مسيخــــيت

البساطة تمثّل اللون الأساسي لهذه اللوحة المصغّرة ...

وتشيّد براحات فسيحة لأرتياح نفسي تلقائي...

النيل متصالح تماماً مع هذه المساكن المتواضعة .. فلا يضمها بعنف...

ويحطم منها الأضلعــا !!! ولكنهُ يشتهي تقبيلها فتأبي من تعفُّف

وتكتفي بفحولة الدعاش ....

قوارب الصيد الصغيرة تفترع أحشاء النهر في تحديٍ صارخ.. وشاهق النخيل

يؤذّن في الناس بالنماء فيحجّهُ الجميع من كل فجِ عميق ...

أولئك الصبية بألوانهم الترابية يزرعون المكان شقاوةً .. وتتعفّر الفضاءات

بصهيل القماري .. ومواء الطيور.. وتغريد الأزاهر.....



المكان... هذه ضاحية من ضواحي الولاية الشمالية أو شبِّه لي...

الزمان... لا أعرف له تحديداً .. لان التواريخ يصنعها الشخوص وتصوغها الاحداث...



كنت في ذلك الحين مراهقاً شهيراً .. أنتقل مجال تخصصي من ملاحقة

أغنام سيدي الي مطاردة الفتيات ... كل هذا وانا لم أبلغ من لعب السِّيجةِ

نباح كلاب !!!... والدتي أو هكذا أخبروني !! ( الصفـا لله) كانت سريّة مملوكة لشيخ القرية ( ود مجدوب ) وشقيقتي الوحيدة ( سلامة سيدا)

التي ولدت حين كان ود مجدوب مريضاً بالحمّي أم برد !! و أطلقوا عليها

هذا الاسم أستشـفاءاً لسيدي الشيخ .. أما انا فقد ولدتُ في موسم الجراد و سمّيت ( مسـيخـــيت) لأن ود مجدوب قال ( الجني دة شوم)!



هذه هي أقدارنا التي لم نختارها ... تسمو أرواحنا ولكن نظل في مجالس

القوم أسفل سافلين ... لن يكون مقامنا في عليّين الا في طبخ القدور

وحش التمور وحلب الشياه وتلك الامور....

أو ... تلبية لنزوة سيّدٍ أحمق .. أراد أن يتمرّغ في حقلٍ أبنوسيٍ ناهد !!



في أمسية أختارها القمر ليسمع العيون قصيدة الضياء ... وكذلك وافق

النسيم علي أن يعتلي البدر المسرح ويعقد زفاف هميم البريق وكل الرحيق.... في هذا المساء الناعس كانت القرية تفور وتمور... وحيثما تهرب

بسمعك.. يغشاك حس دلوكة ونقرة شتامــة .. وصفقة خدم ما عندهن شغلة غير أيووووووووي... والشيخ سيّرو النصيح حديدو أنا بريدو...

أمي ( الصفا لله ) أنتهت من مشـاط ستِّي ( نصرة )

مشطتــا ودلّكتــا.... وقطع شك... شكـّرتا !!!

زينب بنت الشيخ كانت عود خيزران .... يادوب ما تمّت أتناشر سنة..

بس تحلف تقول القمرة في مكانة.. وتاجوج في زمانه... والحنّة في بنانة

والسكر في لسانه... وكانت خمجانة.... زينب ساقت معاها شلّة من العبيد

ومعاهم ( سلامة سيدا) فرخـتا الاساسية !!!

الدلاليك دي تسوي جوووو ..... وحس النحاس يقول ( باكلكم باكلكم)

حلبة البطان مليانة صبيان .... والخدم ديل أها ... ألا ماسكات ليك في

يا قلبي السراري الفيك كاتم أسراري...

الشربوت والمريسة بالبراميل .... والعيون دي مولعة نار ...

واحدة من الفتوات خشّت الساحة... صديرة عام في الدّارة وخلّت ناس

فلانة حياري ... والله لو أدّتك شبــّال تكون للحول متيقــــن!!

انا شالتني ليك الهاشمية...( هسة الهاشمية دي أنقرضت) جدعت العرّاقي .. وكتحت لي عبـّار مريسة .. و ركزت للبطان...

الخلق كلهم يقولوا ( مسيخيت مسيخيت ) شوفو العب دة!!!!

والله ما عارف كان اخدت لي تسعتاشر واللا عشرين سوط...... لا سكرت

ولا شتّين ... بس عجبني ليك الحال وبشتنتني الشافعة ... وبعد أنتهي

البوش ...صدّيت راجع وغلبني أصل البيت .. غشيت مستورة خادم ناس

حاج الخضر .. وضهري يوج من نار الجلد ...



مرت ثلاث ليالي وانا لا أقوي علي الحراك .... والجميع يسأل ..

وين مسيخيت ؟ العب دة طفش وين ؟؟

أمي أحتضنتني باكية صبيحة اليوم الرابع ..... أدركت أن الانسان يبقي أنساناً مهما كان لونهُ أو شكلهُ !!! القيمة الحقيقية في الذات الانسانية

ولكن سيدي الشيخ ود مجدوب يري غير ذلك .... كنت وين يا أب رويس؟

الجني دة انا ما قلت ليكم شوم؟؟؟ قوم تقوم قيامتك ... أمش مع ستّك

زينب الشرق...



كانت القوارب الصغيرة تعبـِّد العباب جيئةً وذهابا ... أنا كنت أحب النيل

كثيراً.. وأجيد السباحة... وكذا أختي (سلامة سيدا) ... أنفقنا جلّ ذلك

اليوم شرقي النهر .... وقبيل الغروب حانت لحظة الأوبــة الي القرية علي

متن المركـــــب النحيل.. أزكر أن الريح كانت ثائرة بعض الشئ.. ولكن

هذا لم يكن يهمني.. فقد كنتُ مشغولاً بأمرٍ مــا ... بدأ الموج يرتجف خائفاً

وبدت زينب بنت الشيخ خائفةٌ أكثر ... حاولت (سلامة سيدا) التخفيف عنها وبثّ الطمأنينة في قلبها ... عند منتصف النهــر تماماً زادت حدّة الريح

و أصبح القارب مثل قشـّةٍ في أحشاء أعصارٍ جائع ...

بدأت الفتاة في البكاء الشديد .. وتشبّثت بي في رعب... وهي تردّد

مسيخيت مسيخيت... انا خايفة انا خايفة ....

لم يتحمّل الزورق صدام الامواج .. فأنفلق الي نصفين ... ودخلت زينب

في مرحلة هستيرية غريبة من الرعب ... وزادت من أمساكها الشديد بي

تخلّصت منها بصعوبة... ووضعتها علي ظهري.. بينما كانت (سلامة سيدا)

والمراكبي العجوز يسبحون في مهارةِ نحو الشاطئ... انا أبعدتني شدّة

التيار كثيراً عنهم . ولكني نجحت أخيراً في بلوغ بر الامان...

لقد شربت الفتاة كمية من المياه... لا بد من أخراج الماء أولاً...

قبلة الحياة الوسيلة الأكثر فعالية في مثل هذه الحالات...
بدأ الفرق واضحاً بين هذه الشفاه الرقيقة وذلك ( القدٌّوم) ...
كانت جميلة جداً وفي غاية الاثارة .. ألتفّت ملابسها عليها.. ولم تغلّف
أفكاري الخبيثة ... تطلّعت نهديها لحرية مشروعة تفك أسرها من سجن
هذه الملابس .... وكان لها ما أرادت !! لم أكن أعرف أنها بكل
رقـّة العالم ... لأني كنت أنظر أليها كسيدتي و أنا مملوكٌ لأبيها
والزىن تغيرت الامور ...
سمعتها تتأوّه بعد أن أفاقت ... ومع ذلك طالت قبلة الحياة أكثر من
اللازم .... وتسارع مد الشهيق وجزر الزفير !!! ...وووو...

في الطريق الي المنزل لم تكن تجرؤ علي النظر في عيني أراها متواضعة أكثر من و أكثر ... لا تعالي بعد اليوم !!
وجدنا القوم بخيلهم وخيلائهم في الانتظار
لم يصدقوا بأننا رجعنا .. سيدي الشيخ ود مجدوب أمر بزبح الزبائح
ودق النحـــاس .....
يا فلان... يا مسيخيت .... يا شوم يا روم
أمشوا الزريبة أضبحوا تلاتة تيران... وين الخدم ديل خلوهن يجهزن
الاكل للناس دي... قوم راسك زي زير الشربوت كدي...


مرت عدّة أشهر .. وسمعت أمي ( الصفا لله) الخبر..
كيف ؟ ومتي ؟ و أين... ومن وهل ولماذا؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
كادت أمي أن تموت من الهلع........ حامل ؟؟؟
والبلد أتكسرت .. الجميع يبحث عني ....
مسيخيت !!!! وين العب ؟ العب رأسو أجدعوه في البحر

لقد ضربت بما فيه الكفاية لآزهاق روح ثورٍ ضخم.... وعرفت أني مصيري

اعماق النيل... طعاماً للأسماك..
أظن أن عقارب الساعة كانت تشير الي حوالي العاشرة الا قليل
هدأت حدّة الريح تماماً .. بحيث لا يكون هناك جدوي من أستعمال الشراع
لذا كان وابل التجديف هطول الخطوات !!!! نحو المنتصف...
كنت أخشي البرد كثيراً... حاولت أن أتخلّص من الحبل المتين...
تحررت يدي اليسري قليلاً .. وقبل أن أتمكّن من فعل شئٍ آخر ..
أصطدم جسدي الضئيل بالماء البارد بعنف !!! و أدركت أنها النهاية
حاولت مرة أخري أن أبقي علي السطح ولكني فشلتٌ تماماً
غصت للمرة الثانية.. والمركب النحيل يتهادي في الماء مبتعداً..
وقبل أن أفعلها للمرة الثالثة ... شعرت بأن هنالك شيئٌ يرفعني
للأعلي ... وبعدها لم أعـي شيئاً...

( سلامة سيدا) تحاول أعادتي للحياة من جديد ... شعرت أخيراً بالشفاه
الغليظة تريد أخراج الماء من معدتي وصدري... وبدأتُ في السعال الشديد .. وبعدها أختفت شقيقتي لتعود بعدها بصحبة أمي ( الصفا)
في الحقيقة شعرت أخيراً بأنني علي قيد الحياة ...
وتحت ستار الليل البهيم.. غادرنا البلدة... و أدركت بان القيمة
الحقيقية تكمن في الذات الانسانية .. لا يهم اللون او الشكل ..!!
البقاء للانسان حيث وجد..... و أستقرّ بنا المقام أخيراً في عطبرة
أحرار نعم....... ولكن تحت مسمّي عبيد شايقيـــة....