بارونات الصحافة في مصـر ديموقراطيون على الورق .. مستبدون على الطاولة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-24-2024, 05:53 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-11-2004, 01:25 AM

نبيل شرف الدين


للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
بارونات الصحافة في مصـر ديموقراطيون على الورق .. مستبدون على الطاولة

    نبيل شـرف الدين
    لا أثق عادة بالانطباعات الأولى عن البشر أو الأمكنة، إذ يخالجني شك بأنها تنطوي على قدر ما من المخادعة، لكن بعد مرور سنوات على أول لقاء جمعني بالأستاذ الكبير "باسط"، أجدني مازلت أسير انطباعاتي الأولى عنه، فكل ما اكتشفته بعد هذا اللقاء كان بمثابة "شروح على المتون" التي تستفيض في كشف جوانب من مسيرة الأستاذ "باسط"، الذي تتصدر الصفحة الأولى من الصحيفة التي يرأس تحريرها صورته وتوقيعه ببنط ينافس المانشيت دون مبالغة، ولا أفهم كيف يمكن للمرء أن تتضخم ذاته إلى حد قبول واستساغة هذا التبجح، بل وسعادته به أيضاً، ولعل هنا "بيت الداء"، كما تقول العرب، إذ أن شيئاً ما لا أعرف له اسماً حتى الآن، في تراثنا النفسي يتعايش ببساطة، بل ويحرض أيضاً على "صناعة الطغيان"، التي تبدأ انطلاقاً من قناعة مؤداها أن "الحكومة دائماً على حق"، ولا ينحصر بالطبع مفهوم الحكومة في هذا السياق على المعنى الشائع في أدبيات الصحافة السياسية، التي ترى أن الحكومة هي رئيس الوزراء ونوابه والوزراء ومساعديهم، بل يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، إلى تخوم ما يعبر عنه علماء الاجتماع بمصطلح السلطة الأبوية، المتشعبة والمتمترسة خلف تراث طويل وعميق من "خصوصيتنا حماها الله"، التي يبدو أنها باتت "أعز ما نملك"، أو ربما "آخر ما نملك" من شعارات خلال هذه المرحلة.


    ذهبنا بعيداً ..
    لنعد إذن إلى الأستاذ الكبير "باسط"، وعلى فكرة صارت صفة "الكبير" هذه من لوازم مخاطبته سواء عبر الأوراق الرسمية، أو حين يسعد المرء زمانه وييسّر له فرصة الحديث الشخصي المباشر مع "نيافته"، لدرجة كنت أتخيل معها أن "آل بيته" ينادونه بها، فيقولون له مثلاً "لبست الشراب يا كبير .. شربت الكافيه يا كبير .. الجو بديع يا كبير"، غير أن خبيثاً من شلة الحاقدين المختبئين تحت جلودهم أمثالي، عارضني الرأي، وأقنعني أن "قواعد اللعبة" تختلف هنا، ووبخني ناعتاً إياي بالغباء وغلبة الثقافة الريفية على خيالي، مؤكداً أن الأستاذ الكبير "باسط" يتحول بقدرة قادر في تلك اللحظة إلى "بُسْبُسْ"، أو "بسبوسة"، فسرحت أتخيل تلك الأجواء التي يتحول فيها "باسط" إلى "بسبوسة"، لكني عدت وأنبتّ نفسي أن سمحت لها بالخوض في هذه الأمور الخاصة، التي لا تعني سوى المرء بصفة شخصية.
    وما حدث قبل ذلك بسنوات أن مكاناً عاماً وظرفاً خاصاً جمعاني بالأستاذ الكبير "باسط"، ولم يكن الأستاذ الكبير "باسط" يعرف عني شيئاً، أي شئ، وهو بلا شك معذور، فلست في العير ولا النفير، كما أنه ليس "شيخ حارة" ليعرف الحابل والنابل، لهذا اسلمت أذناي وكل حواسي له ليتحدث عن خبراته العريضة مع الحياة والمهنة والبشر والقضايا العامة وأحداث التاريخ، وأنا مثل جمهور حلب حين يقع تحت سطوة مطرب مخضرم، يحرضه على المزيد استحساناً وإعجاباً، حتى وصل إلى لحظة قال فيها بكل فخر إن سيطرته على "المصادر" بلغت إلى حد أنه قبل رئاسته للتحرير كان يصل إلى مبنى الصحيفة، ليجد "مظروفاً" بانتظاره مع رجال الأمن، تركه "مندوب" من مؤسسة "سيادية رفيعة"، يحتوي على تقرير خبري جاهز ومكتوب على الآلة الكاتبة، قبل انتشار الحواسب، ولم يكن يفعل أكثر من أن يمهره بتوقيعه الكريم: (كتب ـ باسط عبد الباسط)، ثم يواصل بعدها جولاته الهاتفية على "المصادر" المطلعة.
    والحاصل أن تصنيف الأستاذ "باسط" لهذا السلوك تحت بند "السيطرة على المصادر" أصابني بالارتباك، فهناك ثمة قاسم مشترك بين ممارسة الكتابة وممارسة الجنس، كلاهما فعل وثيق الارتباط بشخصية الفاعل وطبيعة علاقته بالطرف الآخر، فالكاتب الجيد يسعى إلى إسعاد قارئه ويجتهد في البحث عن أكثر الأفكار ابتكاراً، وأدق المفردات تعبيراً، وأبلغ العبارات بنياناً وأشدها إحكاماً، ولا يتوقع الكاتب الحقيقي من القارئ أكثر من شعوره بسعادة صافية، يعبر عنها ولو بكلمة واحدة (الله)، وعلى حد علمي فإنه ليس مما يسعد أي كاتب يعشق الكتابة حقاً أن يمارسها نيابة عنه أي مخلوق آخر، تماماً كما هو حال كل عاشق مع معشوقه، وكما يوصف سلوك الإنابة في المسألة الجنسية بأنه "قوادة"، فإنني لم أجد مفردة أدق من "القوادة" في وصف الاستكتاب أو "الكتابة من الباطن"، التي يبدو أنها على وشك أن تتحول إلى ظاهرة شائعة في أوساط "بارونات الصحافة العرب، حيث رأينا ونرى ونعيش ونعايش ونكابد، في ما لم نطلع على خبرات الشعوب الأخرى في هذا المضمار بعد.
    وحتى لا أظلم الأستاذ "باسط"، فإنه وفي ظروف مازالت غامضة، كتب ذات مرة دون إنابة، وجاءت النتيجة في صورة نعتها "نيافته" بصفة "التحليل السياسي"، ولا أكذب فأزعم عم كان يتحدث ذلك التحليل، لكن ما ظل راسخاً في ذاكرتي حتى الآن، أنه كان واضح التأثر بأفلام "الكارتون" التي يعشقها، وقيل أنه لا يستطيع النوم قبل أن يشاهدها، ولهذا فإن محطة "سبيس تون" هي الأثيرة لديه، وإن كان ما يحزنه أنها لا تستضيف "خبراء استراتيجيين" وإلا كان سيسعى إليها ليدلي بدلوه في مجمل الأوضاع الراهنة، وأحوال "البوكيمون".


    حياء الحكومة
    كان أول "بارون صحافة" في تاريخها المعاصر هو الأستاذ هيكل، ورغم أن هناك اتفاقاً بين محبيه وشانئيه على براعته وحرفيته وقدرته الاستثنائية على التعبير بدقة، والتحليل بعمق، والاستبطان والاستشراف والتحليق في سيناريوهات الحدث، واستكشاف آفاق المستقبل القريب والبعيد، لكنه كان أيضاً أول من سنّ سنّة "التيم وورك"، أو فريق العمل الذي يجمع المعلومات، ويرتب الأرشيف، ويراجع الوثائق، ويفرغ أشرطة التسجيل للأستاذ، لتكون أمامه ـ شأن أي صانع قرار من الوزن الثقيل ـ قاعدة بيانات ومعلومات متكاملة، لتبدأ مهمته في التحليل والصياغة، حتى يخرج على القراء بدرة ثمينة، تصلح للقراءة مرتين وثلاثاً، وتصنف كشهادة على زمن ومرحلة، وهنا لم يخترع هيكل جديداً، بل غاية ما فعله أنه "مأسس" عملية الكتابة، وحوّل صناعة المقال الصحافي إلى عمل جماعي، بدلاً من مدرسة "الهاند ميد" الكلاسيكية، وإن لم يحمل المقال غير توقيعه ـ شأن أي مصنع ـ لكنه لم يكن خالياً من بصمات أخرى، كان هيكل قادراً على محوها باحتراف، وهو سلوك سبقه إليه كتّاب كبار في الصحافة الغربية، غير أنه شأن كل ظاهرة جديدة تفرز من يمتطيها، ويبتذلها وهذا ما حدث.
    الآن وفي حقبة "الديجتال" لم يعد يقتصر دور فريق العمل على جمع المعلومات والوثائق وهذه المهام المعاونة، بل تخطاها إلى ما هو أبعد ربما إلى حد التحليل والصياغة والمراجعة، وسيكون الأستاذ "باسط" في أفضل حالاته حين يسمح له وقته بقراءة ما يفترض أنه كتبه وينشر ممهوراً بتوقيعه، إذ أن الأستاذ الكبير دائماً مشغول في جولات هاتفيه على المصادر التي انتقلت بدورها إلى مستوى أرفع شأناً، هذا فضلاً عن مؤتمرات ومؤامرات واجتماعات الحزب، ومقابلات الفضائيات، وحفلات الاستقبال، ورحلات الصيف والشتاء إلى شرم الشيخ والساحل الشمالي، ناهيك عن الجولات المحلية والإقليمية والدولية، ومع كل هذا فالعجلة تدور بكل دقة وصرامة وانتظام، والصحيفة لا تتثاءب، والمطابع لا تتوقف، والمقالات تتدفق متناغمة مع الحدث، متماهية مع رؤية القيادة وأدبيات المرحلة، تارة في هيئة معلقات وأخرى في صورة برقيات، وثالثة من خلال كبسولات، ورابعة عبر ابتهالات، وهكذا فلكل مقام مقال، ومع الوقت تحيط بالأستاذ الكبير طبقة كهنوتية سميكة لا تلبث أن تزداد كثافتها بمضي الوقت، لتصل إلى حد وضع الأستاذ الكبير في "حالة تشرنق"، فلا تترك له أي فرصة للقفز في المجهول لحظة واحدة، فهو محاصر على مدار الساعة لا يقرأ إلا ما يدفعون به إليه، ولا يستقبل إلا من يسمحون له باللقاء، ولا يشارك سوى في الفعاليات التي يضعونها "تحت السيطرة"، وحتى لا يبتسم لامرأة ما لم تكن خضعت لسلسلة اختبارات صعبة تؤهلها للاطلاع بهذه المهمة النبيلة، التي تشكل في نهاية المطاف حاجة إنسانية، لا صلة لها بالأموال ولا الأوضاع الاجتماعية أو المناصب السياسية، بل على العكس قد تكون أكثر إلحاحاً لرجال يقعون تحت هذه الضغوط الهائلة بفعل الأعباء اليومية، لهذا شاعت خلال السنوات الأخيرة ما يمكن وصفه بظاهرة "حب المكاتب"، وبعضه يكون عفيفاً، ويمارسه عادة شباب الصحافيين من الجنسين، الذين يبحثون عن "شقة في فيصل"، لتكون مسرحاً لمشاجراتهم بعد سنوات، ومقبرة لنزقهم الجميل، وبعضه الآخر ـ وهذا ما يعنينا ـ لا يتوقف عند حدود "عفاف التلميذات"، بل يتجاوزها إلى آفاق أرحب، وهنا يعرف حضرات الزملاء قصصاً كثيرة، ليس من الحكمة الخوض في تفاصيلها، لعدة أسباب أهونها خشية الوقوع تحت طائلة القانون، ولعل ما يدور الآن في إحدى المؤسسات الشهيرة عن تنفذ "إحداهن" إلى حدود تجاوزت كل منطق، ما يكفي اللبيب من الإشارات.
    وهنا نلفت إلى قاعدة مستقرة في الديمقراطيات الراسخة، مفادها انه كلما زادت المسؤوليات العامة للشخص فان حريته الخاصة تتقلص، فمثلا المسؤول الامني اذا كانت له علاقات نسائية يخشى معها من إمكانية إفشاء أسرار عمله، فان تصرفاته في هذه الحالة توجب نقده
    وحتى لا نظلم الأساتذة الكبار فإن هذه الظاهرة تنتشر على نحو لم يعد محدوداً في أوساط النخبة البيروقراطية، ويعرف المتابعون للشأن المصري قصة اللواءات مديري الأمن العام والمباحث الجنائية وبعض كبار المسؤولين في ما اشتهر قبل سنوات بفضيحة الحسناء الأرمينية "لوسي ارتين"، وهي بالمناسبة قررت أن تخوض تجربة التمثيل قريباً، وما سربته الأجهزة حينئذ من تسجيلات لمحادثات هاتفية محمومة بالمشاعر وعبارات الغزل الملتهبة، لدرجة أنه لا يمكن بحال من الأحوال أن نورد أي مقاطع منها هنا، ورغم ذلك فقد نشرتها حينئذ الصحف المصرية بكل اطمئنان قبل أن تتقرر إطاحة هؤلاء المسؤولين، الذين التزموا بعدها الصمت إلى الآن، وربما للأبد إدراكاً منهم للعواقب.
    ولم تكن هذه الواقعة حالة استثنائية، فهي ـ كما يقال ـ بمثابة الجزء الظاهر من جبل الجليد، ولعل أحدث الوقائع المماثلة تلك التي تنظرها حتى الآن محكمة الجنايات المصرية في قضية الرجل الثاني في وزارة الزراعة، يوسف عبد الرحمن ومستشارته راندا الشامي، المتهم بتقاضي رشوة، والتزوير والاضرار العمد بالمال العام، والرشوة الجنسية، وإدخال مبيدات تسبب السرطان الى البلاد.
    وكان مما ورد في قرار الإحالة الرسمي الذي أعدته نيابة أمن الدولة العليا أنها وجهت الى المتهم الأول في القضية يوسف عبد الرحمن اتهاماً بأنه "خلال الفترة من 23 آب (أغسطس) عام 2002، وبصفته موظفاً عاماً، طلب من المتهمة الثانية راندا الشامي معاشرتها جنسيا على سبيل الرشوة، مقابل تعيينها مستشارا فنيا لشركة انتاج وتسويق الحاصلات الزراعية برئاسته، وعاشرها جنسيا تحقيقا لذلك".
    إذن فالأمر يرتبط بدرجة أو أخرى بتقاليد رسختها البيروقراطية العليا المصرية منذ نحو نصف قرن مضى، ومن بين قواعد هذه اللعبة مثل شعبي "قبيح"، لكنه متداول على نحو واسع يحمل نصيحة للمواطن بأن يفعل مع "الحكومة" ما يشاء، لكن إياه أن يخدش حياءها.

    ثقافة "المال السايب"
    للصحافة المصرية وضع بالغ الغرابة و"الخصوصية"، وهذه "الخصوصية" على فكرة هي أحدث المفردات التي نتوقع لها رواجاً واسعاً خلال الأيام القليلة القادمة، ففي مصر هناك حالة ملتبسة في ملكية الصحف، لدرجة تستحق دراسة موسوعية من نوع "طبقات الصحافة والصحافيين في القرن الحادي والعشرين"، فهناك صحف يمتلكها تجار خردة وكاسيت، وأخرى تمتلكها وتعرضها للإيجار أحزاب سياسية، وهناك صحف أخرى تصدر بتراخيص من قبرص ولندن، وكل هذا في كفة، وما يسمى بالصحافة القومية (الحكومية) التي أتشرف شخصياً بالانتماء وظيفياً إليها، في كفة أخرى، فلا أحد يعرف على نحو قاطع من يمتلك هذه المؤسسات الضخمة مثل الأهرام وأخبار اليوم ودار التحرير ودار الهلال ودار المعارف وروز اليوسف وغيرها، فهي رسمياً مملوكة لمجلس الشورى، وهو أحد مجلسي البرلمان، غير أنه لا يمتلك صلاحيات تشريعية، وقد ورثها مجلس الشورى من سئ الذكر التنظيم الأوحد "الاتحاد الاشتراكي العربي"، لكن من الناحية العملية فلا مجلس الشورى، ولا حتى مجلس الأمن يستطيع أن يتدخل في قرارات رؤساء مجالس إدارات المؤسسات الصحافية، الذين هم دائماً رؤساء تحرير ورؤساء كل صغيرة وكبيرة في تلك المؤسسات، فلا أحد يمتلك أدنى حق في مساءلتهم، أو معارضتهم أو حتى التجرؤ على عدم إظهار كل مودة ورحمة لهم، وإلا فبوسع هؤلاء "الأساتذة الكبار" أن يصدروا بحقه ما يعنّ لهم من قرارات، تبدأ بالحرمان من أي مزايا، ولا تنتهي عند حدود الفصل التعسفي، وهنا لا يتصور أن يتصدى صحافي فرد لخصومة مؤسسة تمتلك المال والنفوذ وأشباه الرجال المستعدين لدق عظامه واغتياله معنوياً إرضاء للأستاذ الكبير، وطمعاً في "الأجر والثواب"، الذي له ألف بند وباب، وهناك عشرات الوقائع التي تم فيها دق عظام صحافيين تمردوا على "السيستم"، أو حتى طالبوا بحقوقهم، ومنهم مثلاً مجموعة محررين في مؤسسة "أخبار اليوم" تم تسوية أوضاعهم مؤخراً بطريقة "تطييب الخواطر" قبل انعقاد المؤتمر العام الرابع للصحافيين.
    وفضلاً عن مجلس الشورى الموقر، فهناك المجلس الأعلى للصحافة، وهو يضم شخصيات لبعضها علاقة بالصحافة، وآخرين لا صلة لهم بالأمر من قريب أو بعيد، كما ان الحكومة هي التي تعينهم أساساً، وعلى رأسهم نفس الأساتذة الكبار، حيث يضم المجلس رؤساء تحرير الصحف الكبرى، وبالتالي لا يتصور لهذا المجلس القيام بدور رقابي حقيقي، لأن أعضاءه ببساطة لن يصدروا قرارات ضد أنفسهم، ولن يكونوا الخصم والحكم.
    وهكذا تفرقت دماء القطاع الأكبر والأهم من الصحافة المصرية بين القبائل، وبالتالي سادت ثقافة "المال السايب"، ورفعت شعارات "خالتي بمبة" القائلة "إن خرب بيت أبوك خذ لك منه قالب"، وهكذا تطايرت القوالب ذات اليمين وذات اليسار، وأصابت وتصيب من يرفع هامته قليلاً، ورغم أن مهنة الصحافة تصنف باعتبارها "مهنة رأي"، ويفترض فيها أنها تشكل حائط صدّ أساسي في أي ممارسة ديموقراطية في المجتمع برمته، لكن بوسع أي متدرب أو مبتدئ فيها أن يكتشف ببساطة أن الطغيان والفساد هما سمتان أساسيتان في القطاع الأكبر من الصحافة العربية بأسرها، ومن هنا تشيع عبارات من نوع "ديموقراطيون على الورق .. مستبدون على الطاولة"، أو ترفع عناوين على شاكلة "المستبد العادل"، ولعلها كانت نفس مسوغات ومؤهلات غير المأسوف عليه صدام حسين، والحاصل دون تقعر أو التفاف أو تلاعب بالمفردات، أو الاهتمام بالاعتبارات المرعية، أن كافة هذه النماذج هي مجرد تنويعات على نفس اللحن الاساسي، وتوزيعات جذابة لأغنية الاستبداد والطغيان المفعمة بالمرارة، ومن هنا يقرن قطاع عريض من الصحافيين الموهوبين المنسحبين من المشهد، بين حال الصحافة في مصر ومستقبل النظام السياسي والمناخ العام فيها، لأن الأمر يبدو كأوراق "الدومينو"، كل منها تتكئ على الأخرى في تراتبية تبدو للوهلة الأولى منطقية ومتماسكة، لكن ما أن تسقط إحدى هذه الأوراق، حتى ينهار كل هذا البناء مثل قطع البسكويت، ليكون في أفضل الأحوال على نحو ما جرى للامبراطورية السوفيتية، وفي الأسوأ فهناك سيناريوهات البلقنة والصوملة والأفغنة أعاذنا الله منها، وجعل يومنا قبلها.

    وثالثهما الحكومة
    نأتي أخيراً على "ترسانة التشريعات" التي تحاصر حرية الصحافة لدرجة أشعر معها بالشفقة على أعضاء اللجنة القانونية التي كلفت بحصر القوانين والأحكام المقيدة للحريات، تمهيداً لتعديلها بعد قرار رئيس الجمهورية الأخير بإلغاء عقوبة الحبس في قضايا النشر والرأي.
    وفي قراءة عابرة، يمكن أن نرصد هناك ثمانية قوانين تفرض قيودا على حرية الصحافة في مصر، منها قانون المطبوعات الصادر عام 1936، وقانون المخابرات العامة، وقانون العقوبات، وغيرها من القوانين التي إذا نظرنا إليها من الزاوية القانونية فسنجد انها تتنافس في تغليظ العقوبات على الصحافيين، وغالباً ما نلاحظ عدم تناسب العقوبات المنصوص عليها مع الجرم المفترض، وهو وضع يمس دستوريتها ويصطدم بمواثيق حقوق الانسان.
    وتتضمن نصوص القانون مالا يقل عن 42 فعلا مؤثما يعاقب عليها بالحبس لمدة تتراوح بين ستة شهور, والسجن لمدة خمس سنوات, والغرامة التي تتراوح بين خمسة حتى عشرين الف جنيه, وهي افعال تشمل ثمانية مجالات هي جرائم التحبيذ (وتشمل تحبيذ المذاهب التي ترمي الى تغيير مبادئ الدستور، او الى سيطرة طبقة على بقية الطبقات) وجرائم التحريض (وتشمل التحريض ـ بواسطة النشر ـ على قلب نظام الحكم، وعلى بعض طائفة من الناس، وعلى عدم الانقياد للقوانين، وتحسين الجرائم والجنح), وجرائم الاهانة (وتشمل اهانة رئيس الجمهورية، وإهانة مجلس الشعب او الهيئات النظامية كالجيش والمحاكم والمصالح العامة) وجرائم العيب (وتشمل العيب في حق ملك او رئيس او سفير دولة اجنبية)، وجرائم السب والقذف (وتشمل السب والقذف في حق الموظفين العموميين والنواب والاخلال بمقام القضاة).
    ثمة أمر آخر يتمثل في انه رغم كثرة التعديلات في النصوص الخاصة بحبس الصحافيين احتياطياً الذي سبق الغاؤه في العهد الملكي، ثم عاد مرة اخرى وتم الغاؤه عام 1995 بعد معركة شرسة، إلا أن هذا الإلغاء لم يتم في حالات "التعرض لرئيس الجمهورية، وازدراء الأديان ونبذها، والأخبار التي تنشر عن معلومات سرية تخص القوات المسلحة أو الشرطة، ولا تلك التي تضر بالمصالح القومية"، وهي كما نرى من العمومية بحيث يمكن أن تنطبق على نصف ما يكتب في الصحافة يومياً وأسبوعياً، والمعنى هنا انه مازالت هناك ألغام قانونية تواجه الصحافين، ويمكن أن تلقي بهم خلف القضبان لو اتجهت النية إلى ذلك، فالقانون مثلاً يسمح بنقد الموظف العام، لكنه يشترط حسن النية، وصحة الواقعة، ثم يلقي على كاهل الصحافي عبء اثبات صحة الواقعة وحسن النية، وهذا سخف لو تعلمون عظيم.
    وأخيراً من المنظور السياسي فإن إطلالة سريعة على مقالات كانت تنشر في ثلاثينات وأربعينات القرن المنصرم، تظهر مسافة الردة على حرية التعبير الآن، فمنذ انقلاب العسكر في تموز (يوليو) 1952 بدأ استغلال الصحافة كوسيلة دعاية سياسية على نحو واسع ساهم في إجراء عمليات غسيل مخ جماعية للشعب المصري، وحسب المثل الشعبي القائل بصدق "أول الرقص حنجلة"، كانت الخطوة الأولى هي تأسيس صحيفة خاصة مهمتها "الدفاع عن الثورة"، هي "الجمهورية"، واستمر هذا الوضع منذ العام 1952، وحتى العام 1961 حين اعتبر العسكر أن مجرد وجود صحف مملوكة لها تتنافس مع الصحف الأخرى أمر غير كاف، لهذا أصدر العسكر قانون تأميم الصحافة التي تحولت إلى أداة من ادوات الدولة، ولم تعد حرة، فما دامت الدولة تسيطر عليها وتملكها، فلا يمكن الادعاء بأنها حرة، وحتى حين ظهرت أخيراً بضع صحف خاصة ظلت تعتمد على الدولة بدرجة كبيرة، فهناك قدر من الأخبار والمعلومات التي تقدمها للقارئ، هي إما محصلة تسريبات من قبل أجهزة الحكومة، أو أن الصحيفة تحصل عليها بجهود محرريها لتتطوع بنشرها سعياً لإرضاء الحكومة، فضلاً عن اعتمادها على إعلانات تمسك الحكومة بتلابيبها ومفاتيحها، والخوف من زنازين تمسلك الحكومة أيضاً بتلابيبها ومفاتيحها، وهذا يعني ببساطة واختصار أنه "ما اختلى صحافي بقارئه، إلا وكانت الحكومة ثالثهما".
    والله المستعان
    [email protected]























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de