سرها ، وتداري فضيحتها ، وتساعدها على التخلّص مِن عارها .ولكن هل تستطيع ان تخبر والدتها بما حدث ؟ وكيف تقابلها بعد ذلك ؟ وكيف تستطيع ان تنظر في عينيها في المستقبل؟؟

    لا لا لن تستطيع ان تخبر والدتها انها حملت من رجل آخر غير زوجها .. ليس أمامها الا الشيخ نفسه ، فهو من ورطها في هذه الورطة ، وهو أيضاً متورط معها ، وعليه ان يجد لها حلاً .. منذ الغد ستذهب إليه .. واضطجعت في فراشها تأكلها الهواجس والمخاوف ، وفجأة خطر على ذهنها خاطر فاستوت جالسة .. لماذا تتخلص مما في بطنها ؟؟ أليست هي في أمس الحاجة إلى طفل يشغل زوجها عن أبنته وييبقيه الى جوارها ؟؟ وماذا لو تخلصت من هذا الجّنين ولم تستطيع بعد ذلك أن تحبل من زوجها ؟؟ وإلى متى سيبقى زوجها متزوجاً بها ان لم تأت إليه بطفل تربطه به إليها إلى الأبد ؟؟

    لا ليس عليها أن تَتَخلّص مِن هذا الجنين أبداً .. إنّه فرصتها الوحيدة الآن لتحقيق ما تريد وليس عليها أن تتخلص منه .. ولكن ماذا لو عرف زوجها أن الذي في بطنها لا يخصه ؟؟ ولكن كيف سيعرف ان لم تُخبره هي ؟؟ إنّ الشّيخ لا يختلف في شكله عن زوجها كثيراً .. إنّه في نفس الطول ، وله نفس الجسد الفارع ، وهو لا يختلف عنه الا في شكل الأنف ، ونعومة الشعر ، ولون البشرة المائل إلى السواد ولكن لون بشرتها هي وشعرها الاسود الناعم سيجعلان الفارق غير ملحوظا ، فربما يأتي الطفل شبيهاً بها ، او على الاقل سياخذ شيئا من ملامحها ولن يستطيع احد ان يعرف أنّ أحمد ليس والده ..

    إنّ ذلك سرّها وحدها ويجب ان لا تطلع عليه أي انسان آخر، حتى الشيخ لا يجب ان يعرف في يوم من الايام أنها أنجبت منه ، فقط عليها الآن ان تتوقف عن الذهاب إليه طالما ان لا أحد حتى الآن يعرف أنها كانت تذهب اليه ، وبما أنها ستنجب طفلاً يحل لها مشكلتها من جذورها فلن تكون في حاجة إلى الذهاب إليه بعد ذلك ..

    ظلت اخلاص لفترة طويلة خائفة ، مُتردّدة ، حائرة تحُدّثها نفسها باجهاض الجنين حيناً ، فتسيطر عليها مخاوفها حتى تكاد أن تفعل ذلك ، و حينا آخر تحثها على إبقائه حتى تؤمن أنه هبة من الله لها لتنال بها حب زوجها ، وتصون بها بيتها ، وتنتصر بها على غريمتها الميتة ، وحاصرها الوقت ولم يعد في مقدورها أن تنتظر أكثر مما انتظرت لتحسم أمرها ففي وقت قريب سيعرف الجميع بحملها فقررت إخبار زوجها...

    وفي مساء اليوم الذي قررت ان تخبره فيه هيأت نفسها ومشّطت شعرها ، ووضعت زينتها ، وتعطرت بأحلى عطورها ، ولبست أفضل ما لديها من ثياب ، وجلست تنتظر عودته من عمله ، ولكنه عاد مُستاءً ، متكدراً ، يائساً ، وبذلت جهداً كبيراً لتعرف سبب إستياءه ، وتكدره ، وحزنه ، ولكنّه لم يخبرها فأضطرت لان تخبره بامرها والجو الحزين مخيم على المكان ، فشعرت به يزدادُ إستياءً ، وتكدراً وضيقاً .

    (11)

    كان أحمد يشغِل وظيفة هامة ، شديدة الحساسية ، وكانت لديه خبرة كبيرة في مجال عمله الذي كان يحبه ، ويخلص فيه ، أقصى درجات الاخلاص ، ولم يكن له أي نشاط سياسي معروف ، فلم لم يسبق له الانضمام لاي حزب من الاحزاب التي كانت تتصارع وتتقاتل من أجل السلطة ، ولم تكن له عداوة مع أصحاب القرار سواء السياسين او المرتبطين بعمله فقد كان دائماً يرى أن الولاء يجب أن يكون للوطن .. وأن أفضل خدمة يُقدمها الإنسان لشعبه ولامّته هي من خلال وظيفته ، وتفانيه فيها ، وقيامه بما هو منوط به على الوجه الاكمل .

    كان يؤمن أن الاتفاق والمضي قُدُماً خير من الاختلاف الذي لا يؤدي الا إلى النكوص والرجوع إلى الوراء ، حتى موت زوجته طواه في داخله ولم يسمح له بالسيطرة على افكاره حتى يجعل منه عدواً لمن كانوا السبب في منعه من السفر

    كان قد سمع عن إقالة بعض القيادات من ِقبل النظام الجديد فيما ولكن لم يداخله أي شّك أنّ الامر سيطال وظيفته الهامة الحساسة لحاجتها للكفاءة وللخبرة ، إلا أنه في نهاية دوام اليوم الذي أخبرته فيه زوجته بأنها حُبلى كان قد إستلم خِطاباً يعفيه من عمله فوراً دون أن يذكر ذلك الخطاب أي أسباب او مبررات لذلك الاعفاء .. ظنّ في البدايةِ أنّ في الأمر خطأ سُرعان ما سيتم تدارُكهُ إلا انّ الشهور مرت شهراً بعد آخر دون أن يجدّ جديد .. ووضعت إخلاص في هذه الفترة صبياً جاء يشبهها في كل شيء ما عدا شعره الاجعد ، وأنفه الكبير ، فأصابها شيء من خيبة الامل لانها كانت تتمنى أن تنجب بنتاً تحل محل سلمى في قلب أحمد ففوجئت بإنجاب صبي ..

    ولم يشعر احمد بأي عاطفة تجاه ذلك المولود ، بل شعر بدلا من ذلك بنوع غريب من النفور منه حتى انه عاتب نفسه فيي سره على ذلك الشعور ولكنه أدرك ان مسئوليته قد إزدادت ، وادرك أن عليه أن يفعل شيئاً من أجل إعالة أسرته فليس من المعقول استمرار ه في الاعتماد على والده بعد انجاب ذلك الصبي ،كان قد مرّ وقت طويل وهو ينتظر أن يرسلوا في طلبهِ ، ليعتذروا إليه ويعيدوه إلى وظيفته بعد ان يكتشفوا الخطأ الذّي وقعوا فيه وقاموا بارتكابه ، ولكنّه بعد قدوم المولود الجديد فكر ملّياً فوجد أن من الافضل له أن يقبل عرض والده الذي ظلّ يلح عليه طوال الفترة الماضية لينضم اليه ، ويعمل معه في مجال التجارة ، وإذا حدث وتمّت إعادته فليس هناك ما يمنعه من العودة ، على الأقل سيكون قد قدم شيئا من المساعدة لذلك الوالد المحب الحنون ، وفرح والده بقراره فرحاً شديداً فقد كان يحتاجه ، ويحتاج إلى مساعدته فمجهوده لم يعد كما كان في السابق ، كما أنه كان يرى في التجارةِ المهنة الافضل ، التي سُرعان ما سيتعلّم أحمد أسرارها ، ويبرع فيها لانه يمتلك كل مقومات التّاجر الناجح من صدق ٍ،وأمانة ، ومن سلوكٍ قويم ، ومن خُلقٍ حَسنْ ، ولكنّ أحمد شعر منذ اليوم الأول في السّوق كأنه طائر قد تم وضعه داخل قفص محكم الاغلاق .
    أيعقل هذا ؟؟
    أظلّ طِوال سنوات شبابه يدرس ، ويكد ، ويجتهد ، ويتعلم ، لينتهي به المطاف في مهنةٍ لا علاقة لها بدراسته ولا بخبرته ؟؟
    أيعقل أنه بعد كل المجهود الذي بذله في تعليمه ، وبعد كل الخدمات التي قدمها لبلده ، أيعقل أن يتم الاستغناء عنه بهذه الصورة وهو في قمة عطاءه ، وفي ذروة كفاءته ؟؟
    ولماذا ؟؟
    إن في الاستغناءِ عنه خسارة للبلدِ كلّها قبل أن يكون خسارة له هو، فلديه الكثير مما كان يستطيع تقديمه ليكون المستفيد الاّول هو الوطن .. ثم كيف وضعوا في مكانهِ شخصاً لا يعرف أصول تلك المهنه ، شخصاً لم يتلقى من التعليم ما يكفي ، ولا يمتلك حتى الحد الادنى من المقومات المطلوبة لانجاز مهام تلك الوظيفة ؟؟

    كان الامر سيهون لو أنههم قاموا بإستبدالهِ بشخصٍ كُفء ، أفضل منه ويفوقه علما وخبرة ، أو على الاقل في نفس كفاءته ومهارته ، كان ذلك الصراع يدور في ذهن أحمد من دون توقف فطوال حياته لم يكن يستطيع ان يستوعب كيف يكون الولاء لشخصٍ واحد ، أو لجهةٍ محددة ، أو لحزبٍ مُعّين ، أكبر من الولاء لله وللوطن كله ، ولكنّه برغم ذلك الصراع المرير في داخله ، وبرغم شعوره بعدم الإنتماء للباعة ، وللبضائع ، وللجو العام للتجارة ، إستمرّ في الذهاب إلى السوق حتى بدأ يالف المكان ، ويعتاد عليه ، لكن الايام كانت تخبيء له ما هو أسوأ من ذلك فلم تكد تمر على وجوده في السوق الا فترة وجيزة حتى أستعرت حرب جديدة بين النظام الحاكم من جهة ، وبين التجار من جهة أخرى فبدأت التجارة في الكساد بسبب الانظمة التي وُضِعت والتي كان الهدف منها اخراج جميع التجار القدامى من السوق ، تمهيداً للسّيطرة عليه بعد أن تمتّ السيطرة على جميع قطاعات الدولة ومؤسساتها المختلفة ..

    بدأت الدولة حربها بوضع رسوم إضافية على السلع والخدمات ، تفوق كثيراً الاسعار التي تباع بها تلك الخدمات والسلع ، لخلق حالة من الارتباك ، ومن عدم الاستقرار ، تسمح بالتدخل المباشر لبعض الجهات الامنية والرقابية ، فأرتفعت الاسعار بصورة جنونية حتى عجز معظم الناس عن شراء متطلبات حياتهم الاساسية ، و أستمرّت السلطة الحاكمة في وضع العراقيل أمام التجار فبادر عدد كبير من التجار إلى تصفية ما تبقى من إعماله ومغادرة البلاد ، أمّا القسم الاكبر فقد غادر السوق قبل ذلك بكثير بسبب الافلاس من جراء القرارات السابقة ، وبقى والد احمد الذي لم يستطيعوا النيل منه حتى ذلك الوقت مُصمماً على الاستمرار ما وسعه ذلك ، فقد كان يرى أنّ مِن واجبه في ظل تلك الظروف الصعبة القاسية أن يوفر السّلع الضرورية التي يحتاج الناس إليها ، فقام بجمع كل ما كان معه من اموال ، وأستدان من بعض معارفه وأرسل إلى الخارج يشتري حمولة عشر سفن من السلع المختلفة بالرغم من ان جميع زملائه التجار نصحوه بان لا يفعل ذلك ، كان يدرك ان تلك البضائع ربما تتسبب له في خسارة كبيرة ولكنّه لم يكن يعبأ بالخسارة فقد كان همه الاول هو مساعدة الجياع بتوفير ما يحتاجون اليه من طعام ، ورست السّفن على ميناء البلاد بعد طول إنتظار فاصدرت السلطات أمراً فورياً بمصادرة كل ما كان بها من سلع ومن بضائع بحجة ان الاستيراد قد أُوقف ، وأنّ رخص الاستيراد الممنوحة للتجار قد أُلغيت ، وأنه لا بد من إصدار رخص جديدة للمستوردين وحاول أحمد ووالده بكل ما أستطاعا من جهد أن يفرجا عن تلك السلع ولكن دون جدوى ، وللمرة الثانية شعر أحمد بظلمٍ شديد ، وبغضبٍ لم يشعر به قبل ذلك طوال حياته ، فباي حق صودرت تلك البضائع ؟؟
    وباي حق توجه الحكومة هذه الضربة القاسية لوالده وهو في تلك السن؟؟

    لقد جاءت أكثر من حكومة في السابق ولكنّها لم تترك اثراً سالباً في حياته الى هذه الدرجة .. وشعر ان الحكومة الجديدة تحاربه عن عمد ، شعر وكانها تريد أن تنال منه هو بالذات لتتركه جائعاً .. ومشرداً .. ومهمشاً من دون أي ذنب .. فقد كانت السبب في موت زوجته .. وكانت السبب في تيتم أبنته .. وكانت السبب في فصله من عمله .. وها هي الآن تطارده حتى في العمل الذي لا رضي به بالرغم من انه لا يناسب طبعه وطبيعته وتسلبه أياه ، وها هي تصادر ظُلماً كُلّ مال أبيه الذي قضى عمره كله في سبيل جمعه ، وتتسبب في افلاسه وفقره ، وهو الذي تعود ان يعيش حياته في سعة .

    أيبقى بعد كل ذلك مُستسلماً مكتوف الايدي ، يتلقى الضربه تلو الاخرى دون أن يُحرّك ساكنا ؟؟
    ولكنه وقبل ان يتمكن من ان يجاوب على نفسه او ان يصل إلى قرار جاءت طامة أُخرى شغلته تماماً عن التفكير فيما سواها ، لقد بدأ بعض الذين لجأ اليهم والده وأستدان مِنهُم لشراء البضائع التي تمت مصادرتها في ملاحقته عندما سمعوا بما حدث ، وحاول أحمد ان يقنعهم بالتاجيل ولكنه علم انّ البعض منهم سيلجأ الى المحكمة ان لم يحصُل على ماله ، وخشى أحمد على والده الذي لم يدخل محكمة في حياته كلها ، وفكّر طويلاً في الذلِ والمهانةِ اللذان سيتعرض لهما وهو في هذه السن ، فطلب منه ان يبيعا البيت الكبير ليقوما بتسديد الدين، ورفض والده في باديء الامر وأصر على رفضه ، ولكن أحمد استعان ببعض أفراد أسرتهم فاستطاعوا ان يقنعوه ان سمعته وان صحته أهم من أي شي آخر فوافق على بيع البيت على مضض وهو يشعر أن جُزءاً من جسده ينفصل عنه ...

    سدد احمد للتجار كل اموالهم بعد ان قام ببيع البيت وببيع بعض الاملاك الخرى ، ونقل والده ووالدته إلى الجزء الخالي من المنزل الذي تعيش فيه شقيقته الكبرى ، والذي كان والده قد ساهم في شراءه لها ولزوجها في الماضي ، وأستأجر هو بيتاً شعبياً صغيراً نقل أُسرته الصغيرة اليه وهو يفكر في كيفية تسديد الايجار في نهاية الشهر .

    كانت التغيرات تأتي سريعة متلاحقة ، وكانت المصائب تحل واحدة بعد الاخرى ، فوجد أحمد نفسه فجأة من دون عمل ، ومن دون مال ، ووجد أن عليه في ظل كل تلك الظروف أن يعول أسرته وان يعول أمه وأباه ، ولم تكن أسرته الصغيرة تشكل له تقلقه بالقدر الذي كان يقلقه به امر والديه ، كانا هما مصدر خوفه وارتباكه فقد تعودا على نوع من الحياة لن يكون في مقدوره ان يوفر لهم ولو جزءا بسيطا منه لذا لم يفكر طويلاً ونزل الى الشارع متنقلاً في العديد من الاعمال الهامشية حتى أستقر به المقام أخيراً في محطة المواصلات العامة في السوق الكبير سائقاً لاحدى الحافلات يخرج من بيته عند بزوغ الفجر ، ويعود قرابة منتصف الليل مهدوداً .. مكدوداً .. تطن في رأسه أصوات الباعة الجائلين وصياح قمسنجية السيارات، وتتردد في ذهنه أسماء المحطات ينادي بها التباع الذي يعمل معه فيسمعها حتى وهو نائم .. وتناقصت زياراته لسلمى حتى انعدمت تماماً أو كادت أن تنعدم ....

    (12)

    مرّ عامان على انتقال الأُسرة الصغيرة إلى الحي الجديد , وأصبحت الحياة كئيبة ، رتيبة في نظر اخلاص فقد كان البيت الشعبي الذي انتقلت اليه الاسرة يشبه كثيرا البيت الذي ولدت وترعرت فيه .. كانت كل أحلامها قد تسربت من بين يديها تباعاً .. عمل زوجها المرموق .. وثروة والده الطائلة .. والعيش الهانيء الرغيد ... والبيت الكبير الذي طالما حلمت بامتلاكه ، واعتلاء عرشه في يوم من الايام والذي كانت حسرتها وحزنها على فقدانه أكبر من حزنها على فقدان أي شيئ آخر ، لم تصدق بسهولة أنها خسرته إلى الابد ، ، وزاد من كآبتها إستمرار زوجها في بقائه خارج المنزل لمعظم ساعات اليوم ، فعادت تفكر في الانجاب من جديد ، عادت الفكرة تسيطر عليها بصورة جنونية في الفترة الأخيرة فقد ظنت أن زوجها - الشيء الوحيد المتبقي لها من كل ما حلمت به – لا يمضي كل وقته في عمله مثلما يقول لها ، ولكنّه يذهب ليمضى وقت فراغه مع سلمى في بيت جدتها ويتركها هي وحدها تجتر أحزانها وآلامها تنتظر عودته ساعةً بعد أُخرى .

    وجلستْ يوماً تفكر لِمَ لمْ تسطيع أن تحبل من أحمد حتى الآن ؟؟

    لقد أنجب هو قبل أن يتزوجها ولو كان به عيباً لما استطاع أن ينجب ، ولقد أنجبت هي فلماذا لا تستطيع أن تحبل منه ؟؟ الأنهما لا يلتقيان الا كالاغراب ؟؟ الأنها لم تشعر يوماً بأنه يهتم بالإنجاب منها أويرغب فيه ؟؟ أم لانها طوال تلك السنوات تشعُر به بعيداً عنها بالرغم من وجوده معها تحت سقفٍ واحد ؟؟ إنها تريد إنجاب فتاة فماذا عليها أن تفعل ؟؟ هل تعود إلى الشيخ ؟؟

    ولكنّ العودة إليه فيها خطرٌ كبير فربما يعرف بما لديه من قدرة ٍخارقة بأمر الصبي فينفضح سرّها ، وينكشف سترها ، لا.. لا .. عليها أن تبحث عن وسيلة أخرى ، وشردت بخيالها وهي تطرد الفكرة من ذهنها ، وتتذكر الساعات المحمومة التي كانت تقضيها في غرفة الشيخ الصغيرة بين الوعي واللاوعي فشعرت بالدماء تتسارع في أنحاء جسدها ، وبينما هي غارقة في خيالتها وتصوراتها قطع عليها حبل أفكارها صوت طرقات على الباب الخارجي ، فهبت مسرعة كأن أحداً ضبطها متبلسة بأمر منكر ، و فتحت الباب في لهفة كأنها كانت تنتظر شخصاً بعينه ..

    كان الطارق هو علي إبن الجيران جاء يخبرها أنّ والدته وجاراتها ينتظرنها لشرب القهوة .. كان علي مُعتاداً على الحضور إلى منزلها في أي وقت فقد كانت والدته ترسله اليها بين الحين والاخر ليوصل اليها غرضا ما ، أو لياتي منها بغرض ، أو ليخبرها انهم ينتظرونها لشرب القهوة إن تاخرت لاي سبب من الأسباب ، وكانت هي قد إعتادت الاعتماد عليه في كثير من احتياجاتها كأن ترسله الى السوق ، أو كأن تطلب منه أن يدهن لها طاولة ، أو يعيد مسمار إحدى الخزانات إلى مكانه ، فكان عليّ يدخل الى البيت ويخرج منه بصورة إعتيادية في أي وقت ، ولم تكن رؤيته أو وجوده في بيتها تحرك أي شيء في داخلها في السابق ، ولكنها جدت نفسها تتفرس في ملامحة جيداً على غير المعتاد كأنها تراه للمرة الأولى في حياتها ، كان قد تجاوز لفوره طور المراهقة ودخل مرحلة الرجولة فنبت شاربه ، وأستوى انفه وأتسع عرض منكبيه .. وخطرت على بالها وهي تتفرس في ملامحه فكرة خفق لها قلبها كصبيةٍ صغيرة ، فتملّكتها على حين غرّة رغبة عارمة في ضمهِ إلى صدرها ، رغبة كادت أن تكتُم أنفاسها فأسرعت تطلب منه الدخول محتجة باعطاءه ما يحمله معه لوالدته فدخل...

    أغلقت الباب وسارت من وراءه وهي تأكله بنظراتها .. لم يكن لديها ما تودّ إرساله ولكنّها شعرت بحاجتها لان تبقيه تحت بصرها لاطول فترة ممكنه .. وشعر هو بنظراتها التي بدت له غريبةً ، مُحيَرة ، فسألها عما تود إرساله إلى والدته ففتحت خزانة المطبخ ، ووضعت قليلاً من البن في إناء زجاجي ، ووضت الأناء في يده وهي ترتجف من فرط الإنفعال فأخذ هو الإناء وخرج على عجل ، غير مدرك للاثر الذي تركه في نفسها فأرتمت على الفراش تنتفض كعصفورٍ صغير إجتاحته عاصفة ثلجيّة هوجاء ، ولم تستطيع أن تتمالك نفسها ، وتجمع شتات أمرها إلا بعد جهد جهيد ، وعندما ذهبت لشرب القهوة وجدت نفسها على غير عادتها غير راغبة لا في الجلوس ، ولا في تبادل الحديث مع جاراتها، وتذرعت بالدخول إلى الحمام غير مرة ، وقامت من مكانها في محاولة لرؤية عليّ في أي ناحية من نواحي المنزل ، لقد سيطر عليها إحساس مجهول جذبها إلي ذلك الفتى الطاهر البريء مثلما يجذب الفراشة التائهة نور وهاج في ليلة مظلمة حالكة السّواد .

    وبقيت إخلاص لعدة أيام بعد ذلك تقاوم رغبة جنونية لم تفارقها لحظة واحدة .. رغبة جعلتها كاللّبوة الجائعة حتى باتت تخشى على نفسها ، وعلى عقلها إن هي إستمرت في المقاومة.. فلم تعد تعرف كيف تأكل ، ولا كيف تنام ، ولا كيف تفعل أي شيء آخر ..
    كانت تذهب إلى بيتها فلا يفارق عليّ خيالها ، وكانت تجلس في مجلس القهوة بجسدها ، تستمع لاصوات المتحدثات من حولها دون أن تميزها كأنها تأتيها من عالمٍ آخر.. وكانت تُمسك بالفنجان ، وترفعه إلى شفتيها في حركة آلية ، رتيبة دون أن تُميز إن كان الفنجان مليئا أو إن كان فارغاً .. كانت تركز كل أحاسيسها في سمعها ، وكان سمعها يتوجه في حركة لا إرادية لمتابعة تحركات عليّ داخل المنزل ، فكانت تعرف وهي جالسة في مكانها إنْ كان قد دخلَ أو خرج ، أو إن كان قد إنتقل من غرفةٍ الى أُخرى .. أو إن قام بفتح البراد .. أو فتح كتاب .. أو جلس يشاهد التلفزيون ، أما إذا مرّ من أمام مجلس القهوة لاي سبب من الأسباب ووقع بصرها عليه فقد كانت تسيطر عليها رغبة قوية للنهوض من مكانها لتضمه الى صدرها ، حينها كانت تتذرع بأي سبب من الاسباب لتغادر المكان ، وتسرع إلى بيتها ، وتدخل إلى غرفتها لترتمي على فراشها تنتفض في إنفعال ، وتتقلب على فراشها لبرهة من الزمن قبل أن تثوب إلى رشدها ..

    وتركت يوماً مجلس القهوة مُبكّراً بحُجة أنّ عُطلاً أصاب إحدى اللمبات الكهربائية في منزلها، واخبرت والدة علي وهي تغادر المجلس بانها ستاخذ عليّ معها ليقوم باستبدال اللمبة المعطوبة او ليحضر لها من يقوم باصلاحها ، وعرّجت عليه في غرفته قبل أن تخرج ، وطلبت منه أن يلحق بها ليقوم باستبدال اللّمبة التالفة في غرفتها ، ثُم خرجت وأسرعت تسبقه في خطواتٍ نشطة وهي تشعر باللّهفة والارتباك ..

    كانت قد غامرت في صباح ذلك اليوم بتسلق السلّم الخشبي المتهالك ، وصعدت عليه إلى مكان لم تكن تستطيع الصعود اليه لو أنها كانت في حالتها الطبيعية ، لتقوم بتغيير لمبة الغرفة التي تنام بها والتي كانت تعمل بكفاءة بأخرى تالفة لتجد سبباً وجيهاً لحضور على إلى بيتها ..

    وصلت قبله بدقائق ، فخلعت ملابسها التي كانت ترتديها ، ولبِست قميص نوم حريري قصير، أحمر اللون ، عاري الصدر والاكمام ، يبرز مفاتنها كلها .. وفتحت له الباب عندما طرقه ، ثم إغلقته من خلفه ، واسرعت تسير أمامه متمايلة في غنج ودلال.. كانت تلك المرة الأولى التي يراها فيها عليّ على تلك الصورة فشعر بجفاف في لسانه ، و بحرقان في حلقه .. ودخلت إلى الغرفة التي كانت مُعتمة ، وطلبت منه الدخول ، فخطا من وراءها في شيء من الرّهبة والاضّطراب ، كانت قد خططت للامرِ بحيث تدرس ردة فعله قبل أن تتهور فيفتضح أمرها دون ان تنال شيئا ، فقامت باغلاق نوافذ الغرفة قبل ان تذهب لشرب القهوة ليزداد المكان عتمة حتى لا يستطيع ان يرى جيداً وهو يدخل

    ووقفت في طريقهِ بحيث لا يجد بُداً من ملامسة جسدها وهو يمر.. وارتفع صوتها متاوّهة في الم ودلال عندما أرتطم كتفه بصدرها .. شعرت بتوتره وبتسارع أنفاسه فأدركت أنه يفكر بما تكفر به ، أو على الاقل يعرف ما تفكر هي به .
    وفجأة سيطرت عليها تلك الرغبة الجامحة التي كادت تفقدها رشدها في الايام السابقة ، فوجدت نفسها تضمه إلى صدرها ، مُتناسية كلّ حذرها ، ومتجاهلة حرصها على إستدراجه ، ليتم الامر بمبادرة من قبله هو ، لم تكن عيناه قد اعتادتا على الضوء الخافت بعد عندما شعر بساعديها تلتفان حوله ، وبكامل صدرها على صدره ، فتملّكه للحظات خوف مفاجئ ، ما لبث ان طغت عليه رائحة أنفاسها ... و كان البيت خالياً فاطلقت لصوتها العنان ، وهدأت أخيراً فصمتت تماماً كأنّ روحها قد فارقت جسدها ..

    ونهض علي ووقف ينظر اليها ملتاعا مرعوبا ، كانت مستلقية على ظهرها ، واضعة يديها على صدرها ، مغمضة عينيها ، ساكنة سكونا تاماً ، فخيّل إليه أنها لا تتحرك ، فبقى لبرهة لا يعرف ماذا يفعل ، ولكنه رأى صدرها يعلو ويهبط في هدوء ، وإنتظام ، فأسرع يُغادر المكان وهو يشعر بالكثير من الخوف والخزي والعار وهو يظن انه أنّه في كابوس بغيض ، سرعان ما سيفيق منه ليجد نفسه في سجادته ، او محراب المسجد الذي كان يصلي فيه اوقاته صلاته كلّها كانت تلك المرة الأولى في حياته التي يمسّ فيها إمراة ، او يرتكب فيها خطا ..

    ووصل الى البيت ، فدخل إلى غرفته ، وأغلق بابها عليه ، وبكى طويلاً وهو يشعر أنّ الله لن يغفر له ، ولن يسامحه وان ابواب جهنم قد اشرعت في وجهه ولن توصد ابدا .

    أما هي فقد بقيت متمددة على فراشها ، تشعر بالراحةِ وبالهدوء لاول مرة منذ وقت طويل .. وعادت الى رشدها شيئا فشيئا فابتسمت واطلقت تنهيدة طويلة وبدات تفكّر .. إنّ في استطاعتها الآن ان تُنجب بنتاً في سهولة ويسر فعليّ ، هذا الصبي الطري ، الغض الاهاب ، لن يستطيع التوقف بعد اليوم عن تلبية رغبتها كلما أرادته ، كما أنها لن تتوقف عن دعوته حتى تكتفي ، وحتى تحبل منه ، وتشعر بعدم حاجتها إليه .. كانت تعرف انه سيندم على ما فعل يوماً أو يومين .. وكانت تعرف انّه سيتحاشاها تماماً ، ويتحاشى الاقتراب منها ، أو النظر إليها ، لانه سيظن أنه سيستطيع ذلك على الدوام ، وربما سيحتقرها في داخله ، ولكنها كانت متيقنة من أنّه ما أن تعود الرّغبة تسري في اوصاله من جديد ، حتى يعود اليها من تلقاء نفسه ، ويرتمي بين أحضانها مُتوسّلاً وراجياً ...

    لقد شرب من الماء المالح بعد ظمأ ، ولن يسطيع التوقف ، فلن يزيده الشرب إلا ظمأ .. إنه وسيلتها الآن للإنتصار على ليلى وعلى سلمى ، وان كانت لا تستطيع أن تحبل من زوجها ، ولا تستطيع ان تعود الى الشيخ ، فستحبل منه هو ، ولانه خجول ، وخلوق ، وكتوم فلن يتحدث إلى أي انسان ، ولانّه بكر ، وصغير ، فلن يعرف أبداً أنها حبلت منه .. ولانّ بشرته في لون بشرتها ، وشعره في نعومة شعرها فليس عليها أن تخاف هذه المرّة ، ولانه وسيم وجميل فستكون الفتاة التي ستقوم بانجابها اكثر جمالاً وحُسناً من سلمى ، وستأسر قلب أحمد في سهولة ويسر.

    ومثلما توقعت أصبح علي طوع أمرها ، يأتي اليها كلما دعته ، ومتى ما أرادته .. بل لقد أصبح أكثر حرصاً منها على البقاء بقربها ، فبالرغم من الالم الذي كان يتآكله كلما فارقها وأختلى بنفسه ، وبالرغم من شعوره بذلك التناقض العجيب بين ما يمُارسه معها في الخفاء ، وما يفعله في العلن فلقد كان من المواظبين على الصلاة في المسجد ، ومن الحريصين على حضور الدروس الدينينة ، وبالرغم من إدراكه لخطورة الأمر ، وبالرغم من خوفه الشديد من الله ، وخوفه الاكبر من افتضاح أمره ، الّا أنه كان عاجزاً تماماً عن ردع نفسه ، لقد تعلق بها تعلُقاً جعله لا يستطيع فراقها ، أو الابتعاد عنها فأضطربت حياته ، و تغّير لون بشرته ، وشحب وجهه .

    ورأت والدته التغيّر الذي طرأ عليه ، فهالها الأمر ، ولكنها لم تعرف له سبباً ، و شعرت إخلاص بشيء يتحرك في أحشائها ، ولمست قلق والدة عليّ عليه فقررت أن تصرفه عنها قبل ان يلفت اليها الانظار ..

    كانت قد اكتفت من علي فقد كان ما أصابها نزوة طارئة ، سيطرت عليها مثلما تسيطر على الإنسان حمّى مفاجئة فاشبعتها ، وكانت تُريد جنيناً وها هو الجنين يتحرك في أحشائها وليس عليها أن تغامر وتواصل ما تفعله معه حتى تكتشف والدته الامر فتخسر هي كل شيء .

    ولكنّ عليّ لم يكُن قادراً على فراقها والتخلي عنها ، وعن ما كانت تعطيه أياه فلم يرتدع ، كان تعلّقه بها شديداً ، فبكى طويلاً أمامها حينما طلبت منه أن لا يأتيها بعد ذلك ، وأخذ يتوسّل إليها ان لا تقطع ما بينهما ، فليس في استطاعته أن يتركها ، وحارت في أمرها أمام الحاحه وإصراره فلقد أصبح يأتي اليها من تلقاء نفسه ، ويحاول أن يشبع رغبته فيها بأي وسيلة ، وفي أي مكان ، فكثيراً ما فوجئت به في غرفتها ، أو في مطبخها بل وحتى في حمامها ، وكثيراً ما أضطّرها إضطراراً إلى التنازل لارضاء رغباته في أي ناحية من نواحي المنزل الصغير ، تحاشيا لعيون طفلها..

    وحاولت كل وسيلة ، وجربت العديد من الطرق لوقفه وللتهرّب منه ، ولكنها لم تفلح وباتت تخشى من تهوره ، وجنونه فأخبرته ان والدته تشك بهما ، وهدّدته بأنها ستُخبرها بأنه يُحاول الاعتداء عليها إن لم يترُكها في حالها ، آلمه قولها وجرحه في الصميم ، فقد كان يظنّ انها تحبه مثلما يحبها ولم يستطيع ان يحتمل فكرة انها ما عادت ترغب فيه ... وساورته الشكوك بأنها لا بد ان تكون قد أحبت شخصا آخر غيره ، فأكتوى بنار الغيرة والشك ، فلم يعد يعرف للنومِ طعماً ، وأصبح يراقب بيتها ليلاً ونهاراً ، ليعرف الشّخص الذي تريد ان تستبدله به ..

    والغريب في الامر انه لم يشعر بالغيرة ابدا تجاه زوجها ولكن جنّ جنونه عندما داخله الشك بانها قد تعرفت الى شخص اخر غيره ، فبات يجلس الساعات الطّوال قرب باب منزلها ، يراقب كل داخل الى بيتها ، وكل خارج منه فتأكدت أنه سيُثير حولها الشبهات ، ويلفت اليها الأنظار ان لم تتصرف ، ولكنها قبل أن تهتدي لما ستفعله جاءت نتيجة قبوله في الجامعة فحمل أمتعته وسافر حزيناً ، جريحاً ، فتنفست هي الصعداء ، وحمِدت الله على أنه أراحها منه ، وتحول إهتمامها كله إلى ما في بطنها ، فجعلت تحسب الأيام وهي تدعو الله ليلّاً ونهاراً أن يكون ما في أحشائها بنتاً ، كأن حملها بتلك الطريقة أمراً صحيحاً ، مباركا ، من حقها أن تناجي ربها بشأنه ..

    وانقضت مُدّة الحمل فجاء مولود اخلاص – كجميعِ احلامها السابقة – مٌخالفاً لامنياتها فقد انجبت ولدا ذكراً يشبهها في كل شيء ، ولمست - للمرة الثانية - نفور زوجها من مولودها ، وعدم إهتمامه به فكادت أن تجن ومر عام على إنجابها للصبي الجديد فعادت تشعر بالفراغ وبالملل والكآبة ، وعادت تشعر بشيء من الحنين إلى عليّ ، وتمنت أن لو كان عليّ موجوداً لتعود معه إلى سابق عهدهما فقد كانت تريد أن تُدخِل نوعاً مِن البهجة إلى حياتها بأي صورة من الصور ، ولان علي لم يكن موجوداً فقد حولت إهتمامها إلى صبي جديد من صبيان الحارة وتحايلت عليه حتى أسقطته في شباكها ونالت منه ما أرادت وأمضت معه مدة من الزمن ، وعندما شعرت معه بالملل تخلّصت منه مثلما تخلصت من علي قبل ذلك ، وتحولت إلى صبي آخر ..

    وهكذا أصبحت حياتها ، تنتقل من فتى إلى فتى ، ومن صبي إلى صبي ، يساعدها في ذلك خلو بيتها ، وبُعد زوجها ، وعدم إدراك ولديها الصغيرين لما تفعله ، ولكنّها حرصت على أن لا تحبل مرة أخرى وأكتفت بالمتعة إلتي تنالها من علاقاتها الآثمة ، فلقد ظنت أنها لو أنجبت خمسين مولوداً لانجبتهم ذكورا ولما أهتم زوجها بهم ، وصارت تهتم بشكلها وببشرتها إهتماماً بالغاً لتجتذب الصبيان الصغار ،كما انها حرصت بعد تجربتها الثانية على أن تختار صبيانها من أحياء أُخرى ، بعيدة ، حتى يبقى ما تفعله طي الكتمان ...

    (13)

    لم تشعر سلمى بالوحدة في يومٍ مِن الاياّم مُنذ إنتقالها للعيش مع جدتها بصورة نهائية ،كانت تشعر بحاجتها لوالدتها ووالدها ، وكانت تفتقد وجودهم في حياتها ولكنّها لم تشعر أبداً انها وحيدة فقد شملتها جدتها بحبها وعطفها ، وحنانها ومنحتها كل إهتمامها فلقد كانت ترى فيها صورة إبنتها الحبيبة التي غيّبها الموت .. وبادلت سلمى جدتها حُبّاً بحب بعد أن وجدت فيها الصدر الحنون الذي يضمها ، والحضن الدافيء الذي تلجأ اليه كلّما شعرت بحاجتها للحبِ وللاطمئنانِ ..

    كانت سلمى قد شعرت بالفراغ وبالهلع في الايام التي تلت موت والدتها وظلّت تنتحب في مرارة شأن أي طفل صغير لا يعرف وسيلة غير البكاء للحصول على ما يريد .. ونفرت من الجميع في الايام الاولى وهي تنادي على أمها في صوت يقطع نياط القلوب ، وعندما خارت قواها وأعجزها البكاء ، وجدت صدر جدتها مفتوحاً لها فأوت إليه دون الجميع .. وضمّد وجود جدتها ، ووالدها ، الى جوارها في الفترة الاولى جرحاً ما كانت تستطيع فهم كنهه في سنها تلك رغم شعورها بقوة الالم الذي ينتج عنه ، وقلَّ مع مرور الايّام سؤالها المُتكرر عن والدتها فقد وجدت في إهتمام والدها ، وفي تخصيصه لجُزءٍ كبيرٍ من وقته للّعب معها ، والتسرية عنها تعويضاً آخر عن فقد والدتها ، فأصبحت تنتظر حضوره مساء كل يوم بصبر فارغ ، وبلهفة كبيرة ، وأصبحت أسعد لحظات يومها كله هي اللحظة التي تراه فيها داخلاً عليها مُحمّلاً بالألعابِ ، و بالحلوى ، و ببعض الملابس الجديدة في بعض الاحيان ، فترتمي في حضنه فرحةً مسرورةً وهو ينثر بين يديها ما أتي به إليها ، ويبقى إلى جوارها يلاطفها ويلاعبها ، ولا يتركها حتى تنام ، وعندما تباعدت زياراته بسبب الظروف التي تلت إبعاده عن عمله ، ومصادرة أموال أبيه ، وانقطعت بعد ذلك بسبب إنشغاله في محاولاته لتوفير الحد الادني من الاحتياجات الضرورية لوالديه ولاسرته الصغيرة نكأ ذلك جُرحاً قديماً فعادت من جديد تسأل عن والدتها ، وعن موعد عودتها ، كانت تصر في الايام الاولى التي بدأت تتباعد فيها زيارات والدها على الجلوس أمام الباب الخارجي في انتظار أن يحضر ، وعندما كان الوقت يمر وتملّ من الإنتظار ، ويصيبها اليأس من حضوره ، كانت تتجه إلى جدتها باكيةً وتسألها قائلة :

    - متى ستعود أمي ؟؟ فتضمها جدتها الى صدرها في حنانٍ ويسيل دمعها على خديها وهي تجيبها :
    - بعد ان تنتهي من دراستها .. فتسال مرة اخرى :
    - ومتى ستنتهي دراستها ؟ فترد عليها جدتها قائلة :
    - قريبا قريبا انشاء الله .. فتأوي الى فراشها حزينة متعلّقة بالامل في أن يعود والدها أو والدتها في الغد ، وادخلت الى المدرسة الابتدائية فوجدت في الكتب نوعاً من التسلية ، وشيئا من العزاء ، وأفرحتها الرسوم الملوّنة ، وصور الحيوانات المختلفة ، فتفوقت في دراستها برغم فقد والدتها وبرغم انشغال والدها عنها .. وساعدها تفوقها ، و جمالها الفتان ، وطفولتها البريئة ، في حب جميع مدرساتها لها ، فوجدت الدعم من الكل ،فمضت بها السنين وهي سعيدة بمدرستها ، وبمدرِّساتها، وبزميلاتها اللائي تتفوق عليهنَّ عاماً بعد آخر حتى أصبحت مضرب المثل في الجمال ، والاجتهاد ، والذكاء ، وحُسن الخُلق ، وجلست للامتحانات في نهاية مرحلة الاساس مُطمئنة إلى أنها سوف تُحرز مجموعاً كبيراً جداً فلم يراودها أبدا أي شك ، أو أي خوف وهي تدخل إلى غرفة الامتحانات ، ومثلما توقّع الجميع فقد أحرزت المركز الاول على المنطقة التي أمتحنت منها ، ففرحت جدتها بذلك فرحاً شديداً ، وأقامت لها حفلاً كبيراً دعت إليه كل مدرساتها وزميلاتها ، وجدها ، وجدتها لوالدها ، وجميع اقربائها من ناحية والدها ووالدتها ، فكان ذلك يوماً مشهوداً في حياتها لم يعكّرَ صفوه عليها إلا غياب والدتها وتغيب والدها .. فحتى في ذلك اليوم لم يستطيع والدها الحضور بسبب انشغاله ..

    كانت قد كبرت ، وكانت قد عرفت بموت والدتها ، وأستوعبته ، وأدركت أنها لن تعود لذا لم تشعر بانها قد تخلّت عنها أو خذلتها مثلما شعرت تجاه والدها ، فبالرغم أنه جاء في اليوم الثاني ، وجلس معها وقتاً طويلاً ، وأخبرها عن سبب غيابه في الليلة السابقة ، الّا ان إحساساً بتهاونه ، وعدم حرصه واهتمامه بقى راسخاً في داخلها ولم تفلح كلّ محاولاته في محوه او ازالته ، وان ساعدت على التخفيف من حدة الشعور به ...

    وكادت إجازة الصيف أن تنقضي وهي سعيدة بنجاحها ، مسرورة للنتيجةِ التي أحرزتها مترقّبة إنتقالها للمدرسة الثانوية في شيء من الفضول والترقب اللذيذ ولكن قبل ان تنقضي الاجازة باسابيع قليلة لزمت جدتها الفراش أثر تدهور في صحتها بسبب مرض السّكر الذي كانت تعاني منه منذ مدة طويلة وجلست سلمى تمارضها وتقوم بكل إحتياجاتها ، وتقضي معظم الليّل ساهرة الى جوارها ، تتتضرّع الي ربها ان لا يصيبها مكروه ، وتسأله ان يشفيها من أجلها فهي ملاذها الوحيد في هذه الدنيا ، وهي الصدر الحنون الذي لا زالت تحتاج اليه ، ولكن ما كانت تخشى وقوعه ، وتخاف من حدوثه حدث فعلاً ، ففي ليلة هادئة بعد مرور شهر ونصف على يوم الاحتفال الذي أقامته لها ، وبعد أن تحسنت حالتها وتماثلت إلى الشفاء ، وابتدأت تترك الفراش وتتحرك في أرجاء المنزل حتى اطمأنت سلمى ، واطمأن الجميع الى أنها أصبحت بخير، أصابتها فجاة نوبة جديدة فأسلمت روحها وقد أرتسمت على شفتيها إبتسامة راضية ، كأنها كانت فرِحة باللحاقِ بابنتها إلتي سبقتها قبل ذلك بوقت طويل ، أو كأنها قد رأت وهي تدلف إلى العالم النّوراني وقد كشف الغطاء عن بصرها وجه شخص تحبه ، وتشتاق اليه ، و للمرة الثانية في حياتها شعرت سلمى بالوحدة ، وبالضياع الحقيقي ، فظلت تبكي وتبكي ، وتبكي ..
    14)

    جلَسَ أحمدُ قُرب والده في ثالثِ أيامِ العزّاء فسأله والده قائلاً :
    - ماذا ستفعل الآن ؟
    رد أحمد قائلاً :
    - باي شان يا أبي ؟؟
    - بشان سلمى يا ولدي ... إنها الآن فتاة .. وهي تمرّ بمرحلةٍ مُهمّة في حياتها ، وتحتاج لان تكون بقربك أكثر من أي وقت مضى ...
    أطْرَق أحمد قليلاً ثم قال :
    - نعم يا أبي .. هي بلا شك تحتاجني الآن .. وسآخذها لتعيش معي ..

    كان أحمد قد فكّر في الأمرِ مُنذ الساعة التي توفيت فيها جدة سلمى ، ولكنه لم يكن قد توصل إلى قرار بشأن مكان اقامة إبنته ، الا انّ حديث والده المفاجيء حسم الأمر ولم يترك له مجالاً لاي خيارات أُخرى ...
    وانقضت أيام العزاء فودّعت سلمى الحي الذي قضت فيه طفولتها ، والبيت الذي عاشت فيه أجمل أيام حياتها ، وأنتقلت الى حي آخر بعيد ... وإلى مكان جديد .. وإلى بيت شعرت منذ اللحظة الاولى أن سكانه لا يحبونها ولا يريدون وجودها فيه ...

    وانتهت أجازة الصيف فقام والد والدها بالحاقها بمدرسة ثانوية في حي مجاور للحي الذي يسكنون فيه وعلمت إخلاص بأمر الحاقها بالمدرسة فغضبت غضباً شديداً ، فالمدرسة ستحتاج مصاريف ، وملابس و ستحتاج كتباً ، ودفاتراً ، واقلاماً ، وكلَّ ذلك سيكون على حسابِ مصروف بيتها الذي يفتقد إلى الكثير، ويحتاج الكثير ..
    الا يكفي أنها ستاكل، وتشرب ، وتنام ؟؟
    الا يكفي انه قد جاء بها لتعيش معها في بيت واحد لتنقص عليها عيشتها ؟؟ ألا
    الا يكفي أن احمد يصرف معظم ما يكسبه من اموال على أمه وأبيه ؟؟

    كتمت اخلاص كل ما تفكر به في داخلها ، وحاولت بكل ما لديها من خبثٍ ومن ودهاء أن تغير من وجهة نظر زوجها بحُجّة أنّ سلمى أصبحت فتاة ناضجة ، وأن الزواج المُبكر خيرٌ لها من الدراسة لان فيه ستراً وصونا لها من مصائب الزمان التي أصبحت أكثر من أن تحصى ، ولكنّ أحمد لم يعر كلامها أي نوع من أنواع الاهتمام فازدادت غيظاً ، وحقداً، و قررت بينها وبين نفسها أن لا تدع لسلمى أي فرصة للراحة أوللنجاح ، وعاهدت نفسها على أن تجعل حياتها جحيماً حتى تفشل في دراستها فلا يجد والدها أمامه غير أن يزوّجها لاي شخص ،فتبعدها عنها وعن بيتها ، وتخرجها من حياتها ، وترتاح منها ..

    لم تكن دوافع إخلاص لمعارضة مواصلة سلمى لتعليمها ودراستها هي فقط المصروف الذي سيخرج من جيب زوجها ، وعدم رغبتها في أن تكون سلمى أفضل منها بأن تنال تعليما لم تستطيع هي أن تناله ، و خوفها من فقدان حريتها في بيتها ، وإضطرارها لتغيير نمط حياتها في وجودها ، بل كانت بالاضافة لكل ذلك هي حقدها القديم ، وبغضها الذي تراكم في قلبها مع مرور الأيام والسنين ولأن أحمد كان يقضي يومه كُله خارج البيت فقد وجدت إخلاص الفرصة كاملة لتفعل كل ما تريده من أجل مضايقة سلمى ، وتعكير صفوها ، والاساءة إليها ...

    أمّا سلمى التي كانت تحب والدها حباً كبيراً برغم أهماله لها في السابق فقد سيطر عليها شعور مؤلم بأنه إضطّر إضطّراراً للاتيان بها لتعيش معه ، فحال ذلك الاحساس دونها ودون أن تشتكي له من زوجته ، أو من ابنيها اللّذان يتفنان في إزعاجها ، وفي مضايقتها ، فاحتملت كل ما كان يحدث لها وكل ما أُلقي على كاهلها من أعباء ومن مهام - كالكنس والتنظيف والغسيل - صامتةً صابرةً بالرغم من أنها لم تكُن تجد وقتاً كافياً لفتح كتبها ، أو لقراءة مقرراتها ، وأنتهى العام فأحرزت نتيجة سيئة مُقارنة بمستواها السابق ، ولكنّها كانت كافية لاستمرارها في الدراسة ، ولانّ والدها لم يسألها عن نتيجتها ، ولانّه لم يهتم لها ، فقد زاد ذلك من حزنها ومن قناعتها بانه لا يفكر بها، وأنه لم يأت بها الى بيته إلا لانّه لم يجد مكانا آخر يأخذها إليه ، وفكرت كثيراً في مُغادرة البيت ، والذهاب الى أي مكان آخر ولكن قلة حيلتها ، وخوفها من الاساء إليه منعاها من ذلك ..

    وازداد حقد اخلاص عندما علمت أن ليلى لن تُفصل من مدرستها ، وانها ستواصل دراستها لعام آخر فمضت تكلّفها بالمزيدِ من الاعمال الاضافية ، لتحرمها أي نوع من أنواع الراحة أو الهدوء ،مستغلّة صمتها ، واحتمالها لكل ما تامرها به ، دون ان تذكر شيئا لوالدها ، ولكنّ العام الدراسي انتهى وانتقلت سلمى للصف الثالث والنهائي بالرغم من المجموع الضعيف الذي أحرزته ، فجن جنون اخلاص ، وتضاعف حقدها أضعافاً ، فماذا لو استطاعت سلمى أن تُحرز مجموعاً يمكّنها من الدخول إلى الجامعة ؟؟تلك ستكون الطامة الكبرى التي ستجعل قلبها ينفطر ، ولكنها لن تسمح بتحقق ذلك ، لن تسمح به حتى لو اضطرت لان تقتلها .. ستزيد عليها أعباء المنزل .. وستواصل حرمانها من مصروفها الذي يتركه لها والدها.. وستحرمها من الطعام ، وستواصل حرمانها يوماً بعد آخر حتى تصاب بالضعف ، والهزال ، والمرض، وإذا لم ينجح كل ذلك فستقوم بقتلها خفية دون أن يشعر بها أي إنسان ، اقسمت لنفسها قسماً مغلّظاً أنْ تفعل ذلك كله ، وأكثر منه ..

    كانت حاجة سلمى للحب وللرعاية وللاهتمام - على تمتعها بالصبر والجلد الفطري اللذان حباها الله بهما - تكبر في داخلها وتتضاعف يوماً بعد يوم .. كانت نفسها تتوق لكلمةٍ طيبّة .. أو عبارة رقيقة أونظرة حنون .. وزاد من تلك الحاجة القسوة الشديدة والتجريح المستمر اللتان كانت تُعامل بِهما من قِبل زوجة والدها ، وإهمال ذلك الوالد لها ، وانشغاله عنها فهو لم يلاحظ ابداً – وهو في ركضه المتواصل للبحث عن لقمة العيش - شحوبها .. ولم ينتبه إلى حزنها ولم يدرك أنها في حاجة للعطفو للحب والحنان تفوق حاجتها للطّعام والشراب والهواء ...

    شخص واحد شعر بتلك الحاجة .. شخص واحد أدركها ولمسها من النظرة الاولى .. ذاك الشخص هو عثمان بن منصور الثري ، والذي كان يسكن في حي الاثرياء المتاخم للحي الذي تسكن فيه سلمى مع والدها ، كان عثمان غائباً عندما أنتقلت سلمى للحي فوقتها كان والده قد بعث به لدارسة الحاسوب في إحدى الدول الأجنبية بعد ان فشل في الدراسة وفي أي عمل آخر مفيد .. فقضى أكثر من سنتين في الخارج قبل أن يعود ، وفي اليوم الثاني لعودته قصد عثمان بقالة عمر القريبة من بيت سلمى ليشتري دُخّاناً ، وليسلم على عمر الذي إعتاد على الجلوس معه ساعات وساعات أمام بوابة البقالة قبل سفره فقد كان مشتاقاً للحديث إليه ولمعرفة آخر اخباره ، فتصادف أن كانت سلمى تُغادر البقالة في الوقت الذي وصل فيه إليها فرآها..

    رآها تخرج وهي تحمل قطع الصابون الذي ستغسل به كومة الملابس التي جمتعها لها إخلاص بقصد نكايتها ، والامعان في ايذائها ، وشغل وقتها.. رأى جمالها الفتان .. ورأى الحُزن العميق المُرتسم على عينيّها السّاحرتين فتوقف ينظر إليها كالمشدوه ويتابعها بنظره حتى دخلت إلى منزلها ، فدخل الى البقالة وسلم على عمر في حرارة وقلبه يرقص طرباً وسروراً ..
    ***
    وُلِد عثمان في بيت أُسرة متوسطة الحال ولكن ترتيب ولادته في تلك الاسرة منحه كثيراً من التميز فقد جاء صبياً بعد ثلاث بنات كما ان والدته لم تنجب بعده ابداً ، ولانه الولد الوحيد ، ولانه كان الاخير فقد بالغت والدته في الاهتمام به ، وفي تدليله ، وفي توفير كل مطالبه في طفولته ، و جاءت الثورة فأنضم إليها والده الذي كان موظّفاً صغيراً في أحد البنوك المحلية في ذلك الوقت فأنفتحت أمامه سبل عديدة للكسبِ السّهل السريع ، وللحصول على المال من دون جهد فأثرى في سنوات معدودة ثراءً فاحشاً ، ولان ثروته ، والمهام التي كانت توكل إليه من قبل الحزب شغلتاه عن بيته وعن أسرته ، فقد ترك أمر تربية عثمان وشقيقاته الثلاث إلى والدتهم التي أصبح المال وفيراً بين يديها ، تنفق منه بلا حساب ، فواصلت تدليلها لابنها الوحيد ، وأستمرت في نهجها السابق معه في الاستجابة لمطالبه ، وفي مدارة اخطاؤه - التي كان يرتكبها تباعاً - حتى أفسدته تماماً ، ففشل في الدراسة ، ونشأ عديم الاحساس بالمسئولية ، وأصبح احد العاطلين الذين يُشار اليهم بالبنان ، فأصبح يقضى معظم وقته مع شلة أصدقاء من أمثاله ، جميعهم من أبناء الاثرياء ، وجميعهم يمضون الوقت في التسكع في الطرقات ، يدخنون السجائرالأجنبية ، ويضحكون باصوات مرتفعه ، ويتحرّشون بالفتيات من طالبات المدارس ، ورغم أنّ عثمان كان يدخِن السجائر سِراً خوفاً من أبيه ، إلا أن أصدقاؤه أغروه بالخمر غير مرة فعاقرها ولكنّها لم ترق له فتركها ، ّوزهد فيها ، وأقسم ان لا يشربها مرة أخرى .

    و لكنه بخلاف العديد من أصدقائه لم يجد في المغازلة والتحرش فقط مايملأ وقت فراغه ، ويشبع تلك الرغبة الجامحة المستعرة في داخله ، ويبدد تلك الطاقة الفتيّة الجبّارة والتي لم تجد من يهذبها يوجهها الوجهة الصحيحة ، فتخطى ذلك سريعاً برغم صغر سنه ، وأصبح يقضي معظم وقته في المغامرات العاطفية ، وفي المتعِ المُحرّمة ، وفي مطاردة طالبات الجامعات ، وموظفات الخدمة العامة ، وساعدته الاوضاع الاقتصادية التي كانت تمر بها البلد في تحقيق مآربه ، فقد أفتقرت الكثير من الاسر ، و أضمحلت تبعاً لذلك العديد من القيم والمباديء التي قام عليها المجتمع في السابق ، والتي حفظت أخلاقايته ، وصانت مبادئه ، فتخلى الكثير من الناس عنها ، وتعددت مع الأيام علاقاته المحرّمة فأصبح صاحب تجربة وخبرة كبيرة في فهم المرأة ، وفي التعامل معها ، حتى أصبح يعرف في سهولة ويسر حاجة المرأة التي تضعها الأقدار في طريقه ، ومكنته المهارة التي أكتسبها من مغامراته من التكيف حسبما يتطلبه الموقف ، وحسبما يقرأه على وجه ضحيته من حاجة ، فكان يلبس لكل حالة ثوبها الذي يناسبها ، فتارة يُظهر نفسه في صورة العاشق الولهان برغم ان قلبه لم يعرف العشق البريء يوماً ، ثم يتمادى في تمثيل الدور حتى يكاد هو نفسه أن يصدق ، وتارة يلبس ثوب العطف ويظهر في صورة المشفق الحنون ، فيطبطب على جرح ضحيّته ، ويهدهده في مهارة ، حتى تطمئن اليه تماماً ، أما إن كانت الحاجة إلى المال فلم يكن يحتاج لبذل أيّ مجهود فقد كانت مظاهر الثراء تبدو واضحةً جليّة في سيارتهِ التي يركبها .. وفي ثيابةِ التي يحسن إختيارها .. وفي عطره باهظ الثمن الذي يتعطر به ، فكان من النادر أن تنجو منه امرأة يشعر برغبة في الوصول إليها ..

    ولاكت سيرته الألسن ، فبدات بعض أخبار مُغامراته تصل إلى والده الذي كان يمهد للترشح لاحد المناصب السياسية الهامة ، فشعر بقلق بالغ ، وفكّر طويلاً فوجد أن أفضل ما يفعله هو إبعاده لحينحتى لا يقوم بارتكاب عمل مُشين ، ويتسبب له في فضيحة تحول دونه ودون الوصول الى المنصب الذي سعى طويلاً للوصول اليه ، فرتّب أمر سفره إلى الخارج ، ليتخلص منه من ناحية ، وليتح له فرصة الاعتماد على النفس من ناحية أخرى ، فربما يتعلّم علماً يفيده في حياته بدلاً من أن يقضي الوقت متسكعاً هُنا وهُناك .

    وفرِح عثمان الذي رأى في السفرِ إلى الخارج نوعاً جديداً من أنواع اللّهو سيرميه بلا شك في أحضان نساء طالما حلم بالارتماء في أحضانهن ، فغادر فرحاً مسروراً .. ومضى منذ وصوله يعيش على هواه ، ويبدد الاموال التي كانت ترسلها له والدته على الكباريهات ، وصالات الرقص والنساء .

    وحصل والده على المنصب السياسي المرمروق ومرت السنة الاولى وكادت الثانية ان تنتهي فارسل يستقصي اخباره ، ويستطلع احواله فعلم بما يفعله ، وعرف ان عثمان قد توقف عن الذهاب الى الدراسة منذ الشهر الاول الذي سافر فيه ، وأنه قضى كل تلك الفترة من دون ان يدرس أو يتعلم أي شيء فطالبه بالعودة ، وتوقف عن إرسال الاموال اليه واقسم على والدة عثمان بالطلاق لاول مرة في حياته وهددها بانه سيفارقها الى الابد ان هي قامت بارسال اي مال لابنها من دون علمه ، فاضطرّ عثمان للعودة مُرغماً ، وقابل حنق والده وغضبه ببرود ، ولا مبالاة ، ضاعفتا من ذلك الحنق والغضب ولازم البيت فلم يخرج الا عندما انتهت علبة الدُّخان الذي أصبح يدخنه علناً امام الجميع ، فرأى سلمى للمرة الاولى في حياته ....

    و قبل ان يشتري سجائره كان عمر صاحب البقالة والمعروف بعشقه للثرثرة ، والنميمة ، وتتبع عيوب الاخرين ، ونبش أخبارهم ، وإفشاء اسرارهم ، كان قد أخبره كُلّما كان يعرفه عن سلمى وأضاف في نهاية حديثة قائلا :
    إنها فتاة مؤدّبة .. والكل يشهد لها بذلك ، وهي لا تغادر البيت إلا إلى المدرسة ، ولا تأتي للدكان إلا لتأخذ أغراضها في هدوء ، وتذهب في هدوء .. ثم أكمل مُداعباً ضاحكاً :

    - إنها ليست من النوع الذي تبحث عنه وتفضّله ..

    وأبتسم عثمان فظن عمر أنه ابتسم لمداعبته ، ولكن عثمان أبتسم لان عمر يجهل أن هذ هو النوع الوحيد الذي يفضله دون غيره ، النوع الذي يبحث عنه طويلاً فلا يجده إلا نادراً ، النوع الذي يشعر معه بلذة لا تشبهها أي لذة ينالها في سهولة ويسر من أي امرأة أخرى فقد كان ينال كلما يريده من الحياة من دون أي تعب أو جهد .

    في ذلك اليوم شعرت سلمى بارتباك عجيب يصيبها جراء نظرة عثمان المتفحصة الجريئة بالرغم من أن عينيها لم تلتقي بعينيه الا للحظة قصيرة وهي تغادر البقالة إلا أنّ ذاك الإرتباك زايلها بمجرد أن إبتعدت عن الدُّكان ، ووصلت إلى المنزل ، وأنشغلت بالغسيل ، والكوي ، والتنظيف ، و خرجت في صباح اليوم الثاني لتذهب إلى مدرستها فرأته يقف مستنداً إلى عامود النور الطويل المنتصب وسط الساحة وقد ثبتّ بصره على بابِ منزلهم كأنه ينتظر خروج شخص بعينه ..

    لم تكن سلمى قد رأت عثمان قبل الأمس ، ولم تكن قد تأكدت من ملامحه ، ولكنّها بالرغم من ذلك وبالرغم من بعد المسافة بينها وبينه ، فقد عرفت أنه هو من الوهلة الاولى ، فلقد كانت ذات النظرة الثاقبة ، المتفحصة ، تنبعث من عينيه الجريئتين ، وتحدث نفس الارتباك الذي أحدثته بالامس في نفسها فأغلقت الباب من خلفها ، وفي خطوات مسرعة سارت مبتعدة عن عامود النور أقصى ما استطاعت وهي تشعر بالدم يتصاعد إلى وجهها ، وباضطرابٍ خفيّ يتملكها كلما اقتربت من مكان وقوفه فواصلت طريقها دون أن تلتفت ، ودون أن ترفع رأسها عن الأرض .

    و دلفت الى الشارع الآخر فأحست بشيء من الهدوء والطمأنينة ... وأنتهى اليوم الدراسي .. وعادت كعادتها ماشية على قدميها .. وهي تشعر بالارهاقِ ، وبالظمأ من بعد المسافة ، و من حرّ الشّمس ، تفكر فقط في الوصول إلى البيت لتشرب شيئا من الماء ، تروي به ظمأها الا أنها ما أن دلفت إلى الطريق المؤدي إلى المنزل حتى رأته لايزال واقفاً في مكانه ، مستنداً الى ذات العمود ، ينظر في الاتجاه الذي ستأتي منه ، و التقت عيناها بعينيه لوهلة للمرة الثانية في هذا اليوم ، فغادرها فجأة ارهاقها ، وتعبها ، وأسرعت في خطوات أقرب إلى الركض صوب المنزل ... وعلى غير عادتها وقفت تطرق الباب عندما وصلت اليه طرقات متواصلة ، مستمرة ، وفُتِح الباب فدخلت وأغلقته من خلفها وهي تشعر بخوف وقلق ....

    وأبتسم عثمان ابتسامة واسعة عندما دخلت إلى منزلها ، وغادر المكان وهو يشعر بالراحة والرضى، لقد لاحظ ارتباكها وسرعتها عندما رأته ، وأدرك محاولاتها للابتعاد عن المكان الذي يقف فيه بقدر ما تستطيع ، فايقن أنه افلح تماما ًفي اثارة انتباهها ، وفي لفت نظرها اليه ، وذلك كان أكثر مما يتمنّاه في اليوم الاول ..

    تكرر وقوف عثمان حتى صار أمراً مألوفاً لدى سلمى التي حاولت في البداية أن تتجاهل نظراته التي كان يوجهها إليها كُلما فتحت باب المنزل أوكلما مرت به والتي تحولت من نظرات جريئة فاحصة ، إلى رقيقة راجية ، وباتت تتسائل في نفسها ، ترى ما الذي يريده منها ؟ ولاجل أي شيء يأتي في هذا الوقت المُبكّر ، ويقف وحيداً ينتظر أن تمر من أمامه ؟ أتراه يظل واقفاً طوال النهار في مكانه أم أنه يذهب ويعود؟ أتراه ينتظر شخصاً آخر وهي تتوهم أنه ينتظرها هي ؟ ولكن إن كان ينتظر شخصاً آخر فلماذا تتابعها عيناه كلما خرجت وأينما أتجهت ؟؟ لا .. انها تشعر انه ينتظرها هي بالذات ، وانه لا يأتي الا من اجلها !!! ولكن لِمَ لمْ يتحدث اليها حتى الآن ؟؟ ولم لم يفعل أي شيء يدل على أنه يأتي من أجلها ومن أن أجل أن يراها ؟ لا بد أنه ينتظر الفرصة المُناسبة ليتحدث اليها !!!!

    هل سيجروء فعلاً على ذلك ؟؟ وماذا يمكنه ان يقول لها إن تحدث ؟؟ وهل ستسمح هي له بأن يكلمها ؟؟ وبماذا يمكنها أن ترد عليه إن تجرأ وحاول الحديث إليها ؟؟

    أسئلة كثيرة كانت تدور في ذهنها وبرغم أنها لم تحصل على أية إجابة لتلك الاسئلة الحائرة التي تدور في داخلها ، إلا أنها أصبحت أكثر اهتماماً بمظهرها .. وأشدّ عنايةً بملابسها .. كما أنها اصبحت تطيل الوقوف أمام المرآة كل صباح قبل أن تخرج ، وعندما كانت تخرج وتراه ، وتلتقي عينيها بعينيه ، كانت تشعر بقلبها يخفق في قوة ، ويزداد خفقانًا كلما اقترتب من مكان وقوفه .. وأصبحت عندما تمر من أمامه ، وتتجاوزه ، و تصل الى نهاية الشارع أصبحت تنتابها رغبة قوية في الالتفات لترى إن كان لا يزال يتابعها بنظراته ، رغبة قاومتها طويلاً في البداية ، وأستطاعت السيطرة عليها ، وعندما كانت تدور في الشارع الآخر دون أن تلتفت ، كان عثمان يدرك أنّ الاوان لم يحن بعد ، ويبتسم واثقاً وهو يغادر مكانه أنّ الامر سيحدث .. وأنها ستلتفت لترى إن كان لا زال يتابعها بنظراته .. وعندها فقط يستطيع ان يبدأ الجزء الثاني من خطته .. إن حكمه لا يخطيء .. ونظرته لا تخيب ، عليه فقط ان ينتظر ولن يطول انتظاره ..

    (15)

    استيقظت سلمى مبُكِّرة صباح أحد أيام الخميس لترى والدها قبل ان يخرج ولتطلب منه وأن يأذن لها في الذّهاب لقضاء عطلة نهاية الأسبوع مع جدها وجدتها .. كانت تعرف أنه لن يمانع في ذهابها ، ولكنها كانت تريد اخباره حتى يقوم باعطائها أُجرة المواصلات حتى تستطيع الذهاب ،كانت أخلاص قد أنهكتها بالعمل في المنزلِ في اليوم السابق ، فنامت كعادتها قبل أن يعود والدها من عمله ، بالرغم من أنها حاولت أن تبقى مستيقظة حتى ميعاد عودته ، ولم يكن شوقها إلى جدها وجدتها هو دافعها الوحيد للذّهاب لقضاءِ عطلة نهاية الاسبوع معهم ، فقد كانت تريد أن تفرّ من الواجبات اليومية المفروضة عليها ، لتمنح جسدها المكدود شيئا من الراحة ، الا أنها وجدت والدها قد غادر المنزل فأغتمت .. وضايقتها إخلاص ، وعبست في وجهها كالعادة فازدادت غماً ، وغادرت البيت دون أن تتناول شاي الصباح ، وقد تملكتها رغبة قوية في الحديث إلى أي إنسان ...

    وخرجت الى الشارع فوجدت عثمان اقفاً في مكانه المعتاد.. والتقت عينيها بعينيه .. فشعرت هذه المرة أنّ النظره الرقيقة الراجية تمس شيئا في داخلها.. ومرت من أمامه كما أعتادت أن تمرّ في الايام السابقة لكنّها عندما وصلت إلى آخر الطريق لم تستطيع أن تقاوم رغبتها في الالتفات ناحيته فألتفت .. وألتقت عينيها بعينيه ، فأبتسم لها في رقة ، فدلفت إلى الشارع الآخر ، وواصلت طريقها إلى المدرسة وقد فارقها الاحساس بالضيق الذي كان يتملكها وهي تغادر المنزل .. وغادر عثمان مكانه وهو يحس إحساس الصياد الذي أوقع بالفريسة في الشرك .. لقد خطت اليوم خطوتها الاولى باتجاهه ولن تستطيع الرجوع .. لقد أطمان إلى أنه يستطيع الآن أن يواصل خطته كما رسمها تماماً دون زيادة أو نقصان ..

    ***
    إعتادت سلمى على نظرات عثمان الرقيقة ألتي أصبحت تبادلها بنظرات حيية خجولة .. وباتت لا تقاوم رغبتها في الالتفات عندما تصل إلى نهاية الطريق في الصباح ، ولا حتى قبل أن تدخل إلى البيت عندما تعود في الظهر، لترى إبتسامته الجميلة... بل لقد أصبحت تطاوع نفسها وتذهب مباشرة بعد دخولها إلى الحمام كأنها تريد أن تغسل يديها ، ثم تزحزح ذلك المقعد الحديدي الصغير الموجود بداخله وتصعد عليه حتى تصل الى النافذة الصغيرة المطلة على الشارع لتسترق النظر الى عثمان ، وتراقبه وهو ينصرف ، ولم يتوقف هو عند حدود النظرة والابتسامة فقط عندما لمس تجاوبها ، فأصبح يلوّح لها بيده مودّعاً قبل ان تدخل وتغلق الباب من خلفها إذا خلا الطريق من المارة ، فكانت تشعر بسعادة تجعلها تكاد تطير محلقة في الهواء ، لقد وجدت أخيراً شخصاً يهتم بها .. يحيها ويبتسم لها .. ويقف النهار بطوله كي يراها .. أرضى ذلك غرورها .. ولمس مناطقاً متعطشة شديدة الحساسية في أعماقها ... فأصبحت رؤية عثمان هي الزاد الروحي الذي تحيا به ، وأصبح طيفه هو الذي تنام وتصحو عليه ..

    ووقفت ذات صباح أمام المرآة بعد أن أرتدت ملابسها التي أنفقت وقتاً طويلاً في اليوم السابق في غسلها ، وفي كيّها ، ودارت حول نفسها تُلقي نظرةً أخيرة على فُستانها الذي بذلت فيه مجهوداً كبيراً ليبدو على الحالة التي هو عليها ، ورغم أنه لم يبدو كما تريده تماماً ان يبدو ، إلّا أنها شعرت بالرضى التام وهي تتامل وجهها الفاتن الجميل ، وتسرح شعرها الاسود اللّماع ، وعندما تأكدت من ان كل شيء على ما يرام ، خرجت في لهفة ، مُمنّية نفسها أن يراها عثمان على هيئتها تلك .. كانت واثقة من وجوده .. مطمئنة إلى وقوفه في مكانه.. الا أنها فوجئت بالساحة خالية تماماً امامها .

    تلفتت يمنة ويسرة عسى أن يكون هنا أو هناك ، ولكنّها لم تر له اثراً فشعرت بخيبة أمل كبيرة ، وسارت في طريقها متعمّدة أن تُبطيء من خطواتها ، آملة في أن يظهر بين لحظة وأخرى ، فربما يكون قد عاقه عائق أخره عن الحضور في ميعاده المعروف ، ولكنّها وصلت الى نهاية الطريق ، وأضّطرت الى الدخول الى الشارع الثاني دون أن يحضر .. ووصلت الى المدرسة وقد ملا الضّيق نفسها .. كانت تشعر أنّ هُناك شيئاً مهماً ناقصاً .. وكان القلق يسيطر عليها فجلست في فصلها متضايقة ، متوترة ، تشعر أنّ اليوم الدراسي لن ينتهي ، وأنّ ساعة الإنصراف لن تحين .. وعندما سمعت أخيراً رنين الجرس مُعلناً ساعة الإنصراف ، أسرعت تُغادر المدرسة كانها تغادر سجناً قضت ببين جدرانه سنيناً طوالاً..

    قطعت سلمى المسافة من المدرسة إلى الشارع الذي يسبق الساحة التي إعتاد عثمان على الوقوف فيها في وقت وجيز ، و دلفت إلى الشارع المؤدي إلى بيتهم في لهفة فصدمها – للمرة الثانية - خلوّ المكان وهدوءه ، كان كما تركته في الصباح إلا من سيدة عابرة تربط صبياً صغيراً إلى ظهرها بقطعة من القماش السميك ، وتمسك باحدى يديها حزمة ضخمة من الحطب وضعتها فوق رأسها ، وتحمل بيدها الأخرى سلة كبيرة ، ثقيلة الوزن ، بينما ضمت تحت إبطها فاساً حديدا ثقيلاً ..

    إزداد شعورها بالاحباط فابطأت من خطواتها إلى اقصى حد إستطاعته وهي تتلفت يمنة ويسرة ، ولكن لم يظهر أي أثر لعثمان ... وقضت باقي اليوم متضجرة متضايقة ، ومر عليها الليل كأنه الف ليل ، وفي صباح اليوم الثالي خرجت مبكرة مسرعة ولكنها وجدت الطريق خالياً ، وتكرر غيابه في صباح اليوم الثالث فشعرت وكان الطريق تسخر منها فكادت ان تبكي .

    وانتهى اليوم الدراسي وبنفسها ما بها من الهم والضيق والظنون ، يبدو أنها أخطات .. لقد إعتقدت أنها تعني الكثير لذلك الشّخص الذي لا تعرف عنه حتى الآن أي شئ .. يبدو أنها كانت واهمة .. ويبدو أنه لم يكن يأبه لامرها ، أو يهتم لها .. لقد فسرت وقوفه ونظراته كما أرادت هي ، وكما أشتهت ، فهو لم يتحدث إليها .. ولم يكلّمها .. ولم يفعل أي شيء من شأنه أن يجعلها تفسر وقوفه بالطريقة التي فسرته بها ..

    وتمكنت منها نوبة الشك التي تنتاب الإنسان أحياناً فتجعلة يكاد ينكّر كل شيء وتجعله يظن انّ الامور الواقعية التي حدثت فعلاً ربما لا تكون قد حدثت أبداً ، فأنكرت حتى يده التي كان يرفعها لتحيتها ، وعزت ذلك إلى أوهامها ، وإلى رغبتها في التقرب من أي انسان ، وإلى خيالها الذي يصور لها ما تتمنى حدوثه ..

    كانت تمشي نحو البيت واليأس يملأ نفسها ، ودخلت إلى الشارع الذي يفضي إلى منزلهم وهي تكاد تجر رجليها جراً ، وعلى غير إنتظار رأته واقفاً في مكانه ، كان في كامل أناقته .. شعره الناعم مصفف بعناية .. ونظرته الرقيقة تلاحقها .. وإبتسامته الجميلة تملأ وجهه كله.. وكاد قلبها ان يقفز بين رجليها وتدفق الدمُ عنيفاً في عروقها ، فتلاحقت أنفاسها...ومرت من أمامه في سرعة ، ووصلت الى الباب في لحظات ، ولكنها قبل أن تطرقه التفت فالتقت عيناها بعينيه ، فأزادادت إبتسامته إتساعاً ، ورفع لها يده كأنه يعتذر عن غيابه ، فدخلت الى المنزل وهي تكاد تطيرُ فرحاً ، وأمضت ليلتها وهي في منتهى السعادة والسرور.. ومرت من أمامه في صباح اليوم الثاني ، ونظرت في وجهه مُباشرة فرأت شفتيه تنفرجان وتهمسان بعبارة لم تسمعها جيداً ، ولكنّها زادتها سعادةً وفرحاً .. لقد إعتذر لها بالامس وأبتسم لها ، وها هو اليوم يتحدث إليها هامساً ... إنه يهتمّ لامرها .. ويأتي من أجلها .. وأنقضى اليوم الدراسي ، وغادرت المدرسة متجهة صوب البيت في لفهة ولكنّها وعلى بعد خطوات من المدرسة وجدت عثمان فجأة يقف أمامها ُمعترِضاً طريقها ...

    كانت تتوقع وجوده في مكانه الذي تركته فيه صباحاً بجوار عامود النور ، ولم يدر بخلدها أبداً ان يأتي إلى المدرسة ، ليقف أمامها وجهاً لوجه ، فاذهلتها المفاجاة ، ورغم أنّها كانت قد أعدت الكثير من السيناريوهات في ذهنها إذا حدثها أو حاول أن يتحدث إليها ، الا أنها جمدت في مكانها عندما سلّم عليها في صوتهِ الرّخيم حتى انها لم تستطيع أن ترد على تحيته ، ووقف ينظر اليها بُرهةً وابتسامته تملا وجهه كلّه ، ثم أخرج من جيبه مظروفاً صغيراً بُرتقالي اللّون مد يده به اليها .. حاولت أن ترفض إستلام المظروف ، ولكنها رأت في عينيه تصميماً عجيباً وهو يقول لها :

    - هي ورقة لن تكلّفك شيئا ، اقرأيها وإن لم يعجبك ما فيها ، مزّقيها ولن أعترض طريقك مرة أّخرى .

    أدركت انه لن يتراجع قبل ان تأخذ المظروف ، وخشيت أن يواصل عناده فيضطرّها للوقوف مدة اطول حتى يراها أحد مدرسيها أو مدرساتها أو احدى زميلاتها فيظنون بها الظنون ، ووجدت أنّ أفضل ما تفعله هو أن تاخذ تلك الرسالة حتى ينصرف من أمامها ، ويدعها تنصرف ، فتلفتت في حذر وخوف ، ثُمّ أسرعت تمد يدها ، وتختطِف الرّسالة ، وتلقي بها في حقيبة كتبها ، وتمضي في عجل ..

    وشعرت أنّ المسافة المتبقية للوصولِ إلى البيت طويلةً جداً .. وشعرت بالوقت الذي أنتظرته لتفتح فيه زوجة أبيها الباب كأنه سنوات.. وضمتها غرفتها لوحدها اخيراً ، فأخرجت الرسالة قبل أن تخلع ملابسها .. وفتحتها في لهفةٍ ، وهي لا تزال تحمل شنطة كتبها على كتفها ... كانت الرسالة مليئة بعبارات الحبّ والهيام ، ( انني أناجي النجوم وأنا افكر بك ) ، ( إنّ صورتك الجميلة الحبيبة لا تفارقني في صحو ولا منام )،( إن رؤيتك يا صغيرتي الحبيبة أصبحت هي الزاد الذي أحيا عليه ) وشعَرتْ سلمى وهي تقرأ الرسالة أنها تحلق في سماوات من النشوة والرضا .. كانت متعطشة .. ظامئة فأحست بالكلمات تّسكرها .. أيحبها ذلك الشخص كل ذلك الحب ؟؟ قرأتها مرات ، ومرات ، ومرات ، وفي كل مرة كانت تشعر لها وقعاً أفضل في نفسها .. وفي اللّيل وضعتها تحت وسادتها لتتحسسها بين الفينة والأخرى ، وهي تشعر أن تلك أجمل ليلة قضتها في حياتها كلها ..

    وتوالت رسائل عثمان وأصبحت عباراته الرقيقة ، وكلماته الساحرة ، هي غذاء الروح الذي تنسى به سلمى آلامها ، وأحزانها ، وأوجاعها ، وتطرد به وحدتها ، ووحشتها .. أصبحت العالم الجميل الذي تدخل إليه خِلسة لتفِرّ من إهمال والدها ، ومن بغض إخلاص وسوء معاملتها ، ومن مضايقة إبنيها لها وأصبحت ترى في عثمان كل حياتها ، فبادلته رسائله بمثلها ، وتعلّقت به وبرسائله حتى أصبح وجوده في حياتها مثل الماء ، والهواء ، الذي لا غنى لها عنهما ...
    وأنتظرها يوماً وهي في طريقها إلى المدرسة في نفس المكان الذي سلمها فيه الرِّسالة ، وطلب منها أن تلتقيه بعد انتهاء اليوم الدراسي في إحدى الحدائق القريبة ، لانّه يريد أن يتحدث اليها ، ويسمع صوتها ، وينظر في عينيها الجميلتين ، فجلست شاردة الذهن في فصلها ، تفكر في اللقاء به ، وفي الظهر حثّت خُطاها نحو المكان الذي وصفه إليها ، يسبقها خوفها ، ووجلها ، وأضطرابها .

    (16)


    كان المكان الذي طلب عثمان من سلمى أن تلتقيه فيه عبارة عن حديقة عامة كانت تقصدها بعض الأسر التي تسكن بجوارها في السّابق من أجل الترفية والترويح عن النفس ، وكانت تلك الحديقة عادة ما تكون ملأى بصراخ الأطفال وضجيجهم ، وضحكاتهم ، ولكنّها أصبحت في السنوات الأخيرة مهجورة خالية ، لا يغشاها إلا متشرد لينام تحت ظل أشجارها الوارفة ، أو عابر سبيل ليستريح من وهج الهجير لبرهة ثم يواصل طريقه ، أو قطة سائبة تبحث عن مأوى .. كانت تلك الحديقة تقع على بُعد عدة شوارع من الطريق الذي تسلكه سلمى في ذهابها وإيابها من وإلى المدرسة .. فوصلت إليها سريعاً ، ووجدت عثمان ينتظرها جالساً على أحد المقاعد الخشبية ، تحت ظل إحدى الأشجار التي تقع في نهاية الحديقة .

    كان عثمان قد اختار ذلك المكان ليجلسَ فيه عن قصد لسببين ، الأول هو أن يضطرّها للجلوس بجانبه فلم يكن تحت ظل تلك الشجرة الا ذلك المقعد الذي لا يتسع لاكثر من شخصين ، والثاني أن جذع تلك الشجرة كان ضخماً بحيث أنه يكاد أن يحجب ذلك المقعد تماماً عن بقية الحديقة ..

    وكعادته في مثل هذه المواقف ما أن شعر بترددها وإرتباكها وهي تجلس مضطرة بالقرب منه حتى سعى إلى إدخال الطمأنينة إلى نفسها ، بمُداعبة مشاعرها ، وبشغل أفكارها بالتغزّل في جمالها ، وحسن صورتها فأنساقت وراء كلماته المعسولة ، التي يعرف كيف يختارها حتى هدأت نفسها ، وفارقها خوفها وإضطرابها ، فتمنت وهو يتحدث إليها أن لا يسكت أبداً ، وأنتهز هو فرصة خلو المكان ، وهدوءه ، وتأثرها بكلماته ، فتناول يدها اليمنى ، ووضعها بين يديه ، و بدأ يضغط عليها في رفق وهو يتحدث إليها حديثه الجميل .. وأستسلمت هي لذلك الشعور الغريب الذي سري في جسدها كله برهة من الزمن ، ثم سارعت إلى سحب يدها عندما رأت شبح إنسان قد لاح من بعيد فاستيقظت مخاوفها التي سكنت لبرهة ، وعاودها قلقها واضطرابها ، فهبت واقفة ، وطلبت منه أن ينصرفا ، كان يتوقع أن تجلس معه وقتاً أطول ، ولكنّه لم يرد أن يبدو لحوحاً في لقائهما الأول ، فوافق على انصرافها بعد أن اخذ منها وعدا باللقاء في الغد في نفس المكان ..

    وخرجت من الحديقة فأفاقت من النشوة ألتي سببها حديثه ومداعبة يديه ، فشعرت أنها ارتكبت خطأً كبيراً ، وغارفت منكراً عظيماً ، فواصلت طريقها وهي تلوم نفسها ، وتستغفر الله في سرها ، ووصلت إلى البيت فخلعت ملابسها ، وفزعت الى ربها تصلى وتستغفر ، ولم تشعر بالراحة إلا عندما عاهدت نفسها على أن لا تعود إلى ذلك أبداً ، ولكنّها التقت بعثمان في اليوم الثاني في ذات المكان ، فلم تستطيع أن تمنعه من أن يضع يدها بين يديه كما فعل بالأمس ، ولم تستطع أن تحول بينه وبين أن يداعب أناملها ويثير فيها ذلك الشعور اللّذيذ الذي كان يُعجز لسانها عن الكلام .

    وأصبحت تلك الحديقة هي المكان الذي يلتقيان فيه ظهر كل يوم ، فيبثها عثمان حنينه وأشتياقه ، ويحكي لها عن معاناته في الساعات التي يقضيها بعيداً عنها ، ويسكب في أذنيها أعذب الكلمات فتجلس هي تستمع إليه كالمنوّمة مغنطيسياً ، غائبه عن الدنيا وما فيها ، ناسية كل آلامها في وجوده .
    و ....و أصبحت تترك يدها في في يده يداعبها كيف يشاء ، فطلب منها أن يغيرا المكان متذرّعاً بانهما ظلا يلتقيان في تلك الحديقة لفترة طويلة ، وأن تغيير المكان ضروري حتى لا يلفتا اليهما الأنظار.
    سالته قائلة وهو يلقي اليها بما أنتواه :
    - ولكن أين سنلتقي ؟؟
    رد عليها قائلاً :
    - يجب أن نلتقي في مكان نكون فيه أكثر إطمئنانا .. مكان يكون بعيداً عن هنا ... وأنا اعرف موقعاً جيداً لا يبعد أكثر من عشرين دقيقة بالسيارة.. وهو مكان هاديء وجميل ، ولا يعرفنا فيه أحد ..
    كان كعادته يسير وفق خطة رسمها مسبقاً .. كان قد فشل في السابق في جعلها تركب معه سيارته ، فقد رفضت كل عروضه لتوصيلها من وإلى المدرسة ، فأراد ان يكسر ذلك الحاجز ، وكانت هي قد ألِفتْ الحديقة ، وأطمأنت اليها ، فلم تر مُبرراً لتغييرها ، فردت قائلة :
    - ولكني لا أستطيع أن أركب معك في السيارة ..
    - إن المكان بعيد وهو يستغرق أكثر من ساعة مشياً على الاقدام ، والسيارة هي الوسيلة الوحيدة التي تمكننا من الذهاب والعودة في الوقت المناسب ، فلماذا لا تستطيعي أن تركبي معي في السيارة أتخافين مني يا سلمى ؟؟
    - أنا لا أخاف منك ولكنّي أخاف من الناس ، وإذا كان لا بد من تغيير المكان فلنبحث عن مكان يكون قريباً من هنا ، أما السّيارة فأنت تعرف أني لا أستطيع ان اركبها مطلقاً .
    رسم ألماً كبيراً على وجهه وهو يقول لها :
    - لا .. أنت لا تخافين أن يرانا أحد لانه لو كان الأمر كذلك لخفت من استمرارنا في الالتقاء في هذا المكان ، ولكنك تخافين مني يا سلمى ، وتخشين أن تكوني وحدك معي حتى ولو كان ذلك داخل سيارتي ، كنت أعتقد انك أحببتني مثلما أحببتك وكنت أعتقد أنك تثقين بي مثلما أثق بك .. وتؤمنين إيماناً قاطعاً باني من المستحيل أن اتسبب لك في اذى ، أو أطلب منك أي شيء يكون فيه ضرر لك ، ولكن يبدو أنني كُنت مُخطئا ، أنت لا تحبيني يا سلمى .. ولا تثقين بي لذا فانت تخافين مني .. وترقرقت عيناه بدموع كان يعرف جيداً كيف يستدعيها كلما أرادها ثم تمتم قائلاً وهو ينهض من مكانه :
    - أنا آسف .. لن أضايقك بعد اليوم .. لن أضايقك ابداً ، ثم أسرع مُبتعِداً ..

    شعرت بشيء يعتصر قلبها في قوة وهي تستمع لحديثه .. فلقد إستطاعت كلماته أن تؤثر بها أبلغ تاثير.. لقد رأت الدموع الكاذبة المترقرقة في عينيه ... ورأت الحُزن الخادع الذي ارتسم على ملامح وجهه ، فأعتقدت أنها تسببت له في ألم كبير .. وحاولت جهدها أن تتمالك نفسها ، لتقول شيئا قبل أن يذهب لكنها لم تستطيع ، فلقد عجز لسانها عن النطق ، وأصاب عقلها الشلل فلم تحرك ساكناً ، وبقيت جامدة في مكانها تُتابعه بنظراتها حتى واراه الطريق ..

    لم تعرف سلمى كيف غادرت الحديقة ... ولا كيف وصلت إلى البيت .. ولا كيف فُتح لها الباب, لم تشعر بالوقت الطويل الذي قضته واقفة وهي تنتظر .. ولم ترى الوجه الملطّخ بالالوان ينظر إليها في شماتة ، واستخفاف ، وقد سرّ صاحبته أن ترى الحُزن واضحاً جلياً على ملامحها .. ولم تؤثر بها الكلمات الهازئة .. ولا الضحكة الماجنة القبيحة .. فلقد كانت قد وصلت إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه من حُزن وألم ، فقد إمتلأت نفسها خوفاً من فقد عثمان الذي أصبح محور حياتها كلها ، والذي باتت موقنة أن وجودها وسعادتها في هذه الحياة ، مقترنة ببقائه بقربها ، وبوجوده إلى جانبها ، فهو الواحة الوحيدة التي تُظللها وسط كل ما تعيشه من جحيم .. ومن حرمان .. ووسط كل ما تعانيه من وحدة وإنعزال ، و لم تكن أبداً على أستعداد لان تخسره ..

    لقد أدمنت كلماته المعسولة الحلوة.. ومشاعره الكاذبة .. ولم يعد في مقدورها أن تستغني عنهما ، لم يعد في مقدورها أن تعود الى البيت فلا تسمع إلا صوت زوجة أبيها الكريه .. ولا أن تدخل الى حجرتها فلا ترافقها الّا الوحدة .. ولا أن تخرج إلى مدرستها فلا يصاحبها الّا الصمت... وظلت باقي يومها كلّه تُفكر به ، وتلوم نفسها ... لقد اخطأت في حقه .. فماذا سيحدث إن ركبت معه سيارته ... وماذا سيحدث ان التقته في أي مكان ، وتحدثا سوياً ، وقضيا وقتاً جميلاً ؟؟

    إنها أيضاً تشتاق اليه ، بل إنها تتمنى أن لا تفارقه لا في ليل ولا نهار، وليس في لقائهما خطأ .. ولا في قضاء وقت بريء معه جريمة .. ولن يعرف أحد .. ومن الذي سيعرف ؟ من الذي يهتم أصلاً لامرها أو يسأل عنها غيره هو ؟؟ من الذي يخاف عليها أكثر منه ؟؟

    ان اباها مشغولٌ عنها منذ أن جاءت لتسكن معه وحتى قبل ذلك وهو لايعرف أين تذهب ، ولا متى تعود .. وزوجة أبيها .. تكون في ذروة سعادتها ، وسرورها عندما تكون هي خارج المنزل ، وولديها لا يهتمان بغير مضايقتها والاساءة إليها ... لن يسأل عنها إنسان إن غابت .. ولن يفتقدها أحد إن تأخرت .. هو الوحيد الذي يسأل عنها .. هو الوحيد الذي يفتقدها .. هو الوحيد الذي يشملها بحبه وعطفه ، وحنانه ، فلماذا تغضبه ؟؟ ولماذا لا تستجيب إلى ما يطلبه طالما أنه لا يطلب شيئا سيئاً ؟؟ أفلا يستحق أن تمنحه شيئا من الاهتمام الذي يمنحه لها ، وتعطيه بعضاً من الوقت الذي يعطيه إليها ؟؟ ألا يظل واقفاً لساعات ينتظر أن يجلس معها لحظات معددوة ؟؟ ألا يقضي اللّيال الطوال يكتب لها ما يعانيه وما يحسه تجاهها ؟؟ أليس من حقه أن يطلب منها أن يلتقيها في المكان الذي يستطيع أن يشعر فيه براحته في الجلوس إليها ؟؟ ألا يستحق ذلك منها ؟؟

    نعم يستحق .. يستحق أن تعطيه شيئاً من الوقت .. وشيئاً من الاهتمام طالما أنه لم يطلب منها ما يعيب ..
    ولانه يحبها فلن يؤذيها ، ولن يترك أي شيء آخر يؤذيها ، ولن يطلب منها شيئا يتسبب لها في ضيق أو حرج او كدر إنه يخاف عليها أكثر مما تخاف هي على نفسها .. كما أنه لم يطلب تغيير المكان إلا لأنه لا يريد أن يراهما أحد ، وذلك ما يؤكد حرصه عليها ، وعلى ما بينهما ، ستخبره في الصباح أنها تحبه ، وتثق به ، وأنها على إستعداد لان تركب معه سيارته .. وأنها ستذهب معه لقضاء الوقت الذي يريده في المكان الذي يريده ، طالما أنهما لن يتأخرا ، وطالما ان احداً آخر لن يعرف بذلك ..

    وقضت ليلها كله مسهدة .. وغفت قبل الفجر قليلاً وأستيقظت والشمس لم تشرق بعد .. وانتظرت في توتر، وقلق ، وهي تشعربالتعب و بالارهاق ، حتى حان ميعاد الذّهاب إلى المدرسةِ ، فخرجت مُسرعة ، ولكنّها لم تجد عثمان في الخارج لا عند العامود .. ولا في أي مكان آخر .. وذهبت إلى الحديقة التي كانا يلتقيان فيها عندما خرجت ظهراً قبل أن تعود الى البيت ، ولكنّها وجدت المكان خالياً .. و جلست تنتظر آملة ان يظهر في أي لحظة ولكنّ الوقت مر سريعاً دون أن يحضر ، وسمعت صوت المؤذن من أحد المساجد القريبة ينادي لصلاة العصر فأضطرت للذهاب الى البيت والمخاوف تملأ قلبها .. أتراه لن يعود مرة أخرى ؟؟

    أتراها لن تستطيع أن تراه بعد الآن ؟؟ أتراه قد هجرها الى الأبد ؟؟ ستجن ان لم يعود .. ستقتلها الاشواق إن تركها وتخلى عنها !! آه لو كانت تعرف أين تجده .. إنها لا تعرف عنه الّا القليل .. القليل جداً .. كان من الواجب عليها أن تعرف عنه كل شيء ..

    كانت سلمى تعيش في عزلة فلم تكن لها صديقة أو رفيقة ، لذا لم تكن لتدرك أنّ الشخص الذي تسعى وراءه معتقدة أنه يحبها .. وأنه يخاف عليها .. وأنه سيخرجها من وهدة أحزانها وآلامها ، ليس الا غادر كبير.. وان غيابه كان مُتعمّداً .. وأنه يدرك تماماً أنها ستذهب معه إلى حيثُ يُريد لانه يعلم تماماً الى أي درجة قد أوهمها بحبه .. وبشرفه .. وبخوفه عليها .. وبصدقه .. حتى تعلّقت به ، وأنه آخر الأمر سيرمى بها دون أن يهتم لها .. ودون أن ينصت لبكائها.. ودون أن يرق قلبه لتوسلها ... بعد أن يحطمها ... وبعد أن يسلبها أعز ما تملك ، فهو كثيراً ما فعل ذلك .. فما أكثر اللائي أضاع مستقبلهن ... ما أكثر اللائي اعتقدن أنه يُحبهنّ .. ويخاف عليهنّ .. فأتضح لهنّ بعد فوات الاوان أنه لا يعشق إلا نفسه .. وشهواته .. وملذاته .. ما أكثر اللاتي خرجن معه في الخفاء وفي الظلام .. فكانت النتيجة أن تحطمت حياتهن ، وعشن في ظلام أبدي لا ينتهي الا بالموت .
    (17)

    انقضى أسبوع كامل دون ان تتمكن سلمى من رؤية عثمان أبداً .. كانت كُلُّما خرجت ولا تجده في انتظارها تزدادُ ياساً .. وحُزناً ... وقنوطاً .. كانت صغيرة ، مرهفة المشاعر .. لم تكن لها تجربة بالحياة ولم يكن لديها أي انسان تُفضي إليه بدخيلة نفسها ، فيشاركها أحزانها ، أو يُشير عليها بما تفعله .. و كانت كلّما مرّ يوم جديد ، إزدادت شعوراً بان الدنيا أكثر قتامة مما كانت عليه ... ملأ الالم نفسها وبلغ حزنها ذروته ، فعافت نفسها حتى الطعام القليل الذي كانت تأكله ، ولم يكن أمامها غير نفسها فالقت باللائمة عليها ، وأفرطت في حسابها ، وفي عتابها ، فلقد ظنت أنها بغبائها ، وبحرصها الزّائد ، وبخوفها على نفسها الذي لا مبرر له ، قد فقدت الإنسان الوحيد الذي يشعر بها ، ويهتم لها ، ويخاف عليها ، أكثر مما تخاف هي على نفسها ..

    وجلست يوماً في فصلها شاردة ذاهلة لا تكاد تعي شيئا مما يقوله أساتذتها.. وأنتهي اليوم الدراسي كما انتهت الأيام السابقة وخرجت من المدرسة ولكنّها لم تكن تُريد الذهاب الى البيت ، كانت زوجة أبيها قد ضايقتها إلى اقصى حد في اليوم السابق ، ولم تكن في حالة تسمح لها باحتمال المزيد من الاستهزاء الصريح ، والمضايقة الخفية ، كان المكان الوحيد الذي تسطيع الذهاب إليه هو بيت جدها وجدتها ، ولكن لم يكن معها نقوداً لتدفع منها أجرة المواصلات .. إلى اين تذهب ؟؟

    ووجدت قدماها تقودانها مرة أخرى الى الحديقة التي كانت تلتقي فيها عثمان.. وصلت الى المكان وسارت باتجاه الشّجرة التي إعتادا على الجلوس تحتها ظلها سويا .. كان في نيتها أن تقضي بعض الوقت حتى تهدأ نفسها ثم تنصرف ولكنها عندما أقتربت مسافة كافية رأته ... رأت عثمان جالساً في نفس المكان الذي إعتاد أن يجلس فيه ، مستندا بظهره إلى المسند الخشبي ... رأسه يلامس جذع الشجرة الضخم ، ويداه على حجره تداعبان اوراق وردة حمراء ذابلة ، وقد شرد بصره بعيداً .. ولم تصدق عينيها .. إزدادت ضربات قلبها حتى اعتقدت أنه سيخترق عظام صدرها لينطلق خارجاً... وأرتفع صوت الضربات حتى ظنت أنه سيسمعها قبل أن يراها .. وتلاحقت أنفاسها .. وشعرت بالاضطراب والارتباك لبرهة طويلة فلم تستطيع أن تتحرك من مكانها .. وتصبب عرق غزير على وجهها ويديها ... وأعتراها خجلٌ رهيب .. وداهمت ذهنها عشرات الاسئلة .. أتراه لا يزال غاضباً عليها حتى الآن ؟ أتراه لن يكلمها ؟؟
    أتعود من حيث أتت قبل ان يراها فتحفظ ماء وجهها .. وتصون كرامتها ؟؟

    أتراه لا يريد ان يراها مرة أخرى ؟؟ أم ترى ان ما جاء به الى هذا المكان هو نفس ما جاء بها ؟؟

    ورغم كل التساؤلات ، والخوف ، والتردد ، وجدت نفسها تتقدم في اتجاهه بخطي بطيئة .. وجلة ، خجولة حتى توقفت على بعد أمتار منه ، وبذلت مجهوداً كبيرا حتى سيطرت على نفسها قليلاً ثم بصوت خافت.. متقطع .. متهدج حيّته ورفعَ عُثمان رأسه والتفت اليها .. فرأت في بريق عينيه حزناً ، وتساؤلاً ، ودهشة ، كأنه يراها للوهلة الأولى .. وزادها ما رأته على صفحة وجهه من ألم مصطنع ، زادها إرتباكاً ، ووجلاً ، فخفضت بصرها نحو الارض ..

    كان عثمان ينتظر سلمى في سيارته قرب المدرسة لانه كان يعرف أنها ستكون في اقصى حالات حزنها ويأسها ، بعد كل المدة التي إنقطع فيها عن لقاءها ، وكان يعرف أنه يستطيع وهي في حالتها تلك أن يجعلها تركب معه سيارته بحجة حاجته للحديث اليها ، فيكسر بذلك حاجز خوفها من ركوب السّيارة ولم يكن ينوى أن يذهب بها بعيداً ، ولكنّه عندما رآها تتجه صوب الحديقة من تلقاء نفسها ، غير خطته في ثوان معددة ، فقد كان عقله الجبّار يعمل بسرعة واتقان ، فاسرع يسبقها ويجلس ينتظر حضورها ، كانه لا يعرف أنها ستأتي ، و ردّ تحيتها بطريقة توحي بأنه فوجيء بحضورها ، ثم عاد وأشاح ببصره بعيداً عنها .. ولم تدري هي ما تفعل .. ولا ماذا تقول .. فقد زاد سكوته ، واشاحته ببصره ، زادا من خجلها الذي تملّكها ، ومن خوفها من أنه ربما يكون لا يريد رؤيتها ، فبقيت واقفة في مكانها تتقاذفها الهواجس ، وتفكر في العودة من حيث أتت ...

    وشعر عثمان مدى القلق الذي تعانية .. وأدرك أنه قد أفلح في أن يوصل لها ما أراد توصيله .. و اطمأن تماماً الى أنه ترك الأثر الذي أراد تركه في نفسها.. وخشى إن ظل على تجاهله لها ، والإنصراف عنها ، ان يدفعها حياؤها الفطري الذي يعرفه إلى مغادرة المكان ، فهمس إليها متسائلاً في صوت حزين :
    - ألا تريدين الجلوس ؟؟
    ولم تصدق أنه تحدث اليها ودعاها للجلوس فجلست .. وطال الصّمت بعد ان جلست فسالته قائلة بعد تردد طويل - ألا تزال غاضباً عليّ ؟؟
    قال دون أن ينظر إليها :
    - لا لست بغاضب .. لكلٍ منا الحق في أن يقبل ما يناسبه ويرفض ما لا يناسبه .. ما آلمني هو أنني اكتشفت بعد كل ما كان بيينا أنك تخافين مني ، ولا تثقين بي ..

    - أخافتها كلماته .. وبثت كلمة ( كان ) الرعب في فؤادها .. وفعل تلميحه بتركها إلى الابد فعله في نفسها .. فأسرعت تقول :
    - لا لا .. أنا اثق بك .. والله أني اثق بك تماماً .. أرجوك لا تغضب مني .. أنت لا تعرف ماذا حدث لي في الأيام الماضية .. وحتى أثبت لك اني أثق بك فانا مستعدة الآن للذهاب معك الى أي مكان تريد لكن أرجوك لا تغضب مني ..

    أخفى ابتسامة انتصار كادت ان تبين على شفتيه وهو يقول لها في هدوء :
    - أنا لا يهمني ان تذهبي معي اولا تذهبي بقدر ما يهمني أن تثقي بي .. وتطمئني إلي .. وتكوني متأكدة من أنني أخاف عليك أكثر مما تخافي أنت على نفسك لاني أحبك .. ولانك أغلى شيء في حياتي ..
    سقطت كلماته على مسامعها كما تسقط قطرات المطر على الارض المقفرة الجدباء فردت في لهفة :
    - أنا .. أنا اثق بك .. الله يعلم أني اثق بك ، وأطمئن إليك فأعذرني على ما كان مني ..
    - أنت لا تعرفين ما أنت بالنسبة إلي يا سلمى .. أنت روحي .. وعيناي اللتان أنظر بهما إلى الدنيا .. ان حياتي لا تساوي شيئا من دونك ، وصدقيني لقد كنت قد قررت أن لا آتي الى هنا أبداً ، ولا أدري ما الذي أتي بي اليوم في هذا الوقت بالذات.. ربما لو لم نلتقي اليوم لما التقينا مرة أخرى فلقد كنت قررت ان أسافر وأعود من حيث اتيت ، فلماذا أبقى إذا لم تكوني أنت في حياتي ؟ ..

    وأنخلع قلبها حينما سمعته يذكر السفر فسألت في هلع :
    - تسافر ؟؟
    - نعم فما فائدة وجودي هنا إذا خلت حياتي من وجودك فيها ؟؟ أنت طبعاً لا تعرفين أنه لولا لقائي بك وتعرفي اليك ، لكنت غادرت منذ وقت طويل ، وعدت من حيث أتيت ، فلم يكن في نيتي حينما عدت من السفر الا أن ابقى لوقت وجيز ، ثم أعود مرة أخرى ، ولكني التقيت بك فما عُدت أستطيع فراقك ، فبقيت من أجلك ، ومن أجل ان أكون بجانبك ، فأي شيء سيبقيني إذا افترقنا ؟؟

    لمست كلماته الهامسة شغاف قلبها .. وجعلت فؤادها يرقص في طربٍ لشعورها بمكانتها في نفسه والتي أفصح عنها بلهجة ملأها التأثر .. وغلب عليها الشجن .. فأغروقت عيناها بالدموع .. وخيّم على المكان صمت مؤثر لبرهة من الزمن ، حتى قطعته وهي تعيد سؤالها :
    - والآن هل ستسافر ؟؟
    - أنا لن أسافر طالما أنك تُبادليني حباً بحب ، وتثقيني بي ، فانا أحبك حباً لو وزع على أهل الارض جميعاً لوسعهم لقد قررت أن أبقى هنا إلى الابد منذ أن رأيتك للوهلة الاولى ، ولكن صدقيني في اللّحظة التي تتخلين عني فيها سأترك هذا البلد وأرحل من غير رجعة ...
    حمدت الله في سرها على أنه اتي اليوم في هذا الميعاد وأنها التقته قبل أن يرحل ...
    ***
    عادت سلمى إلى البيت إنسانة أُخرى وقد فارقها حزنها ، وألمها ، وخوفها ... وبمجرد وصولها إلى البيت ، شرعت في أداء المهام اليومية المعتادة ، ولم تؤجلها إلى ما بعد العصر كما كانت تفعل في السابق ، وهي فرحة مسرورة ، فما كان هُناك شيء قادر على انتزاع السعادة التي تشعر بها في اعماقها وفي المساء خرجت لتلتقي عثمان في مكان إتفقا على اللقاء فيه قبل أن يفترقا في الظهر .....

    وجدته ينتظرها داخل سيارته ، فتلفت يمنة ، ويسرة ، وتردّدت وهي تمد يدها لتفتح باب السيارة التي تحاشت الركوب فيها لفترة طويلة ، فغشيها ارتباك كالذي يغشى التلميذ وهو يدخل غرفة الامتحان في اليوم الاول ، الا أنها حسمت أمرها ففتحت الباب وركبت .. وأبتسم لها عثمان وقال لها مطمئناً :

    - سنذهب في نزهة قصيرة ثم نعود فأتركي الخوف جانباً .... إبتعدت السّيارة عن الحي الذي تسكن فيه فشعرت بشيء من الراحة ، وعند الشاطيء أوقف عثمان السيارة في موقع إختاره جيداً ، وأدار جهاز التسجيل فانطلقت اغنية رومانسية هادئة ، ثم نزل وذهب ألى أحد الاكشاك القريبة ، وأتي بكاسين من العصير الطازج ، وعاد وجلس في مقعده ، كان يعرف أنهّا مُضطربة ، وأن أي تصرف غير محسوب قد يؤخر ما يريده منها ، فكبت الرغبة العارمة التي تتقد في داخله حتى يأتي الوقت المناسب .. لقد أوشك على الوصول إلى نهاية الطريق ... فهي اليوم بركوبها في سيارته ، وبخروجها معه إلى هذا المكان قد قطعت باتجاهه مسافة أُخرى مُهِمّة ، ولم يعد بينه وبين غايته الا لقاءات معدودة ان سار الامر كما خطط له ..

    إحتفظ بكل إفكاره داخل رأسه ، وألتفتَ يتحدث اليها حديثه العذب الرقيق ، ويتغزل في جمالها ، ويبالغ في إطراء محاسنها ، ويخبرها عن أشواقه ، وعن آماله ، شأن العارف الخبير الذي يدرك ما تفعله كلماته في نفس مستمعته ، وما يتركه الثناء من أثر في نفس صبيةٍ صغيرة ، غضبة الاهاب ، تعيش ظروفاً مثل ظروفها.. فنست سلمى نفسها وهي تستمع اليه ، ولم تشعر بمرور الوقت حتى توقف هو عن الحديث ، وطلب منها أن يعودا قبل أن يفتقدوها في منزلهم ، عادت إلى البيت وهي سعيدة ، راضية ، تشعر بالاطمئنان للشخص الذي فارقته ، فهو لم يذهب بها إلى مكان معزول كما أنه كان أحرص منها على العودة في الوقت المناسب ، فقد نبهها الى مرور الوقت ، والى ضرورة العود قبل أن تنتبه هي إليها.. وفارقها عثمان وهو يشعر بالرضى فقد خرجت معه دون أن تسأله الى أين سيذهبان ، وهي بذلك قد تركت الأمر له ، وسلّمته قيادها يذهب بها إلى حيث يريد .. كما أنها أنساقت وراء حديثه الجميل ولم تذكر العودة حتى ذكّرها هو بها ، عليه في الفترة القادمة ان يزيدها اطمئناناً ، كما أن عليه في ذات الوقت أن يثير فيها رغبة الأنثى ، ويحرك غريزة اللّحم والدّم في داخلها حتى تطغى على أي خوف قد يعتريها في اللحظة الحاسمة ..

    ومثلما حدث في الحديقة تكرر ذهابها معه الى الشاطيء ولكنّه لم يقترب منها أبداً ، حتى يدها التي إعتادت في أيام الحديقة ان تتركها بين يديه عن طيب خاطر لم يمسها قط ، كان فقط يأتي بكوبي العصير ثم يقدم لها كأسها ، ويجلس ينظر في عينيها ، بشغفه الذي لا يدعيه ولا يرسمه على عينيه كذباً مثلما يفعل حينما يدعي الحُزن والالم ، فقد كان شغفاً حقيقياً ، عنيفاً ، وحاراً ، ولكنّه كان نابعاً من رغبة حيوانية محضة ، لا من مشاعرحُب طاهر يكتفي بما يراه في عيني محبوبه من شغف متبادل ، شغف لا تخمده نظرة حالمة .. ولا تشبعه إبتسامة جميلة بريئة ... ولا ترضيه أحلام طاهرة ..

    وكانت رؤية نظراته بكل مافيهما من حرارة ورغبة .. والاستماع الى كلماته بكل ما فيها من نفاق ، كانا ينقلانها إلى دُنيا أُخرى لم تكن تعرفها قبل ان تلتقيه ، ومثلما الِفت المكان الاول الِفت أيضاً المكان الذي أصبح يأخذها اليه كل يوم ، واطمأنت له ، فلم تعد تجلس وجِلة مُترقبة بل أصبحت تجلس متبسطة ، تديم النظر الى عينيه وهو يتحدث اليها ، غير منشغلة بما يدور حولها ، وشعر هو باطمئنانها إلى المكان ، والى الفتها له ، فعاد يضع يدها بين يديه ، ويكب عليها بين الحين والآخر مقبلا ، ويبقي شفتيه طويلاً عليها ، فتشعر هي لدفء أنفاسه شعوراً يجعلها كالمنومة فلا تستطيع ان تسحب يدها من يده حتى يتركها هو .

    وطلب منها يوماً ان تنتقل إلى المقعد الخلفي ليسقيها العصير بيديه ، وأصرّ على انتقالها لانّ المكان هناك أرحب وأوسع ففعلت ، وما كادت تجلس وتغلق الباب المجاور لها حتى شعرت به يتحرك باتجاهها ليلاصق جسده جسدها، وإنكمشت في مكانها وحاولت أن تبتعد حتى آلمها مقبض الباب الذي تجلس بجواره ، لكنه وضع يده حول عنقها ، ووضع كأس العصير على شفتيها فلم تجد مهرباً ، وابتلعت الجرعة الأولى دون أن تشعر بطعمها فحيث التصق جسده بجسدها ، وحيث وضع يده حول عنقها ، أبتدات النار تسري وتتقد ، ورفع الكأس مرة أخرى إلى شفتيها فمدت يدها تردها ، فأمال رأسها ناحيته وقبلها في جانب فمها ، وحاولت أن تشيح بوجهها الى أبعد ما تستطيع ، إلا انه تمكن من أن يقبلها مرة أخرى في خدها .. ثم شعرت بانفاسه الحارة في جانب عنقها ، وفي إذنها اليسرى فتصلبت ووضع الكاس جانباً ، وبيده اليسرى أدار وجهها ناحية وجههه فتحامت النظر في عينيه ، ثم مست شفتيه شفتيها في رفق ، فتسارعت أنفاسها كأنها ركضت شوطاً طويلاً ، وفجاة أطبق فمه على فمها ومضت يده اليمنى تضمها اليه أكثر فأكثر ، بينما أنسابت يده اليسرى تتسلل الى اجزاء جسدها وغابت لوقت طويل في فورة الدم التي غطت على كل شيء ، حتى تقطعت أنفاسها ، و أحتملت طويلاً حتى ما عادت تحتمل ، فأستجمعت كل ما تبقى لديها من قوة ، ودفعت عثمان عنها ، وفتحت الباب المجاور لمقعدها ونزلت إلى الأرض لاهثة ، خائرة القوى ، تحاول جاهدة أن تقف على قدميها .. و نزل هو ودار حول السيارة فوجدها ترتجف من فرط الإنفعال وعيناها تدمعان ..

    جلس على الأرض مُتظاهِراً بالندمِ والالم ينتظرها أن تهدأ ... كان يتوقع أن تصده ، وكان يتوقع أن تنزل الى الارض ، ولكنّه لم يكن يتوقع أنْ تبكي ، كان بُكاءها يُخالف كل توقعاته ، وحساباته ، فشعر بالحيرة لاول مرة في حياته ، وبقى صامِتاً حتى صمتت وهدأت ،وكفكفت دمعها ، وطلبت منه في صوت مُتهدّج ان يعودا ، فلم يناقشها ، وطوال الطّريق لم يحاول ان يتحدث اليها ، وعندما أقتربت السيارة من المكان الذي إعتاد على أن يُنزلها فيه قال لها كأنه يعتذر :

    - أرجو أن لا تكوني غاضبة مني .. أنا أحبك يا سلمى و كل ما أفعله سببه الوحيد هو حبي الكبير لك ربما انا أتمادى أحياناً ولكن ألست أنا لك وأنت لي؟ ألن تكوني عمّا قريب زوجتي ألتي يحق لي أن أفعل معها ما أشاء ؟ وماذا سيحدث إن سمحنا لبعضنا بجزء قليل مما سيكون لنا حقاً شرعياً في المستقبل القريب حتى تهدأ أشواقنا ؟ الله يعلم اننا نحب بعضنا بعضاً ، ولهذا فلن يؤاخذنا على ما نفعله وهذا يكفي ...
    ووصلت السيارة إلى مكان نزولها ففتحت الباب لتنزل فأضاف قائلاً :

    - سأنتظرك في الغد فلا تتأخري !
    لم ترد عليه بغير نظرة من عينيها الدّامعتين ومضت في طريقها دون أن تلتفت والخوف يعتصر فؤادها...

    كانت قد لفت ثوبها حول وجهها قبل أن تنزل من السيارة فلم تترك الا عينيها لاعتقادها أن أي أنسان يقابلها سيرى أثر قبلاته على شفتيها ، ودخلت الى غرفتها فوقفت أمام المرآة تنظر إلى فمها فخيل إليها أنّ شفتيها قد إزدادتا إحمراراً وضخامة ، فتصنعت المرض ، ولزِمت فراشها تُصلي وتستغفر في سرها .. إنهما يخُطئان .. صحيح أنها تحبه ، وهو يحبها ولكنهما يخطئان ، عليهما أن ينتظرا حتى يجمع الله بينهما فلكل شي وقته الذي يحدث فيه .. لقد قبلت أن تخرج معه .. وقبلت أن تركب معه سيارته .. وقبلت أن تترك يدها بين يديه .. ولكنّها لا يجب أن تفعل أكثر من ذلك لتُغضِبَ ربّها كما أنها يجب أن لا تفعل أي شيء يُخالف كل ما تربت عليه .. يبدو أنه ليس أمامها لتحقيق ذلك الا التوقف عن الخروج معه والجلوس لوحدهما في سيارته ساعات وساعات، ولكنه سيغضب إن لم تفعل وربما يعود فيظن أنها تخاف من الخروج معه ، وأنها لا تثق به فيسافر كما قال لها قبل ذلك ..لا..لا.. يجب ان لا تُغضبه بعدم ركوب سيّارته ، ولا برفض الخروج معه ، ولكن عليها ان تُخبره ان عليهما الانتظار حتى يتزوّجا ، عليه أن لا يقبلها مرة أخرى ، عليه أن لا يفعل ما فعله اليوم ، وعليها هي أن تصر على البقاء في المقعد الامامي ، وأن لا تنتقل أبداً إلى المقعد الخلفي ، وهو لن يغضب منها لانّ لا شيء يدعوه للغضب ، ولانه يحبها فسيتفهم موقفها، وشعرت بشيء من الراحة فأستطاعت أن تنام ..
    وعندما صعدت إلى السيارة في اليوم الثاني كانت عازمة على ان لا تنتقل الى المعقد الخلفي وان لا تسمح له بتقبيلها مهما حدث ..

    (18)

    وصلت السياّرة الى المكان المعتاد فأصرت سلمى على الجلوس في المقعد الأمامي عندما أتى عثمان باكواب العصير ، ولكنها رأت ملامح الضيق قد بدأت ترتسم على وجهه فأنتقلت إلى المقعد الخلفي محاوِلة ان تناى بجسدها عن جسده بقدر ما تستطيع ، وجلس هو بعيداً عنها حتى أكملت شرب كوب العصير ثم أمسك يدها بيده ، وأنسال حديثه نديّاً فسرى التيار الكهربائي من يدها الى أنحاء جسدها ، وفاحت في الجو رائحة الرّغبة فزحف نحوها حتى التصق بها ، وحاولت أن تفر بشفتيها من شفتيه لكنه أدرك فمها ، وحاولت ان تصد يده عن صدرها إلا ان النار التي أشتعلت جعلت يدها تسترخي وتسقط مستسلمة في حجرها ، وأحترق جسدها بنار الرغبة لفترة طويلة ..

    كل ما استطاعت أن تفعله في تلك المرة ، وفي المرات التي تلت أنها كانت في وقت معين تستجمع كلّ ما يتبقى لديها من قوة ، وتدفع عثمان عن صدرها ، وتفتح الباب المجاور لها ، وتنزل إلى الأرض وهي ترتجف من فرط الإنفعال ورأسها يدور .. و ما عادت تشعر بخطأ ما تفعله .. ما عادت تلجأ الى الله لتطلب منه السماح والغفران .. وما عادت تشعر بتأنيب الضمير، فتقرر عندما تخلو إلى نفسها بأنها لن تسمح له في المرة القادمة أن يقوم بامساك يدها ، أو تقبيل شفتيها .. أو ضمها إلى صدره ...

    و شعر عثمان أنه لم يعد في مقدورها مقاومة الرغبة التي يثيرها في أوصالها فادرك ان الوقت قد حان ليأخذها إلى مكانه المفضل ... إلى المكان الذي لن تجد فيه باباً حتى تقوم بفتحه لتنزل الارض ، فتنجو بنفسها ... إلى المكان الذي يستطيع أن يجبرها فيه على ان تستسلم له بارداتها ، أو بغير إرادتها .. فهناك مهما فعلت لن تستطيع أن تصده ، وان لم تعطيه ما يريده فسياخذه منها بالقوة .. لقد وقعت في شركه ولن ينقذها منه أحد ، لن يستطيع أي انسان الآن ان يساعدها لتفِرّ من بين يديه ، قبل أن يأخذ منها كل ما يريده .

    (19)

    فتح أُستاذ جلال باب منزلهم وهو يحمل في يده اليمنى كيس الطماطِم ، والخيار ، والجرجير ، و يحمل في يده اليُسرى كتاباً ضخماً ، بالاضافة الى صحيفتة اليومية المفضلة التي إعتاد على أن يأتي بها معه .. خطأ الى داخل المنزل فقفزت سارة وسناء من خلف الباب ، وتعلّقتا كل واحدة منهما بذراع من ذراعيه - برغم ما كان يحمله - وهما تسألانه في صوت واحد :
    - لماذا تأخرت ؟ كان قد شعر بحركتهما خلف الباب قبل أن يدخل ، ولكنه تصنع الدهشة كما اعتاد ان يتصنعها في كل مرة وردّ عليهما ضاحكاً :
    - لقد تأخرت لنصف ساعة فقط بسبب المواصلات .. لم تكن هناك سيارات كافية فأزمة الوقود تكاد تشل الحركة ، لذا فقد أضطررت للوقوف وقتاً إضافياً حتى استطعت الركوب ، مدت سارة شقيقته الصغرى يدها في سرعة ، واختطفت الجريدة من يده وهي تقول :
    - عقاباً لك على هذا التأخير لن تستطيع اليوم أن تقرأ هذه الجريدة التي تحبها ...
    فقال وقد ازدادت ابتسامته اتساعاً :
    - ولماذا تعاقبيني وانا لست طرفاً في خلق ازمة الوقود ، ولست انا السبب في عدم ذهاب سيارات الاجرة لبعض المحطات ، كما اني لا امتلك سيارة خاصة حتى استطيع العودة بها وقتما اريد ..
    ردت عيله سناء ضاحكة :
    - هذه مُشكِلتك وليست مشكلتنا ، وعليك أن تعتمد على نفسك في حل مشاكلك .. انّ الذي يهمنا هو أن لا تتأخر عن مواعيدك ، والا فستعاقب مهما كانت الأسباب ...
    فقال وقد اتسعت ابتسامته :
    - إنّ هذا قضاء جائر جداً ..
    همت سارة بأن ترد فبادرها وسبقها قائلاً :
    - أتركا الشقاوة ، وخذا هذا الكيس ، وأسبقاني إلى المطبخ ، حتى نساعد أمي في إعداد طعام الغداء فأنا أكاد أن أسقط من طولي جوعاً . ..

    كانت سناء في نفس عمر سلمى في السّنة النهائية من المرحلة الثانوية ، وكانت تدرس في مدرسة قريبة من المنزل ، أما سارة فلقد كانت في المرحلة المتوسطة في الصف الثاني ، وكانت كلُاَ منهما الاولى على فصلها .. كانت الشقيقتان تُحبّان شقيقهما حبّاً لا يوصف ، فقد أحاطهما وشقيقتهما نادية التي أكملت دراساتها وتزوجت ، وشقيهقما جابر الذي يدرس بالسنة النهائية بكلية الهندسة أحاطهم جميعاً بحبه وحنانه ، وشملهم برعايته ، وعطفه منذ أن توفى والدهم وبالرغم من أن المسئولية التي ألقيت على عاتقه كانت كبيرة لدرجة انها شغلته حتى عن نفسه ، الا انها لم تصرفه أبداً عن متابعة أمور شقيقه الوحيد ، وشقيقاته الثلاث والوقوف على كل كبيرة وصغيرة من أمور تربيتهم ، أخذهم بالعطف واللّين ، ولكنّه لم ينسى الحزم والجد متى ما دعا الداعي اليهما .. ولمسوا هُم حبه لهم ، وخوفه عليهم ، وتضحيته في سبيل أن ينشأوا نشأةً طيبةً ، فحرصوا على الإبتعاد عن كل ما يضايقه أو يكدره ، أو يسبب له أي نوع من أنواع الهم والقلق ، فسارت بهم الحياة - برغم غياب الاب - هادئة مُطمئنة ..

    إنتهى أستاذ جلال من غسل الاطباق التي أصرّ على غسلها بعد أن تتناول طعام الغداء مع والدته وشقيقتيه ، فقد إعتاد جابر على أن يأتي متأخراً من كُلّيته ، ثم أضطجع ليقرأ جريدته ، فاضطجعت سارة كالعادة إلى جانبه ، وجاءت سناء بكرسي ووضعته بجوار رأس السرير ، وأخذت تُشارِكه القراءة وهي تعبث بخصلات شعره ، وراحت سارة تقاطع قراءتهم متساءلة بين الفينة والأخرى عن بعض مواضيع الصحيفة ، وعندما صمتت فجأة ، وطال صمتها أدركا أنها نامت فتبادلا نظرة باسمة مألوفة طبع بعدها أستاذ جلال قبلة حانية على خدها ، ثم سحب يده من تحت رأسها في هدوء ، و أنتقل إلى السرير المجاور لينهي قراءة الجريدة ، وليأخذ قيلولته ، بعد أن طلب من سناء أن تاخذ قسطاً من الراحة حتى تستطيع ان تراجع فروضها المدرسية في المساء وذهنها حاضراً .. لم يعرف متى غفا ، ولكن أيقظه من غفوته صوت المؤذّن ينادي لصلاة العصر ، فنهض وأغتسل ، وغيّر ملابسه ..
    وجد وهو يخرج إحدى جاراتهم تجالس أمه في الحوش وهما تتناولان الشاي .. ألقى عليهما التحية ثم أخبر والدته بأنه سيتأخر في العودة بعد انتهاء الصلاة فسالته قائلة :
    - الن تعود لتتناول الشاي ؟؟
    كانت معتادة على أن يعود بعد الصلاة ليتناول معها الشاي ، ويتجاذب معها أطراف الحديث ، قبل ان تأتي شقيقتيه وتنضما إليهما ، ليراجع معهما الدروس اليومية ولكنه قال لها :
    - لدّي موعد أريد ان أدركه و ساتناول الشاي بعد عودتي ... أخبري سارة وسناء أني لن أتاخر عليهما كثيراً انشاء الله
    و انتهت الصّلاة فاتجه نحو سوق المدينة الكبير .. كان قد عرف اليوم ان والد سلمى يعمل هناك .. وصل الى السوق فاتجه إلى المكان الذي يتجمّع فيه سائقي الحافلات التي تنقل الركاب من وإلى أحياء المدينة المختلفة ..

    كان المكان مُزدحِماً جداً ، وكان الصخب شديداً فقد إختلطت أصوات موتورات السيارات ، باصوات العدد الكبير من السائقين والذي كان يتجاوز كثيراً عدد السيارات المتاحة للعمل فكانوا يلجأون الى قتل الملل بالدعابات وبالصياح ... كان عدد قليل منهم يعمل بصورة مستمرة على احدى السيارات أما الاغلبية فكانت تنتظر ان تسنح فرصة ما ، كأن يمرض أحد السائقين الذين يعملون بصفة مستديمة ، أو أن يتعب ، أو يموت ، أو أن يسافر الى خارج البلد ، حتى يتقاتلوا على الفرصة التي أتاحها المرض ، أو الموت ، أو السفر ويحاول كل مِنهم ان ينالها .. وكان انتظارهم للفرصة التي تسنح ، وتقاتلهم عليها ، يُنسيهم حتى مجرّد الأسى على من مات ، أو سافر ، أو مرض ....

    كان أستاذ جلال يتحاشى دائما ان يفكر بما أصاب البلد من خرابٍ و دمار ، وما أصاب الناس من فقرٍ وهم ، جعلهم ينسون في دوامة الركض وراء لقمة العيش كثيراً من المعاني الإنسانية الجميلة.. ولكنّه كان يجد نفسه في كثير من الاحيان غارقاً حتى اذنيه في احزانه بسبب ذلك ، سأل عن والد سلمى حتى وصل إلى مكانه .. وجده يجلس مع مجموعة صغيرة من رفاقه من مختلف الاعمار والاشكال في إنتظار أن يأتي الدور على سيارته .. كان يرتدي ثوباً ابيضاً قديماً ، و يضع على رأسه طاقية بيضاء ، وينتعل حذاءً أسوداً تم تلميعه بشكل جيّد ...كان كل ما يرتديه قديماً ، ولكن كانت جميع ملابسة نظيفةً جداً بخلاف الكثيرين ممّن كانوا يجلسون حوله ، ورغم أن ملامحه كانت تدل على أنه تخطى الخمسين عاماً إلّا أنه كان أبهى الموجودين صورةً ، و كانت قسمات وجهه تدل على ملامح عز قديم .. ملامح شخص أرستقراطي دار عليه دولاب الايام فانزله من من القمة الى القاع ، وعندما سلّم عليه الاستاذ جلال لمس - برغم الحزن الذي بدأ واضحاً في عينيه الواسعتين - الهدوء الشديد الذي يتمتع به الرجل فتذكر على الفور أنه كثيراً ما رأى هذا الوجه في الماضي على صفحات الجرائد .. سيطر عليه شعوره بالحسرة والاسف وهو يطلب منه أن يجلسا لوحدهما ...

    أخذه والد سلمى إلى مقهى مجاور .. جلسا الى احدى الطاولات الحديدية القديمة وطلب له أحمد كوباً من الشاي ، وطلب لنفسه فنجاناً من القهوة .. بدآ يتجاذبان أطراف الحديث عن بعض الأمور العامة مثل حالة السوق .. والمواصلات .. وأزمة الوقود .. وغلاء الأسعار .. وصمت أستاذ جلال متعمداً عُدّة مرات ليتيح له المجال حتى يسأله عمّن يكون أو عن سبب مجيئه اليه ، ولكنّ أحمد لم يسأله مما دل على ثقافته الواسعة ، وذوقه الرفيع فلم يجد أستاذ جلال بُدّاً من أن يبادر هو الى تعريفه بنفسه فقال :
    - أود ان أعرفك بنفسي ان سمحت لي .. أنا الاستاذ جلال .. وكيل مدرسة السيدة أسماء التي تدرس بها إبنتك سلمى...
    ظهر في عينيه شيء من القلق فلقد كانت تلك المرة الاولى في حياته التي يأتي إليه أحد مدرسي إبنته حتى مكان عمله ولكن جلال أسرع يطمئنه قائلاً :
    - إن لديك إبنة رائعه ، مهذبة ، ومطيعة .
    واصل حديثه عندما رأى نظرة عدم الفهم التي إرتسمت في عيني جليسه كانما يسأله لم أتيت إلى إذن ؟ فقال :
    - أنا آسف إذ انني حضرت إلى هنا حتى ألتقيك ولكننا أرسلنا في طلبك فلم تحضر ..
    فسأل احمد في نبرة ملؤها القلق :
    - هل إبنتي بخير ؟ ومتى أرسلتم في طلبي ؟ إنّ أحداً لم يطلب مني الحضور ... ولو علمت أنكم تريدون مقابلتي لحضرت اليكم من فوري .
    فقال أستاذ جلال :
    - إنّ إبنتك على خير مايرام والامر بسيط فلا تقلق .. ان لدينا في المدرسة نظاماً خاصاً لتقديم مساعدة مالية سنوية لعدد من الطالبات يتم إختيارهُنّ عشوائياً عن طريق الاقتراع ، واللّائي يقع عليهُنّ الاختيار تقوم المدرسة نيابةً عن أُسرهُنّ بتحمُل نفقات ترحيلهُنّ من والى المدرسة ، بالاضافة الى تحمل نفقات وجبة الافطار للعام الدراسي بأكمله ، ولقد كانت أبنتك سلمى ضمن من وقع عليهُنّ الاختيار لهذا العام ، وكالعادة نحن نقوم بتسليم المبلغ المُستحق لولي أمر الطالبة حتى يأتي إلى المدرسة ، ويقوم بتسديد إشتراك الحافلة ، ويضع المبلغ المخصص للإفطار في حساب أبنته بنفسه ، فنحن حريصون على أن يبقى هذا الامر محصوراً بين أسرة المدرسة ، وبين أُسر الطّالبات اللائي يقع عليهن الاختيار، فالطالبات انفسهن لا يعرفن عنه اي شيء .. وأدخل أستاذ جلال يده في جيبه ، وأخرج مبلغاً من المال قدمه الى أحمد وهو يقول :
    - واليك إستحقاق هذا الشهر الذي يخص إبنتك سلمى ..

    نظر أحمد إلى اليد الممدودة إليه في دهشةٍ واستغراب ، ورغم أنه حاول في أعماقهِ أنْ يكون طبيعياً ، إلّا انه شعر بخجلٍ شديد فلقد كانت تلك المرة الأولى في حياتهِ التي يتعرض فيها لموقفٍ مُماثِلْ .. لقد تعود طوال حياته ان يعطي ولم يعتاد أن يأخذ.. وشعر جلال بتردده فتابع يقول :

    - إنّ هذا حق لابنتك فلا ترفضه لاهميته لها فهو سيوفر لها الوقت ، و سيجبنها المجهود الكبير الذي تبذله في الحضور والإنصراف ، والأهم من ذلك كله أنه سيبعد عنها أي مُضايقة قد تتعرض لها في الطريق ، ويحول بينها وبين إنشغالها بأي أمر آخر غير دراستها ، كما أنّ هذا المبلغ ليس مني ويمكنك أنت أيضاً أن تأتي في أي وقت لتشارك وتُّساهِم في دعم هذا الصندوق بالمال ..
    شعر أحمد بخوف خفي من تلميح الاستاذ جلال ، فمد يده يأخذ المبلغ الذي كاد ان يرفضه ، فتابع أستاذ جلال قائلاً :
    - ان هذا هو الأمر الأول الذي أتي بي اليك ، ولكن هناك أمر آخر أشد أهمية .. ولم يرد احمد بغير نظرة فيها مزيد من التساؤل تطلب منه أن يواصل حديثه فقال أستاذ جلال :
    - من الواضح أنّ سلمى تمُر بمشكلة ما ، فهي كثيرة الشرود ، ومنطوية على ذاتها ، ومنعزلة عن زميلاتها ، كما أنّ مستواها الدراسي في تدهوٍر مُستمِر ، وأنا أعتقد أنها في حاجةٍ ماسة لان نكون أكثر اقتراباً منها .. وأنت تعرف أكثر مني أنّ الفتاة في مثل هذه السن تكون شديدة الحساسية ، وتكون في حاجة مستمرة للدّعم والاهتمام ، وللرعاية ممن هم حولها .. وسنفعل نحن في المدرسة ما نستطيع فعله .. وأراد ان يجنب والدها أي حرج فأضاف :
    أنا اعرف أنك ربما تفعل معها في البيت كل ما تستطيع فعله ولكن سلمى تمر بمرحلة إستثنائية وستحتاج منك للمزيد فهذه سنتها النهائية ، وعلينا جميعاً أن نفعل كل ما يمكننا فعله حتى تستعيد تركيزها ، واهتمامها ، ومستواها قبل انتهاء العام الدارسي وفوات الاوان، فلقد كانت من المتفوقات حتى أنتقلت إلى مدرستنا ، وأنا أعتقد أنّ ذلك الإنتقال لسبب ما أثر بها وبمستواها ...
    مضت فترة من الصمت قطعها جلال قائلاً :
    - أنا آسف أني أتحدث إليك بهذه الحرية ولكن لدى ابنتك الامكانيات الذهنية الكافية لتكون ناجحة في حياتها وليس من العدل أن يضيع ذلك لاي سببٍ مِن الاسباب فأرجو أن تعذرني على صراحتي
    لم يعلق أحمد على كلامه ولكنه سأله قائلاً:
    - هل هناك شيئا آخر علي القيام به ؟
    - فقط أن ترافق سلمى في صباح الغد إلى المدرسة دون أن تذكر لها أي شيء عن زيارتي ، وتقوم بتسديد إشتراك الحافلة في حضورها ، ثم تأخذها الى البوفيه لتضع لها في حسابها مصاريف افطارهذا الشهر كاملةً ، ثم تأتي إلى مكتبي بعد ذلك لنتحدث قليلاً .. أنّ ذلك سيرفع من روحها المعنوية ، ويسعدها الى أقصى درجة ..وسيجعلنا ننتقل للخطوة التي تليه في سهولةٍ ويُسر ..
    - مد أُستاذ جلال يده مودعاً فقال أحمد وقد بدأ التأثر البالغ في نبرة صوته برغم هدوءه الشديد :
    - لا أدري كيف أشكُرك ؟
    ضغط أستاذ جلال على يده وهو يقول :
    - أنا لم افعل شيئا..أنني فقط اؤدي واجبي ..
    - حتى ان كان ما تفعله هو واجبك فانا منذ سنوات طويلة لم أر أحداً يهتم لواجبه مثل إهتمامك هذا ..

    إفترق الرجلان على وعدٍ باللّقاء في اليوم التالي ، فغادر أستاذ جلال السوق متجهاً نحو منزله وهو يسير على قدميه بعد ان أعطى كلّ ما كان معه من نقود لوالد سلمى ولم يُبقِي معه حتى ما يدفع منه أجرة المواصلات ، فلم يكن المبلغ الذي أعطاه له من صندوق المدرسة لان المدرسة لم يكن بها أي صندوق ، ولكنه لم يُرد ان يُشعر الرجل بالحرج فلم يجد بُداً غير أن يختلق ما أختلقه لضمان نجاح الامر .. كان قد عرف كل شيء عن سلمى حتى علاقتها بعثمان فقد رآه يوم سلّمها خطابه ، ورآه بعد ذلك يسير معها فتحرّى عنه في سرية تامة ، وعندما عرف كل شيء عنه أدرك الخطر الكبير المحدق بسلمى ، مثلما أدرك تماماً ان الدافع الاساسي وراء علاقتها به ربما يكون هو وحدتها .. وانشغال والدها عنها .. وسوء معاملة زوجة أبيها لها .. وحاجتها للاحساسِ بالحب والرعاية والاهتمام ، كان يعرف أنّ النُصحَ وحده لن يجُدي نفعاً في مثل هذه الحالات ، لذا فقد سعى ليقطع الطريق على عثمان ، وليوصد كل الابواب في وجه تلك العلاقة ، في ذات الوقت الذي يوفر فيه لسلمى الحب ، والرعاية ، اللّذان تحتاج اليهما حتى تعود الى مستواها الطبيعي وحتى لا تنتهي حياتها بكارثة ، والحافلة لن تترك فرصة لعُثمان حتى يقابلها ويؤثر عليها .. ووجود والدها بقربها ومتابعته لها سيجعل خروجها من المنزل بغير إذنه أمراً مستحيلاً ، كما أنه سيُجنّبها مضايقات زوجته .. هذا غير انها لن تكون - كما يأمل - في حاجة للخروج فهي إن شعرت بحب والدها لها ، ولمست اهتمامه بها ، فربما تنصرف من تلقاء نفسها عن عثمان لانها في ذلك الوقت ستكون قادرة على رؤيته على حقيقته .. وستقاوم ضعفها تجاهه
    كل أمله الآن ، أن يكون والدها قد انتبه الى تلميحه ، وأن يكون قد ترك في نفسه الاثر الذي يرجو .. وأوصل الرسالة التي أراد ان يوصلها اليه ، والا ستذهب كل جهوده أدراج الرياح ..

    (20)

    غادر أحمد السوق بعد أن طلب من أحد زملائه الاهتمام بأمر الحافلة التي يقوم بالعمل عليها ، وأتّجه نحو منزله ، سائراً على قدميه مثلما فعل أُستاذ جلال ليس لان جيبه كان خاوياً من المال ، ولكن لانّه أراد أن يخلو إلى نفسه ويفكر في هدوء .. لقد هزّه حضور الأستاذ جلال ، ولامس حديثه شغاف قلبه وأثار الكثير من القلق في نفسه ، فشعر بالذّنب تجاه ابنته ، ودارت عشرات الاسئلة في ذهنه .. أالى هذا الحد بلغ أهماله لابنته وتقصيره في حقها ؟
    ايكون هذا الاستاذ الذي هو مجرد مدرس لها أكثر منه اهتماماً بها ، وحرصا عليهاً ، واكثر فهما وادراكا لما تحتاجه ولما تمر به ؟
    إنه في حقيقة الامر لا يكاد يعرف عنها شيئا فهو نادراً ما يتحدث إليها ، ونادرا ما يسألها عن دارستها أو عن أي شيء يخصها .. بل هو يكاد لا يلتقي بها ، فكيف يعرف إن كانت تعاني أو إن كانت لا تعاني ؟
    إنه لا يعرف كيف تأكل .. ولا كيف تنام .. ولا أين تذهب .. ولا متى تعود وهي ليست من النوع الذي يشتكي أو يتضجّر .. لقد أوكل أمرها بالكامل لزوجته التي عارضت دراستها منذ البداية وطلبت منه ان يقوم بتزويجها لاي شخص حتى تتخلص منها .. زوجته التي كانت في اللحظات النادرة التي يسألها فيها عنها تُخبره أنها في أحسن حال ... وأنها تفعل المستحيل لتوفّر لها الجوّ المناسب للدرس والتحصيل .. وأنها لا تبخل عليها بأي شيء .. ترى هل تخبره زوجته بالحقيقة ؟؟
    هل حقا ًتوفر لها الجو المناسب ، وتفعل المستحيل لاجلها ، ولا تبخل عليها بشيء ؟؟
    ان كان ما تقوله له صحيحاً فلماذا يقول أستاذها ان مستواها تدهور الى أسوأ حد ؟؟
    ولماذا سعى ليوفر لها مصروف افطارها الذي كان يتركه معها لتعطيه لابنته ؟ أتُرى ان زوجته ما كانت تعطي إبنته مصروف افطارها ، وتتركها تمضي النهار كلّه دون طعام ، ودون شراب ؟؟

    ثم ما الذي يلمح له استاذها في حديثه عندما قال إنّ الحافلة ستُجنبها أي مضايقة قد تتعرض لها في الطريق ؟؟ من الذي يضايقها ؟؟ ومن الذي يتعرض لها ؟؟ هل كبرت إبنته وهو لا يدري ؟؟ هل وصلت الى العمر الذي تتعرض فيه إلى المضايقات وهو مشغول عنها ، غافل عن الاهتمام بها ؟؟ تاركاً أمرها كله لزوجته ؟؟ كان يمشي وهو يستعيد كلام أستاذ جلال في ذهنه كلمة كلمة ، ومع كل كلمة كان يشعر وكأن هُناك غشاوة تزول من على عينيه شيئاً فشيئا ..
    لقد أهمل إبنته .. وتجاهلها .. وهي لا تستحق منه ذلك .. فهي إبنته الوحيدة من زوجته الحبيبة التي تناساها مع الأيام لقد إنشغل عنها لوقتٍ طويل وعليه مثلما قال أُستاذها أن يستدرك خطؤه والا فان إبنته ستضيع منه الى الابد، سيقوم منذ اليوم بمتابعتها وسيهتم بكل شئونها بنفسه .. سيمنحها كل ما تحتاجه من وقت ، ومن اهتمام ، حتى وان اضطر إلى أن يترك كل شيء اخر ....

    وصل إلى البيت قبلَ صلاة العشاء بقليل ... طرق الباب المُوصد فسمع صوت ركض الصبيين باتجاه الباب ليقوما بفتحه ولكنّه سمع صوت زوجته تخاطب ولديها قائلة في لهجة آمرة :
    - إياكُما أن تفتحا الباب .. دعوها تنتظر ..

    أدرك أنّ زوجته تتكلّم عن سلمى فلم يتكلّم ووقف جامداً ، طال إنتظاره والدم يغلي في عروقه ، فطرق الباب مرة أُخرى فسمع صوت زوجته تصرخ في ضجر :

    - لا تطرُقي لقد سمِعنا .. إنتظري حتى نفتح لك ، ثم سمعها تسب وتعلن فواصل انتظاره دون ان ينبث ببنت شفة ، ومرّ وقت طويل وهو واقف في مكانه دون ان يفتح الباب ، اترى زوجته تتعمد الاساءة إلى ابنته إلى هذه الدرجة وهو لا يدري أو هو لم يكن يريد أن يدري ؟؟ أتراها تتعمد ازلالها والإنتقام منها دون ذنب أو جريرة ؟؟ لقد كانت متضايقة عندما أنتلقت سلمى للعيش معهم ولكنه اعتقد أن ضيقها شيء عابر من الممكن أن يصيب أي أمراة تضطر لاستضافة أبن زوجها أو أبنته في بيتها ، وان ذلك الضّيق أنتهي مع الوقت.. لقد عارضت في شدة إستمرار سلمى في الدراسة بحجة ان الظروف المادية لا تسمح بذلك .. أتراها لهذا ما كانت تعطيها المصاريف التي يتركها لها لتشتري بها طعام إفطارها حتى لاحظ أساتذتها ذلك فاتاه احدهم ليقدم لها المساعدة ؟؟ أتحتمل سلمى كل ذلك دون ان تشتكي ودون أن تتذمر ؟؟ وأين ابنته الآن ؟؟ لم هي خارج المنزل ؟؟ أين هي ؟؟ ومع من ؟؟ أتراها تخرج كل يوم دون أن يدري ؟؟ وإلى أين تذهب ؟؟ أترى زوجته تضايقها حتى تضطرها للخروج من المنزل لتهيم في الشوارع والطرقات ؟؟ وأجتاح كيانه غضب عارم فوجد نفسه يضرب الباب بكلتا يديه وهو يصيح بصوت عال للمرة الاولى في حياته :
    أفتحي الباب يا أمراة .

    لم تكن زوجته تتوقع حضوره في ذلك الوقت ، وسمعت صوت صيحته الغاضبة فأسرعت تركض نحو الباب وتفتحه وقد اعتراها الخوف والخجل وهي تتمتم في كلمات متلعثمة مرتجفة من هول المفاجأة :
    - لم اكن أعرف أنك أنت الذي يطرق الباب لقد اعتقدتك شخصا آ .. آ .. آخر ...
    خطا الى الداخل وهو يسألها وامارات الغضب بادية على وجهه :
    - أين سلمى ؟؟
    شعر بارتباكها الشديد وهي ترد :
    - سلمى لا ... لا أعرف هي ليست في المنزل ولا أدري اين ذهبت ..

    وفهِم هو كل شيء .. أدرك كيف تعامل زوجته ابنته اليتيمة التي ائتمنها عليها ، وأدرك مقدار الخطأ الكبير الذي ارتكبه ، وأرتسم وجه سلمى الحزين أمام عينيه بألمه ومعانته اللتان لم تفصح عنهما يوماً فشعر بعظم جرمه ، إنه لم يشعرها منذ ان انتقلت للعيش معه .. لم يشعرها بقربه منها.. أوباهتمامه بها لذا لم تجد في نفسها الجرأة لتشتكي إليه وأحتملت المعاملة السيئة التي تتلقاها صامتة صابرة !! ما الذي اصابه ؟؟ أشغلته لقمة العيش والركض وراء توفير ضروريات الحياة عنها فنسيها ، ونسى والدتها التي تركتها أمانة في عنقه بعد ان ماتت وهي في ريعان شبابها ؟
    ولماذا يقضى كل وقته خارج المنزل ، أترى العمل هو السبب الوحيد أم تراه كان يفر من إحساسه بالذنب بسبب عدم إحساسة باي عاطفة تجاه الصبيين ، وبسبب الضيق الشديد والنفور الغريب الذي يشعر به تجاههما ؟
    اين ابنته الآن ؟؟؟ مع من ؟؟ وفي أي مكان ؟؟ اتراها خرجت تبحث عن الكلمة الطيبة ، وعن الاهتمام الذي لم تجده منه عند شخص آخر ؟؟
    أتراها تفر عادة من البيت ومن مضايقات زوجته لتقضي بعض الوقت في الخارج ؟؟؟ اتراها قد ضاعت دون ان يشعر ؟؟ ام تراه سيدركها قبل أن تضيع ...
    وجلس ينتظر حضورها وقد بلغ منه القلق كل مبلغ .. وسيطرت عليه الهواجس والظنون والالام .

    (21)

    في الوقت الذي افترق فيه كل من أحمد وأستاذ جلال وذهب كل منهما باتجاه منزله ،كانت سلمى تغادر الحيّ جالسة في هدوءٍ على المقعد الامامي لسيارة عثمان ... لقد أصبح ركوب السيارة امرا عاديا لا يسبب لها ما كان يسببه في بدايته من خوف ، ومن اضطراب ، ووجل فقد الفت الامر حتى أصبح عندها امرها طبيعياً لا تستنكره ، ولا تتردد في فعله ، وبينما كانت تتابع المناظر التي تتوالى من نافذة السيارة في سرعة ، كان عثمان يشعر بالرضى في أعماقه ، و باللّهفة تجتاح كيانه كلّه ، فاليوم سيراها كما رأى الكثيرات قبلها ، سيراها في أقصى لحظات ضعفها واستسلامها له ... وبعد أن ينتهى كل شيء سيرى دموعها وانكسارها .. ستصبح منذ اليوم مِلكه وطوع بنانه .. لن يحتاج للتحايل عليها ولن يحتاج لانتظارها أوخداعها... سيطلبها متى ما أرادها ، وستلبي النداء وتطيع، سيستمتع بها فترة من الزمن حتى يملّها ، ثم يتركها ليبحث عن غيرها ، وعندها سيتبدل الحال تماماً ، فستبدأ هي في الركض خلفه والبحث عنه .. وستقضى الساعات الطِّوال في انتظار رؤيته ، هذا إن تفضل هو عليها بالرؤية .. لشد ما أتعبته وأخذت من وقتهِ ..

    رمقها بنظرة جانبية وهو يهمس في نفسه إنها تستحق كل ما أخذت من وقت ، ومن جهد فهي آية من آيات الفتنة ، والجمال ، والصبا .. في ملامحها براءة محببة ... وفي حديثها رِقة عجيبة ... وفي عينيها ظمأ قتالٌ للحنين ... وفي جسدها الصبي أنوثة لم ير مثلها قبل ذلك برغم تعدد علاقاته النسائية وتنوعها ... إنها تستحق أن ينتظر ليس شهوراً فقط لاجل أن ينال منها ، ولكنها تستحق ان ينتظر عمرا باكمله فهي تختلف اختلافاً كبيراً عن أي فتاة عرفها من قبل وعلى أية حال لم تذهب جهوده سُدى فها هو انتظاره قد أثمر و سيقطف بعد قليل ثمرة جهده ، وينال نتيجة تعبه ، فهي لن تستطيع اليوم أن تدفعه عن صدرها كما كانت تفعل في السيارة .. ستسكرها النشوة التي سيسكبها فوق شفتيها الشهيتين .. وستشلها النار التي يعرف جيداً كيف يشعلها في جسدها خلال دقائق معدودات فلا تستطيع ان تقاومها .. لقد أدرك من خلال إستسلامها له في الايام السابقة أن الرّغبة أصبحت تتملكها تملكاً تاماً ، وان فورة الدم باتت تسيطر عليها سيطرة كاملة تجعلها تذوب بين يديه ، ولولا أنهما كانا يلتقيان في مكان عام لما أستطاعت أن تصده عنها ولاستطاع في الأيام الاخيرة أن ينال منها كل ما يريد ... تابعت عينيه الطريق وهو يتخيل منظرها في طريق العودة فملات أبتسامته الصفراء وجهه كله ..

    كان عثمان قد أخبر سلمى قبل ان يفترقا في اليوم السابق أنه يعد لها مفاجاة ، وأنه سياخذها اليوم الى مكان هاديء ستسر بوجودها فيه تماماً ، وعندما لم تبد أي اعتراض أوصلها إلى المكان المعتاد ، وأتجه مباشرة ناحية الطرف الشمالي من المدينة ... وفي أحد الاحياء الهادئة في تلك المنطقة ، توقّف أمام مبنى ضخم يتكون من عدة طوابق ...

    كان ذلك المبنى مقراً لاحدى الوزارات الحكومية في السابق ، كان مبنىً قديماً يلفّه السكون ، ويحيط به الظلام الا من غرفةٍ صغيرة ، تقع في الناحية الغربية بجوار البوابة الريئسية الضخمة ، نزل عثمان من السيارة ، وأتجه نحو تلك الغرفة ، و طرق بابها عدُّة طرقات فخرج إليه رجل طويل القامة .. عريض المنكبين .. نحيل الجسد .. تمدد شاربه الضخم في إهمال حتى جاوز صدقيه ، فاظهر التناقض التام بينه وبين الوجه النحيل الذي ينبت فوقه ، فكأن الوجه كان يتغذي من جسد .. والشارب يتغذى من جسد آخر .. كان الرجل يرتدي جُلباباً قديماً إنكمشت أطرافه حتى أبرزت ساقيه النحيلتين ، ومعصميه المعروقين .. وكان يرتدي فوق الجلباب صديرياً بنياً ، ويضع فوق رأسه طاقية حمراء اللون أمالها ألى الامام بطريقة مُضحِكة حتى غطت حواجبه الكثيفة غير المنتظمة ، وبرغم أنه كان في أواسط الخمسينات من عمره إلا أنه بدأ وكأنه يناهز السبيعين عاما ، سلّم الرجل على عثمان في حرارة ، ودعاه للدخول فدخل .

    كان ذلك الرجل هو الحارس الذي يقوم بحراسة المبنى منذ عدة سنوات ... كان قد تعرف على عثمان في وقت سابق ، عندما تسلل عُثمان في إحدى الليالي المظلمة إلي حديقة المبنى الخلفية ، بعد أن عثر عن طريق الصدفة على صيد لم يكن قد خطط للحصول عليه ، ولكن ذلك الحارس أمسك به هو المرأة التي كانت معه بالجرم المشهود قبل ان يستطيعا الفرار، ولم يصدق الحارس عندما أخبره عثمان أن والده هو علّام عثمان المسئول الكبير في الحكومة ، وأنه سيعرض نفسه للاذى ان لم يترُكهما يذهبان ، ولكنه مع ذلك خشي أن يكون عثمان صادقاً فيتسبب لنفسه بمشكلةٍ لن يكون في إستطاعته أن يتحمل تبعاتها فأغتنم الفُرصة ، وقبل المبلغ الكبير الذي قدمه له عثمان ، وسمح لهما بالإنصراف وهو يشعر أنه تخلص من عبء كبير في ذات الوقت الذي حصل فيه على مبلغ سيساعده في حل الكثير من مشاكله .
    ولكن عثمان عاد في اليوم الثاني وعرض عليه مبلغاً آخر يتقاضاه منه نهاية كل شهر في سبيل أن يقوم بتجهيز المكان ، وبمهمة المراقبة في كل مرة يأتي فيها عثمان بصحبة إمراة ، أو فتاة ، حتى يقضي حاجته وينصرف ، ولان الرّجل كان في أمس الحاجة إلى المال فالراتب الضيئل الذي يتقاضاه مقابل عمله لم يكن يفي بابسط احتياجات أسرته التي تركها خلفه في قريته ، والتي لا يستطيع الذهاب الى زيارتها الا كل ستة أو سبعة اشهُر واحياناً الا كل عام بالرغم من ان القرية لم تكن تبعُد الا ساعات معدودة ، ولانه خاف ان يتسبب له عثمان في مشكلة تبعده عن عمله إن رفض طلبه فقد وافق بدون تردد ، ومنذ ذلك اليوم أصبح ذلك المبنى هو المكان المُفضّل الذي ينال فيه عثمان رغباته ، و شهواته ، بعد أن قام بتجهيز غرفة في الدور الاول منه ، وفرشها باحدث أنواع الأثاث ...

    كان عثمان يستخدم تلك الغرفة عندما يأتي بامرأة أو فتاة تكون علاقته قد توطدت بها حتى أصبح دخول المبنى أمراً طبيعياً بالنسبة اليها ، أما حينما ياتي بواحدة تأتي معه للمرة الاولى إلى ذلك المكان فقد كان يلجأ الى الحديقة الخلفية المُهملة فالتجربة قد علمته أن دخُول إحداهن إلى داخل المبنى من المرة الاولى هو أمر شبه مستحيل ، بالرغم من أنه يصبح بعد ذلك أمراً سهلاً ميسوراً ، فمعظم اللائي كُنّ يأتين لاول مرة ،كنّ يأتين غير مُدرِكات لما سيحدُث بالضبط معتقِدات أنهنّ سيقضين وقتاً جميلاً ، وأنهُنّ في وقتٍ مُعين سيتمكّنّ من إيقاف كل شيء ، والعودة من حيث أتين دون أن يخسرن كثيراً ، لم يكن في مقدورهنّ أن يتخلينّ سطوة الغريزة التي ستتغلغل في ذرات أجسادهنّ وتجلعهنّ فريسة للرغبة فيفقدن كل مقاومة ، ويستسلمن له يفعل بهنّ ما يشاء ، ولم يكُنّ يعرِفن وحشيته والمدى الذي يمكن أن يصل اليه أن حاولنّ صده أو ردعه ، لذا كان عثمان دائماً ما ينال شهوته في المرة الاولى في ظلام الحديقة ، بين الأشجار الضخمة ، والاعشاب الطويلة المهملة ، حتى أصبح يجد لذلك في حد ذاته لذة عجيبة ..
    وبعد فترة وجيزة خرج عثمان من تلك الغرفة وهو يحمل في يده مفتاحاً صغيراً ويصفر بشفتيه لحناً مرحاً .. كان قد رتب الامر مع حارس المكان بعد أن نفحه مبغاً طيباً ...

    ***
    توقف عثمان بسيارته على مسافة قصيرة من البوابة الخلفية التي تقع على شارع صغير يفصل بين خلفية المبنى وخلفية أحد المشاتل التي تعمل في تجهيز الشتول التي ُتحمل بعد ذلك لتباع في مكان آخر.. كان اتساع الشارع لا يتعدي مترين ، أما طوله فقد كان حوالي العشرين متراً ولانه كان مغلقًا في نهايته فقد تجمعت فيه مُختلف أنواع الاوساخ ، وتراكمت ، حتى كاد أن يمتليء عن آخره باكياس النايلون ، وأوراق الجرائد ، وبكل ما يستطيع الهواء أن يحرّكه من مكان الى مكان ... كان عُثمان مُطمئناً إلى أن كل شيء يسير على ما يرام فنزل ، وطلب من سلمى النزول ، ولكنها عند البوابة الصغيرة التي قام عثمان بفتحها بالمفتاح الذي أخذه من الحارس في الليلة السابقة ترددت كثيراً وقد شعرت برهبة المكان ووحشته ... أنقبض قلبها ، وطال وقوفها وهي تفكر في الرجوع وتفكر في الوقت نفسه في غضب عثمان منها إن هي رفضت الدّخول .. وأدرك عثمان ما يدور بذهنها وخشى أن يدفعها خوفها إلى إصرارها على العودة ، فخاطبها قائلاً في نبرة حملها شيئاً من الضيق:

    - إن وقوفك هكذا سيلفت الينا الأنظار فاما أن تدخُلي ، واما أن نعود من حيث اتينا إن كنت تخافين من الدخول .
    شعرت بنبرة الضيق في صوته فتغلب خوفها من إغضابه ، على خوفها من المكان المظلم الموحش فسألت في إضطراب :
    - ولكن ماذا لو أتى أحد ووجدنا بالداخل ؟
    - لم يجد بداً من أن يكذب عليها فقال لها :
    - إنّ هذا المكان ملكٌ لنا ، وأبي مسافر ، وكل المفاتيح معي ، و لا أحد يأتي إلى هنا غيري وحتى لو أتى أي أنسان فلن يستطيع الدخول لاني ساغلق البوابة من الداخل بعد أن ندخل ..
    صمت برهة ثم قالت :
    - سأدخل بشرط أن لا نتأخر ..

    أرتسمت على شفتيه إبتسامة خبيثة لم تستطيع رؤيتها بسبب الظلام الذي يسود المكان ثم أردف يقول :
    - لن نتاخر .. سنقضي وقتاً قصيراً جميلاً ثم نعود .. وأراد ان يحسم الامر فخطا إلى الداخل تاركاً الباب مفتوحاً من خلفه ... تبعته وهي تقدم رجلاً ، وتؤخر أخرى ، تتلمس طريقها في الممر الضيق المعشب المعتم ... كانت تتصارع في داخلها رغبتان ، الاولى تحثها على الدخول ، والثانية تحثها على الرجوع من حيث اتت ، ومغادرة المكان بأسرع ما يمكنها.. قطع عليها حبل أفكارها صوت عثمان وهو يقول
    - ساغلق البوابة ...
    - لمس جسده جسدها وهو يمر بجانبها و يعود ليغلق البوابة فأرتعشت ... وسمعت صوت المزلاج الحديدي ثم شعرت بعد برهة بعثمان يمسك بيدها ، ويضغط عليها في رفق ، ويرفعها إلى فمه ويقبلها فشعرت بالتيار الكهربائي المعتاد يسري في جسدها .... وشعر عثمان بارتعاشها فوضع يده اليسرى خلف ظهرها ، وأمسك يدها اليسرى ، ووضعها خلف ظهره ، وسار بها الى الداخل .. وفي كل مرة يلامس كتفه صدرها وهما يدخلان ، كانت تشعر أن رغبتها في الدخول تزداد شدة وضراوة ، وأن ذلك الصوت الخافت في داخلها والذي يحثها على الرجوع والعودة من حيث أتت يزداد خفوتاً ... وأصبح المكان أطول عشباً .. وأكثر اغصاناً .. وأشد عتمةً فتوقفت وهمست قائلة:
    - أنا خائفة ..
    كانت تلك المرة الأولى في حياتها التي تدخل فيها إلى مثل هذا المكان فكان من الطبيعي أن تخاف ، وكانت كثرة تجارب عثمان قد علمته كيف يتصرف في مثل هذه المواقف ، كان يعرف أن الطريق الوحيد لجعلها تنسى خوفها وأضطرابها ووجلها هو أن يسرع - دون تهور - في إشعال غريزتها ، وتحريك رغبتها ، وجعلها تتغلب على تفكيرها فألتفت إليها وقال في هدوء وهو تصنع الرقة واللطف :

    - تعالي لنجلس قليلاً قبل أن يمضي الوقت سريعاً ويحين وقت الأنصراف .... جلسا ملتصقين على أحد المقاعد الخشبية القديمة فأخذ يدها بين يديه ، ومضى يداعب أناملها وهو يتحدث إليها عن حبه لها ، وعن مستقبلهما معاً حتى هدأت قليلاً .. ثم لم تدري ما حدث بعد ذلك فقد وجدت نفسها بعد برهة مستلقية على العشب مستسملة لكل ما يفعله بها ، ماتت مقاومتها تماما وبلغ ضفعها اقصى درجاته وهو يجردها من ثيابها قطعة قطعة واصبح ذلك الصوت الواهن في داخلها والذي يامرها بالنهوض اوهن من ان تسمعه فقد اصمت الرغبة المحمومة اذنهيا ، فلبثت تنتظر في ولهِ إنطفاء النار المشتعلة في كل ذرة من ذرات جسدها ، وسمعت صوتة عروة حزامه المعدنية تنفتح فايقنت بان الريح ستعصف ، وبان البرق سيعصق ، وفجاة خيل إليهما معاً كانهما سمعا صوتاً ينادى في نبرة صارمة :

    - من هناك ؟؟ تكرر النداء في سرعة ووضوح .. من هناك ؟ .. من هناك ؟ وأستيقظت حواسها دفعةً واحدة عندما قفز عثمان من فوقها كمن لدغته عقرب وهو يلتفت في سرعة إلى مصدر الصوت ، و رأى عثمان شبحاً بين الاشجار فطار قلبه خوفاً ، فأنطلق راكضاً نحو البوابة الخلفية ، تاركاً سلمى من ورآئه تحاول أن تلف ثيابها حول جسدها العاري وهي تنهض راكضةً في اثره , مصطدمة بفروع الأشجار الطويلة .. متعثرة في الاحواض المهملة منذ زمن بعيد والخوف يكاد يقتلها ... لا تدري كيف استطاعت أن ترتدي جُزءاً مِن ثيابها ، ولا تدري كيف أستطاعت أن تخرج .. كان عثمان قد سبقها ، وفتح الباب ، وتركه مفتوحاً ، وعندما خطت خارج المكان كان موتور سيارته يدور ، وأنوارها تشتعل ، كان عثمان يريد أن يفر وحده ويتركها لتواجهة مصيرها ؟ ولوهلة فكرت في الركض إلى الاتجاه المعاكس إلا أن ضوء المصباح اليدوي الذي يلاحقها ، وصوت خطوات الرجل من خلفها جعلاها تركض نحو السيارة بكل قوتها لتفتح الباب ، وتلقي بنفسها داخلها في آخر لحظة قبل أن ينطلق بها عثمان في سرعةٍ رهيبة وصوت عجلاتها يصر صريراً مزعجاً ..

    أبتعدت السيارة مسافة كافية وشعر عثمان بشيء من الاطمئنان فألتفت إلى سلمى وقال :
    - لا أعرف من هذا الرجل ، ولا أعرف ما الذي جاء به .. ولا من أين جاء... أين ذهب ذاك الكلب محمود ؟؟ وكيف سمح لهذا الرجل بالدخول إلى هناك ؟؟ فلينتظر .. عندما أعود اليه في الغد سألقنه درساً قاسياً لن ينساه طوال حياته فلقد أفسد علينا كل شيء .. ولم ترد عليه سلمى !! كانت قد وضعت وجهها على ركبتيها بعد ان أكلمت إرتداء ملابسها وأنخرطت في بكاءٍ صامت وجسدها يرتعش ، وقلبها يتمزق من شدة الخوف .

    لم يكُن عثمان يعرف أنه بعد أن غادر الحارس في الليلة السابقة جاء للحارس من يخبره أن ابنته في حالة سيئة ، وأنه تم نقلها الى إحدى المستشفيات القريبة من قريته لعلاجها ، فأسرع يستدعي أحد إصدقائه ليحل محله حتى يعود ، وأنه في غمرة إنشغاله ، وقلقه ، وخوفه ، نسى أمر عثمان تماماً ..

    ولم يكن محمود الذي قبل أن يقوم بمهمة حراسة المكان يعرف شيئاً عن عثمان ، ولا عن علاقته بصديقه الذي حلّ محلّه ، ولا عن إتفاقه معه ، لذا عندما خيل اليه أنه يسمع أصواتاً خافتةً تأتي من ناحية الحديقة الخلفية ، تجاهلها في بداية الأمر ظناً منه أنها أصوات هواجسه ومخاوفه فقد كانت تلك المرة الأولى التي يقضي فيها ليلة كاملة لوحده في مثل هذا المكان الموحش المعزول ، و أزداد الصوت وضوحاً فحاول أن يقنع نفسه أنها ربما تكون إحدى القطط السائبة التي تحاول التسلل إلى أعشاش الطيور على قمم الاشجار العالية ...

    كان لا يريد الدّخول إلى الحديقةِ المُهملة فتجاهل الصّوت تجاهلاً تاماً ، ولكن فجأة خُيل اليه أنه يسمع صوت شخص يتأوه فأرهف السمع ، وتقدم نحو الحديقة في خطوات بطيئة ، متردِّدة ، صامتة ، وأقترب من منطقة الاشجار في هدوء ، وأزاح عدداً من الاغصان المتشابكة ، ونظر من خلالها فأصابه الفزع ، لقد رأى شبح شخصين يتحركان على الأرض ، فأزاح مزيداً من الاغصان ليتأكد أنه لا يتخيل ، ورغم أن المكان كان شبه مظلم إلا أنه أستطاع أن يرى شبح شخصين أحدهما مضطجع على الأرض ، والآخر من فوقه ، فأصابه ذهولٌ أفقده رشده ، وخوفٌ أضاع صوابه ، فقد ظنّ ان أحدهما يحاول قتل الاخر فصرخ ينادي في فزع من هناك ؟؟ من هناك ؟؟

    ثم رأى شبح عثمان يهب واقفاً فركض في سرعةٍ ، وخوف ، وارتباك نحو الغرفة ليأتي بالمصباح اليدويّ ليرى ما الذي يحدث ، كان خائفاً إلى أقصى حد فأستغرق وقتاً طويلاً وهو يبحث عن الكشاف اليدوي ، وعن أي شيء يستخدمه كسلاح ، ولولا ذلك لما أستطاعت سلمى ان تخرج في الوقت المناسب ، وتفر من دون أن يمسك بها .. وعندما عاد ، وسلط ضوء الكشاف ، وبحث في الحديقة كانت سلمى تخطو آخر خطواتها نحو الباب الخلفي فرآها وفهم كل شيء ، و عندها تحول خوفه إلى غضب عارم جعله يركض خلفها وهو يلعنها ، ويسبها ، باقذر الألفاظ ولكنه عندما تجاوز البوابة الصغيرة ، التي تقع على الشارع الخلفي كانت عجلات السيارة تصر مغادرة المكان.. فوقف ينظر إليها وهي تبتعد محاولا التقاط أنفاسه التي أضاعها الخوف ، والاثارة ، والركض ...

    اقترب عثمان من الحارة ولكنّه قبل أن يصل الى المكان الذي اعتادت سلمى على أن تنزل فيه طلبت منه أن يتوقف فردّ عليها قائلًا :
    - ولكننا لا نزل بعيدين قليلاً عن المكان ..
    ردت سلمى في إصرار:
    - أرجوك توقف ، وتوقف عثمان فمدت يدها تفتح الباب فبادرها قائلاً :
    - سنلتقي في الغد ... سنذهب إلى مكان آخر ...
    وغادرت السيارة وأسرعت باتجاه البيت دون ان ترد عليه ... محاولة أن تُسيطر على دموعها التي تسيل على خديها .. وآلاف الأفكار، والمخاوف ، والتساؤلات ، تدور في رأسها ...

    (22)

    مرّ الوقتُ في بُطءٍ شديد وأحمد والد سلمى يقطع أرض الحوش جيئة وذهاباً .. تارة يمدّ رأسه ينظر من فوق السور .. وتارة ينحني لينظر من ثقب المفتاح .. وتاره يجلس على الكرسي الحديدي القديم وهو يضرب الأرض بأرجله في توتر ملحوظ .. وتارة يدخل إلى غرفة سلمى التي ما كان يدخلها في السابق الا عندما يكون هناك ضيف في المنزل ، لينظر إلى فراشها البالي ، وإلى خزانة ثيابها الصغيرة العتيقة و سؤال واحد يطن في رأسه فيجعله يغلي من الخوف ، والغضب ، والقلق ، أين ابنته الآن ؟؟ ومع من ؟؟ وخُيل إليه أن دهراً بأكمله قد انقضى قبل أن يسمع طرقاً خفيفاً على الباب فأسرع إليه يفتحه ؟؟ كان عازماً قبل ان تأتي على ان يعرف أين كانت ومع من !! ولماذا خرجت !! ومن أين عادت ؟؟ ولكنه عندما فتح الباب ورأي أثر الدمع في عينيها الحزينتين ، وسمع صوتها الرقيق يهمس في ودهشة وتساؤل :
    - أبي ؟؟ ..
    ورأى الخوف ، والذعر ، اللذين ارتسما على وجهها لرؤيته ، كتم كل تساؤلاته في داخله فقد سيطرت عليه حالة من الاشفاق ، والعطف ، جعلته ينسى غضبه ، وحنقه ، فتركها تذهب إلى غرفتها دون أن يوجه إليها سؤالاً واحداً .. ولكنه أدرك ان الأمر أكبر مما تصوره فأزداد ندماً ، وذهب إلى غرفته وأضطجع على فراشه يتقلب تقلب المقرور دون أن يغمض له جفن ،

    أمّا سلمى التي أذهلتها المفاجاة التي لم تكن تتوقعها عندما فُتح الباب سريعاً وأطل من وراءه وجه أبيها فقد أرتمت على سريرها والخوف يلجم لسانها ويكاد يجمد الدم في عروقها ، ودهمتها الهواجس فمضت مخاوفها تكبر وهي تفكر ، أترى والدها قد عرف بأمرها ؟؟
    وما الذي أتي به اليوم في هذا الميعاد الذي لم يأتي فيه من قبل أبداً ؟؟
    ولماذا كانت نظرته اليها وهو يفتح لها الباب نظرة متسائلة غاضبة ؟؟
    أترى ذلك الرجل الذي طاردها هي وعثمان قد رآها وعرف شكلها ؟؟
    أم أن الظلام لم يمكنه من رؤيتها ؟؟
    أتراه سيُخبر الشّرطة فتكون فضيحتها على كل لسان ؟؟ ألم يقل لها عثمان من قبل أنه لن يعرضها إلى أي خطر ؟؟ ألم يقل لها أن المكان يخصه ويخص أبيه وأن لا أحد غيره يستطيع أن يدخله ؟
    كيف دخله ذلك الرجل إذاً ؟؟ أتراه كان يكذب عليها فيما مضى مثل ما كذب عليها اليوم ؟؟ وماذا كان سيكون مصيرها إذا لم يأت ذلك الرجل ؟؟
    وماذا كان سيكون مصيرها لو أنه أمسك بهما ؟؟
    ولماذا كلما خلا عثمان بها يتحول أهتمامه كله إلى جسدها وصدرها ، وشفتيها ، هل ذلك كل ما يريده منها ؟؟ وماذا كان يريد أن يفعل اليوم بعد أن إستجابت لرغبته ، وذهبت معه إلى حيث يريد ؟؟ ماذا كان في نيته أن يفعل بعد أن ضعفت وأستسلمت له تماماً ؟؟ أتراه ما كان سيتوقف إلا بعد أن يسلبها أعز ما تملك ؟؟

    أترى ان تلك فقط هي غايته من علاقته بها ؟؟ هل عثمان يحبها حقاً ؟؟ لا هو لا يحبها ولكنّه يحب جسدها ، وهي تشعر بذلك وتعرفه مثلما تعرف الاجابة على كل الاسئلة التي تسألها لنفسها ، فلماذا لا تتركه طالما أنه لا يحبها وطالما أنها تشعر أنه لا يريد منها إلا جسدها ؟؟

    لماذا لا تقاوم حاجتها له ؟؟ ولماذا تضعف أمامه كل ذلك الضعف ؟؟ لا تعرف .. وحتى الآن وهي على يقين من أنه اليوم ربما كان سيحوّلها الى أمرأة أخرى إلا أنها غير واثقة إن كانت قادرة على أن تخرجه من حياتها وتستغني عنه .. أتحبه كل هذا الحب ؟؟ اقد تعلقت به الى هذه الدرجة ؟؟ ولماذا ؟؟ أتهواه إلى الحد الذي يجعلها تمنحه نفسها أن لم يكن هناك من سبيل غير ذلك ليبقى بقربها ؟؟

    ويحها وويح نفسها ... ومضى من الليل شطره الأكبر فسمعت صوت خطوات وئيدة تقترب .. وظلت تنتظر وعيناها تحدقان في الظلام فرأت شبح والدها يقترب من فراشها فأغمضت عينيها وقد تملكها رعب رهيب ، ولكنّها شعرت بيده تسحب غطاؤها فوق جسدها في رفق ، ثم شعرت بشفتيه الدافئتين تطبعان قبلة حانية على خدها ... كان يظنها نائمة ... وكانت تلك المرة الاولى التي يغطيها فيها أنسان منذ سنوات طويلة ، وكانت المرة الأولى التي يقبلها فيها والدها منذ زمن بعيد ، وحاولت أن تتمالك نفسها لكنها لم تستطيع ، فما كاد أبيها يصل إلى عتبة الباب حتى أرتفع صوتها بالنحيب فأسرع عائداً اليها وضمها إلى صدره ، ودمعه يسيل على خده ، وهو يشعر أنّ يداً قاسية تعتصر قلبه

    ***
    أشرقت الشمس وحان ميعاد الذهاب إلى المدرسة ، ونهضت سلمى لتغتسل ، فسمعت صوت والدها يتحدّث إلى أحد الصبيين فلبثت مكانها تنتظر حتى يخرج .. لم تكُن تريد أن تقابله ، فقد كانت لا تزال خائفة من أن يكون قد عرف شيئاً عن موضوع الأمس ولكنّ الوقت مر سريعاً فلم تجد بُداً من الخروج وجدت الحوش خالياً فدخلت إلى الحمام ، وأغتسلت ثم عادت مُسرعة إلى غرفتها و أكملت إرتداء ملابسها ، ووقفت تربط طرحتها حول رأسها من دون أن تُمشط شعرها ، وهي تدعو في سرها أن لا يقابلها أحد وهي تخرج ، ولكنّها سمعت صوت والدها ينادي عليها فخرجت بقلب واجف مرتجف وجدته جالساً على أحد الكراسي الحديدية القديمة وأمامه طاولة وضع عليها براد الشاي ومجموعة من الكاسات الفارغة ، وبجواره جلس الصبيين يتناولون شاي الصباح .. جلست على الكرسي الوحيد الخالي دون أن تنطق ، و شعرت بشيء من الاطمئنان حينما صب لها كأس الشاي وقدمه لها بيده ، رشفت رشفة وهي ترمقه خِلسة متسائلة عن سر أهتمامه بها منذ الامس ؟ وعن تغاضيه عن سؤالها عن المكان الذي ذهبت اليه ؟ بالتاكيد هو لا يعرف أين كانت والاّ لما عاملها كما يعاملها الآن .. ولكن هل تراه سيعرف ؟؟ وماذا لو عرف ؟ ماذا سيكون موقفه منها حينئذ ؟؟
    أتراه كان سيضمها الى صدره كما فعل ليلاً ؟؟ أتراه سيتحدث اليها ويقدم اليها الشاي بيده كما يفعل الآن ؟؟ وكيف ستنظر هي في عينيه مرة أخرى إن عرف بعلاقتها بعثمان ؟؟
    وشعرت بخجل شديد من نفسها ..
    لم تعرف كيف أنتهت من شرب كأس الشاي فهبّت واقفة لتنصرف فقام والدها معها ، وسار إلى جوارها وهو يقول لها :
    - سارافقك اليوم إلى المدرسة ..

    لم تستطيع أن تسأله لِمَ سيذهب معها اليوم ، ولكن عاد الرعب يسيطر عليها وعاد خوفها - من أن يكون سبب ذهابه معها هو ما حدث بالامس في الحديقة – يتملكها ، وفتح والدها الباب فرأت عثمان واقفاً ينتظر خروجها فتجمّد الدم في عروقها ، وسألت الله في سرها أن لا ينتبه اليه والدها ، وأن لا يفعل هو مايثير أنتباهه ، وحاولت جاهدة ان لا تنظر باتجاهه ، و شعر والدها بارتباكها ، وأثارت نظرات عثمان التي تتابعهما أنتباهه ، فتعمّد عندما مرا بالقرب منه أن ينظر في عينيه مباشرة ةً ، فأسرع عثمان يشيحُ ببصرهِ ، وعلى الفور دار بذهنه تلميح أستاذ جلال عندما قال له إن الباص سيجنّبها أي مُضايقة قد تتعرض لها في ذهابها وإيابها ...
    وصلا إلى نهاية الطريق ، ودلفا الى الشارع الآخر فقال لسلمى :

    - واصِلي طريقك .. سألحق بك بعد قليل فأسرعت تحث خطاها وقد أدهشتها عودة والدها وزادت من مخاوفها ، ومع كل خطوة تخطوها كانت التساؤلات في داخلها تزداد شدةً وضراوةً ...

    لقد كانت عودة أبيها بالامس غريبة ، وكان سكوته عن سؤالها عندما أتت أكثر غرابة ، فلماذا عاد بالامس باكراً ؟؟ ولماذا لم يسألها أين كانت في ذلك الليل ؟؟ ولماذا أتى يتلمس خطواته في الظلام ليطمئن عليها ويقبلها ؟؟ ولماذا يذهب معها اليوم إلى المدرسة ؟؟ ولماذا عاد الان ؟ ولماذا سيلحق بها بعد قليل ؟ أتراهم قد عرفوا بأمرها في المدرسة فأرسلوا في طلبهِ كما فعلوا قبل ذلك ولم تخبره ؟؟

    لا بد أنّ أحداً قد أكتشف ما يدور بينها وبين عثمان فأرادوا ان يطلعوه على حقيقة أمرها !! لا بد أنهم عرفوا ما جرى بالامس ويريدون إخباره به ، ولا بد أنّ والدها قد عاد الآن الى عثمان !! يا لفضحيتها يا لعارها وخزيها .. وفكرت في أن لا تذهب إلى المدرسة وأن تفر الى أي مكان ، ولكنها آثرت ان تتنظر فان كان ما توقعته صحيحاً فعليها ان تهرب من البلد بكاملها فلن يكون في مقدورها بعد ذلك ان تنظر في وجه والدها ، أو في وجوه الناس من حولها ، ولن يكون في مقدورها ان تعيش ووصمة العار على جبينها .

    عاد والدها باتجاه عامود النور فرأى عُثمان يسرع مُنصَرِفاً من شارع آخر ، وحاول أن يُسرع في خطواته ولكنّه لم يستطيع اللحاق به ، فأتجه صوب البقالة ، وفي دقائق معدودة إستطاع أن يعرف عنه كل شيء فقد أخبره عمر بكل ما يعرفه عنه ، وزاد عليه بأن أخبره بأن عثمان ياتي يومياً لينتظر خروج إبنته سلمى .. واكد له انه راه يتبعها لأكثر من مرة ، ولم يكن أحمد قد رأى عثمان قبل ذلك اليوم ولكنه كان قد سمع عنه وعن والده مرة أو مرتين حديثاً عابراً لم يهتم له ، فلم يكن من عادته ان يتتبع أخبار الآخرين ..

    ألا يُريدون بعد كل هذه السنين أن يتركوه في حالهِ ؟؟ أبعد ان شردوه وأضاعوا مستقبله يريد واحداً من ابنائهم أن يضيع مستقبل ابنته الوحيدة ويسلبها شرفها ، ويقتل براءتها ؟؟

    إلى أين تراه قد وصل في مُخططه البغيض ذلك ؟؟ ووقف ينظر بإتجاه العامود الخالي وقد إمتلأ حقداً ، وغلاً ، وغضباً ، لن يقف مكتوف الايدى هذه المرة وسيدافع عن إبنته بكل ما يملك ، سيفعل كل شيء ليحول بينها وبين أي شر ، و سيعرف جيداً كيف يؤدب ذلك الفاسد ، الفاسق ، الُمترف ، الذي يريد أن يهدر شرفه وكرامة إبنته.. سيجعله عبرة لمن يعتبر .. وعاد الى البيت وحمل سكيناً ضخما خبأه تحت ثيابه ، ثم قفل عائداً صوب مدرسة الست اسماء..

    (23)

    حيّا أستاذ جلال أحمد والد سلمى في حرارة عندما دخل إلى مكتبهِ عقب إنتهاء الحصة الاولى ، ووضِع الشاي أمام أحمد فأستهل حديثه قائلاً :

    - لقد أتيت إليك دون أن اذكُرَ لسلمى أي شيء عن زيارتك لي حتى أني لم أخبرها بما اتفقنا على اخبارها به لانني أريد ان أعرف منك الحقيقة كاملة .. لقد فكرت في كل ما تحدثنا به بالامس ، وأُريدك أن تكون صريحاً معي حتى أستطيع أن أتعامل مع الموقف بما يقتضيه وبما يتطلبه .. هل هناك شيئا محدداً علي معرفته ؟؟ هل أبنتي في خطر ؟؟ هل هي في مشكلة أستطيع علاجها أم أن الوقت قد فات على ذلك ؟؟
    طلب منه أستاذ جلال أن يهدا وهو يقول له :

    - أولاً أنا لا أعتقد ان الأمر بالخطورة التي تتصورها ، ثانياً لا زال الوقت موجوداً ، وكافياً ، إن بذلنا الجهد المطلوب من جانبنا ، حتى تعود إلى سلمى ثقتها بنفسها ، فتعود إلى مستواها الطبيعي ، ومثلما قلت لك بالامس إن لديك أبنة رائعة .. مهذبة .. خجولة ، وشديدة الذكاء ، كل ما في الامر أنها تحتاج لان نكون أكثر قربا منها ، وأشد التصاقاً بها فمن الطبيعي أنها تحتاج - مثلها مثل أي بنت في سنها - إلى الرعاية ، ولقد علمت أنّ إبنتك يتيمة الام وذلك يضاعف من إحساسها بالوحدة ، ويجعلها أكثر قابلية للتأثر بكل ما يحدث في حياتها ، ويجعلها أكثر حاجة من غيرها للعطف ، والحب ، والذي ستبحث عنه في أي مكان إن لم تجده من حولها ...

    أراد أستاذ جلال أن يدفع أحمد الى اقصى درجات الاهتمام بابنته من دون أن يزيد من قلقه فأضاف يقول :

    - إن الذي اعتقده هو ان سلمى تعاني من فراغ عاطفي كبير ، وربّما هناك من يحاول استغلال ضعفها ، وحاجتها ، ويدفعها الى اهمال دروسها ، وربّما ايضاً هي لا تجد الجوّ الملائم ، والوقت الكافي للدرس والتحصيل ، لذا فالمطلوب منا فقط هو مزيداً من الاهتمام بها .. و تهيئة الجو الذي تحتاجه .. وشغل وقتها بالكامل بالمذاكرة .. وعدم ترك أي فرصة لها لتخلو بنفسها وتنطوي على ذاتها .. لذا عليك ان تتواجد معها ، وبقربها أطول فترة ممكنة من ساعات اليوم فسيشعرها ذلك باهتمامك بها ، وبحبك لها ، كما ان عليك ان تراجع معها دروسها يوماً بيوم ، بل ساعة بساعة أما هنا في المدرسة فأترك امرها لي بالكامل ، فسأتدبر أمرها مع الاستاذة سامية ، ومع بقية المدرسات وانشاء الله إن قمت أنت بما طلبته منك سنصل الى ما نود الوصول اليه من تحسن في مستواها ، ومن ملء لفراغها و شغل وقتها بدراستها حتى لا تفكر في أي شيء غيرها ... وسنتمكن ايضاً من تخفيف معاناتها أياً كان سببها ..
    تمتم والد سلمى قائلاً :
    - تأكد أني سأفعل كل ما طلبت .. ومرة أُخرى أنا عاجز عن شكرك ..
    فقال أستاذ جلال مازحاً :
    - شكري هو أن تعود سلمى لطبيتعها .. وأن تحرز نتيجةً طيبةً .. سأستدعيها بعد أن تذهب ، وسأخبرها بأنك أتيت إلى هنا ؟، وقمت بتسديد أجرة الباص ، وأنك قمت بوضع مبلغ من المال تحت تصرفها في بوفيه المدرسة ، وسأحاول أن أستغل هذا الظرف لاعرض عليها مساعدتي فمر في طريقك على البوفيه وعلى المسئول عن إشتراك الحافلة ..
    ومرة أخرى تمتم والد سلمى وهو يشعر بالامتنان الشديد :
    - ان كلماتي عاجزة عن التعبير .. اننا جميعاً في حاجة لاشخاص مثلك في هذه الحياة ، أناس لا يستسلمون ولا يتوقفون عن فعل الخير مهما حدث لهم ، أناس يقاتلون في سبيل الحق مهما كان الثمن ثم خرج ودموعه تكاد تطفر من عينيه .

    ***
    جلست سلمى في فصلها قلقة .. متوترة .. شاردة تتوارد على ذهنها مئات الاسئلة ؟؟ هل عرفوا بامرها في المدرسة ؟ هل استدعوا والدها لهذا الأمر ؟؟ هل سيقوموا بطردها ؟؟ هل وهل وهل ؟ لم يوقظها من شرودها الا صوت رنين الجرس يعلن انتهاء الحصة الاولى التي لم تفقه منها شيئا ..وزاد الضجيج الذي عادة ما يعقب خروج المدرسات من الفصل من ضيقها.. وتوقف الصخب والضجيج بوصول مدرسة الحصة الثانية فعادت هي إلى شرودها و تساؤلاتها .

    كانت تجلس في الفصل بجسدها أما عقلها فقد كان غارقاً في هواجسها ومخاوفها لذا لم تتمكن من سماع الخفير وهو يطرق باب الفصل ولم تره وهو يتحدث الى المدرسة ويسلمها قصاصة صغيرة من الورق ... وفجأة ...
    ( سلمى أحمد سالم ) سمعت إسمها تنادي به المدرسة فشعرت كأن احدا لطمها على وجهها وجفلت كانما صُب على رأسها دلواً من الماء البارد .. ونظرت حولها فرأت عيون الجميع تحدق بها ... وحّولت بصرها فوقع على عم كربوس يقف بجوار المُدّرِسة التي كررت النداء في ضيق .. فأجابت بصوت مضطرب :
    - نعم .. نعم ..
    - يريدك الوكيل في مكتبه ..هيا اسرعي ..

    شعرت بالدنيا تدور من حولها .. وتصبب عرقٌ غزير من كل أنحاء جسدها .. وقامت من كرسيها تجر رجليها جرّاً تتبع الخفير إلى مكتب الوكيل ، وهي تشعر مع كل خطوة تخطوها ، أنّ قواها تخور وأن شجاعتها تخونها .. وأنها قد تسقط على الارض غائبة عن الوعي في أي لحظة .. لقد عرفوا بأمرها ما من شك في ذلك ، لقد عرفوا... ، لن يسامحها احد ، ولن يفهم إنسان أنها تُحب عثمان ، وأنها لا تتعمد أن تفعل سوءً ، إن الموت أهون عليها من أن تنفضح بين زميلاتها وتوصم بالعار ، ومن أن تتشوه سمعتها فتلوك سيرتها الألسن طوال عمرها.. لم تعرف كيف وصلت إلى باب مكتب الوكيل ... ولا كيف دخلت ووقفت أمام طاولة مكتبه مطأطأة رأسها ، تنظر إلى الأرض في خزي...
    - أجلسي يا سلمى ..

    خاطبها استاذ جلال بصوته الهادي فجلست على الكرسي وهي تشعر أنه لو لم يدعوها للجلوس في تلك اللحظة بالذات لكانت قد سقطت على الارض من دون شك ..
    - لقد كان والدك معي ولقد غادر منذ قليل ...
    إزداد وجهها شحوباً .. وشعرت بتنفسها يضيق .. وبأطرافها تزداد برودة ولكنه أكمل قائلاً :
    - لقد جاء ليقوم بتسديد أجرة الحافلة لتقلك مع بقية الطالبات ومن اليوم تستطيعي أن تغادري مع الحافلة وان تأتي بها كما أنه قام أيضاً بوضع مبلغ آخر في بوفيه المدرسة حتى تأخذي كل احتياجاتك من هناك ..
    لم تستطيع ان تنطق بحرف كان كل تكفيرها محصوراً في موضوع الأمس ... فعاد الى الحديث قائلاً في هدوءه المعروف :
    - أتسمحين لي أن سالك مرة أُخرى ان كان هناك ما يضايقك يا سلمى :
    ردت في سرعة :
    - لا لا .. ليس هناك شيء ... فعاد يقول :
    - سأكون صريحاً معك فأنت فتاة ناضجة .. واعية .. تعرف الخطأ من الصواب ، لذا أنا أريدك أن تنسي اولاً ان الجالس إليك هو أحد أساتذتك .. أريدك ان تعتبري أنّ الذي يتحدث اليك الآن هو أباك .. ضحك ضحكة صغير وهو يقول :

    - لا لا لا .. لا أريد ان أبدو كبيراً في نظر نفسي لنقل أخاك الاكبر فأنا يشرفني أن تكون لي أخت مثلك في هدوءك وحُسن خُلُقك .. وطيب معشرك .. فهل يشرفك أن يكون لك أخٌ مثلي ؟؟

    أحست سلمى أن الكلمات التي تسمعها تتنزل عليها من فيض عُلوي لم تألفه .. وأدخل هدوء الشخص الجالس اليها ، ولباقته ، ودماثة خُلقه الكثير من الطمأنينة إلى نفسها .. ولمِست عباراته الرصينة المنتقاة ، وصوته الصادق مكاناً عميقاً في نفسها ، فشعرت أن الدمع يكاد يطفر من عينيها وكان إحساسها بالذنب يملا دواخلها فأجابت بصوت متهدج :
    - طبعاً يشرّفني يا أستاذ ولكن ربما أنت الذي لن يشرّفه أن تكونَ لهُ أُختٌ مثلي ، أنا ليس كما تتصور فأنت لا تعرفني جيداً ، وربما لو عرفتني حقاً لما كنت قلت ما قلته الآن ..

    وسالت دموعها على الرغم منها فصمت .. تركها تفرغ كل ما في داخلها .. وعندما عاد اليها هدوءها عاد يقول :
    - أنا أعرفك جيداً يا سلمى ، أعرفك أكثر مما تتصوري ولهذا السبب أقول لك ما اقول .. انا أعرف أنك من أصلٍ طيبٍ كريم .. وأعرف أنك تستحقين الأفضل .. كما أعرف أنّ الظروف التي مررت وتمرين بها هي التي أثرت وتؤثر بك ، وربما هي التي تدفعك إلى فعل ما لا تريدين فعله ..أنا لا أريد ان أتدخل في خصوصياتك كثيراً ولكنّي أريد ان أقول لك أن كل مِنّا يُخطي ويُصيب ، فنحن بشر ولكن علينا ان نتعلم من اخطاءنا .. علينا أن نجعل منها نبراساً ينير طريقنا ، وعلينا أن نعالج تلك الاخطاء عندما نعرف إننا قمنا بارتكابها وأن لا نواصل الإستمرار فيها مغمضي العيون أنت إنسانة صاحبة إرادة ، وذات شخصية قوية ، تتمتع بأفضل الصفات فلا تسمحي للظروف بهزيمتك ..

    إن حياتنا لن تخلو مهما فعلنا من بعض الصعاب ، ومن بعض الاخطاء ، ولكنك الآن في مرحلة فاصلة ، حاسمة ، من مراحل حياتك فأما أن تسمحي للهزيمة أن تحاصرك إلى الأبد ، واما ان تتغلبي عليها ، وتستغلي هذه الفرصة التي ربما لن تسنح لك مرة أُخرى ، لتتحرري من أسر الصعاب والالام ، ولتحوليها إلى زاد للنجاح والتفوق حتى تتخطي هذه الصعاب إلى غير رجعة و أنا أعرف أنك بذكائك الفطري ، وبمعدنك الطيب ، ستختاري الخيار الثاني فنحن لازلنا في بداية العام الدراسي ولم يمر بعد أكثر من شهرين فإن وضعت مستقبلك نصب عينيك فستحققي الحلم.. حلمك .. وحلم والدك وحلمي وحلم جميع مدرسيك .. .. وحلم كل الذين يحبونك .. حلم والدتك التي رغم أنها ليست بيننا إلا أنه سيسعدها أن تكوني متفوقة ، وناجحة ، وسعيدة في حياتك.. لقد راهنت عليك نفسي وأنا واثق أنك لن تخذليني .. كل المطلوب منك بذل مزيد من الجهد وإن أحسست أنك في حاجة إلى أي شيء فلا تتردي .. مكتبي مفتوح لك باستمرار..

    - هل اتفقنا يا سلمى ؟؟

    ولم تستطيع أن تتحدث فقد خنقتها العبرات فاومأت برأسها موافقة ..
    - إذنْ لا مزيد من اليأس ، ولا مزيد من إهدار الوقت فيما لا يفيد بعد اليوم .. يمكنك الانصراف الآن ولا تنسي ان تلجأي الي إن حتجت إلى أي شيء .....

    دخلت سلمى مكتب الاستاذ جلال خائفة ، مرتبكة ، وخرجت منه وقد انفتحت أمامها أبواب الامال عِراضاً للنجاح والتفوق ، دخلت مكسورة ، مهزوزة ، مشتتة ، وخرجت وقد عادت إليها الكثير من ثقتها بنفسها ، خرجت إنسانة أخرى تماماً كانها ولدت من جديد .. وعندما أنتهى اليوم الدراسي ركبت الباص مع بقية الطالبات وللمرة الاولى أبتسمت لمداعبتهن ، وشاركتهنّ بعضاً من مرحهنّ ، ووصل الباص إلى باب المنزل فوجدت والدها في انتظارها مبتسماً .. تناول منها حقيبتها قبل أن تنزل من الحافلة ، وأمسك بيدها وهما يدخلان ، وسألها عن تفاصيل اليوم الدراسي بكامله وكيف وجدت العودة على الحافلة ؟؟
    أجابته أن اليوم كان جيّداً وصمتت قليلاً ثم سألته قائلة :
    - لم كلفت نفسك مشقة دفع أجرة الباص وقمت بوضع مبلغاً من المال في بوفيه المدرسة .. إن المشوار ليس ببعيد وأنا آاكل بمجرد أن أعود الى البيت ...أنا أعرف الظروف جيداً يا أبي ولا أريدك ان تضغط على نفسك من أجلي ..
    شعر وكان سكينًا تمزق أحشاؤه ، أتخشى عليه من التعب ، وتشفق عليه كل هذا الاشفاق ، وتحتمل الجوع ، والحر ، والقهر من زوجته كل الوقت الذي مضى دون أن يشعر هو بذلك ؟؟ .
    تمتم قائلاً :
    - لا تشغلي نفسك يا سلمى بهذه الأمور البسيطة ، وأعذريني اذا كنت أهملتك في السابق ، فانا أريدك منذ اليوم ان تهتمي فقط بدراستك ، وأن تكوني صريحة معي ، وأن تُخبريني بكل ما تريدين .. أنت املي الآن ، وأنا أعتمد عليك كثيراً .. انا أريدك ان تكوني أفضل إنسانة في الدنيا ، ليس فقط من أجل نفسك ، ولكن من اجلي أنا أيضاً .. لذا أفعلي أقصى ما تستطيعي لتنجحي ولتحرزي مجموعاً يُمكّنك من دخول أفضل الكليات ، وعلينا أنت وأنا أن نحتمل قليلاً حتى نصل إلى ما نريد ... أخلعي ملابسك واستريحي قليلاً حتى يتم تجهيز الغداء ...

    وشعرت بسعادة لا توصف وهي تتناول غداؤها مع والدها للمرة الاولى منذ وقت طويل ، ولم يجروء الصبيين على مضايقتها بعد ان حذرهم والدها من مغبة ذلك ، ولم تجد زوجته بُداً من التظاهر بحُسن معاملتها أمامه في محاولةٍ لارضاءه بعد أن أعرض حتى عن الحديث اليها مُنذ ان جاء في اليوم السابق ولم يجد ابنته في البيت ، فأخذت كأس الشاي ، وأوصلته إلى سلمى في غرفتها بنفسها ، وهي تكتم غيظها ، وحقدها ، فظنت سلمى أنها في حلم من احلام الدُجي ، لن تلبس أن تستيقظ منه لتجد نفسها في واقعها الكريه ... وغفت قليلاً بعد أن شرِبت الشاي فلقد كان سهر الامس يؤثر بها وأفاقت على صوت الاذان ينادي لصلاة العصر ، فقامت وخرجت لتتوضأ .. وجدت أباها يهم بالخروج فقال لها :
    - سأذهب لاداء الصلاة يا سلمى وبعدها سأذهب إلى العمل وساعود باكراً ، لا أريدك أن تخرجي إلى أي مكان حتى لا اقلق عليك ، ولا أريدك ايضاً ان تفعلي أي شيء غير أن تراجعي دروسك وواجباتك وعندما أعود سوف أراجع معك ما درسته اليوم .. ثم قال ممازحاً باسماً :
    - وأحذري ان أجد معلومة واحدة غائبة عن ذهنك ..
    أجابته بهدوءها المحبب :
    - حاضر يا أبي .. وأمسكت بيده وأوصلته حتى الباب الخارجي ... وعندما خرج أغلقت الباب من الداخل وعادت ..

    إنتهت سلمى من صلاتها ، و جلست تراجع دروسها و لم يمض وقت طويل حتى شعرت بشيء من الملل والسأم يتسرب إلى نفسها .. كانت قد تركت الدرس منذ وقتٍ طويل ، وكان من الصعب أن تعود إليه مرةً واحدة .. وحان موعد خروجها مع عثمان فحدثتها نفسها بالخروج فقامت وأرتدت ملابسها .. ووقفت أمام المرآة لتعدِّل من تسريحة شعرها فخيل اليها أنها رأت وجه أبيها ، وسمعت صوته وهو يقول لها : لا تخرجي .. حتى لا أقلق عليك .. وترددت في ذهنها كلمات الاستاذ جلال وهو يقول في هدوء : ( يشرفني أن تكون لي أخت مثلك .. في هدوءك ورقتك وحسن خلقك) (.. أنت إنسانة رائعة منحك الله ذهنا وقاداً...وحضورا جميلا لافتا ) ( لقد راهنت عليك وعلى نجاحك وأنا أعرف انك لن تخذليني ) ..

    ثم تذكرت يد عثمان وهي تعبث باجزاء جسدها ، وتجردها من ملابسها ، وصوت الحارس الذي يطاردهما ويصرخ من خلفهما من هناك ؟؟ من هناك ؟؟ هل هي إنسانة رائعة مثلما قال أستاذها ؟؟؟ هل هي حسنة الأخلاق حقاً ؟؟ وماذا سيقول عنها أستاذها إذا عرف الى أين تذهب مع عثمان وماذا يفعلان ؟؟ ماذا سيقول عنها أي انسان آخر إذا رأى عثمان يداعب يديها ، ويقبل شفتيها ، ويضمها إلى صدره وهما في السيارة ؟؟ وماذا سيقول إذا رآها في اللقاء الاخير مستلقية على الأرض ، عارية من كل ملابسها ، وعثمان فوقها في ذلك المكان المظلم المهجور ؟؟

    إن عثمان لا يحبها ، ولا يفكر بمصلحتها ، ولا يهمه ما يمكن أن ُيصيبها حتى لو قال غير ذلك ، فلو كان يحبها لما أخذها الى ذلك المكان .. ولو كان يهتم لها حقاً لما كذب عليها ، وأدعى أنه يملكه وان لا أحد غيره يستطيع الدخول إليه ، ولو كان يفكر بمصلحتها ، ويخاف عليها ، لما حاول دائماً أن ينال منها ما حاول أن يناله بالامس ، ولما سعى لان يسلبها أعز ما تملكه أي فتاة .. إنها متاكدة من أنها إن خرجت إليه الآن فسيصر على أخذها إلى مكان آخر لا يختلف كثيراً عن مكان الأمس ، ليجعلها تقدم مزيداً من التنازلات ، ولينجح ربما في أخذ ما يسعى وراءه وهي لن تستطيع أن تقاومه ، ولن تستطيع ردعه ان خلت به في أي مكن ، فلقد عاهدت نفسها كثيراً فيما مضى على أن تحول بينه وبين جسدها ولكنها لم تفلح ابداً فقد كانت دائماً تضعف أمام إصراره والحاحه ، وتستسلم له خوفاً من إغضابه ، وهو يستغل ذلك ولن يتوقف إلا اذا وصل الى ما يريد ، أوتسبب لها في فضيحة كبيرة تدمر مستقبلها ومستقبل أسرتها بالكامل..

    إن الذين يحبونها حقاً هم الذين يخافون عليها ، ويسعون وراء مصلحتها ، ويقدمون إليها ما تحتاج إليه في سبيل أن تنجح في حياتها ... إن والدها يحتاج إليها ولا بد أنه فعل المستحيل حتى يوفر لها ما أستطاع توفيره ، وعليها هي أن تفعل أقصى ما تستطيع حتى لا تجعل تعبه يضيع هباءً .. إن واجبها الاول هو أن تصون شرفها ، و شرفه ، وشرف أسرتها بالكامل ، فهي أن أخطات فلن تكون قد أخطات في حق نفسها فحسب ، فلعنة العار ستحل بها ، وبكل من تربطه علاقة بها ، وتلاحقه الى الابد ، ووقفت طويلاً تنظر الى المرآة ، ثم خلعت آخر الامر ملابسها وعادت إلى كتبها ومذكراتها ..

    (24)

    أصبح أحمد يعطي الكثير من الوقت ، والعطف ، والحب لابنته سلمى ففي الصباح كان يحمل عنها شنطة كتبها ، ويخرج معها حتى باب الحافلة ، وينتظرها إلى أن تُغادر ، ثم يذهب بعد ذلك إلى عمله ، و في الظهر كان يعود قبل أن تعود ، وما أن يسمع هدير المحرك حتى يخرج ويتناول منها شنطة الكتب قبل أن تنزل ، وبعد أن تتناول معه طعام الغداء كان يتركها لترتاح حتى يُنادى لصلاةِ العصر ، ثم يوقظها من غفوتها ، و يحمل براد الشاي ، ويضعه أمامها على الطاولة ، وعندما تبدأ في المذاكرة ، ويطمئن إلى أنّ كل شيء على ما يرام ، كان يغادر مرة أُخرى إلى عمله و يحرص في المساءِ على العودة باكراً حتى يراجع معها ما قامت بمذاكرته ، وبعد أن تتعشى ، وتتناول كوب الحليب الذي يصر على أن تشربه كاملاً ، كان يتركها لتنام ..

    وأشترى لها فستاناً جديداً .. وطرحةً .. وحذاءً فازدادت ثقة بنفسها ، ولم تعُد تشعر بالحرج من مخالطة زميلاتها .. ورغم أن التغير الذي حدث في تعامُل والدها معها كان جذريا وكبيراً إلا أنها لم تُحاول أن تشغل ذهنها بمحاولة البحث عن أسبابه ، واكتفت بنتيجة ، وبأثره في حياتها ، وبما أتاحه من حب أبوي صادق أصبح يشملها به والدها ، ومن حنان دفاق يجعله يأتي متسللاً إلى فراشها في جوف الليل أكثر من مرة، ليطمئن عليها، ويسحب الغطاء على جسدها ، ويقبلها على خدها أو جبينها ، ظاناً أنها غارقة في نومها ، وامتلأت دواخلها بالسعادة .. وبالطمأنينة ... وبالهدوء والسكينة .

    كانت تعرف أن للاستاذ جلال يداً خفيّة في كل ما حدث وذلك ما جعله شخصاً أثيراً لديها ، ولم يعد البيت مكاناً بغيضاً كما كان في السابق ، بل لقد أصبحت تشعر باللهفة وهي تعود ظهراً بعد انتهاء اليوم الدراسي ، أما في المدرسة فقد كان أُستاذ جلال يتابع تحصيلها يوماً بيوم ، وعندما وجدت صعوبة في فهم بعض الاجزاء السابقة لبعض المواد طلب من مدرسي تلك المواد تخصيص وقت أضافي لها لتعوض ما فاتها ، وخصص لها هو وقتاً للّغة العربية التي أصبحت من أحب المواد إلى قلبها ، وأصبح يومها قصيراً جداً ومشحوناً ، فأنشغلت بالدرس وبالتحصيل عن كلّ ما سواهما ، وأصبحت ذكرى عثمان تضمحل في ذهنها كما تضمحل ملامح منظرٍ عابر ، يراه المسافر من نافذة قطار سريع ..

    أصبحت لا تذكره إلا نادراً .. و ماعادت تحفل لوجوده أو عدمه .. ولم تعد رؤيته – إن حدثت - تسبب لها ما كانت تسببه في الماضي من إرتباك ، وما عادت تشعر بالحاجة إلى كلماته الحلوة الكاذبة و مشاعره الزائفة .. ولا الى نظرات عينيه الرقيقة الخادعة .. وأصبحت تنظر إلى الدنيا بغير العين التي كانت تنظر بها اليها في السابق ، وكلما مر يوم كانت تزداد يقيناً أن عثمان كان يتلاعب بها ، وأنه ما كان سيتزوجها .. وأنها لو كانت أستمرت في الخروج معه لكانت قد فقدت إحترامها لذاتها .. وخسرت مستقبلها .. وأضاعت سمعتها وسمعة أُسرتها .

    وسمعت يوماً زميلاتها في الحافلة يتحدثن عنه فأنصتت لحديثهن في إهتمام ، فعرفت عنه كل ما كانت تجهله فحمدت الله في سرها على أنه أنقذها منه في الوقت المناسب .. ويئس عثمان من أمرها بعد أن طال إنتظاره ، وتعددت محاولاته ، وطال تجاهلها له ولوجوده فأنصرف عنها ، وترك الشارع وذهب ليبحث عن ضحيةٍ أخرى ، في مكان آخر وهو يشعر بالهزيمة للمرة الأولى في حياتهِ ...

    وتولّدت في داخل سلمى قوةً جبارةً ، وإصراراً عجيباً ، وعزيمةً لم تكن تعرفها من نفسها ، فأقبلت على الكيمياء .. والفيزياء .. والرياضيات .. واللغة العربية ، وجميع أنواع العلوم تلتهما التهاماً كالجائع الذي حرم من الطعام طويلاً حتى إذا ما أضر به الجوع ، وبلغ منه كل مبلغ ، وجد نفسه أمام مائدة ملاى بأشهى أنواع الطعام ، وأحبها إلى نفسه فتطور مستوها في سرعة أذهلت مدرسيها فأولوها مزيداً من الاهتمام ..

    ****
    كانت سلمى اذا شعرت بملل ، أواعتراها فتورٍ أو كسل .. أو غشيتها نوبة ضيقٍ - كالتي تغشى كل أنسان يحصر نفسه لوقتٍ طويلٍ في مكان واحد - وشعرت بحاجتها للتغيير .. كانت تخرج طواعية لتساعد زوجة أبيها في أعمال المنزل دون ان تطلب منها ذلك ، فقد توقفت اخلاص عن مضايقتها منذ اليوم الذي حذرها فيه زوجها – للمرة الاولى في حياته – في لهجة تحمل من التهديد أكثر مما تحمل من التحذير ، من ان تكلف سلمى بأي عمل .. أو تشغلها بأي شيء .. أو تطلب منها أي طلب حتى تنتهى الامتحانات ، فتوقفت منذ ذلك اليوم عن فرض الواجبات التي كانت تفرضها عليها في السابق بعد أن شعرت بضيقه الشديد .. ولمست جدية كلامه ... وخشيت من عاقبة تصرفها إن هي عادت لما كانت عليه.. ولم تكن سلمى تقوم بمساعدتها لاجل التغيير من جو الدرس فحسب ، ولكن لانها كانت تريد أن تتقرب منها .. وتُحسن من علاقتها بها فأكثرت من التودد اليها .. وغفرت لها كل سيئة كانت قد إرتكبتها بحقها .. بل وأختلقت لها الاعذار في داخلها ، لتبرر سوء تعاملها معها في السابق ، وحاولت بقلبها الصافي النقي الذي لا يعرف البغض أو الحقد ان تنزلها منزلة الام التي فقدتها ، وأن تكسبها في صفها ما أستطاعت .

    ولكنها وبرغم محاولاتها العديدة ، وبرغم نيتها الصافية ، وبرغم غفرانها لكل ما كان منها في الماضي فقد فشلت في أن تزيل الحقد من قلب اخلاص التي ازداد حقدها ، وغلها بسبب ما ترتب على اكتشاف زوجها لسوء معاملتها لابنته ، وما تبع ذلك من جفوة في معاملته لها ، ومن إعراضٍ تامٍ عنها ، فلقد هجرها منذ ذلك اليوم ولم يعد يتحدث اليها الا في الامور الضرورية والتي لا يجد بُداً من الحديث فيها إليها .. و زاد من حقدها ايضاً أمره لها في صراحة ان لا تضايق سلمى مهما حدث ، وان لا تشغلها باي شيء ، وان لا تكلفها بأي عمل ، وما ترتب على ذلك ايضاً من عودتها للقيام بجميع أعباء البيت وشئونه بنفسها ، لذا لم يتوقف ذهنها عن التفكير لحظة واحدة في البحث عن وسيلة تخرج بها سلمى من بيتها, وتبعدها بها عن حياتها فقد باتت تشعر أن سلمى أصبحت خطراً مباشراً يتهدد بيتها ، وعلاقتها بزوجها ، ولكنها كانت تريد وسيلة فاعلة ، وآمنة ، وسيلة تحقق لها غرضها دون أن تشير باصابع الاتهام اليها عند تحققه ..

    وفكّرت في أن تعود إلى الشيخِ .. ولكن أين تجده لقد مرت سنيناً طوالاً منذ ان ذهبت إليه آخر مرة ولا تعرف إن كان حياً أو ان كان ميتاً ، وأستقصت عن أخباره سراً هنا وهناك لكنها لم تتوصل إلى نتيجة ، لم تكن إخلاص تعرف أنّ الشيخ الذي تعتمد عليه ، وتثق بكراماته وبقدرته على فعل ما يُريد ، يقبع حبيساً بين جدران السجن بعد أن تمكنت السُلطات من القبض عليه أخيراً ، بعد ان انشكف امره ووجهت له عشرات التهم التي أدين بها جميعاً ، وأنه سيقضي بقية عمره هناك ...

    وعندما فشلت في العثور عليه ، ويئست من الوصول اليه ، قررت أن تعتمد على نفسها ، وفكرت طويلاً فيما تفعله فأوحى لها شيطانها بفكرة جنونية .. فكرة ستحقق لها كل ما تريده وتتمناه فبدأت تزيد من اهتمامها بسلمى ، وأجتهدت في إظهار مودتها وحبها لها ، وتفانت في تهيئة كل ما يلزمها حتى ظنّ جميع من حولها أنها أصبحت تحبها ، وتحرص عليها ، وتعمل من أجل راحتها ، ورأى أحمد ذلك التغير الكبير فظنّ أن شدته معها ، وإعراضه عنها ، قد أيقظا ضميرها ، وحرّكا مشاعرها تجاه أبنته لذا فهي تحاول التعويض عليها في محاولة للتكفير عن بعض اساءاتها السابقة اليها فحمد الله على ذلك .

    وظنت سلمى أنها نجحت بتوددهها ، وبحسن تعاملها في كسب مودة أخلاص ، وفي التقرب منها بعد أن لمست التغيير الكبير الذي طرا على تعاملها فقد أصبحت تُمازحها .. وتُضاحكها .... وتشجعها على مضاعفة مجهودها .. و تخصها بأنواع الطعام الجيّد على قلته ، بحجة أنها في حاجة للغذاء لتعويض المجهود الكبير الذي تبذله في المذاكرة ، وفي السهر ، فشعرت سلمى بالمزيد من السعادة ، والكثير من الراحة ، وكأنّ حملاً ثقيلا ًآخر قد إنزاح عن كاهلها ، فأطمأنت تماماً إلى اخلاص .

    وواصلت إخلاص أهتمامها بسلمى ، وبقيت حريصة على فعل كل ما من شأنه أن يزيد من ثقتها وثقة والدها بها ، ويجعلهم أكثر اطمئناناً اليها ، ولكن كان هناك شيئاً واحداً حرصت عليه أكثر من غيره وواظبت على القيام به بصورة يومية ، وأستمرت في عمله دون انقطاع ، مهما كانت الاسباب ، ذلك الشيء كان كاساً من عصير اللّيمون الطازج أصبحت تعده لسلمى صباح كل يوم ، ولا تتركها تُغادر إلى مدرستها أبداً قبل أن تشربه ، واقترب ميعاد الامتحان فزادت سلمى من ساعات مذاكرتها ، ومن سهرها فأصبحت لا تنام من اللّيل إلا جزءاً يسيراً ، حتى خشى والدها عليها من السّهر ، ومن المجهود الجبّار الذي تبذله ، فضاعف من ساعات تواجده في البيت ، وأصبح لا يغادره إلا لوقتٍ وجيز ... وعندما جاء الميعاد الذي انتظره الجميع طويلاً كان جسم سلمى قد نحل .. ولونها قد اصفر... وجفنيها قد تقرحا ، ودخلت إلى غرفة الامتحانات في اليوم الاول .. فشعرت بالخوف يسيطر عليها ، وتصبب عرقٌ غزير على وجهها .. وحامت ذكريات مُتضادة في تلك اللحظة بذاكرتها ، وتراكمت على ذهنها كأنها غيوم سوداء ، القت بظلمات كثيفة على ذهنها المكدود ، فشعرت وكأن ورقة الامتحان قد كتبت بلغة هيروغليفة لا تفقه منها حرفاً واحداً ، وأصابها عجز تام فتملّكها رعب رهيب وفجأة أطلّ وجه الأستاذ جلال كحارس منقذ أمين .... وسمعت صوته وهو يقول لها في آخر واصاياه:

    - قد تشعري بالخوف للوهلة الأولى وأنت في غرفة الامتحان حتى تظني أنك لا تعرفين جواباً واحداً ولكن سرعان ما ستعود إليك الطمأنينة فأقراي الاسئلة جيداً ، وكرري قرآتها قبل أن تجيبي علي أي سؤال .. وتأكدي انّ الاجابات ستهطُل عليك كحبات المطر لانك قد فعلت كل ما عليك وذاكرتها جيدا ، ومثلما قال لها شعرت بالطمأنينة تعود إليها شيئا فشيئا ، و قرأت ورقة الاسئلة للمرة الثانية فأباحت لها بكل أسرارها فوجدت نفسها تجيب عليها في سهولة ويسر ..

    واستمرت سلمى في ذلك السباق تخرج من امتحان لتدخل اخر وهي معرضة عن الدنيا وما فيها حتى كادت الامتحانات أن تنتهي وحل اليوم الأخير .. يوم اللّغة العربية .. اليوم الذي أنتظرته إخلاص طويلاً فقد كانت تعرف أن الذي يرسب في مادة اللغة العربية يُعتبر راسباً في جميع المواد مهما كانت الدرجة التي يحرزها فيها ، فلا يتم قبوله في أي جامعة من الجامعات ، لذا فقد قامت برسم خُطتها منذ البداية على هذا اليوم ، فلم يكن كوب الليمون الذي تُقدمه لسلمى إلّا وسيلتها الآمنة التي ستنفذ ستحقق لها غرضها دون أن تلفت اليها الانظار ، فلقد عرفت أن هُناك نوعاً مُعيناً من السُم إذا تم وضع كمية صغيرة منه في عصير الليمون ، وقام الانسان بتناولها فانها ستُصيبه باعراض شبيهة باعراض مرض الملاريا ، وتفقده وعيه خلال وقت وجيز ، وتبقيه كذلك لساعات معدودة قبل ان يعود الشخص مرة اخرى إلى طبيعته ، ولانها مادة يصعب إكتشافها في الدم ولا يتم ذلك الا في معامل عالية الدقة غير متوفرة ، فان ما سيصيب سلمى سيُعزى الى سهرها ، وارهاقها ، والى مرض الملاريا المنتشر ، لذا فقد إستيقظت مبكرةً في ذلك اليوم ، وجهّزت كوب اللّيمون ، ووضعت فيه السُّم ثم أنتظرت ، وعندما حان الوقت ، حملته إلى غرفة سلمى وهي ترسم ابتسامة ماكرة ، خبيثة ، على وجهها ...

    كانت سلمى متوترة قلقة ، ولم تكن لديها أيّ رغبة في تناول أي مشروب لانها كانت تشعر في ذلك الصباح ان مسئوليتها مضاعفة ، فاللّغة العربية هي التي تتوقف عليها نتيجة الامتحانات كلها ، واللّغة العربية هي المادة التي تخُص الاستاذ جلال ، لذا حاولت أن تعتذر عن شُرب كوب الليمون ولكن اخلاص أصرت إصراراً عجيباً حتى أن سلمى رأت في عينيها شئياً من الغضب ، فطلبت منها أن تضعه على الطاولة ، ريثما تنتهي من تسريح شعرها ، فوضعت اخلاص الكاس ووقفت تنتظر ولكنها سمعت صوت زوجها ينادي عليها فأسرعت تخرج متضجّرة .. ودخل في تلك اللحظة أحد الصبيين ودارت عيناه في أرجاء الغرفة ، فرأى كاس الليمون موضوعاً على الطاولة ، فأسرع يسكب ما به على الارض ويفر خارجاً إمعاناً في إغاظة سلمى فحملت سلمى الطاولة ووضعتها فوق المكان الذي سكب فيه الصبي كاس العصير ثم وضعت الكاس من فوقها وخرجت ، وجاءت إخلاص بعد خروجها فوجدت الكأس فارغاً فابتسمت في شماتةٍ ، وفرح ، معتقدة انّ سلمى قد شربت اللّيمون الممزوج بالسم ... وجلست تنتظر في قلق واهتمام ..

    وعاد زوجها ظهراً فازداد توترها وقلقها فلقد خشيت أن تكون قد زادت من كمية السم مما سيؤدي إلى موت الفتاة ويكشف مؤامرتها فبقيت مرهفة أذنيها ، مصيخة سمعها ، تتوقع في كل لحظة أن يطرق الباب من يحمل سلمى على كتفيه ، أو من يخبرهم أنها قد نُقلِت إلى المستشفى ..

    وسمعت اخيرا صوت الحافلة وهي تتوقف أمام الباب فأرتجفت من قمة رأسها وحتى أخمص قدميها .. وأسرع زوجها يفتح الباب فرأت سلمى وهي تدخل سائرة على قدميها وبسمة مشرقة تلوح في ثغرها فشعرت وكأن شيئا مجهولا يضغط على رأسها في قوة ، وعجزت عن فهم ما حدث فأسرعت إلى فراشها ولزمته بقية اليوم لا تتحدث إلى أحد .. لم يعد أمامها الا أن تنتظر نتيجة الامتحانات .. ولكن ماذا إن نجحت سلمى ؟؟ لا لن تنجح !! لا يمكنها أن تنجح فهي لم تذاكر منذ بداية العام .. وحتى إن نجحت فلن تستطيع الدخول إلى الجامعة لانها ليست بالذكاء الذي يمكنها من منافسة تلك الالاف المؤلفة من الطلبة والطالبات الذين يتنافسون للدخول الى الجامعات ، أما إن فعلت ، فستفعل هي أي شيء آخر حتى تتخلص منها تماماً هذه المرة ... ستدخل عليها ليلاً في غرفتها فتخنقها .. أو ستتضع لها كمية أكبر من السم ، وستتأكد هذه المرة من انها قد تناولها .. لن تتركها أبداً تنعم بحياتها لتنغص عليها ما تبقى من عمرها .

    وانتهت الامتحانان كما بدأت ، ولم تعرف سلمى على وجه اليقين كيف كانت إجاباتها ، كانت تشعر أحياناً ان إجابتها كانت أكثر من ممتازة وكانت أحياناً أُخرى تشعر أن إجاباتها كانت غير جيدة ، وانها لن تحرز المجموع المطلوب .. كان أكثر ما يقلقها هو أن يضيع المجهود الذي بذله معها والدها وأساتذتها هباءً ، وكان أكثر ما يخيفها هو ان تخذل أُستاذ جلال ... وأصبح اليوم طويلاً ، وفارغاً ، بعد أن كان قصيراً ، مشحوناً بالدرس ، وبالتحصيل ... وعادت معاملة اخلاص تتغير من جديد بعد فشل مؤامرتها وبعد ان اصبحت سلمى تقضي اليوم كله داخل البيت فازدادت ضيقاً .. ولاحظ والدها تبرُّمها ومللها فقال لها يوماً وهما يتناولان طعام الغداء :
    - ما رأيك في ان آخذك اليوم لتقضي عدة أيام مع جدك وجدتك ..

    وكادت ان تطير من الفرح .. لقد كانت في حاجة حقيقية للتغيير ، وللإبتعاد عن إخلاص وعن الصبيين فأسرعت تضع ملابسها في حقيبة صغيرة ، وفي لحظات وجدها والدها تقف أمامه وهي تقول له :
    - أنا جاهزة فهيا بنا ...
    فقال لها مداعباً مبتسماً :
    - إنتظري قليلا امنحيني على الاقل فرصة تغيير ملابسي ..
    ردت في مرح :
    - سامنحك عشرة دقائق كاملة ، ويجب أن تكون على استعداد فأنا سابقى هناك طوال فترة الاجازة انشاء الله .. كان ذلك ما يريده هو بالضبط فازدادت ابتسامته وهو يشعر بالراحة والرضى ...

    قوبِلت سلمى بالحفاوةِ التي إعتادت أن تُقابل بها من قِبل جدّها وجدّتها فشعرت مباشرة بالهدوء والسكينة اللّتان كانت تشعر بهما كلما أتت لزيارتهما ، وأجلستها جدتها بجوارها وهي تسألها عن كل صغيرة وكبيرة فصارحتها بمخاوفها من النتيجة .. إلا ان جدتها طمأنتها قائلة :

    - ستحرزي نتيجة باهرة إنشاء الله ، لقد فعلت كل ما عليك فعله ، ويجب ان تنسى الآن أمر النتيجة تماماً ولا تفكري بها حتى يأتي ميعادها ، لقد انتهى الامر ولن نستطيع أن نغير شيئاً بقلقنا وتفكيرنا وإنشغالنا ، كما انك يجب أن تصفّي ذهنك تماماً لانني أريد ان أعرفك على فتاة رقيقة جميلة وذكية مثلك تماماً ..
    تساءلت سلمى قائلة :
    - من هي هذه الفتاة التي تريدين ان تعرفيني عليها ؟؟
    أجابتها جدتها :
    - لقد عاد المهندس علي أحد جيراننا القدامى من غربته الطويلة بصورة نهائية ، ولقد كبرت إبنته التي كانت في مثل عمرك و أصبحت عروساً جميلة ولقد استطاعت بالرغم من عودتهم المتاخرة أن تجد الوقت الكافي لتجهز نفسها للالتحاقِ بمدرسة الحي فخاضت الاختبارات مثلك لقد أخبرتها كل شيء عنك وهي في شوق لرؤياك والتعرف عليك وسارسل اليها الآن حتى تاتي وترينها .. ستحبينها مثل ما أحببتها ..

    وما ان دخلت سميرة بوجهها الهاديء المألوف حتى شعرت سلمى بالراحة لرؤيتها ، وما ان سلمت عليها وجلست اليها حتى تبادلتا الحديث في الفة ومودّة وكانهما كانتا تعرفان بعضهما البعض منذ وقت طويل ... ومنذ تلك اللحظة لم تفترق إحداهما عن الاخرى حتى في وقت النوم ، فقد كانتا تنامان سوياً يوماً في ببيت جدها وجدتها ، ويوماً في بيت سميرة وأًسرتها ....

    ***
    وجدت سلمى في سميرة أنيساً ورفيقاً أنساها الكثير من خوفها ومن قلقها على النتيجة ، وشعرت بقربها منها فحكت لها عن مدرستها ، وعن زميلاتها الكثير وحدثتها باستفاضة عن الاستاذ جلال ، وكانت وهي تتحدث عنه تشعر بمشاعر غريبة تجاهه ، مشاعر ليست كمشاعرها التي كانت تشعر بها تجاه عثمان ، ولكنها بالتاكيد ليست كمشاعرها تجاه والدها ... كانت تفتقد ذلك النوع الخاص من الاهتمام الحاني الذي إعتادت أن تجده منه .. وكانت تفتقد منطقه المُهذب الجميل .. و صوته الهادي الرّصين ... وكانت في شوق لان تراه ... وكثيراً ما كانت تسأل نفسها ترى كيف كان سيكون مصيرها لو لم يضعه الله في طريقها ؟؟ وأين كانت ستكون الآن ؟؟

    وأنتهت أيام الاجازة ، وحل ميعاد إعلان النتائج .. جاء اخيرا ًالموعد الذي انتظره الجميع في ترقب ولهفة ، وفي اليوم الموعود تحلق الناس في كل ارجاء البلاد حول شاشات التلفزيون لمشاهدة المؤتمر الصحفي الذي تعقده وزارة التعليم والذي يقوم فيه الوزير بالقاء الضوء على النتيجة العامة و باذاعة أسماء المائة الاوائل على مستوى الجمهورية حتى تتمكن المدارس بعد ذلك من تسليم النتائج للطلاب بعد أن يكون مندوبيها قد تسلموا النتيجة الخاصة بمدارسهم من مراكز الاشراف التي تتبع لها تلك المدارس ، و كبقية الأسرفي ذلك اليوم جلس جد سلمى وجدتها وأُسرة عمتها ورفيقتها سميرة ووالدتها واثنتين من جاراتهم يشاهدون المؤتمر المنقول على الهواء ... ولم تكد مراسم المؤتمر تبتديء حتى خرجت سلمى إلى المطبخ بحجة إعداد الشاي .. كانت تشعر بالكثير من القلق والخوف فعليها في الغد أن تذهب الى مدرستها حتى تستطيع التعرّف على نتيجتها ، وعليها أن تتحلى بشجاعة الدنيا كلها لتجد في نفسها القدرة على الذهاب لمعرفة مصيرها .. ووجدت نفسها تتضّرع الى الله أن لا يخذلها .. ( يا رب لقد فعلت كل ما بوسعي وأنت أعلم بحالي ) .. ( يا رب لا تكسر بخاطري ) .. وبقيت تردد مثل هذه الدعوات وهي تقوم باعداد الشاي فسالت دموعها على خدها وبللت وجهها .. وجاءها صوت رفيقتها سميرة يحثها على السرعة فلقد بدأت إذاعة الاسماء .. مسحت دموعها ، وحملت صينية الشاي، وأتجهت نحو الغرفة التي يجلسون فيها و خطت الى داخل الغرفة ، وقبل ان تضع الصينينة على الطاولة سمعت الوزير يقول في صوته الجهور :

    - المركز الثالث على مستوى الجمهورية الطالبة سلمى أحمد سالم مدرسة السيدة اسماء للبنات ...

    ولبرهة لم تستوعب ما سمعت برغم الصيحات التي انطلقت من حولها فوقفت مشدوهة ... ولثوان معدودة انتصبت كتمثال من الشمع من دون حياة ... وبسرعة البرق مر شريط كامل لكل ما مرّ بها في حياتها أمام عينيها في تلك اللحظة ، وما ان استوعب عقلها النبأ .. وفهمه وأدرك معناه حتى سقطت صينية الشاي من يدها على الارض ، وسقطت هي بجوارها غائبة عن الوعي ، فازدادت الصيحات من حولها إرتفاعاً ... وازداد الناس من حولها ضجيجا .
    كان الخبر أكبر من ان تحتمله .. وكانت المفاجاة أقوى من جسدها الذي أنهكه الجهد ، والقلق ، والألم والسهر ...

    (25)

    ترك أحمد زوجته اخلاص لوحدها في المنزل وأتجه نحو منزل والديه ليكون بجوار إبنته وقت إذاعة البيان ليُدخل الطمأنينة الى قلبها ، وليرتب معها أمر الذهاب في الغدِ إلى مدرستها لاحضار نتيجتها ، فأعدّت إخلاص لنفسها كوباً كبيراً من القهوة بعد خروجه ، وأشعلت جهاز التلفزيّون ، وتربّعت وسط السرير تُشاهد .. وأبتدأت قناة التلفزيون تنقل وقائع المؤتمر الصحفي فأصغت في إهتمامٍ ، وأبتسمت في شماتة ، وهي تتصور خيبة أمل زوجها وهو يرى نتيجة إبنته في الغد ، وشرعت تفكر في سرورٍ في خطتها الجديدة للتخلص من سلمى .

    كانت قد أقنعت نفسها مُنذ وقتٍ طويل بفشل سلمى ، لذا لم تصور لها اسوأ كوابيسها أنه من الممكن أن تحرز نتيجة تمكنها من الدخول الى الجامعة ، أما أن تكون مِن الاوائل فذلك ما لم يدر بذهنها قط ، لذا ما ان نطق الوزير بإسم سلمى ، حتى شعرت وكأن رصاصة قاتلة إخترقت قلبها مُباشرةً ... أو كأن نصلاً حاداً انغرس في صدرها وشقه إلى نصفين ، فسقط كوب القهوة من يدها في نفس اللحظة التي سقطت فيه صينة الشاي من يد سلمى .. وشعرت بغصّة في حلقها ، وبشئ يكتم أنفاسها ، فمدت يديها تُصارع الهواء .. وجعلت تنتفض في مكانها محاولة ان تتنفس فلم تستطيع ... وحاولت أن تصرخ فلم يسعفها صوتها ..... وكالمصروع بقيت تتلوى في السرير القديم ، وتتقلب في عنف حتى سقطت على الارض في قوة .

    ودخل الصبيّان إلى الغرفة ليطلُبا منها شيئا فوجداها تخور كالثور الذبيح وقد همدت حركتها .. وتيبست أطرافها .. واندلق لسانها خارج فمها .. وجحظت عيناها .. فأصابهما الهلع لرؤيتها على تلك الحال .. وناديا عليها في جذع فلم تجبهما ، فركضا صارخين يستغيثان باحدى جاراتها ، وفتحا باب الحوش ، وأنطلقا إلى الشارع دون ان ينبها فاصطدمت بهما إحدى السيارات العابرة المسرعة ، وتجمع الناس من كل مكان ، ودخلت إحدى جارات إخلاص إلى المنزل عندما لم ترها بجوار ولديها وهما ينزفان في غزارة فوجدتها مُسجاة على أرض الغرفة فتم نقلها إلى المستشفى مع ولديها في سيارة إسعاف واحدة ..

    كان أصغر الصبيين قد فارق الحياة في الحال ، ولحق به شقيقه الاكبر بعد الوصول الى المستشفى بعدّة ساعات ... أما اخلاص فقد تم إنقاذها من الموت باعجوبة ، ولكنها أصيبت بالشلل التام فلم يعد يتحرك منها إلا لسانها وعينيها ، وعرفت بما حدث لولديها فاصاب الشلل حتى لسانها ، وبقيت ترقد بعد ذلك كالجثة الهامدة .

    ***
    لم تعرف سلمى كم بقيت غائبة عن الوعي .. ولكنها شعرت بقطرات دافئة تسقط على خدها ففتحت عينيها في بطء ، فرأت وجه أبيها وهو ينحني فوقها ينظر اليها و يبتسم في حنو وقلق.. ورفعت رأسها من علي السرير فضمّها إلى صدره في فرح غامر فاعاد الدفء الذي أنتقل من حضنه إلى صدرها أعاد اليها شيئاً من قوتها ، ونظرت حولها فرأت الوجوه الفرحة المستبشرة فتأكدت أن ما سمعته صحيح ، وأنها حققت المعجزة ، ونالت النجاح .. وعلى الفور إرتسم وجه أستاذ جلال أمام عينيها وهو يقول لها :

    - أنا واثق من أنك ستحرزي نتيجة باهرة .. ومتاكد تماما من أنك ستنالي ما تستحقين ... دار بذهنها تشجيعه .. ودعمه .. ووقوفه إلى جانبها في كل صغيرةٍ وكبيرة فشعرت بنفسها تهفو إليه، وبرغبة عارمة في رؤيته في هذه اللحظة بالذات ، رغبة لم يكن في مقدورها قهرها .. أو التخلص منها .. أو تجاهلها ، وغادرها حياؤها المعهود فأسرعت تقول الى والدها في لهجة مغتضبة حاسمة :

    - أريد ان أرى أستاذ جلال يا أبي .. أريد ان التقي به في أسرع وقت ممكن !
    تساءل والدها مندهشاً :
    - الآن ؟؟
    ردت بنفس اللهجة :
    - نعم الآن يا أبي ... أرجوك ، أريد ان أكون أول من ينقل إليه خبر نجاحي ، وأريد ان أشكره على كل ما فعله من أجلي ..

    ولم يشأ والدها ان يفسد عليها فرحتها التي يراها لاول مرة فخرجا بعد ان استاذنت من الجمع المُلتف حولها في بيت جدتها ، وأستوقفا أول سيارة أجرة مارة ، وصعدا إليها ، فانطلقت السيارة تنهب الطريق نهباً.. وبرغم أنّ السيارة كانت تسير بسرعة كبيرة الا انها كانت تحث السائق على الاسراع أكثر حتى أصابه العجب من أمرها ....

    لم تعرف سلمى لِمَ كانت قلقة كل ذلك القلق .. ولا تدري لماذا كانت تشعر بانها في سباق مع الوقت كأنها تخشى أن تصل فلا تجده ، أو أن تجده قد انتقل إلى مكان آخر .. شيء ما في داخلها بقى طوال الطريق يدفعها إلى الإسراع دفعاً ، وكلّما مرت الدقائق كان أنفعالها يزداد ، ولهفتها تتضاعف ، فقد تركزت مشاعرها كلها في شيء واحد هو رؤيته ورؤية الفرحة بنجاحها في عينيه ، حتى يعرف أن كلّ ما قدمه لها لم يذهب هباء .. وحتى يدرك أن كل تعبه معها ونصائحه إليها لم تضيع سُدى ... وحتى يعرف أنّ اهتمامه بها أوصلها إلى ما كان يريد لها أنْ تصل إليه .. لقد كان السبب المباشر في إخراجها من ظلماتٍ كانت ستبتلعها .. ومن لججٍ كانت ستودي بحياتها .. لولا ان وضعه الله في طريقها ..
    ولكن لم هي قلقة هكذا ؟؟

    ولم خرجت مسرعة الى منزله بمجرد أن وجدت الفرصة لذلك ؟ الأنها تُريد أن تنقل إليه خبر نجاحها وتشكره مثلما قالت ؟؟ الأنها تريد فقط ان ترى فرحته بنجاحها في عينيه ؟؟ إن كان الأمر كذلك فما بال قلبها يخفق كأنه طائرٌ حبيس ؟ وما بال فؤادها يضطرب ؟ وما بال جسدها يرتجف ؟ ما هذا الذي تحسه وتشعر به ؟؟ أتراه أصبح لديها أكثر من مجرد أستاذ وقف الى جانبها وساعدها دون أن تدري ؟؟

    ولكن ما بالها تفكر باشياء لا يجب ان تفكر بها الآن .. إنها فقط تريد أن تراه وعليها أن تؤجل أي اسئلة أخرى إلى ما بعد ، وعلى العموم فان الشكر وحده ليس كافياً لشخصٍ مثله ..
    كانت تعرف الحيّ الذي يسكن به ولكنها لم تكن تعرف عنوان المنزل بالتحديد فاضطرا إلى السؤال عدة مرات حتى وصلا الى بيته ..

    تركت والدها يدفع الحساب لسائق التاكسي ثم نزلت تطرق باب المنزل في عجل ، مرّت برهة قبل أن يُفتح الباب لتبدو من خلفة صبية في الرابعة عشرة من عمرها ، ترتدي بلوزةً بيضاء طويلة الاكمام ، وتنورة سوداء تكاد تلامس أطراف أناملها ، وقد ألتف شعرها الحريري في كومة واحدة فوق رأسها فبدا جمالها الفتان برغم الحزن ارتسم واضحا في ملامحها وفي عينيها الواسعتين ، ورأى والد سلمى نظرة تساؤل في عيني الفتاة التي لا تعرفهما فاسرع يقول:

    - أنا أحمد ، وهذه ابنتي سلمى احدى التلميذات في مدرسة الست اسماء التي يعمل بها الاستاذ جلال ولقد جئنا لرؤيته .. دعتهم الفتاة إلى الدخول في صوتٍ حزين فازداد قلب سلمى إرتجافا ، وعلا صوت ضرباته حتى باتت تسمعها باذنيها ، فدخلت الى المنزل وهي متوجسة قلقة .. كان البيت يبدو أنيقا ، جميلاً ، ومرتباً ، ولكن كان يلفه سكون غريب .. استقبلتهم والدة الاستاذ جلال في الصالون ، وضمت سلمى إلى صدرها في حنان بمجرد ان عرفتها وهي تقول في الم :

    - لقد كان دائم الحديث عنك ، وعن ذكائك ، وشعرت الام شعوراً عميقاً بان هذه الفتاة الصغيرة التي تضمها الى صدرها ، والتي لم تعرفها من قبل ، ولم تلتقي بها إلا الآن تشاركها حُزنها على فراق ولدها ، وتقاسمها رحيله .. وسمعت سلمى كلمة ( كانت ) فلم تستطع أن تتمالك نفسها أكثر من ذلك ، فاجهشت بالبكاء وهي تشعر بانها تهوي في هوة من دون قرار، وتسقط في حفرة مظلمة سوداء ، قاتمة السواد .. لقد تخيلت الاسوأ .. وظنت أن مكروهاً اصابه .. ولكن والدته مسحت دموعها وهي تقول:
    - لو أسرعت قليلاً لكنت قد التقيت به ... لقد غادر الى المطار قبل وقت قصير.. وستغادر طائرته خلال أقل من ساعة .. شعرت سلمى أن يداً بيضاء تنتشلها من الهوة التي سقطت فيها قبل قليل وهي تستمع الى كلمات والدة الاستاذ جلال فهتفت من بين دموعها في فرح :
    - أتعنين أنه بصحة جيدة ، وأنه لا زال موجوداً ؟؟
    - نعم هو بصحة جيدة والحمد لله ، ولكنه غادر قبل قليل ليلحلق بطائرته ، لقد قرر السفر منذ أن استغنت عنه الوزارة بنهاية العام السابق ، ولكنّه أجل سفره حتى يرى المؤتمر الصحفي فقد كان يتوقع أن يكون أسمك من بين الاوائل ، ولقد كان مصراً على ان يسمعه هنا وليس في أي بلد اخر، ولقد سالت دموعه في فرح عندما سمع أسمك مثلما توقع ان يسمعه ..
    وصرخت سلمى :
    - ولكن أستاذ جلال يجب ان يبقى ، هو بالذات يجب أن لا يسافر .. علينا ان نلحق به في المطار قبل أن يغادر .. علينا ان نفعل اي شيء ليظل موجوداً بيننا .. ان أمثاله يجب أن يبقوا مهما حدث .. فلولاه بعد الله تعالى لما نجحت ولولاه لضاع مستقبلي ، ولولاه لضعت أنا وهناك الكثيرات غيري ممن هن في امس الحاجة اليه ، ليعيد إليهن ثقتهن بانفسهن ، وليصرف عنهنّ الشرور ، ولينير لهنّ الطريق ، فيسرن فيه في هدوء واطمئنان حتى لا يستغلهنّ مستغل ، أو يتلاعب بهنّ مُتلاعب ..
    وبثت كلماتها الصادقة الملتهبة الحماسة في نفوس شقيقتيه فتساءلتا :
    - أتعتقدين انه سيغير رأيه إن لحقنا به معاً في المطار ورجوناه ان يعود ..
    - علينا على الاقل ان نحاول فانا لا بد ان أراه ... لا بد ان ألتقيه ، لا بد ان أتحدث اليه حتى إن أصرّ على السفر ..
    وقالت والدته :
    - لقد حاولنا ما أستطعنا أن نصرف فكرة السفر عن ذهنه ولكنّه كان مُصمِماً .. إنه يحب هذا البلد أكثر من أي مكان آخر في العالم ، وأكثر من أي انسان ، الا انه لم يجد أمامه من سبيل غير السفر حتى يواصل ما يراه واجباً عليه .. ونحن أهون عليها ان نجوع وهو الى جوارنا ، من أن نشبع وهو غائب وبعيد عنا ، ان شقيقتيه لم تتوقفا عن البكاء منذ أن عرفن بأمر سفره .
    - لا بأس يا خالتي من المحاولة مرة أُخرى ، وعلى العموم نحن لن نخسر شيئاً لذا أرجوك أتركي سارة وسناء ترافقاني إلى المطار فربما نستطيع معا أن نغير رأيه وأن نجعله يعود ..
    وأسرعوا جميعاً يركبون سيارة أجرة أخرى وسلمى تسال الله في سرها أن يلحقوا به في الوقت المناسب وأسرعت السيارة تنهب الطريق ولكن الطريق كان يزداد إزدحاماً كلما تقدموا إلى الامام فمر الوقت سريعاً ومع كل دقيقة تمر كانت سلمى تزداد قلقاً توتراً .. وأصبحت الحركة شبه مستحيلة عندما وصلت السيارة الى منطقة المطار ، فادركت سلمى أنهم لن يستطيعوا الوصول في الوقت المناسب لو بقى الحال على ما هو عليه ، وأنهم لن يصلوا الى المطار الا بعد فوات الاوان ، و بلغ الإنفعال منها كل مبلغ ، فاستغلت وقوف السيارة في احدى الاشارات المرورية وفتحت الباب ونزلت من السيارة وهي تقول :
    - ساسبقكم إلى هناك وركضت باتجاه المطار باقصى سرعة غير عابئة بالعيون التي تتابعها ، ولا بنظرات الدهشة التي تنطلق من أعين راكبي السيارات من حولها ، فوصلت إلى صالة المغادرة لاهثة ، متقطعة الأنفاس وكان حارس الأمن مشغولاً مع بعض المسافرين فتمكّنت من الدخول حتى الصالة الداخلية للمغادرة دون ان يمنعها احد ، وسألت عن طائرة الاستاذ جلال فأشار أحدهم إلى طائرة ترتفع نحو السماء فوقفت تتابعها وهي تشعر وكأنّ قلبها يغادر جسدها ليلحق بالطائرة التي تحلق في الجو ..

    كانت الصالة من حولها مكتظة عن آخرها بالمسافرين حتى ظنت ان البلد في الخارج لم يتبقى فيها أحد ، وكان الناس في عجلة من أمرهم يتراكضون هنا وهناك وكأن شيئاً مجهولاً يطاردهم ، وغابت الطائرة في السماء فانتبهت الى الحوارات التي تدور من حولها :
    - أمسافر انت ؟؟
    - نعم !!
    - ولِمَ تسافر؟
    - لِمَ أسافر؟؟ قل لي لِمَ تبقى فأي شيء هنا يدعوني للبقاء .. ولكن ما دمت تسألني فلم تسافر أنت ؟؟
    - لكي أعيش .. لكي أعيش ، إننا نكاد ان نموت جوعاً هنا يا رجل ؟؟
    - وأنت لم تسافر ؟؟
    - لابحث عن عمل ، لقد فشلت في الحصول على أي شيء في هذا البلد !!
    - وأنت يا أخت لم تسافرين ؟؟
    - لم أسافر ؟؟ لاصون عرضي وأحفظ شرفي !!
    - وأنت يا أخي لم تترك وطنك ؟؟
    - لكي أتحدث يا أخي ، لكي أستطيع ان أقول ما أريد دون خوف فلقد تعفّن لساني بين فكي وأنا مُكمم فمي هنا
    وفجأة لمس كتفها كف أمراة وهي تسألها
    - وأنت يا أبنتي لم تسافرين ؟؟ ..
    نظرت سلمى اليها وعيناها مليئتان بالدموع ثم اشارت نحو السماء :
    - انا لن اسافر ولكنه هو الذي يسافر .
    - هو ؟؟ هومن يا صغيرتي ؟؟؟
    - الوطن ... الوطن هو الذي يسافر ...

    (26)

    فُتِحَ باب الغرفة رقم 5 في الدور الأرضي لمُستشفى الشّعب الذي ترقد فيه إخلاص منذ أن أُصيبت بالشلل ، وأطل وجه سلمى من وراء الباب فسالت دموع اخلاص على خدها كعادتها كلما رأت سلمى تدخل اليها ، فاسرعت سلمى اليها تمسح دموعها وتعاتبها قائلة :
    - ألم تعديني في المرة السابقة أن تقابليني بالابتسام وليس بالدموع ؟

    وظلت تتحايل عليها فلم تتركها حتى رأت ابتسامتها تلوح على شفتيها .... كانت سلمى قد وصلت إلى بداية السنة الثالثة في كلية الاداب قسم اللغة العربية التي أحبتها من صميم قلبها ، وقررت أن تتخصص فيها رافضة كل الاغراءات بدخولها إلى إحدى الكليات الاخرى كالطب ، والصيدلة ، والهندسة فقد كان مجموعها يمكنها من الدخول إلى أي كلية وفي أي جامعة تختارها ، ولكنها أختارت الاداب حتى تعمل بالتدريس ، وأختارت اللغة العربية حتى تكون مثل الاستاذ جلال ، وكان الناس قد انقطعوا عن زيارة إخلاص منذ وقت طويل حتى زوجها أحمد توقف عن زيارتها بعد ان سمع أخباراً من هنا وهناك عما كانت تفعله في الماضي .. الشخص الوحيد الذي استمر يزورها ويطمئن عليها هو سلمى ..

    كانت سلمى قد عاهدت نفسها بأن تكون مثل الأستاذ جلال أن تحب الناس أجمعين ، وأن تغفر لكل من يسيء إليها ، وأن لا تحقد على أحد في حياتها ، فلقد أنقذتها المحبة الصادقة من الضياع ، وأنارت لها الطريق ..

    وكانت إخلاص تبكي ندماً على ما كان منها ، كانت تتمنى ان لو كان في امكانها ان تتمكن من الكلام لساعة واحدة حتى تعتذر لها ، و تطلب منها السماح والغفران ليرتاح ضميرها ، كانت تتعذب الى اقصى حد وهي ترى الناس كلهم قد تخلوا عنها ، وتركوها ، ونسوا أمرها ، وأن الشخص الوحيد الذي بقى يهتم بها ، ويسأل عنها ، هي الانسانة التي أساءت إليها ، وعذبتها ، وحاولت ان تقتلها ، ولكنها لم تكن تدري أن سلمى لا تريد إعتذاراً ، وان قلبها الصافي النقي لا يتذكر من الماضي الا الاشياء الجملية واللحظات الحلوة ، أما الاساءات فقد كان يغفرها وينساها في وقتها وكانها لم تحدث أبداً ...

    تمت بحمد الله وتوفيقه























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de