تكملة (مشلهت والضياع الكبير)

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 03-29-2024, 09:10 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-31-2007, 07:40 PM

Rayah
<aRayah
تاريخ التسجيل: 08-26-2007
مجموع المشاركات: 158

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
sssss
تكملة (مشلهت والضياع الكبير)

    هذه تكملة للجزء الذي نشر. فإذا لم تقرأ الجزء الأول أرجو أن تقرأه قبل هذا الجزء.


    عظيم تشكراتي

    ظل مشلهت في المستشفى وهو مشغول بأمر بقجة الملابس التي سيعود صاحبها ومعه أولاد مشلهت وعمهم ولكنهم لن يجدوه في نقطة البوليس فماذا يفعلون … اغلب الظن أنهم سيجدون من يخبرهم أن مشلهت قد نقل للمستشفى وعليه فإنه يثب جالساً على سريره عندما يسمع أصوات أقدام أو حركة أشخاص في الممر متوقعاً أن يكونوا أهله ومعهم البائع المتجول … القلق والحيرة التائهة في أقاليم الترقب فعلت فعلها في بسطته النفسية … شئ كالغضب وإنفعال يتسلل الى شرايينه فيجعلها تضيق بما رحبت فترتفع بضغطة الى معدلات خطيرة.

    عادت الممرضة ومعها ورقة دونت عليها درجة حراراته بعد أن نزعت ميزان الحرارة من فمه …
    • حرارتك مرتفعة شوية … مالك حاسي بحمى ؟ ..
    • ما عارف … لكين حاسي بنفسي حار … دا يكون من شنو ؟
    • أنا ما قلت ليك لازم تأخذ المصل …. إنت ما عندك زول يجيب ليك المصل ؟
    • والله أنا رسلت الزول سيد البقجة دى لأولادي في بحري عشان يوريهم أنا هنا … لكين لحدي هسع ما وصلوا ما عارف الأخرهم كدا شنو …
    • كدي اصبر شوية …لو ما جوا نشوف نعمل ليك شنو …
    وأنصرفت الممرضة وتركته جالساً على سريره … ضجة العنبر أصبحت مألوفة … والذين يأتون بحثاً عن مرضاهم عددهم كبير … فليس هناك من يدلهم … واقتربت منه إمرأة سلمت عليه وجلست على الأرض … ويبدو عليها أنها قد تعبت من صعود السلالم ونزولها والبحث بين الأقسام ……
    فقالت :
    • هوى يا ولد …. دحين عندنا ولداً بقولولو الماحى قالوا جابوا هني عشان الغسيل …يعلم الله لينا يومين نساسق بجاي وبجاي كل مرة يقولولنا في فجة ثأنية دحين ما عندكم ولداً بقولولو الماحى ؟
    خاطبته المرأة قائلة : هوى يا ولد … ولم تقل له يا ولدي.. والتي تحمل درجة عالية من الخصوصية أما يا ولد فهي على العموم …. فشعر بأنه اصغر من سنه …. إذ أن يا ولد تضعه في مصاف الأولاد الذين يمكن أن ترسلهم لأي مكان … ورداً على سؤالها عن الماحي قال :
    • مافى ولداً بالاسم دا مر علينا بجاي …لكين ممكن تسألي الممرضة .
    فتقول بشئ من الامتعاض :
    • بس... هي القشيرة خشمها وهى ستو … ابت تب تنضم معاي …. ما بعرف حكايتها معاي شنو ؟
    • الممرضة ياتا ؟
    • واحدتن لاقيتا هناك … هي يا زول خلها … أن شاء الله ما تنضم .. أنا ما كجنت الا الفلهمة …
    • ما يمكن ما سمعتك ؟
    • اجى ؟!! سمعتني وفات أضانها …
    • إنتي مش قلت جابوه للغسيل؟
    • ايا ..
    • طيب الغسيل ما هنا … إنتي تمشي قسم الكلى … هناك بقولوا ليكى ودوهو وين ..

    يقول مشلهت هذا للمرأة وهو لا يعلم إن كان هناك قسم للكلى ام لا … فكل تلك الأمراض تعتبر باطنية … ولكن كان عليه أن يعطيها إجابة يراها هو مناسبة وتشفي غليل تلك المرأة.. إلا أنها تقول له :
    • هوى يا جنا … ما عندك تمباك؟ باقى متقريفة …
    لم يكن مشلهت يتوقع مثل ذلك الطلب … المرأة يابسة كشجر المرخيات … ولا يبدو عليها أنها تناولت أية وجبة في الزمن القريب … وهاهي تطلب تمباكاً .. لقد نحتت الحياة القاسية أولئك النسوة … وجعلت متطلباتهن في الحياة بسيطة .. إن درجة الجفاف التي يحتملها جسد هذه المرأة تقتل أية امرأة من نساء المدينة .
    كان البوليس المكلف بحراسة مشلهت يستمع الى هذا الحوار … فقال مبتسماً :
    • إنتي يا عجوز كمان بتسفي؟
    • هي نان العلي هين ؟ نحنا في بلدنا هناك عندنا شنو غير السفة …. علا أنا ما جبت معاى حقتي ..
    ويسألها مشلهت :
    • اهلكم وين إنتو ؟
    • أهلنا في الشاهلاب … أنا حالتي جاية من ام كركر سمعت قالوا جنا ناس أبو حليمة البقولولو الماحي عيأن جابوه للغسيل .. عاد كما شفتو ما بمشي…
    • وجيتى بشنو ؟
    • جيت بلوارى الخط .. هسع ما تساعلني .. كان عندك سعوط أدني .. وكما عندك ودعتك الله …
    ويلتفت البوليس الى أحد الأشخاص ويبدو عليه أنه يعمل ميكانيكاً وذلك من لبسه المتسخ بالزيت .. ويتحصل على سفة في كيس نايلون يناوله للمرأة فتكور منه سفة معتبرة تضعها بكل حرافة في شفتها الشفلى وتشكر الجميع … وتتحرك خارجة من العنبر ….
    • عاد اللقوم أمش … الليلة عاد يا الماحي محل ودوك ما خبرناهو …

    على باب الله وعلى رزق الله وعلى كرمه يسير هؤلاء القوم … تلفح وجوهم الشمس وينساب عبر مساماتهم الفراغية السموم … لا أحد يأبه بهم أو يثيرون شيئاً من اهتمامات الجميع الا إنهم لا يفرطون في واجباتهم الاجتماعية … يكفي أن يكون الماحي قد نقل للمستشفى في مكان ما لا أحد يعرف أي مستشفى أو أي عنبر أو أي مدينة أو أي حي وفي هذه الرحلة ..رحلة البحث عن الماحي قد يلاقي البعض منيتهم … ولكن الذي يسأل لايتوه …وهل هناك توهان اكتر من هذا ؟
    يحدق مشلهت في هذا الفراغ الممتد خلف نافذة المستشفى ولا يعود من تحديقه ذلك الا بعد أن يلكزه البوليس المكلف بحراسته وكان قد أحس بأن هناك رابطاً قوياً يربطه بمشلهت بخلاف العمل الرسمي :
    • اسمع .. أنا ماشي مشوار قريب .. إنت بس خليك في محلك ما تمشي من هنا … ولو أي زول سأل قول ليهو مشي يتسير ..
    وبقي مشلهت علي سريره … ترقد تحته بقجة الملابس وهاهو حرسه وقد ذهب وتركه يحرس نفسه وإذا سأله اى شخص عليه أن يقول أن الحرس ذهب ليتسير .. وهو في تأملاته تلك جاءت الممرضة وسألته :
    • اها عملت شنو ؟ … لحدي هسع أهلك ماجوا ولا جابوا المصل ؟
    • والله أنا ما عارف حكاية الزول دا شنو … كان مفروض يكون كلمهم وكان مفروض يكونوا جوا .
    وتتساءل الممرضة :
    • وإنتو ما عندكم تلفون ؟
    • التلفون مقطوع
    • طيب ما بتعرف تلفون جيرانكم ولا أى واحد نتصل بيهو .
    • أنا قمت من البيت بجلابيتي … ما شايل معاى النوتة الفيها أرقام التلفونات .. وحتى القروش العندي دي أداني ليها واحد صاحبي لقيتو في المستشفى صدفة .
    وصمتت الممرضة برهة ثم قالت :
    • أنا ورديتي بتنتهي بعد شوية … وأنا اصلو ماشة لجماعة أهلنا في الدروشاب عندهم عرس … وممكن توصف لي بيتكم وأنا بمشي لأهلك في بحري وأكلمهم ..
    وتنفس مشلهت الصعداء … فهذا هو الحل المثالي لمشكلته … فاستعدل في جلسته ثم رسم لها خريطة واضحة لمنزله فأخذتها الممرضة وغابت في زحام ممر المستشفى…
    لعلها ساعة أو ساعتان ويأتي أهله وتنتهي مشكلته. ضجيج العنبر ورائحة المستشفى التي ظلت عالقة بأنفه منذ حضوره … تبخرت في الهواء …… لقد ظل ذلك المستشفى بنفس رائحته العتيقة تلك وهي خليط من رائحة الفنيك أو الديتول الذي تغسل به الأرض ورائحة دورات المياه الموجودة في نهاية الممر شي ظل معلقاً في الهواء منذ أنشاء ذلك المستشفى … ولكنه لا يشمه ونحن عادة لا نشم الروائح التي تلتصق بنا بل يشمها الآخرون.
    الطبيب في مروره علي المرضى توقف عند سرير مشلهت … وتفحص الأوراق ثم رفع رأسه عنها وقال :
    • إنت حرارتك مرتفعة والسكر ما نزل … وكمان ما أخدت المصل ونحنا لازم نحولك لمستشفى السكر … خليك جاهز الجماعة حيجوا ياخدوك لمستشفى السكر…
    وفتح مشلهت فمه من الدهشة الا أنه لم يقل شيئاً … يأخذونه لمستشفى السكر ومن هم هؤلاء الجماعة ؟ إسعاف المستشفى ام عربة البوليس؟ … وتلفت حوله مستنجداً برجل البوليس الا إنه لم يجده … فما زال الرجل " يتسير" … وكيف يبارح سريره وهو في حراسة البوليس ؟ أسئلة كثيرة تزحم رأسه لم يدر ماذا يفعل. وتوجه نحو غرفة التمريض … كان هناك ممرض وممرضة وطبيب يقرأ في دفتر … فالقي إليهم بالتحية ثم قال :
    • يا أخوأنا الدكتور هسع في المرور جا وقال يحولوني لمستشفى السكر … وأنا..
    فقاطعته الممرضة :
    • إنت العاضيك كلب ؟
    • ايوا …
    فأنفجر الممرض ضاحكاً :
    * يا شيخة حرام عليكى … شنو يعنى إنت العاضيك كلب؟ … حسني ألفاظك … معليش يا ابن العم اصلها غشيمة ..
    وتحتجج الممرضة :
    • غشيمة أنا ؟ ما صحي عاضيهو كلب … يعنى أنا جبت الكلام دا من وين؟.
    ويرد الممرض
    • ايوا عاضيهو كلب … لكين ما بقولوها كدا ..
    ويتدخل الطبيب الذي يقرأ في دفتر ويقول :
    • خلاص يا ابن العم .. إذا إنت عاضيك كلب … أنا راميني جمل …
    وأنفجر الجميع يضحكون إلا مشلهت والذي لم يجد رغبة في الضحك .. ولا رغبة في مجارة هؤلاء فى قافيتهم التي فتحوها ..
    وخشي إن استمر الحال على ذلك المنوال أن ينبري الطبيب ليحكى .. كيف رماه الجمل .. وهل هناك مصل للجمل ؟
    واكتسى وجه الممرضة شئ من الجد وهى تقول :
    • خلاص … شوية كدي وبجي الإسعاف وياخدوك لمستشفى السكر .

    ***

    كان هناك طرق على الباب .. فقد رفع الفراش وأزيل صيوان العزاء ولم تبق الا بعض الأباريق والكراسي المرصوصة في إنتظار عربة مؤسسة المناسبات … خرج علاء ابن مشلهت ووجد الممرضة تقف عند الباب …
    • دا بيت مشلهت
    • ايوا ..
    • وينا أمك
    • اتفضلى جوه
    ودخلت الممرضة وبحاستها النسائية ولا أقول أنثوية تبينت أن هناك مناسبة غير سعيدة قد مرت بتلك الأسرة … وخاصة عندما سلمت عليها زوجة مشلهت وكانها كإنت تتوقع الفاتحة منها …
    وبعد فترة قصيرة من الهمهمات والجمل القصيرة والتوتر الذي يسود في مثل هذه الظروف قالت الممرضة:
    • أنا الحقيقة جاية مرسلني ليكم مشلهت
    وتقفز زوجة مشلهت من سريرها وتقول :
    سجمى مشلهت ؟ تانى مشلهت دا بقى بعاتي ولا شنو ؟
    • بسم الله يا مرة مالك أنخلعتي كدي ؟ .. الحاصل شنو ؟
    وتجيب زوجة مشلهت :
    • مش بتقولي مشلهت رسلك ؟
    • ايوا .. ودي فيها شنو ؟
    • فيها شنو ؟ إنتي عارفة مشلهت مات ودفناهو وهسع البكا دا عشان شنو؟
    • والله أنا ما عارفة حاجة زي دي .. يا أخواني أنا أكون غلطت في العنوأن؟ ياهو الوصف ذاتو … طيب الحكاية شنو ؟
    • الحكاية يا أختي تقوليها لينا إنتي … كدي اشرحي لينا معناة كلامك دا شنو؟

    وبين الذهول وعدم التصديق تبدأ الممرضة قائلة
    اولاً : أنا ممرضة في الإسبتالية … وامس البوليس جاب لينا واحد أسمو مشلهت عاضيهو كلب وعنده السكر مرتفع … فحكى لي إنو كلم واحد بائع متجول إنو يجي يكلمكم ويقول ليكم مشلهت في نقطة البوليس …
    • أي صحي في واحد وحتى مشينا معاهو لنقطة البوليس لكن ما لقينا مشلهت …
    وتستمر الممرضة قائلة :
    • ايوا .. إذن الحكاية ظهرت … في الوقت الإنتو مشيتوا ليهو في النقطة هو جابوهو عندنا في الإسبتالية عشان كدا إنتو ما لقيتوه … وكمان معاهو بقجة هدوم قال بتاعة البائع المتجول وهو ما عارف يوديها وين … وهسع خليتو هناك في العنبر …
    وتتساءل زوجة مشلهت :
    • وطيب ما قال ليكي جريمتو شنو الجابوهو بيها دي؟
    • قال هو مشي يفتش المصل بتاع الكلب .. وبعدين كشوهم وهو ما عارف ذاتو الحاصل شنو .. وما قادر يتصل بيكم تلفونكم مقطوع ؟
    ويبدو على زوجة مشلهت الاقتناع :
    • دا كلام عديل … وياهو دا هو ذاتو مشلهت … وإنتي قلتي وين ؟
    • في عنبر الباطنية في الإسبتالية وأنا هسع لو ما ماشة الدروشاب كان مشيت معاكم … لكين تمشوا تلقوهو قاعد حتى قال لي خلي أخوي شمس الدين يجي عشان يضمني …
    وتتساءل الممرضة :
    • وإنتو القال ليكم مشلهت مات منو؟
    وترد زوجة مشلهت :
    • يا بت الحلال … لما مشلهت ما عرفنا ليهو درب … مشينا نفتش فى الاستباليات لحدي ما لقينا زول في المشرحة افتكرناهو دا مشلهت وشلناهو ودفناهو وبكينا عليهو .. لكين جانا الزول دا وهسع جيتينا إنتي غايتو ما عارفين الحكاية شنو …
    وتصر الممرضة :
    • لا يا أختي ابو عيالك نصيح ما عنده حاجة وأنا هسع جيت منو .. وتمشوا هسع تلقوهو زي ما قلت ليكم وأنا أعذروني لازم أمشي .
    • هي أقعدي أشربي الموية
    • لا والله ما بقدر … وإنتو حقو تسرعوا مشلهت حرارته مرتفعة وكمان لازم تجيبوا ليهو المصل .. الليلة ليهو أربعة أيام ..
    وتنقل صفية الأخبار لابنها حيدر ويقرر الجميع أن يسرعوا الى المستشفى وذلك بعد أن يرسلوا علاء مرة أخري لعمه شمس الدين بالأخبار الجديدة ويطلبوا منه أن يحصلهم على المستشفى …

    توقف التاكسي أمام المستشفى ونزلت زوجة مشلهت وإبنها حيدر وهرعوا مسرعين للداخل وهم يسألون عن عنابر الباطنية مروا على جميع العنابر والأسرة ولم يعثروا لمشلهت على اثر …
    وفى نفس الوقت كان رجل الشرطة المكلف بحراسة مشلهت قد عاد لتوه من رحلة "التسيير" وظل هو الآخر يبحث عن مشلهت ولم يجد من يدله على مكانه وتيقن أن مشلهت ذلك الرجل الوديع والذي وثق فيه وظن أنه لن يبارح مكانه .. قد فعلها وإنتهز فرصة عدم وجوده فهرب…وهذا يعنى خراب بيت رجل الشرطة … فما الذي دفعه لمغادرة مسجون هو في عهدته … ولذلك كان عليه أن يدون عند مركز الشرطة أن الشخص الذي يسمى مشلهت والمقبوض على ذمة التحري قد هرب من المستشفى … ويجب أن ترسل معلومات بأوصافه لجميع نقاط البوليس حتى يتمكنوا من إلقاء القبض عليه وأعادته للحراسة … أما زوجة مشلهت وابنه حيدر فقد وقفا حائرين لا يدريأن ولا يجدان تفسيراً لما حدث .
    كإنت المعضلة بالنسبة لمشلهت وهو في طريقه الى مستشفى السكر تكمن في عدة مسائل لا يجد لها حلاً . أولها أن أهله سيأتون للمرة الثأنية ولا يجدونه في المستشفى … وثانيها إنه بالإضافة الى بقجة الرجل البائع المتجول التي ظلت ملازمة له في حله وترحاله فأن رجل البوليس المكلف بحراسته أضاف لها بعداً جديداً . فبعد أن استأذن مشلهت بأنه ذاهب في مشوار قصير وسيعود وإذا سأله أي شخص يقول أن البوليس ذهب (يتسير) فأن البوليس ترك مسدسه وديعة عند مشلهت الذي وضعه داخل بقجة الملابس . ثم ماذا يفعل مع المصل وهذا هو اليوم الرابع وهو لم يحصل عليه . كم من الزمن تبقى حتى تظهر عليه علامات مرض السعر ؟
    كان مشلهت مستغرقاً في لجة المشاكل التي أفقدته القدرة على التفكير …. ودخان كثيف يعشعش في ذاكرته يجعل الأيام الأربعة الماضية كابوساً خأنقاً .
    وقفت العربة أمام مستشفى السكر … ونزل الممرض وهو يحمل أوراق مشلهت ثم خاطبه قائلاً :
    • بتقدر تمشى ولا نجيب ليك نقالة ..
    • وبنصف ابتسامة كان عقله يقول :
    • هي حصلت ؟
    • لا … شكراً .. بمشي ..
    هل وصلت به الحالة الى هذا الحد الذي جعل الممرض يسأله ذلك السؤال ام أن الممرض يتفوه بشي روتيني يقوله لكل مريض بالسكر ؟ من ناحية المشي هو يستطيع أن يمشي … ولم يدر بخلده أنه سيأتي اليوم الذي يتخلى فيه عن المشي … ولكن عندما تهبط عليك الظروف وتكبلك فتجعلك تلتصق بغراء المسافات… يمشى الزمن وإنت واقف في مكانك …… عندها تصبح في نظر الجميع في خانة الأمس … كم عدد الذين اصبحوا أمساً ؟…… لا حاضر و لا مستقبل لهم ؟ … اغلب الظن أنهم كثر … طافت هذه الخواطر بذهنه وهو يجلس محتضناً بقجة الملابس وبداخلها مسدس البوليس المكلف بحراسته ……بعض الأشخاص يشاركونه المصطبة الأسمنتية في ردهة ذلك المستشفى … وعندما جاء دوره حمل أغراضه ودخل حجرة الكشف … كانت توجد بداخلها طبيبة منطفئة النظرات… ربما بسبب روتينية العمل الذي أنحصر في نوع واحد من المرض … وأنحصرت بذلك اهتماماتها في درجة السكر فى البول في الدم الأسيتون الجروح … الخ مشلهت يقف أمامها يضاف الى إحصائية اليوم فالأسبوع فالشهر فالسنة … وفى النهاية يتحول الى رقم بارد … فلماذا تتعب نفسها بذلك الرقم؟ ولذلك جاءت أسئلتها : اسمك ، عمرك ، من متين فحصت واتضح عندك سكرى ؟ بتاكل شنو ؟ قاعد تتريض ؟ وزنك ؟ ... ما عارفو … ما عارفو ؟ … خد الورقة خلى يوزنوك ويعملوا ليك كشف النظر وكشف الدم .. يخرج من عندها حاملاً علامات الاستفهام التي يتوجب على معمل الفحص الإجابة عليها …
    عندما وصل مشلهت أخيرا الى سريره المقرر له القى بالتحية على الذين كان عليه أن يشاركهم الغرفة ، الغرفة نظيفة كما إن الزحمة داخل العنابر ليست مثل الزحمة في المستشفى العمومي … فوضع بقجته تحت السرير واغفى في نوم عميق …
    صفيه زوجة مشلهت واخوه شمس الدين وحيدر ابنه كانوا في حيرة عظيمة …ما معنى كل الذي يحدث … هل مشلهت حي بلحمه ودمه ويلعب معهم لعبة القط والفأر ام هذا شخص آخر يلعب بأعصابهم أما مشلهت فأنه قد مات وشبع موتاً وأنهم دفنوه في مقابر حلة حمد . قالت صفية :
    حسبنا الله ونعم الوكيل … يا أخواني هسع دا بسموه شنو؟ بقولوا عليهو شنو ؟
    ويقف حيدر صامتاً بينما يغمغم شمس الدين وهو ينظر بعيداً وكانه لا يوجه الكلام لأحد .
    • هي … ما نلقي زول ساكت نسأله … الناس دي كلها معقول ما فيها زول عارف حاجة عن مشلهت ؟
    والأمر الذي قاد الجميع الى هذا الموقف هو أنهم كانوا عندما يأتون تكون الوردية الموجودة والتي تملك معلومات عن مشلهت قد إنتهى وقتها وحلت محلها وردية جديدة وكل الناس يجيبون على الأسئلة من رؤوسهم لا أحد يفتح دفتراً أو كراساً ليرى أن كان فيه اسم لذلك الشخص .. صحيح أن الممرضة الجديدة التي سألها شمس الدين عن مشلهت لم تسمع بذلك الاسم … الا أنها لا تفتح لترى ما الذي كتبه الطبيب أمام اسمه …… والحكاية ببساطة سؤال وجواب …
    • عندكم واحد هنا أسمو مشلهت ؟
    • لا …… ما عندنا ……
    • طيب الممرضة جاتنا في البيت وقالت مشلهت كان هنا وحتى هو وصاها ووصف ليها بيتنا وجاتنا بنفسها.
    • الممرضة ياتا ؟ اسمها شنو ؟
    وتلفت الجميع كل واحد منهم يبحث عن الإجابة عند الآخر …
    • إنتي يا صفية ما سألتيها قلت ليها اسمك شنو ؟
    • ما سألتها …
    • ولا في أي زول في البيت عارف اسمها شنو ؟
    • مافى … هي بس جات وأدتنا الخبر ونحنا في الخلعة حتى ما اتنبهنا نسألها عن اسمها …
    والممرضة طيلة هذا الوقت وهى تراقب هذا الحوار بين أفراد المجموعة التي جاءت تبحث عن هذا المشلهت … فتشعر بشيء من الارتياح … لأن إجابتها في محلها … والكرة في ملعبهم … فعليهم أن يعرفوا اسم الممرضة التي جاءتهم برجليها تسعى وهى تحمل لهم نبأ مشلهت … والا فأن الممرضة لا تستطيع مساعدتهم … وجاء السؤال القنبلة من حيدر :
    • هسع نعمل شنو ؟
    وسؤال يحتاج الى معلومات غائبة حتى يستطيع أحد أن يجيب عليه … فمن وسط ذلك الضباب وتلك الغشاوة كيف يتسنى لاحد أن يحدد ماذا يفعل الجميع ؟ واستقر رأيهم أن يعودوا الى منزلهم … ليجاوبوا على أسئلة من تركوهم في الدار ويعتمل في صدورهم سؤال كبير تتفرع منه عدة أسئلة …
    • وينو مشلهت ما جبتوه معاكم ؟ الحصل شنو ؟
    يعنى طلعت الحكاية كضبة ؟ وديل قصدهم شنو ؟
    والممرضة قصدها شنو ؟ ومعقول تكونوا ما لقيتوه ؟ طيب قالوا مشي ين ؟

    ***
    وبالنسبة لرجل الشرطة فإن إختفاء مشلهت له تفسير واحد وهو أنه هرب.
    لقد تسلل مشلهت خارجاً من المستشفى وهو يحمل معه سلاح حكومي …. كيف يمكن لرجل في وداعه مشلهت أن يرتكب جرماً كهذا … هروب وسرقة سلاح حكومي ؟ وبالطبع لم يغب عن بال رجل الشرطة أن الشاويش المناوب سيأخذ أقواله ويرفعها للرائد الذي سيحبسه بتهمة الإهمال في حراسة متهم وفقدان سلاح حكومي …. التهمة الأولى قد تعنى أنه قد تواطأ مع المتهم فمهد له الهروب .. ولكن ماذا عن التهمة الثأنية في نظر الجهات المسؤولة ؟ فأن الجريمتين يفتحان الباب لإحتمالات كثيرة … أخفها الإهمال وأقصاها … التآمر لقلب نظام الحكم …فربما كان مشلهت ورجل الشرطي يعملان مع خلية تعمل لقلب نظام الحكم ؟ كلها أمور غير مستبعدة … واخذ رجل الشرطة يقلب الأمر في رأسه … ويصل تارة الى أن مدة حبسه قد تطول …. وأهون منها الا يبلغ عن فقد ذلك السلاح وأن يختفي هو الآخر حتى يصل بطريقته الخاصة لمشلهت ويلقى عليه القبض ويقتاده الى النقطة ثم يشرح قضيته التي ربما تجد تعاطفاً من المحكمة .. ويكتفى بطرده من الخدمة دون حبسه … أو ربما الأصوب أن يبلغ عما حدث له ويحث زملاءه على البحث عن مشلهت ذلك اللص الخطير الذي فر بسلاح حكومي .
    وقبل أن يصل الى مركز البوليس … أوقف الحافلة ونزل منها وما هي الا دقائق وكان هو في حافلة أخرى في الاتجاه المعاكس في طريق يأخذه الى السوق العربي في الخرطوم … حيث امتطى صهوة حافلة الى حى جبرة …
    واستغربت زوجته حضوره مبكراً فقالت :
    • الليلة شنو فكوكم بدري ؟
    ويجيبها بتنهيدة عميقة :
    • الليلة فكونا … ولا فكونا …
    وتستفهم زوجته :
    • كيف الكلام دا … ؟
    ويجيبها :
    • الكلام بقى كلام مشلهت … مشلهت هو عنده الكلام كلو … مش هو عنده المسدس خلاص تانى شنو ؟ زول عندو المشلهت … اقصد المسدس … خلاص تانى شنو ؟ بس ناقص أنا يقبضونى يودونى الحراسة ما ياهو دى الكلام ……
    ولا تفهم زوجته شيئاً مما يخطرف به زوجها :
    • يا زول .. قول بسم الله … إنت مالك ؟ … تعالى يا بنية شوفي أبوك دا .. كن عندو ملاريا … أمشي جيبي بندول … وبضيق يرد الشرطي :
    • إنتي مجنونة يا مرة … ملاريا بتاع شنو ؟ أنا نقول ليكى الكلام هو حقيقة كلام مشلهت … تقولي لي ملاريا وبندول ..
    وتنتفض زوجته وترفع يديها :
    • والله … الليلة إنت ما نصيح … ومشلهت دا شنو كمان ؟ ..الليلة جيتنا بيهو من وين ؟
    • من الإسبتالية
    • استبالية ياتو؟ …
    • الإسبتالية الفوقو العيانين دا .. الإسبتالية بتاع الحكومة … الودو ليهو المساجين … دا كلو إنتي ما عارفو .. سمح تعالي نوريك … ويشرح لها المشكلة من أولها لآخرها فترفع يديها :
    • الله واحد ليك يا مشلهت .. الله اكبر عليك … كن تضر أبو عيالي … ولا تبشتنو متل دا…
    وأبو عيالها ينظر للعيال بحسرة شديدة فقد عمل مدة طويلة وسجله نظيف .. وكان دائماً يجد التقدير من رؤسائه … وهذه أول مرة يفقد فيها أو يفرط في عهدة من عهد الحكومة … ولكنه وضع ثقة كبيرة في مشلهت وكان يعتقد أن مشلهت شخص ضائع كألآف الضائعين الذين حكمت عليهم الأقدار أن يكونوا في المكان الخطأ في التوقيت الخطأ …..ولذلك ترك مسدسه معه ولم يدر بخلده أنه سيغدر به ويضعه في هذا الموقف الحرج …
    أرسل الشرطي ابنه ليحضر له أخ زوجته زكريا من زريبة الفحم .. وزكريا يقيم في راكوبة بالقرب من زريبة الفحم يبيع فيها بقايا المواسير القديمة والأقفال والمفاتيح الصدئة والمسامير وأشياء لو وجدها أي أنسان في طريقه لما التقطها … ولكن زكريا له عين فاحصة يجمع هذه الأشياء عنده فتصبح ذات قيمة ثم أنها ( لا تعفن) كما اعتاد أن يقول .
    جاء زكريا وهو يحمل معه ابن الشرطي على عجلته التي أوقفها بالقرب من "مزيرة" داخل المنزل … وبعد السلام والسؤال عن الأحوال … شرح الشرطي لزكريا ما حدث له وهو يقول :
    • شوف يا زكريا … ناس الدنيا بقوا كيف ؟ …. ديل عيال أختك أمانة في رقبتك … وأنا ماشي اسلم نفسي للمركز … وبعدين البسوي الله يسوي ؟
    ولكن زكريا له رأى آخر …
    • أولا كلام تسلم نفسك دا … شيلو بره من رأسك … يعنى لو سلمت نفسك يسووك في سيم وجيم …
    • طيب كيف العمل ؟
    • ايوا … يا موسى أخوي .. العمل أنا نقول ليك تعمل شنو … باكر من الصباح تركب البص من السوق الشعبي هنا وتمشي طوالي لسنار … ابو راكوبة ما بتعرفو؟ .
    • ايوا … بعرفو …
    • اها … ابو راكوبة دا يحلك ..
    • يحلني كيف ؟
    • أولا … الزول دا بكتف ليك مشلهت حقك دا … إنت بتعرف مشلهت امو أسمو شنو .
    • لا.. نعرف من وين ؟
    • ما خلاص … كل الناس أمهم حوا … هو راجل قاطع .. يقوم يكتف مشلهت عشان ما يمشي برة الخرطوم … وما يتصرف في المسدس لحدي ما إنت تقبضو وامسك قوى في أبو راكوبة … دا زول قاطع … ناس كتار مشوا ليهو جو مبسوطين … وكمان دفتر بتاع الحكومة دا … اسمك ما ينزل فيهو بتاتاً …

    ***
    الممرضة التومة التي جاءت لأهل مشلهت ونقلت لهم وصيته نزلت الشغل هذا الصباح … مرت على العنبر الذي كان يشغله مشلهت فلاحظت أن شخصاً آخر يجلس عليه خمنت أن يكون أهل مشلهت جاءوا ووجدوه وعملوا إجراءاتهم واخذوه عندهم لم تهتم بسؤال أحد .. بل نادت على أم الحسين الفراشة :
    • يا ام الحسين يومداك أنا مش رسلتك للطيب في عنبر القاينا قلت ليكي كلميهو يجبيب لي قروش الختة عشان سيدها راجيها …
    • ايا … بلحيل كلمتو … علا قال لي قولي للتومة باكر بجيبهم ..
    وتصيح التومة باستنكار :
    • باكر شنو ؟ الليلة ليهم خمسة يوم … من يوم الراجل العاضيهو الكلب كان هنا … إنتي متذكرة ؟
    • ايا متذكرة ..
    • خلاص … أمشي ليهو تاني كلميهو .. الطيب دا عايز يأكل قروش الناس ولا شنو ؟
    وتهم أم الحسين بالذهاب لعنبر القاينا لكنها تتوقف قليلاً ثم تقول :
    • اقيفي يا التومة اللسعلك … دحين الراجل العاضيهو الكلب بالصح نقولوه مستشفى السكر ؟
    وتفتح التومة الممرضة فمها من الدهشة :
    • بتقولي مستشفى السكر ؟
    • ايا …
    • نقلوه متين ؟
    • والله سمعت كلاماً كدي … ظنيتو أمس … ولا أقول ليك أول أمس …
    • لا … لا … أول أمس كان موجود … وامس دى كان موجود لحدي ما أنا مشيت من هنا … يعنى يكونوا نقلوه قبال اهلو ما يجوا ولا اهلو جو .
    • ما متوكدة …
    • طيب إنتي أمشي دلوقت للطيب … وأنا بشوف الحكاية دي .
    وتنصرف ام الحسين الفراشة … وتدخل الممرضة غرفة الاستقبال وتقول لأحد الممرضين :
    • خليل … إنت مشلهت ودوهو وين ؟
    • مشلهت منو ؟
    • المريض الكان في عنبر 6 … دا
    • دا مش مات؟
    • مات شنو يا أخي … دا جابوه هنا بالسكر وكان عاضيهو كلب ..
    • ها .. بتاع الكلب … ايوا دا دكتور حامد قال يودوهو مستشفى السكر … وافتكر أمس بعد ورديتكم ودوهو هناك …
    • عندك فكرة أهلو جو هنا ولا لا ؟
    • ما عندي فكرة …
    وتلتقط ممرضة أخري كإنت تحمل في يديها محاليل ورديات جزءاً من هذه المحادثة فتتدخل قائلة :
    • الزول دا جابو ليهو الإسعاف ودوهو …
    • طيب ما كان معاهو أهلو ومرتو كدا ؟
    • ما شفت مرة ولا حاجة …
    • وتصمت التومة برهة ثم تقول :
    • تبقى مصيبة لو اهلو جو هنا وما لقوهو .. هسع يقولوا شنو ؟ يقولوا أنا كضبت عليهم … لازم أمشي اكلمهم دى مصيبة شنو دى .

    ***

    في مستشفى السكر كان أحد رجال الأمن يقف في مواجهة الباب الذي يظهر من ورائه سرير مشلهت … وحانت منه التفاتة الى البقجة التي وضعها مشلهت أسفل السرير وبحاسته الأمنية لاحظ في داخلها جسماً صلباً له معالم سلاح من نوع ما … فأيقظ مشلهت قائلاً :
    • يا أخينا ..
    • ايوا …
    • البقجة دى بتاعتك؟
    • ايوا …
    • طيب لو أمكن عايزين نفتشها … واخرج رجل الأمن بطاقة لمشلهت … لمح فيها صورة الرجل الا أنه لم يقرأ اسمه ولا يعرف رتبته ؟
    • وجذب رجل الأمن البقجة واعمل يده في داخلها فاخرج المسدس …
    • المسدس دا بتاعك؟
    • لا ..
    • طيب جبتو من وين؟
    • دا بتاع واحد بوليس مسكني ليهو وأنا جابوني هنا وما عرفت أوديهو وين…
    • بوليس اسمو شنو ؟
    • والله ما عارف اسمو …
    • يعنى دا مسدس بتاع حكومة .
    • ايوا …
    • وقلت ما بتعرف اسم البوليس الأداك ليهو .
    • ما بعرف اسمو هو اصلو كان مفروض يحرسني …
    • يعنى إنت كمان هارب ؟
    • يا أخي هارب بتاع شنو ؟ خليني أحكي ليك الحكاية .
    • ماهو … قبل ما تحكى الحكاية إنت جاوب على الأسئلة بتاعتى … السلاح دا بتاع حكومة … وإنت ما عارف اسم الأداك ليهو منو … وهسع بتقول أنك كنت في الحراسة …
    اقتيد مشلهت حسب أقواله التي أدلي بها لرجل الأمن الى مركز البوليس بجهة سوق ليبيا حيث تم إيقافه أول مرة . كان مشلهت ساهماً وهو يمسك ببقجة الملابس ويستعيد ما حدث له وكانه كابوس مريع طويل تتابعت حلقاته وتمدد في داخله كالقطران …
    فأيقن أنه لن يفيق من ذلك الكابوس … والأحداث تجرى هكذا لا شئ ينبئ أن فقاعة الوقت تخفى في جوفها المعجزات التي ستخرجه من ورطاته المتلاحقة … عربة الشرطة التي كإنت تنقله من مستشفى السكر تسير فى شوارع مكتظة بالحافلات والركائب الميكانيكية من شتى الانواع في سلحفائية بطيئة … لم يجد رجل الأمن الجالس (قصاده) شيئاً يتسلي به الا أن يتأمل هيئة مشلهت وهو يحتضن الملابس التي وجد بداخلها المسدس … وتذكر أنه في بحثه عن ذلك المسدس وسط كومة الملابس قد مسح بنظره ملايات وعراريق وسراويل .. فقال مخاطباً مشلهت :
    • إنت بايع متجول ؟
    • لا ..
    • طيب الهدوم دى شنو الشايلها والملايات ؟
    • دى بتاعة واحد خلاها معاي .
    • واحد اسمو شنو ؟
    • ما بعرف اسمو …
    • وتملأ الدهشة وجه رجل الأمن :
    • المسدس أداك ليهو واحد ما بتعرف اسمو والهدوم دى هسع بتقول أداك ليها واحد ما بتعرف اسمو .. إنت حكايتك شنو ؟
    • ويجيب مشلهت بضيق ظاهر ؟
    • حكايتي عاضينى كلب …
    ويشعر رجل الأمن بأن مشلهت يسخر منه فيظهر عليه الغضب ويقول :
    • يعنى كمأن بتتريق … مش احسن ليك تخلى اللماضة البتعمل فيها دى … إنت قايل نفسك مودينك في فسحة …
    ويستعدل مشلهت في جلسته ثم يقول :
    • لماضة بتاعة شنو ؟ … بقول ليك عاضيني كلب .. تقول لي لماضة ؟
    • ايوا لماضة … لو ما لماضة … ما كان رديت كدا …
    • طيب أنا حكايتي عاضينى كلب … خد شوف .
    ويبرز مشلهت رجله وقد ظهرت عليها الأربطة
    طيب وين اللماضة هنا ؟
    ويتراجع رجل الأمن قليلاً … ثم يقول :
    • والكلب لقاك وين عشان يعضيك
    ويتضايق مشلهت اكثر :
    • ليه كلكم بتسألونى الكلب لقاني وين ؟ يا أخي هو لقاني ولا أنا لقيتو ؟ … يعنى أنا اصلو شغلتى أمشي أفتش للكلاب لحدي ما القى كلب يعضينى ولا شنو ؟
    ويتساءل رجل الأمن :
    • وإنت مالك يا أخي خلقك ضايق … أنا بسألك سؤال بسيط تقوم تتضايق بالشكل دا ؟
    فيرد مشلهت :
    • ما إنتو اصلو حياتكم كلها بتسألوا والناس بتجاوب يعنى من الأسئلة دى كلها ما لقيت الا تسألني بالشكل دا ..
    يؤكد رجل الأمن :
    • شوف إنت قصتك كبيرة … وهسع حكاية الهدوم الشايلها دى ذاتها ماهينة .. على العموم لما نصل المركز.
    نفس المركز الذي نقل اليه أول مرة منذ أن داهمتهم قوة البوليس في منزل أبكرأبكر بتاع العناقريب … وتلفت حوله عله يجد ذلك الشرطي الذي تعرف عليه في المركز والذي قام بإجراءات نقله للمستشفى …لكنه أيضا لا يعرف اسمه … ولم يجرؤ على السؤال عنه لأنهم سيسألونه عن اسمه وهو لا يريد أن يضيف للأسماء المجهولة لديه اسماً جديداً ..
    ادخله رجل الأمن على المتحري وهو يقول :
    دا جنابك قبضنا عندو المسدس دا والمسدس حكومي وهو ما قدر يورينا جابو من وين ؟
    ويتساءل :
    • كيف يعنى ما قدر يوريكم جابو من وين ما لازم يوريكم …
    إنت يا زول تعال هنا …
    ويتقدم مشلهت وهو يحمل بقجة الملابس:
    • اسمك ؟
    • مشلهت
    • ساكن وين ؟
    • في بحري …
    • قبل ما ندخل معاك في إجراءات كدي وريني المسدس دا جبتو من وين؟
    • أنا اصلو ما جبتو … أنا اصلو ..
    ويقاطعه المتحرى :
    • ما جبتو يعنى شنو؟ .. وقع عليك من السما ؟
    • يا جنابو … إنت بس أسمعني... أنا حاحكى ليك الحكاية …
    • طيب أتفضل أحكي ..
    • أنا كان جابوني عندكم هنا .. مع ناس أبكر بتاع العناقريب وبعدين عشان كان عاضينى كلب اخدت اورنيك ومشى معاى بوليس للأسبتالية .. وهناك حجزوني عشان لقوا السكر عندي مرتفع .. والبوليس الكان حارسني خلى عندي المسدس دا … وقال ماشى يتسير … بعدين هو ما جاء طوالي .. قاموا ناس الإسبتالية قالوا لي لازم ينقلوك مستشفى السكر … وأنا قلت ليهم في حرس معاى هنا قالوا دى غلطة الحرس … كان مفروض يكون معاك وإنت حالتك متأخرة ولازم ننقلك لمستشفى السكر … وجا الإسعاف واخدونى هناك وبعدين رجل الأمن دا شاف المسدس مع بقجة الهدوم دى …قام قبض على … واهي دي الحكاية كلها ..
    ويسأل المتحرى :
    • إنت قلت العسكري دا مشى معاك من هنا ؟
    • ايوا …
    • هسع وين ؟
    • ما عارفو ..
    • وأسمو شنو ؟
    • والله ما عارف اسمو …
    • طيب ودوك المستشفى يوم كم …
    • قبل خمسة أيام … لا أسف …. قبل ستة أيام يوم الأحد الماضي .
    ويصمت المتحرى برهة ثم ينادي على أحد الرقباء :
    • اسمع … امشي شوف دفتر الأحوال… وشوف العسكري المشى مع الزول دا منو … وهسع وين … وخليك إنت هنا لحدي ما الراجل دا يجي…
    ويعود الرقيب حاملاً معه دفتر الأحوال..
    • هو اسمو شنو ؟
    • اسمو مشلهت محمد مشلهت …
    • اهو دا .. مشلهت اورنيك طبي .. معاه موسى الحاكم .
    • طيب امشي شوف وين موسى الحاكم …
    ويذهب الرقيب … ليعود قائلاً :
    • موسى يا جنابو مبلغين عنه غياب … ليهو يومين …
    • وموسى دا .. مش الجابوه أخيرا سد طلب ؟
    • ايوا …
    • طيب المسدس دا … ما عندنا عهدة هنا … موسى كان تابع لشرطة غرب الحارات … وموسى واوراقه ذاتها نحنا بنحولها لوحدته … إنتو تاخدوا الزول دا تودوهو مركز غرب الحارات يمسكوا المسدس بتاعهم ويتحروا معاهو وبعدين تجيبوه لينا هنا عشان البلاغ بتاع ناس أبكر …
    ويرد رجل الأمن :
    • بعد ما نوديهو مركز غرب الحارات ويتحروا معاهو لازم نرجعوا لمستشفى السكر ولازم تكون معاهو حراسة … طيب الحراسة تكون من عندكم ولا من عند مركز غرب الحارات .
    • لا …الحراسة تكون من عندهم لأن المسدس مفقود من عندهم ونحنا لو عايزنوا في قضية أبكر بتاع العناقريب بنجيبوا منهم ولا من الإسبتالية ؟
    ويتوقف رجل الأمن قليلاً ثم يقول :
    • وهو كمان معاهو البقجة دى وفيها ملابس وملايات وأنا لما سألتو عنها قال مسكها ليهو واحد هو ما بعرف اسمو ..
    ويوجه له المتحرى :
    • وايه حكاية البقجة دى …
    • اصلو أنا في الحراسة هنا … كنت عايز اتصل بأولادي وما لقيت زول أرسلوا الا صاحب البقجة دى … قمت اديتو قروش ووصفت ليهو البيت وهو خلى بقجته معاي هنا ومشى .. وبعدين قبل ما يجي أنا اخدوني للاستبالية فأخذت معاى البقجة .. يعنى أخليها مع منو ..
    • وصاحب البقجة دي اسمو شنو ؟
    • والله يا جنابك ما عارف اسمو … بس زول لقيتو ورسلتو ..
    ويتذكر المتحرى :
    • ايوا … في بلاغ فاتحو واحد بايع متجول قال خلى بقجته مع زول والزول احتال عليهو وشال البقجة وفات … إنت وقعتك وقعة … الزول يخلى عندك بقجته تقوم تشيلها وتمشى ..
    • يا جنابو … أنا شرحت ليك … أنا شلتها أخدونى للاستبالية وما كان في زول عشان أخليها معاهو …
    • على العموم نحنا حنأخذ أقوالك في البلاغ دا … والبقجة دى حنمسكها هنا عندنا بعد ما نجرد محتوياتها ويجى صاحب البقجة يشوف حكاية البلاغ بتاعو دا ..
    لا شئ أراح مشلهت اكثر من ذلك القرار … فلأول مرة منذ أن دخل في هذه الورطة يتنفس الصعداء فقد ظلت تلك البقجة جاثمة على صدره وعلى إنتباهه وعلى حواسه … يأخذها معه في حله وترحاله … تزيد من مأساته وتعمق ما تأتي به الأقدار .. فلولا وجودها لما دخل في ورطة المسدس لأنه كان سيسلم المسدس لإدارة المستشفى ولكن وجود البقجة جعله يضع المسدس في داخلها … وظهر كانه يخفيه بين طيات ملابسها وكلها بينات ظرفية ساعدت على توجيه تهمة سرقة وحيازة سلاح حكومي … لا يعرف هو كيف تكون عقوبتها…
    ويشعر بجوع شديد … جعله يقترح على رجل الأمن .
    • يا أخي شوف لينا حتة نأكل لينا حاجة … أنا راجل عندي سكرى وبخاف من الصدمة .
    ويرد رجل الأمن :
    • طيب بس خلينا نشوف لينا عربية عشان نمشي مركز غرب الحارات .

    ويبدو أن مجهودات رجل الأمن باءت كلها بالفشل للحصول على عربة .. والجوع ينهش أمعاء مشلهت … فتعوي وتقرقر وتتلوى .. ويشعر بنشاف في ريقة … ويقول لرجل الأمن :
    • يا أخي دى حكاية صعبة جداً هسع نعمل شنو .. أنا لازم آكل حاجة … وبعدين حكاية العربية دى شنو ؟
    • مافى عربية هسع لكن لو عندك قروش ممكن نأخذ تاكسي على حسابك لمركز غرب الحارات وبعدين نجى بعربيتهم من هناك .
    • ويتحسس مشلهت جيبه … فلا يزال يحتفظ بجزء كبير من المائتى الف جنيه التي سلفها له صديقه عبد الرؤوف عند عيادة الحوادث ببحري … فيقول :
    • مافى مأنع … بس خليهو يعرج لينا على محل فول ناكل لينا حاجة .
    ويعرج ثلاثتهم على صاحب فول في ناصية الشارع …
    • يا أخي استعجل … ثلاثة فول وجبنة قوام ..
    صاحب التاكسي … يكسر حاجز الصمت وهو يتفقد عربته :
    • قبيل أنا سائق العربية جا كلب ناطى ضربتو لحدي ما الرفرف بتاع العربية دخل في اللستك .. بالله شوف الكلاب دى قوية كيف …
    ويصيح مشلهت :
    • ومات ؟
    • ما مات … قام جاري زي الشيطان … الكلاب يا أخوي عندها سبعة أرواح.
    • دى عندها سبعة أرواح بس .. دى عندها مليون روح … يقول هذا الكلام وهو يشعر أن ورطته كلها بدأت منذ أن عضه ذلك الكلب ..
    ويقوم رجل الأمن بمداخلة سريعة :
    • إنت مش قلت عضاك كلب ؟
    • ايوا ..
    ويسمع سائق التاكسي هذه المحادثة … فينهض ويجلس على كرسي فى مواجهة الاثنين
    • عضاك وين ؟…
    • في رجلي
    • وعملت شنو؟ .
    • دى قصة طويلة .. ليكن تقدر تقول لحدي هسع ما عملت حاجة …
    • اسمع أنا أقول ليك تعمل شنو … تمشى التيمان … يدوك طينة ود الطريفى خسيم السعر وجاموس الوعر … مافى زول بقدر على السعر دا إلا ود الطريفى … وطينته مجربة … وقاطعة ….ويشعر مشلهت أنه لا شئ يمكن أن يقيل عثرته فهذا هو اليوم السادس وهو لم يتحصل على المصل ولكن أن كان الأمر يتعلق بطينة ود الطريفى فليتحصل عليها ويتطوع سائق التاكسي :
    • هسع في دربنا دا ممكن نغشى التيمان … نأخذ منهم الطينة وبعدين نواصل …
    وينظر مشلهت ناحية رجل الأمن والذي لا يجد مانعاً من ذلك … فها هو سجينه معه ولا يبدو عليه أنه من النوع الذي يخطط للهرب كما إنه إلتقى صدفة بسائق التاكسي وهذا عمل إنساني يقوم به تجاه رجل ماهى الا دقائق ويكونون معه حول مائدة واحدة يتناولون الفول على حسابه .
    الشمس تجلد شارع الإسفلت بأشعتها المحرقة وكانها تقيم عليه الحد لأنه يزخر بكم هائل من الحفر يستأهل الجلد عليها … وقد تناثرت طرابيز الحديد الظهرية اللون المبرقعة وكذلك كراسي الحديد بعضها في الشمس وبعضها تغطيه نصف ظلال أمام متجر بائع الفول حيث إنك لا تستطيع أن تطلق عليه اسم مطعم … فلا هو مطعم ولا هو كفتريا ولا هو مكان سندوتشات … شئ للأن لم تجد البشرية السودأنية أسماً له … يقف ماسح أحذية وهو يحرك بأصابعه كشكوشاً مزعجاً مثبتاً نظره على أرجل الجالسين … بينما تأتي بنت صغيرة تقود والدها الأعمى تمد يدها تطلب نقوداً تشترى بها فطوراً … إنتهت فترة الفطور وعرج الجميع على متجر التيمان للعطارة للحصول على طينة ود الطريفى …

    ***

    الممرضة التومة كإنت تدخل وتخرج وفى رأسها أمر واحد أن تذهب لاهل مشلهت وتخبرهم بما حدث ولذلك كانت كل دقيقة وأخرى تنظر في ساعتها … إنتهى يوم العمل بالنسبة لها … وقبل أن تغادر لمحت الممرض الطيب :
    • هيا الطيب … تتجازى … وينا قروش الختة ؟ أم الحسين ما كلمتك …؟
    ويبتسم والطيب في ارتباك ويتلعثم وهو يقول :
    • كلمتني والله … وأنا ذاتي كنت جاييك لكن حصلت لينا ظروف … وغايتو أن شاء الله بكرة القريبة دى بجي أسلمك القروش …
    وتتشكك التومة:
    هوى يا الطيب … أنا كلام الاستهبال دا ما بنفع معاي … إنت لما جا دورك … نحنا مش سلمناك القروش طوالي ؟ اتاخرنا عليك ..؟
    • لا أبدا والله …
    • وطيب هسع مالك ؟ ما تجيب القروش عشان نوديهم لسيدهم …
    • خلاص .. يا ستي … قلت ليك بكرة … والله بكرة بجيبها ليكي .
    وتنصرف الممرضة التومة على مضض وهى تردد …
    • ناس ما عندهم ذوق … يجى جاري وكت القروش حقتو … وهسع يزوغ زي ود الموية … دا شنو دا ؟
    للمرة الثأنية كإنت الممرضة التومة تقف أمام منزل مشلهت وهى تطرق على الباب …. مضت مدة قبل أن تأتى بنت صغيرة تضع أصبعها في فمها.
    • يا بت ناس البيت ديل وين ؟
    • سافروا
    • سافروا مشوا وين؟
    • ما عارفة …
    • طيب في منو زول كبير نسألوا؟
    • مافى زول …
    • كيف مافى زول ؟ يعنى إنتي قاعدة براكي …
    • لا …
    • معاكي منو ؟
    • معاى أمي
    • طيب نادي أمك … والله يا بتي عاد حكايتك حكاية ..
    وغابت البنت فترة قصيرة ثم جاءت أمها … ويبدو عليها إنها تعمل خادمة في المنزل …
    • سلام عليكم
    • وعليكم السلام … أدخلي ..
    • لا أنا ماشة … بس جيت أسال من أهل البيت... بتك قالت لي مسافرين…
    • البت مجنونة وغبيانة … هم مشوا الليلة مقيلين في بيت عمهم شمس الدين عشان مرتو عيانة عملوا ليها عملية .
    • وبيت عمهم وين ؟
    • في المايقوما الحاج يوسف
    • وبجوا متين
    • بجوا بعدين
    • طيب عليكى الله … لما يجوا تديهم رقم التلفون دا وتخليهم يضربوا لي ضروري … ضروري جداً … إنتو التلفون ما إتصلح ؟
    • ما عارفة والله …
    • المهم تكلميهم لازم بأي طريقة يضربوا لي تلفون وتقولي ليهم الموضوع متعلق بمشلهت .
    وتنصرف التومة الممرضة وهى تشعر إنها لم تنجز الا نصف المهمة … إنها على أحر من الجمر لتنقل لهم أن مشلهت حي وموجود في مستشفى السكر وأنها هذه المرة ستذهب معهم الحجل بالرجل ولن تفارقهم حتى تسلمهم مشلهت في يدهم .

    ***
    سائق التاكسي يقود عربته وسط شوارع ملتوية في قلب سوق في طريقه لعطارة التيمان لشراء طينة ود الطريفى خسيم السعر وجاموس الوعر … وذلك لعلاج مشلهت بدلاً من المصل الذي لم يجد مشلهت له سبيلاً وطيلة الوقت كان سائق التاكسي يقول
    • شوف تاكل منها وتلبخ منها .
    • وينتبه مشلهت متسائلاً :
    • آكل شنو ؟
    • تأكل حتة من طينة ود الطريفى وحتة تبلها بالموية وتلبخ بها رجلك محل العضة … وخلاص الكمدة بالرمدة … داك الليلة عندنا مرة عند أهلنا … حتى هي عضاها كلب … عليك أمان الله … بس فد لبخة … التكتح ماجاها … هديك سمينة وماكنة الحمار ما يشيلها . وواحداً في حلتنا عضاعو كلب قعد لمن سعر وبقى يهوهو متل الكلب.. عليك أمان الله جابوا ليهو طينة ود الطريفي وسقوهو ليها... عليك أمان الله قال لك طرشن سبع جريوات.. الجريو ورا الجريو..
    أوقف سائق التاكسي عربته في شارع ضيق مزدحم بخلق عجيب .. جاءوا من أين لا أحد يعرف … ماذا يفعلون لا أحد يعرف … اختلط بائع الماء " برد" بأطفال يحملون أكياسا وبعضهم يحمل امشاطاً وبطاريات وحلاوة لبان وبعضهم يحملق دون أدنى هدف … يسير خطوة خطوتين ثم يقف ليحملق … وسط هذه الزحمة تبرز من وقت لآخر فتاة شابة حسناء وقد " قدرت ظروفها " بما تستطيع من مساحيق وفاتحات بشرة … يمسحها بعضهم بنظره ماسحة مثل " الاسكانر" ولكن لا أحد يدرى ما يدور بدواخلهم … وواحد يلمح إمرأة تسير أمامه.. يشاهدها من الخلف... فيسرع الخطى حتى يفوتها ثم يلتفت ليرى وجهها.. هذا دائماً يحدث.. ولا يدري أحد لماذا.
    بقي مشلهت ورجل الأمن داخل التاكسي وقد غطت المكان رائحة هي خليط بهارات وعطارة وما يضيفه لها بائع ودعمارى الذي اختبأ خلف طبلية يطل من ورائها على زبائنه وقد رتب أكياس النايلون الصغيرة بعناية … رائحة نفاذة مميزة لو تذكرت هذا المكان وإنت في باريس لطافت على خياشيمك بقايا أشياء لا تزال عالقة بذاكرتك الشمية .
    ووسط مجموعة من الناس كان يكتظ بها دكان العطارة رفع سائق التاكسي يده … دون اعتبار لمن كان قبله في الدكان وهو يخاطب البائع :
    • اسمع … أدينا بالله طينة ودى الطريفى …
    ويرد عليه البائع وكان يزن شيحاً لامرأة تقف أمامه …
    • والله الطينة دى .. إلا نرسل الولد للحلفاية يجيبها من هناك …
    • ليه ؟… ما عندكم ؟
    • كإنت عندنا لكين كملت … الظاهر اليومين دى الكلاب شايفا شغلها … إنتو العاضي كلب ليكم منو؟ .
    • واحد أخونا …
    • طيب دقيقة … أنا بضرب تلفون لواحد في بحري يمشى الحلفاية يجيب لينا كمية وإنت مر علينا العصرية …
    • العصرية البيجيبنى هنا شنو؟
    • إنت مش بتقول زول أخوكم … خلاص … تعال بعدين … نكون حضرناها ليك …
    يعود سائق التاكسي ليجيب على تساؤل متوقع ؟
    • وينا الطينة ما جبتها معاك؟
    ويرد بنصف خيبة أمل :
    • الجماعة قالوا خلصت … ما عندهم … إلا يرسلوا لواحد يجيبها من الحلفاية … وقال نمر عليهم العصرية ويرد مشلهت
    • العصرية ؟.. وين نحنا نكون في العصرية؟ .
    ويظهر رجل الأمن بعض الضيق
    • خلاص يا أخينا سوق عربيتك وامرق بينا من هنا … نحنا اتاخرنا … وقليلاً قليلاً … حركة ثم توقف .. تخرج العربة الى شارع حى العمدة … وكانها قد وصلت " الميس" .. وشعر الجميع بارتياح عظيم … فبعض الشوارع والأزقة والمنعطفات تجثم على صدرك وتصيبك بضيق لا حدود له …
    إجراءات التحقيق في مركز غرب الحارات سارت بطريقة روتينية كالعادة حيث شرح مشلهت للمتحري كل الظروف التي أوقعت مسدس الرقيب موسى الحاكم في يده … وهو لا يدرى أين ذهب موسى الحاكم …
    • هو ما قال ليك ماشي وين .
    • قال ماشى يتسير … وبعدين ناس الإسبتالية إنتظروه كدا وهو ما جا … قاموا ودوني لمستشفى السكر وأنا ما لقيت زول أخلي معاهو المسدس قمت دخلتو في بقجة كنت شايلها واخوكم دا شافني وحقق معاى وودونى لمركز سوق ليبيا ومن هناك جينا هنا ..
    ويضيف رجل الأمن :
    • وهو نفسه كان في مستشفى السكر وهسع بعد الإجراءات لازم نرجعو هناك وتعملوا معاهو حراسة من عندكم ؟؟؟
    ويجيب :
    • حراسة من عندنا دي … الا يجى الضابط العظيم ويقرر يعمل معاهو شنو … نحنا هنا بس نأخذ اقوالو وبنفتح ليهو بلاغ بحيازة سلاح حكومي مسروق … وبالنسبة للرقيب موسى الحاكم .. غياب فى الخدمة دون عذر ودا إجراءاتو براها .
    ويتساءل رجل الأمن :
    • وطيب دا حنعمل ليهو شنو هسع ؟
    • خليه يقعد لحدي ما الضابط يجي ..
    وينظر رجل الأمن ناحية مشلهت فيثير في نفسه شفقة وعاطفة خاصة قد تقاسم معه عيش وملح وفول ومشوار لعطارة التيمأن … فيقول :
    • بس الزول دا عيأن ولازم يمشى الإسبتالية … نحنا ما نقدر نخليه معانا مدة طويلة …
    ويتضايق :
    • إنت مش وصلتو لينا هنا ؟
    • ايوا
    • خلاص دى بقت مسئوليتنا … نحنا بنعمل إجراءاتنا ولو لقينا إنو لازم يمشى الإسبتالية بنعمل ليهو اورنيك وبنوديهو
    • هو اصلو عنده اورنيك طبي … جا بيهو من مركز ليبيا وناس الإسبتالية حولوهو لمستشفى السكر بأورنيك برضو
    ويصر المتحرى على موقفه
    • لا … دي حكاية لازم يقررها الضابط العظيم … وبعدين نحنا حنوديهو استبالية قريبة من هنا … ما ممكن نوديهو لمستشفى السكر …
    • طيلة هذا الوقت ومشلهت صامت يسمع لمصيره يتقرر ويتشكل قدره أمامه وهو لا يملك من أمره شيئاً فهناك بلاغ مفتوح ضده في مركز سوق ليبيا بالتعامل في أدوية دون ترخيص وبلاغ آخر بالاحتيال وسرقة بقجة ملابس … وهنا بلاغ ثالث في مركز غرب الحارات بحيازة سلاح حكومي مسروق … ولا أحد يأبه بموضوعه الأساسي الذي أوقعه في كل هذه المصائب … وهو الحصول على مصل مضاد للسعر … سائق التاكسي ظل يتململ طيلة الوقت الا أنه لم يقل شيئاً … فكل هذا محسوب على مشلهت وهو لا يدري هل يملك مشلهت أجرة التاكسي مقابل مروره وتوقفه والزمن الذي قضاه … الا أن سائق التاكسي كغيره من عامة السودانيين الذين يحملون معهم قدراً من المرؤة والشهامة منذ نشأتهم يشعر أن مشلهت في ورطة وإنه يحتاج لمن يقف بجانبه وهو قد تطوع لإرشاده الى طينة ود الطريفى ولكنه أخيراً قال موجهاً حديثه لرجل الأمن :
    • يا جنابو … أنا اتاخرت كتير وبدور أمشي … دحين شوف الزول دا … كان …
    وينتبه رجل الأمن :
    • ايوا … تمام بس خليك شوية يمكن ارجع معاك أنا ما عارف الناس ديل عندهم عربية ولا لا … طيب حسابك كم ؟
    • إنتو شوفوا المناسب
    • المناسب كم ؟
    • نحنا من الأول ما إتقاولنا … شوف حاجة معقولة كدا .. ويتدخل مشلهت في هذا الجزء من المحادثة :
    • يا ابن العم إنت مشيت معانا وما قصرت … بس ورينا إنت المعقول … ونحنا بندفع ليك .
    وبصمت سائق التاكسي فترة .. ثم يقول :
    • والله ما بقدر أقول لكم … إنتو بس شوفوا المعقول يعني…
    يقوم رجل الأمن بخطوة حاسمة ويوجه حديثه لمشلهت :
    • هات 20
    ويتدخل سائق التاكسي :
    • نان ما شوية … عاد إنتو كمان أعملوا المعقول ...
    يرد رجل الأمن
    • طيب … نحنا من قبيل قلنا ليك ورينا عايز كم .. إنت ما راضي تورينا … على العموم خلاص حنديك 30 … هات يا مشلهت 30 الف …
    • ويدخل مشلهت يده في جيبه ويدفع ثلاثين الف عبارة عن ثلاثة ورقات خضراء لرجل الأمن والذي يدفع بها ليد سائق التاكسي … وفجأة يتذكر سائق التاكسي موضوع الطينة
    • هسع الطينة دى نعمل معاها شنو ؟
    ويصمت مشلهت برهة كمن يفكر :
    • إذا عندك وكت أمشي ليهم بعدين وجيبها منهم
    • أجيبها وين ؟
    لا أحد يدرى إجابة السؤال … إذ أنه من المتوقع أن يحول مشلهت الى المستشفى بأم درمان … ولكن أي مستشفى ؟ ويقترح رجل الأمن :
    • إنت إذا جبيتها … جيبها هنا .. واسال الشاويش النبطشى وهو يوريك مشلهت وين ؟
    ويوافق مشلهت على هذا الاقتراح … غير أنه كان يفكر في أمر آخر طالما أن سائق التاكسي يمكن أن يذهب لعطارة التيمأن ويحضر طينة ود الطريفى فإنه يمكن أيضاً أن يصل أهله في الخرطوم بحري ويحضرهم بسيارته وبذلك يكون قد حل لمشلهت مشكلة مستعصية قال مشلهت :
    • إنت لو اصلك حتمشي للتيمان عشان تجيب طينة ودي الطريفى أنا بعدين حاديك مشوار مهم للخرطوم بحري .. ضروري جداً تجي .
    • خلاص … أن شاء الله أنا أول ما استلم الطينة اجي عندك هنا طوالى …
    • وإذا حصل أنك ما لقيتني هنا … لازم تسال العسكري النبطشي عشان تعرف ودوني وين ؟
    ولاول مرة يشعر مشلهت أن الأمور ربما تستعدل فسائق التاكسي الذي بعثه الله له … يمكن أن يجمعه بعائلته وهو لا يدرى كيف استقبلوا نبأ اختفائه وماذا فعلوا في هذه المدة … لابد أنهم ظلوا يبحثون عنه ولم يخطر ببال مشلهت أنهم دفنوا شخصاً ظانين أنه مشلهت … وبما أن الأمور قد تعقدت الى هذا الحد لابد أنها ستنفرج أو كما قال الشاعر :
    ضاقت ولما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج .
    سائق التاكسي انصرف هو ورجل الأمن وبقى مشلهت وحيداً يجلس على كنبة بمخفر الشرطة بمركز غرب الحارات … فشعر بوحدة قاسية فللحظة شعر أن سائق التاكسي ورجل الأمن هم كل عالمه الذي يستطيع أن يتخاطب معه … من داخل المأساة والاحباطات يرسل الله لك من يجعلك تتذوق حلاوة الحنظل … وهنا تكمن المفارقة الكبيرة … ففي الليالي حالكة المصير يلمع ضوء خافت في نهاية النفق … وعل ذلك الضوء الخافت يأتي على يد سائق التاكسي …
    المتحرى كان يقلب المسدس بين يديه ويقول :
    • هو دا فاضي ما فيهو رصاص … إنت طلعت رصاصو ولا شالو الرقيب موسى معاهو ؟
    • أنا اصلو ما هبشتو ولا شفت فيهو شنو … هو أداني ليهو كدا وأنا ختيتو مع الهدوم …
    • هدوم بتاعة شنو .
    • دى قصة طويلة … المهم كان عندي بقجة بتاعة واحد ممسكنى ليها ختيت فيها المسدس بعدين زول الأمن دا شافو وعمل لي قضية …
    الغريب في الأمر أنه بعد محادثة محادثتين مع مشلهت يجد الجميع إنهم في تعاطف معه … ويشعر الجميع أن ذلك الرجل يستحق أن يطلق سراحه … ويشعرون أيضا في قرارة أنفسهم أنه صادق فيما يقوله ولكن القإنون هو القإنون والإجراءات هي الإجراءات ولا يمكن تجاوزها … كما إنه في حاجة لمن يتكفل بتوقيع ضمان نيابة عنه ولكن هذا يتطلب عرضه على وكيل نيابة وهو للآن لم يعرض على أي وكيل نيابة … وتمر الأيام وهو متنقل بين المستشفيات والحراسات .

    ***
    ظلت التومة الممرضة في إنتظار أن يرن جرس التلفون في المستشفى بين كل لحظة وثأنية وأن يكون المتكلم من الناحية الآخرى زوجة مشلهت حتى تسارع بزف النبأ لها بأن مشلهت موجود فى مستشفى السكر وأنشغلت بهذا الامر عن الطيب الممرض الذى لم يسدد قسط الختة … حتى جاءت الفراشة ام الحسين لتنقل نبأ غريباً للتومة :
    • اسكتى يا التومة … ما شفتي الطيب سوى شنو ؟
    • سوى شنو كمان ؟
    • والله ناس عنبرو قالوا هاجر لو لى بلداً بعيد … عاد الله عليمو …كان يجى راجع ولا بقعد قبلو ما عارفة … وبغضب ظاهر تصيح التومة الممرضة:
    • يجي راجع … هو قال ليكى هاجر … يجى كيفن راجع تانى اظنوا ما صدق … آكل قروش الناس وفر … عاد كر منكم يا ناس الدنيا … هسع أنا أسوي شنو يا اخواني؟ هسع سيد القروش دا يمكن يقول أنا أستلمتهم من الطيب واكلتهم … عاد دى نصيبة شنو دى يا ربى … ؟
    في انشغالها ذلك بموضوع الطيب الذي هاجر دون أن يدفع قروش الختة … أنشغلت التومة الممرضة عن ذلك التلفون الذي ظل يرن ويرن في المكتب … وعندما تنبهت إحدى الممرضات للتلفون واخدت السماعة …
    • ايوا .. عايز منو ؟ … سمح دقيقة اللناديها ليك
    يا التومة …. التومة .. هوى يا التومة التلفون …
    ولكن التومة أشاحت بيديها :
    • يا شيخة سبيني من التلفون هسع تلقيهو دا سيد القروش الشفقان دا …
    قالت هذا الكلام وهى تتجه نحو عنبر القاينا حيث كان يعمل الطيب … بقيت سماعة التلفون في يد صفية زوجة مشلهت مدة طويلة دون أن تحضر التومة فوضعت السماعة في مكانها وهى تقول :
    • حكاية عجيبة … هسع المرة قالت لي إنتظري أناديها ليكى … تكون طارت وين ؟ وهى دى ذاتها منو ؟ كاتبة نمرة التلفون وكاتبة اسمها التومة … يا ربي التومة دى منو ؟ وتلتفت الى "الخدامة " .
    • إنتي قلتي مرة جاتك هنا وأدتك الورقة دى وقالت ليكي ضروري نتصل بيها؟
    • ايوا …
    • وما قالت ليكي الموضوع شنو ؟
    • ما قالت …
    • " لم تتذكر المرأة أن التومة قالت لها أن الموضوع بخصوص مشلهت "
    • والمرة دى شكلها كيف ؟
    • واحدتن … قصيرة ومليانة .. وخدرة …
    • يا ربى دى تكون منو؟ … غايتو نحاول نتصل بيها تانى …
    فى هذا الاثناء وصلت التومة عنبر القاينا واخذت تسال الممرضين والممرضات فرداً فرداً.
    • وإنتو عرفتو من وين إنو هاجر ؟ ..
    • أمس جا سلم حاجاتو وودعنا ومشى …
    • يودعكم كيفن يعنى يمشي بدون ما يجي يسدد حق الختة ؟ ولى شنو ما كلمتوني ؟ ؟؟
    • وهو كان داخل معاكم في الختة ؟
    • ايوا وصرف الثانية كمان … ظنيتو دبر بيها حال السفر والهجرة … بالله مش عيب عليهو يمشي بحق الناس ؟
    يعنى بقى حرامي … عاد تعالوا شوفوا الكلام دا معناتو شنو … ما ياهو … أمور الحرامية … الزول بهاجر وفوق ضهرو قروش قدر دي ؟ … استغفر الله.
    وعنبر القاينا هو آخر مكان وصلت اليه التومة الممرضة في ثورتها علي الطيب الممرض … ولا تعرف ماذا تفعل …إذ أن الطيب ليس متزوجاً وقد اتضح إنه كان يقيم مع جماعة من أصحابه في الرميلة … واحيأناً يذهب لأهله في قرية الدشاش … بالقرب من العيكورة على طريق الخرطوم مدني … ودفع فقط القسط الثالث وتبقت عليه سبعة أقساط هاجر بها … الأمر الذي أزعج التومة الممرضة وجعلها تغادر مبكرة الى منزلها .. هو أنها كإنت منذ زمن بعيد تعمل أمينة لصندوق الختة وتجمع الأقساط وتوزعها لاصحابها بدقة بالغة وهذه أول مرة تحدث لها هذه المسألة .. واليوم فقد أنسدت نفسها من الشغل وعادت الى منزلها ولم تنتظر أية محادثة تلفونية .
    صفية زوجة مشلهت ولولا ظروف موته المفاجئ وما أحاط بها من غموض ما كان لها أن تخرج من منزلها بل كان المفترض أن تبقى " في بيت الحبس" الى أن تتم عدتها .. وأن تلف نفسها بثوب ابيض في طقوس هي خليط بين ما أمر به الشرع وبين عادات اجتماعية درج الناس على اتباعها … ولكن الشك الذي بذره البائع المتجول والممرضة التومة في زيارتها الأولى والمعلومات التي أدلت بها جعلتها تؤمن في قرارة نفسها أن مشلهت ربما يعود يوماً سليماً معافى وأن الذي تم دفنه شخص آخر … ولهذا كإنت تنتبه لأي طرق على الباب …

    ***
    الضابط العظيم الذي عرضت عليه أوراق مشلهت وجه بعض الأسئلة للمتحري ليطمئن على سلامة الإجراءات ثم دون بقلمه بعض التعليمات ومنها أن يستخرج لمشلهت اورنيك طبي وأن يخصص له حارس يصحبه لمستشفى بمدينة الثورة حتى يكون قريباً من مركز غرب الحارات … في إنتظار العثور أو القبض على الرقيب موسى الحاكم ومعرفة الملابسات التي أدت الى وقوع ذلك المسدس في يد مشلهت مما أدى الى فتح بلاغ ضده بحيازة سلاح حكومي مسروق .
    مرة أخري يعود مشلهت الى مستشفى ولكن غير مستشفى السكر … وتمت إجراءات دخوله وحجزه وقد لاحظت الممرضة أن الجرح الذي في رجله بقي مدة طويلة دون غيار مما أدى الى تورم ظاهر …
    • وليك كم يوم ما غيروا ليك للجرح بتاعك دا ؟ …
    • يومين ..
    • وليه أصلك كنت وين ؟
    • كنت في الحراسة …
    وتوقفت الممرضة برهة ثم نظرت في وجه مشلهت وهيئته وقد شعرت بخوف ورهبة … وكانها ترى مجرماً لاول مرة … ولكنها باشرت عملها وهى تقول :
    • جرح زي دا … لازم يدوك عليهو مضاد حيوي … وأنا حأكلم الدكتور بعدين لما يجى في المرور …. وإنت اصلو الضربك شنو ؟
    • عضأني كلب …
    • يا ساتر … وما أخذت المصل ؟
    • ما اخدتو …
    • ليه ؟
    • ما لقيتو …
    • ما لقيتو كيف يعنى ؟ … المصل موجود في أي حتة …
    • أنا أي حتة مشيت ليها ما لقيت المصل وهسع أنا مقبوض على هنا عشان المصل الموجود في أي حتة دا
    • ما فاهمة بتقصد شنو ؟
    • اقصد إنو ما لقيت المصل وبعدين مشيت أفتش عليهو قبضونى هسع إنتي عارفة ليكى محل مصل … جيبيهو لي وأنا بديكي حقو …
    • خلاص بكرة … أنا بمشي لواحد في الديوم عنده مصل جايبو معاهو من مدة وهو كلمني وقال لي إذا لقيتي زول عايز مصل تعالي اخدي دا وديهو ليهو .
    • خلاص … بسرعة أنا الليلة لي اكثر من أسبوع مما عضاني الكلب … ولازم اخد المصل ولا بعدين الواحد يروح فيها .
    • بعيد الشر يا ابن العم … أن شاء الله ما تروح فيها .
    من بعد زمن طويل يقابل مشلهت مثل هذه المشاعر الشفوقة التي لا تريد له مكروهاً … وهو لا يعرفها ولا تعرفه ولكنها تتمتع بطيبة جبلت عليها بعض البنات والسيدات والحبوبات عندنا في هذا المجتمع … تتصرف بتلقائية وعفوية محببة … تجعلك تشعر إنها أختك أو ابنتك في المقام الأول … وهى تضمد جراحه تخبره بأنها ستحضر له ذلك المصل السحري الذي ظل يجري خلفه كالسراب …
    سائق التاكسي عاد صباح اليوم التالي وهو يسال عن مشلهت فقد احضر معه طينة ود الطريفى … ولكنه لم يجده فقد حول مشلهت لمستشفى بمدينة الثورة بأم درمان … ولكن سائق التاكسي استطاع أن يعرف المستشفى الذي نقل اليه مشلهت وذلك بعد أن سأل سائق عربة المركز التي اقلت مشلهت الى المستشفى .
    تجول في ردهات المستشفى واخذ يطل على العنابر حتى شاهد مشلهت مستلقياً على أحد الأسرة في أحد العنابر … شق طريقه وسط زحمة معتبرة …
    • ازيك يا أخينا …
    • أهلا وسهلاً … أتفضل .
    • خلاص جابوك هنا .
    • ايوا
    • برضو احسن من الحراسة … لازم عندك واسطة قوية …
    • واسطتى السكري والجرح البتشوفو دا …
    ويصيح سائق التاكسي :
    • يا زول … خلاص لقيت ليك طينة ود الطريفى … أول ما مشيت لهم الولد لقيتو مجهز الطينة طوالي أخذتها منو … حتى حلف ما يأخذ مني أي قروش قال لي دى تعليمات أهلا في الحلفاية … إنو يقدموها مجاناً والظاهر عليهم تابعين وصية الشيخ نفسه … زول التيمأن قال لي الكلام دا ..
    وناول سائق التاكسي مشلهت كيساً به تلك الطينة الرمادية التي يميل لونها للسواد …. بينما قام الحرس من مكانه ليتفقد محتويات ذلك الكيس وهو يسال :
    • ودا بعملوا بيه شنو ؟
    • دا علاج لعضة الكلب
    • دوا نافع ؟
    • يا سلام .. دا كلامك . ياهو دا الدوا الأصلي .
    وبعد أن شرح سائق التاكسي لمشلهت طريقة الاستعمال … جلس معه فترة من الزمن يقول مشلهت :
    • إنتو يا خوى أهلكم وين
    • أهلنا في المسعودية ..
    • طيب يا ود المسعودية أنا عندي مشكلة … وأنا عايز اشرحها ليك وعايزك تساعدني … ومشاويرك دى كلها على الحساب ..
    • يا زول مافى عوجة … تب ما عندك عوجة … بس إنت قول وأن شاء الله كل شي يتصلح ..
    واخذ مشلهت يحكى لود المسعودية حكايته من بدايتها الى حين وصوله للمستشفى بالثورة …. ويصف له منزله بالخرطوم بحري ويرجوه أن يصل هناك ولا يعود الا ومعه أفراد العائلة وإذا لم يجده لأي سبب من الأسباب في هذا المستشفى أن يتقصى ويسأل عنه حتى يجده … لقد مضت عشرة أيام مشلهت لا يجد طريقة للاتصال بأهله وهو لا يعلم عنهم شيئاً ولا يعرف كيف استقبلوا نبأ أنقطاعه عنهم…
    ووعد ود المسعودية أن يبدا أول مشاويره بالذهاب لمنزل مشلهت … الا أن مشلهت قال له :
    • استنى اقيف … ماشي وين؟
    • ما خلاص أنا من دربي دا ماشي بحري …
    • لا …. إنتظر شوية …اصلوا ما في زول جاب لينا حاجة ناكلها أو نشربها … وأنا شايف الناس هنا أهلهم بجيبوا ليهم الأكل …عليك الله ..هاك شوف لينا أكل أنا والعسكري دا …. وجيب قزاز موية معاك …
    • ويؤمن العسكري علي اقتراح مشلهت :
    • ايوا … والله جيعانين الجوع قرضنا …هنا ما في زول بديك أكل … غايتو الا تاكل من جيبك …
    ويكمل مشلهت :
    • وأنا حالتو المفروض يكون عندي غذا خاص عندي سكرى … لكين نقول شنو … صاحب السكري والفشل الكلوي والضغط واليرقان … كلهم يأكلوا زي ما تجى … الواحد أهل بطبخوا في البيت وما في زول قال ليهم ياكلوا شنو ولا ما ياكلوا شنو …
    وخرج سائق التاكسي لإحضار الطعام والموية …

    ***
    لم يكن هناك أمر يشغل بال التومة الممرضة الا حكاية الممرض الطيب الذي صرف ( الختة) ثم زاغ في هجرة لا يعلم الا الله متى يعود منها …
    وطيلة الوقت كإنت التومة تتحسر على أخلاق هؤلاء الناس الذين أنعدمت فيهم المروءة والنخوة …
    • ديل عاد …. برى منهم … يبلعوا حق الناس زي ما ببلعوا البندول … الواحد تب ما عنده قشة مرة … وتعزي نفسها قائلة وهى توجه كلامها لاحد الممرضين في العنبر :
    • وهم قايلين حق الناس دا برقد ليهم ؟ والله يمرق منهم في الدنيا هنا قبال الآخرة …
    وتشعر أم الحسين الفراشة والتي كإنت تستمع للتومة بمدى الحرقة التي تشعر بها التومة فتهدئها قائلة :
    • هيا التومة أختي … قليلا رايح وكتيرها رايح وناس الدنيا ما فيهم فائدة … ونحنا عارفينك مرة دغرية وما عندك لولوة … أهل القروش أن شاء الله يلقوا قروشهم وتقاطعها التومة :
    • يلقوها وين ؟ … أكان الطيب ذاتو زاغ ؟
    • الله كريم …
    وفى هذا الأثناء يتقدم شاب حليق الرأس ويرتدى قميصاً رمادياً مخططاً بالأسود فضفاضاً وبنطلون جينز كأنه بنطلون أخيه الأكبر وحذاء متعدد الطبقات لم يستقر على حال … هل هو حذاء أم " بوت" عليه غبرة مستعصية :
    • يا أخوانا في واحدة ممرضة هنا اسمها التومة ؟
    وتنتبه التومة :
    • أي …أنا التومة …
    ويناولها الشاب لفة في كيس بلاستيك اسود :
    • دى أمأنة أداني ليها الطيب قال يسلموكي ليها .. ويشتعل المكان بحيوية لا يدري أحد من أين هبطت … وتقوم التومة بإخراج محتويات الكيس من أوراق مالية وهى تغمغم قائلة :
    • ود حلال … والله ود حلال .. جيد لي جيد لي … الليلة الطيب عاد حق اسمو … الطيب ما ساهل … وما باكل حق الناس .
    وتوافقها أم الحسين :
    • اها شفتي .. أنا ما قلت ليكى الناس أولاد الناس بينين وأنا عارفة الطيب ما الولد البياكل حق الناس ؟
    ويخاطبها الممرض :
    • اها … خلاص رقتي؟ … من أمس وإنتي ماكلة لحم الزول .. اهو جاب ليكى القروش … تأنى كلامك شنو؟
    وتشعر التومة ببعض الخجل :
    • هي لكين أنا اعمل شنو ؟ ناس عنبروا قالوا لي هاجر … وأنا قلت يمكن زاغ بقروش الناس .. عاد أنا أختها من وين؟ ..
    النهاية السعيدة التي إنتهت إليها أزمة الختة … رفعت الروح المعنوية لدي التومة الممرضة … وجعلتها تتذكر حكاية التلفون من أهل مشلهت :
    • يا أخواني … ما جاني تلفون ؟
    • أمس اليوم كلو التلفون يضرب … وقالوا عايزنك …. لكين إنتي مشيتي .. وما إنتظرتي :
    • لازم يكونو ديل أهل مشلهت .. وعلى العموم لازم أصلهم الليلة بس خلى الوردية دى تخلص … من دربي دا عديل عليهم …
    وتسألها أم الحسين الفراشة :
    • الرسول يا التومة … عاد اصبري لي النسعلك …. الناس ديل إنتي بتعرفيهم .
    • لا … والله بس مشلهت حكي لي حكايتو وطلب منى أمشي اكلم أهله …
    • ومشيتي كلمتيهم ؟
    • مشيت كلمتهم في المرة الأولى .. وهم يظهر جو الإسبتالية ولقوه حولوه لمستشفى السكر وفى المرة التأنية ما لقيتهم لكين خليت ليهم نمرة تلفون العنبر عشان يتصلوا بي وأنا زي ما شايفة كنت مشغولة بموضوع الطيب .
    • أي والله كان شاغلك شغلة شديدة …
    كإنت صفية زوجة مشلهت تؤدى فريضة العصر عندما وصلت التومة … وبعد أن فرغت من صلاتها سلمت على التومة والتي كإنت تجلس على سرير وقد وضع أمامها كوب ماء على تربيزة صغيرة …
    • شوفي يا أختي أنا يومداك جيت ولقيتكم مافيشين … وخليت ليكم نمرة تلفون العنبر …
    وتقاطعها صفية :
    • ايوا … وضربنا ليكى كم تلفون لكين بقولوا لينا مافى …
    • صحي … كلامك تمام … اصلوا أنا مشيت بدري … كنت متضايقة ….. وهسع إنتو ما عرفتو أبو عيالك وين ؟
    • ويعنى وين … ما نحنا مشينا الإسبتالية مالقيناهو ..
    • ايوا … صحي هو اصلوا جا الدكتور وحولو لمستشفى السكر … عشان كدا إنتو لما جيتوا ما لقيتوهو … والمستشفى بتاعنا قاعد يحول مرضى السكر لمستشفى السكر عشان بقولوا هنا ما بلقوا عناية … وهناك داك مستشفى متخصص … على العموم أنا بمشي معاكم من دربي دا لحدي ما أسلمكم زولكم من ايدو ..
    وتشعر صفية زوجة مشلهت بصدق حديث التومة فتشكرها وتدعوها للبقاء حتى يتنالوا وجبة الغداء وتوابعها من شاي وغيره ..
    وتتساءل التومة :
    • وإنتو اصلو أبو عيالك دا ما فتشتوهو ؟
    • فتشناهو … ما خلينا فجة … لكين تقولي شنو يا بت الحلال ؟ حكاية زاتا بقت لينا عجيبة … هسع بتقولي شفتيهو حي وبتكلم ووصاك؟ .
    وتستنكر التومة هذا السؤال:
    • استغفر الله يا بنت أمي … يعنى أنا الجابنى هنا شنو ؟ والوصف لي منو؟ وأنا عرفت اسمو كيف مشلهت؟ ما ياهو اسمو ؟
    • ايوا … كلامك عديل…
    وبينما العائلة تتناول طعام الغداء ومعهم التومة الممرضة … يدخل حيدر الابن الأكبر لمشلهت ومعه صديقه عبد الباقي ويلقيأن بالتحية ثم يدخلان الصالون وينضم اليهم علاء الابن الأصغر لمشلهت :
    • شفت يا حيدر المرة القاعدة تتغدى مع ناس أمي قالت شنو ؟
    • قالت شنو ؟
    • قالت أبوي اخدوهو ودوهو مستشفى السكر وهى هسع جات عشان تاخدنا نمشى معاها تورينا محلتو :
    • أبوك ؟
    • ايوا
    • كلام شنو دا؟
    • وينتبه عبد الباقي لما سمعه :
    • اسمع … الحكاية شنو ؟
    • والله يا أخي .. نحنا مخنا دا عايز يطرشق … كل يوم والتاني يجينا زول يقول لقي أبوي في حتة .. واحد قال في الحراسة … قمنا مشينا لحراسة سوق ليبيا وما لقيناهو … جات المرة دى زاتا وقالت خليتو في الإسبتالية … مشينا الإسبتالية ما لقيناهو … هسع اهو إنت سامع علاء بقول إنها جاءت وقالت إنو فى مستشفى السكر …
    ويقول عبد الباقي
    • مش جايز الجماعة ديل كلامهم صاح … وجايز أبوك يكون ما مات … وتكونوا إنتو دفنتوا ليكم زول آخر …
    • والله يا أخي كل شي جائز … لكين ليه محل ما نمشى ما نلقاهو ؟ … اهو دا البخلى الواحد يشك … … والحاجة التأنية … هو لو اصلو حي وموجود وما بقدر يجى البيت …ما يحاول يضرب تلفون؟ دى كمان بتخلينا نشك في كلام الناس ديل .
    ويتساءل عبد الباقي :
    • طيب لكين الناس ديل بستفيدوا شنو من حكايتهم دي؟ … إذا كان هو ما موجود ؟
    • والله دى حكاية تحير فعلاً .
    تعرض صفية على ابنها حيدر أن تجهز لهما الغداء لكنه يؤجل ذلك لحين الفراغ من مشوار الذهاب لمستشفى السكر مع التومة الممرضة طالما أن عربة صديقه عبد الباقي معهما .
    وقفت العربة أمام مستشفى السكر وخرج منها الجميع ودخلوا فناء المستشفى تتقدمهم التومة الممرضة وكإنت تقول لكل من يقف على أحد الأبواب
    • أنا زميلة .. من الإسبتالية الكبيرة وديل معاي.. فلا يعترضها أحد … حتى تقف أمام موظف الاستقبال كان قد خلع حذاءه لصبى صغير أنهمك في تلميعه …. وكأنما فاجات التومة ذلك الموظف عندما قدمت نفسها قائلة :
    • زميلة … من الإسبتالية الكبيرة …
    فهب واقفاً ومد يده يسلم عليها في ارتباك واضح بينما كان يقوس أصابع رجليه على البلاط … لا أدري لماذا … سألته التومة :
    • قالوا في واحد هنا حولوه ليكم من الإسبتالية الكبيرة اسمو مشلهت محمد مشلهت …
    • مشلهت
    • ايوا …
    • قلتي حولوه من وين ؟
    • من المستشفى الكبير
    • متين ؟
    • يعنى قول قبل يومين ..
    ويصمت الموظف برهة ثم يقول:
    • طيب دقيقة … ويلتفت خلفه فيشاهد أحد الممرضين وهو يغسل يديه فى حوض ليس بعيداً عن الاستقبال :
    • اسمع إنتو في واحد كان محول من الإسبتالية الكبيرة إسمو مشلهت كان عندكم هنا؟
    • دا مات واهلو استلموه …
    وتصرخ التومة الممرضة فزعة :
    • مات متين ؟
    • مات قبيل في الصباح … جابوه هنا وعندو سكرى وقطعوا ليهو رجله …لكين مات …
    • يا أخي كدي أتذكر .. واحد اسمو مشلهت …
    • ياهو مشلهت … أنا ذاتي لما سألتهم لقيت اسمو غريب كدا …
    • إنت متأكد ؟ …
    • كيف ما متأكد … تعالى معاى نشوف دفتر شهادات الوفاة ..

    كإنت زوجة مشلهت أسرته يتابعون ما يحدث غير مصدقين … هل هذا حلم أم كابوس ؟ … هذا شخص آخر يموت ولا يدرون هل هو مشلهت أم غيره … ولكن الممرض حسم القضية إذ أنه جاء يحمل دفتر صور شهادات الوفاة
    مشلهت … مشلهت … مشقلب … أنا عارف الناس دى بتجيب الأسماء دى من وين ؟ .. واحد مشلهت وواحد مشقلب … وما بعيد يكون كمان في واحد اسمه مشنقل … ما خلاص الحكاية جاطت ..
    أهو دا ... بس دا إسمو مشقلب.. ما مشلهت.
    لم يكن أحد يهتم بما يردده الممرض بل كان كل همهم هل هناك شخص باسم مشلهت قد توفي هو الآخر … وأين ذهبوا به .. وتتساءل زوجة مشلهت :
    • يعنى دا مش مشلهت …
    ويجيب الممرض والتومة الممرضة في أن واحد :
    • لا …
    وتواصل صفية تساؤلاتها :
    • وطيب مشلهت مشي وين ؟
    وتتحفز التومة بعدة أسئلة :
    • اسمع طيب في منو هنا ممكن نسأله عن مشلهت ؟ .
    • إذا كان اسمو في دفتر العيادة يكون موجود إنتو قلتوا جابوه هنا متين ؟
    • على حسب كلامهم يمكن قبل يومين …
    • قبل يومين ما ممكن يخرجوه .. الا يكون دخل في كوما بتاعة سكر وديل قاعدين يوودهم عنبر العناية المكثفة يلا نمشى هناك نشوف …
    ويذهب الجميع الى عنبر العناية المكثفة ويقفون عند الباب بينما تدخل التومة الممرضة وحيدر الى حجرة الاستقبال … ويبدأ السؤال والبحث في الأوراق ولكن لا أحد مصاب بكوما أو غيبوبة سكر يحمل اسم مشلهت … وتخرج التومة وحيدر والممرض ومعهم لغز كبير … أين ذهب مشلهت ؟ أو قل هل جاء أصلا لمستشفى السكر أم الذي جاء شخص آخر … كما مات شخص آخر يحمل اسم مشقلب ؟ …
    هذا الموقف الملئ بالألغاز آثار جواً من التوتر … لم يتبدد الا عندما اقترحت التومة :
    • يا أخوأني … والله ما عارفة أقول ليكم شنو … دى تانى مرة تجوا ما تلقوا مشلهت مع إنو كلهم أكدوا إنو نقلوه لمستشفى السكر …
    وتصححها صفية :
    • دى تالت مرة … أول مرة مشينا الحراسة في سوق ليبيا ما لقيناهو … وتتخارج التومة من الموقف ببعض الاقتراحات :
    • غايتو إنتو احسن تمشوا دلوقت وأنا بقعد هنا لحدي ما أشوف الحكاية شنو وبعدين بتصل بيكم … تلفونكم مش شغال .
    • ايوا …
    • خلاص أنا اول ما اعرف حاجة بضرب ليكم …
    • ونطيب خاطرها صفية :
    • يا اختى ما تتعبى روحك .. إنت ما قصرتى … عملتي العليكي … واكتر منو … على اي حال نحنا رضيانين بالبسوي الله … وما فى حاجة بتتعمل بدون اراداتو …
    وتصر التومة :
    • لا إنتو لازم تمشوا وأنا بقعد هنا اصلو ما عندى حاجة لحدي ما اشوف الحكاية دى اخرتها شنو …
    ويتحرك الجميع نحو الخرطوم بحري عائدين على عربة عبد الباقى صديق حيدر.
    لقد ألجمت الدهشة ألسنة الجميع … كل الافكار التى تدور برؤوسهم لا تصلح لطرحها داخل العربة لأنها لا تقدم ولا تؤخر … هى عملية اجترار لما حدث منذ اليوم الاول الذي اختفى فيه مشلهت وكانه فص ملح وذاب …شئ تبخر فى الهواء الا إنه يعاود الظهور من وقت لآخر فى الحراسات وفى المستشفيات … او سراب … يظهر من بعيد لا يدركه احد … ولكن ما معنى كل هذا ؟
    وهناك امام منزل مشلهت كان علاء يقف متحفزاً للخروج بنبأ العثور على والده مشلهت الى جميع سكان الحى ولكن لا يبدو أن العربة تحمل شخصاً اخر … بل أنها تنقص فرداً واحداً وهو التومة الممرضة … فما الذى حدث ؟ … كان هذا هو التساؤل الذى حمله علاء على شفتيه دون أن يلفظه … فاذا بالاجابة تأتيه :
    • ما لقينا أى حاجة …. تعبنا ساكت … اتخمخمنا ومشينا .. لكين الحكاية طلعت فشوش …
    • يعنى ما لقيتوا ابوى .
    • ابداً …

    ***
    وهناك فى مكان فى مستشفى اخر بمدينة الثورة كان مشلهت فى إنتظار عودة سائق التاكسى يحمل شيئاً يؤكل … وكذلك كان الشرطى الحارس لمشلهت ..
    وبعد فترة غير قصيرة عاد صاحب التاكسي يحمل معه بعض السندوتشات وزجاجات الماء … فترة الغذاء تخللتها بعض الحكايات عن حوادث المرور اذ أن صاحب التاكسى كان يحكى عن السبب الذى ادى لتاخيره هو أن الشارع كان مغلقاً بسبب عناق حميم حدث بين امجاد وركشا .. غير أنه لم تحدث اصابات تذكر .. وأن مكان الحادث كان مكتظاً بالذين وقفوا يتفرجون على ذلك الحادث … وبالرغم من أنه كان بسيطاً الا أنه كسر ذلك الركود لعشرات المتفرجين الذين اصيبوا بخيبة امل دفينة عندما كانوا يسألون وتأتيهم الاجابة :
    • ما حصلت حاجة … كل الناس كانوا سالمين …
    الأمر يحتاج الى تحريك بجرح هنا وجرح هنا او موت هنا … او موت هناك … حتى يحدث فضولاً واهتماماً زائداً …
    ويقول سائق التاكسي :
    • هسع الناس دي… كلها جات اتكبت في الخرطوم بعدين اهو يموتوا فى المواصلات بالشكل دا …
    • المعايش جبارة .
    • وين المعايش يصيح سائق التاكسى … معايش هنا فى الخرطوم ودي عيشة دي ..
    ولكن الشرطي لا يوافقه مائة بالمائة …
    • برضو أخير من المحل الجات منو الناس …
    مشلهت كان يهمه شئ واحد هو أن يفرغ الجميع من الأكل وأن يتجه سائق التاكسي الى بحري لإحضار عائلته له …
    سائق التاكسي كان يجمع بقايا الأكل في أوراق الصحف التي جاء يحمل في داخلها السندوتشات …. استرعت إنتباه مشلهت صورة منشورة مع خبر صغير جانبها … الصورة ليست غريب عليه … هذا شخص مألوف .. تناول الورقة … أنها صورته … نعم صورته وبجانبها خبر يقول أن أهل مشلهت يحتسبونه عند الله … بعد أن توفى في حادث حركة مؤلم … وبحركة لا إرادية … وضع مشلهت يده على رأسه وتحسس رقبته .. ما معنى هذا؟ … من الذي قال لهم أن مشلهت قد لقي حتفه في حادث حركة او حادث مرورى ؟ كيف صدقوا هم هذا الخبر ؟ ولماذا لم يكلفوا أنفسهم مشقة البحث عنه ؟ اذن هذا يفسر عدم اهتماهم بأمره وهو الذى ظل يرسل الوفود تباعاً ليخبرهم أنه موجود … هل وجدوا جثة لشخص يشبهه فكفنوها ودفنوها … وفرشوا حدادا عليه يتقبلون التعازي؟ … وماذا عن ابنه حيدر المغترب فى السعودية ؟ هل اخبروه وهل حضر تاركاً عمله… كل ذلك بسبب خطأ لم يتبين احد حقيقته ؟ لقد صدمته تلك الصحيفة وهى تحمل خبر نعيه … كما لم يصدم من قبل . وماهو وضعه ؟ … هل يعتبرونه ( بعاتيا) او شبحاً من الماضي ؟ … ام سيقيمون له حقيقته جديدة على أنقاض ذلك الخطأ غير المتعمد ؟ لقد كان جل همه ينحصر فى الاتصال بأهله ثم بالحصول على مصل للوقاية من تبعات عضة الكلب … و اطل هم جديد …. هو أن يثبت أنه حى يرزق وشعر برجفة وقشعريرة سرت فى جسده … لعلها اشارة من الجهاز العصبى الذى يرفض بشدة فكرة موته …. أن للجسد لغة فصيحة لها مفردات عديدة تنقل ما تود الافصاح عنه من خلال اشارات وخلجات اشبه بإشارات المرور …. وشعر فى تلك اللحظة أن واجبه أن يتحرك من مكانه ويذهب مع سائق التاكسى الى منزله ليؤكد لهم أنه حى … الا أنه تذكر ذلك الشرطى الذى يحرسه … ولذلك صاح يتحدث مع سائق التاكسى .
    شوف اوع تمشي وتجي بدونهم … لازم تجيبهم معاك … ولوما لقيتهم فى البيت …. اسال الجيران عنهم لحدي ما تعرف محلهم وتجيبهم .
    وتنتاب سائق التاكسى نوبة من الظرافة والنكتة .
    • يعنى يا غرق يا جيت حازمة .
    ويشدد مشلهت :
    • غرق ولا ما غرق … المهم تجي ومعاك المرة والاولاد … يلا … من دربك دا عديل حسب الوصف الأديتك ليهو … لا تلف جاي ولا جاي .
    ويشارك الشرطي فى هذا التأكيد :
    • إنت بس اعمل زي ما قالوا ليك … تمشي طوالي تجيب الاولاد وتجي .
    ويشعر سائق التاكسى باهمية الموضوع :
    • خلاص …. خلاص … من دربي دا … ويا بحري جاك زول … اها مع السلامة … ما نضيع الوكت فى الكلام .
    أنطلق سائق التاكسي وهو يشعر بعظم المهمة الملقاة على عاتقه وعاتق عربته … وبعد أن تبع الخريطة التى سمرها مشلهت له فى دماغه … وصل الى ذلك الباب الحديدي المطل على ( فسحة ) يلعب ويتغبر بترابها بعض الصبية والاطفال.

    طرق الباب … مضت مدة ثم سمع حركة ارجل تقترب من الباب ..وفتح الباب على بنت صغيرة .
    • يا بت …. اهل البيت ديل وين .؟
    • في ..
    • موجودين؟
    • ايوا
    • طيب امشى نادي زول كبير
    • زول كبير منو؟
    • اي زول …
    • راجل ولا مرة ؟…
    • لا حول ولا قوة الا بالله … يا بن انتي جابوكي من وين؟
    بقول ليكي امشى نادي اي زول … راجل … مرة … اي زول …
    وتسمع امها جزءاً من هذا الحوار:
    • شنو يا بت … بتتكلمي مع منو ؟
    • مع راجل …
    • اجي الراجل منو كمان ؟
    • وتتحرك امها بعد ان تعدل ثوبها ثم تتجه نحو الباب
    • حبابك
    • اهلا …. ازيك … اصلو انا جاي لأهل البيت ديل موصيني ليهم مشلهت .
    وتنظر المرة بريبة وشك لسائق التاكسي … فهذه ليست المرة الاول ولا الثانية ولا الثالثة التي يدعي فيها احد أنه يحمل وصية من مشلهت ثم " يطرشق" الموضوع ..
    وتتساءل المرأة :
    • انت بتقول مشلهت ؟
    • ايوا …
    • يا خوي مشلهت منو ؟
    • مشلهت سيد البيت دا
    • لاقيتو وين ؟
    • انتي بتحققي معاي دايرة شنو . … انا قلت ليكي نادي لي مرتو ولا أولادو ولا اي زول يجي معاي يمشى معاي …
    • يمشى معاك وين؟ …
    • يمشى معاي الاسبتالية …
    • وتصمت المراة برهة وتزداد شكوكها :
    • يا خوي … كان للاسبتالية الناس ديل هسع جو راجعين من الاسبتالية وما لقو مشلهت … تجي انت تقول الاسبتالية .
    • يا ولية … انا من الصباح في الاسبتالية معاهو … مافي اي زول جاهو هناك …
    وتستنكر المرأة ما يقوله سائق التاكسي :
    • اجي … عاد دا سمعتو بو ؟ كيفين يعني ما جا زول هناك؟ .. ومال الناس ديل كلهم بصمتهم ركبوا في عربية الجنا … عبد الباقي ومشوا وجوا راجعين… يكونوا مشوا وين يعني ؟
    ويصيح سائق التاكسي :
    • انتي من فضلك امشى كلمي اي زول من ناس البيت … وما تعملي معاي حجة فارغة .
    وتتحرك المرأة إلى داخل المنزل وهي تجذب بنتها من يدها وتغمغم :
    • هو شنو هو الحكاية ؟ الزول بقى في حق الله … الناس ما يريحوهو ؟ عاد يا ناس الدنيا .. قبلكم وحدكم … قال مشلهت قال… هو مشلهت وين؟ …
    وتدخل على صفية فتجدها مستلقية على سرير في فراندة احدي الغرف … وقد استغرقت في النوم بعد ذلك المشوار .
    • هوي … يا صفية .. صفية ..
    • تهب صفية فزعة … كمن عاد من رحلة بين السماء والارض وفجأة وجد نفسه مستلقياً على سرير في تلك الفراندة .
    • بسم الله الرحمن الرحيم … مالك يا ولية خلعتيني ؟ الحصل شنو ؟
    وترجع المرأة إلى الخلف وهي تلمح عيني صفية المحمومتين …
    • معليش … اصلو في راجل واقف برة
    • راجل منو؟
    • ما بعرفوا … لكين سايق ليهو تاكسي .
    • ومالو … عايز شنو ؟
    • والله قال كلاماً كدي تلاطيش … تلاطيش .. قال موصيهو مشلهت
    • وتصيح صفية :
    • مشلهت تاني ؟ يا ناس خافوا الله … نحنا صبرنا ورضينا بالقدر … لكين جنس دا اصلوا ما سمعنابو ولا شفناهو … كل دقيقة جايينا زول ناطي قال مشلهت موصيهو … ولما نمشي ما نلقي حاجة … وهسع قال عايز شنو يعني ؟
    • والله انا ما نضمت معاهو كتير … بس قال لازم يقابل زول عشان يكلمو بحكاية مشلهت … وانا قلت ليه انتو مشيتوا كم مرة وما لقيتوا حاجة .
    • امشى قولي ليهو … اولاً مافي راجل في البيت … حيدر وعلاء وصاحبهم عبد الباقي مشوا للخطوط عشان حيدر عايز يحجز للسفر .. راجع السعودية وانا طبعاً محبوسة ما بقابل رجال .
    • ياهو كدي الكلام … بعد دا اخير ياخد بعضو ويمشي . وتعود المرأة لتخاطب سائق التاكسي :
    • يا خوي … البيت مافيهو راجل هسع … علاء وحيدر مشوا مع عبد الباقي عشان حيدر بدور يحجز مسافر السعودية .
    • حيدر منو؟
    • حيدر ما بتعرفو
    • ما بعرفو؟
    • عاد كيفين ما بتعرف حيدر وبتعرف ابوه لمن وصاك؟ اها هسع كن لقيت حيدر جاي تقول لو شنو وانت ما بتعرفو ؟
    • يا ولية انا زول موصيني مشلهت عشان اقابل اي زول في البيت آخدو معاي… وهو ما شرح لي عندو ولد اسمو حيدر ولا علاء … بس قال لي تمشى تجيب اهل البيت … هسع لو ممكن تكلمي مرتو …. تجي تمشى معاي .
    • اجي .. تمشى معاك وين ؟ وهي محبوسة … لا بتقابل رجال ولا غربا
    ويتساءل سائق التاكسي
    • محبوسة كيف ؟
    • الحبس الواحد دا … مالك ما بتعرفو كمان؟ المرة وكت راجلها يموت ما بتتحبس؟.
    • وتتحبس ليه ؟
    • قلت ليك المرة لما راجلها يموت ما بتتحبس؟
    • لكين دي راجلها ما مات … راجلها حي … انا بقول ليكي هو مرسلني … تقوم هي تنحبس ليه ؟
    • يا زول صفية ما بتمشي معاك … كن قعدت في محلك دا لي بكره .. ومافي مرة راجلها ميت وفي الحبس بتفك الحبس وتقابل الرجال الأغراب … دي صفية ما بتسويها .
    ويحتار سائق التاكسي :
    • وطيب انا اعمل شنو ؟ مشلهت مشرط على انو ما ارجع فاضي …. لازم أجيب زول معاي … وانا هسع بطلت شغلي لي يومين في الحكاية دي؟
    • بطلت شغلك بطريقتك … ولكن مافي مرة بتمشى معاك وانت مشلهت دا ما تجيبو هو بنفسو مالو ما جا معاك؟
    • أولا هو حاجزنوا في الاسبتالية …
    • ما قلت ليك الاسبتالية دي مشو ليها مرتين مالقوهو .
    • هم مشوا ياتو اسبتالية ؟
    • ما عارفة … لكين انا متوكدة انهم مشوا الاسبتالية مرتين مالقوه … وهسع انت ما قلت لي لشنو هو ما جا معاك … يعني حالتو ختري ؟
    • لا … حالتو ما ختري … لكن معاهو واحد بوليس حارسو …
    • يا كافي البلا … وحايد المحن .. بوليس عشان شنو؟ يا زول أمشى شوف لك زولاً تاني … مشلهت من يومو وزمانو لا هو زول بواليس ولا زول محاكم ولا زول شبك … زول خايف ربه وماسك دربه عديل..
    ويقف سائق التاكسي ولا يعرف ماذا يفعل .. فكيف يؤكد لهذه المرأة أو زوجة مشلهت أن مشلهت بخير وأنه يود أن يرى زوجته وأولاده الذين انقطع عنهم قرابة الأسبوعين .. ولا أحد يصدقه ألآن عندما يقول انه يحمل وصية من مشلهت .

    في هذا الأثناء كان مشلهت يحسب الدقائق والثواني ولم يتوقع ان يستغرق سائق التاكسي كل هذا الوقت لكي يحضر عائلته … فالمسافة مهما بعدت لن تستغرق هذا الزمن ويلتفت إلى رجل البوليس المكلف بحراسته :
    • تفتكر بتاع التاكسي دا ما أتأخر؟
    • يمكن يكون أتأخر شوية … لكين الغايب حجتو معاه … غايتو انت اصبر … وهو بجي .
    وينتظر مشلهت والقلق ينشب مخالبه في روحه وتتمدد براثن غربة هائلة في داخله … هذا المكان لا يعرفه ولا ينتمي إليه … انه يفقد علاقته بالأشياء … هل صحيح إنه مات ؟ لقد قرأ نعيه في الصحف … والصحف عادة لا تكذب في مثل هذه الأخبار فلا يمكن ان تنشر أية صحيفة صورة لشخص متوفي ومعها نعياً له ثم تنفي ذلك في اليوم التالي … فأغلب الظن انه قد توفي ودفن وانتهت رحلة الحياة لديه بتلك الصورة التي اقتلعوها من جواز سفره وبعثوا بها للجريدة لانها تحمل ختماً ظهر جزء منه على الصورة .
    هذه الوجوه من حوله تبدو مصلوبة على الأسرة … يدخل آخرون ويخرج آخرون ولكن نفس الملامح والشبه … نظرات … نظرات منطفئة من المرض … ونظرات اكثر انطفاءة من الجوع. وعندما يغادر الشخص المستشفى يوصونه ألا يكثر من الأكل. كلمات معلقة في زور أي مغادر للمستشفى مع إنه لو كان يأكل تلك الأشياء لما أصابه مرض في المقام الأول . طافت هذه الأفكار بذهن مشلهت وهو في انتظار سائق التاكسي … تري ما الذي أخره ؟ هل زحمة الشوارع أم حدث له مكروه أم أوقفه شرطي مرور .
    وسائق التاكسي يقف محتاراً .. يود لو يصرخ في آذان جميع اهل الحي ويخبرهم ان مشلهت موجود وانه يود ان يرى عائلته واولاده حتى يطمئن عليهم ويطمئنوا عليه ولكن لا احد يصدقه … وهذه المرأة تقف امامه حاجزاً منيعاً بين ما قد كان وبين ماهو كائن فعلاً .
    ويسأل المرأة :
    • طيب .. حيدر بجي متين ؟
    • انت بتدور تنتظرو ؟
    • ايوا
    • والله عاد اقول ليك شنو… الله عليمو … هو ماشي يحجز وعنده غشوات .
    • طيب ممكن تقولي ليهو ما يسافر لحدي ما يعرف حقيقة ابوه … وانا حتماً بجي راجع تاني
    • تجي تسوي شنو ؟
    • انت مالك اجي اسلم عليهو مش على كيفي ؟
    • ونان هسع ما قلت ما بتعرفو
    • ويكاد ينفجر من الغيظ
    • يا ولية … انتي مالك ومالي …. اجي ولا ما اجي … الراجل يمكن لما احكي ليهو يصدقني ويمشى معاي يشوف ابوه …
    وفي هذه الاثناء يمر احد الجيران … ويسمع جزءاً من هذا الحوار :
    • شنو يا اخوانا الحاصل شنو ؟
    ويلتفت سائق التاكسي ويحمد الله ان بعث له رجلاً ربما يستمع إليه فيسأله :
    • انت ساكن هنا …
    • ويجيب الرجل :
    • ايوا انا اسمي العاقب … وساكن هناك في البيت القصاد الشجرتين ديك .
    • الحمد لله .. شوف يا إبن العم … انا لي يومين في الاسبتالية في أم درمان مع مشلهت … وهو وصاني قال اجي ابلغ اولاده انو هو موجود واجيبهم معاي عشان يطمئن عليهم ويطمئنوا عليه .. لكين المرة دي ولا حتى مرتو عايزين يصدقوني .
    • انت قلت مشلهت
    • ايوا
    • عجيبة والله .. مشلهت دا نحنا دفناهو وفرشنا ليهو هنا …
    • يا خوي … يمكن داك زول تاني .. وهسع انت بتقول انك جارو ؟
    • ايوا بلحيل ..
    • وبتعرفو كويس .
    • جداً … كمان مشلهت بيغباني ..؟
    • طيب ممكن تجي معاي تشوفو بعينك وتحكم بنفسك وتجي تكلم أهله هنا ؟ أنا ما لقيت ولده حيدر ولا ولده علاء .. فبالله عليك تمشي معاي الزول دا في حالة بطالة جداً … ولو ما مشى معاي اي زول من هنا … يمكن تحصل ليهو حاجة .
    ويقف العاقب … جار مشلهت … برهة يفكر .. ويقلب الموضوع في ذهنه … ولكنه يعود إلى نقطة البداية :
    • طيب الزول الدفناهو دا منو ؟
    ولا يجد سائق التاكسي إجابة حاضرة لأنه هو أيضا لا يعرف حقيقة الشخص الذي دفن ولا حتى مشلهت نفسه يعرف ما الذي حدث ومن الذي دفن بدلاً عنه .. كل ما يدريه انه هو ليس ذلك الشخص المدفون .
    ويلمح العاقب في نظرات سائق التاكسي توسل ملح واستجداء ان يذهب معه ليحسم هذا الموضوع طالما إنه يعرف مشلهت معرفة حقة إذ يقول انه نشأ في نفس الحي الذي نشأ فيه مشلهت … فيقول ؟
    • طيب … انا بمشي معاك … لكين انت بعدين تجيبني راجع
    ويتنفس سائق التاكسي الصعداء :
    بجيبك راجع ونص وخمسة …
    ويلتفت للمرأة قائلاً :
    • خلاص … قولي لمرة مشلهت نحنا ماشين نجيب ليها حقيقة مشلهت … وهي ما عليها حبس ولا حاجة .
    ويتحرك التاكسي وعلى ظهره سائقه والعاقب جار مشلهت الذي يعرفه حق المعرفة.
    يقف التاكسي أمام المستشفى … ويخرج سائقه بسرعة فائقة … وينزل العاقب على مهل لانه يشكو من رطوبة كان كثيراً ما يتحدث عنها لمشلهت … ويتبع سائق التاكسي فيبادره :
    • وين الجماعة ما جبتهم معاك ؟
    • الأولاد ما لقيتهم … قالوا حيدر مشى يحجز عشان يرجع السعودية .
    • يعني حيدر ذاتو جا … طبعاً إذا كان أبوه مات ليه ما يجي … وصفية مالا ما جات معاك ؟
    • زوجتك ؟
    • ايوا
    • دي قالت هي محبوسة ما بتقابل الرجال ويصيح مشلهت غير مصدق :
    • محبوسة على منو ؟ على انا ؟ طيب انا أهو حي وما مت … المرة دي جنت ولا شنو ؟ وعملت شنو طيب ؟
    • جبت ليك واحد من جيرانك اسمو العاقب … ويصيح مشلهت بفرح :
    • حاج العاقب …. وينو هسع ؟
    • اهو جاي بوراي … اصلو عنده رطوبة … ومشيهو تقيل .
    وفي نهاية الممر يظهر حاج العاقب وهو يسير ببطء …
    ويسارع سائق التاكسي ويمسك بيده ويساعده إلى حيث يوجد مشلهت :
    • اها وينو مشلهت؟
    • اهو قدامك …
    • ويحدق حاج العاقب في الشخص الواقف أمامه الممدود إليدين ولم يصدق :
    • دا مشلهت …؟
    • ايوا … دا مشلهت …
    • لا يا خوي .. دا ما مشلهت … مشلهت ما كدي … !!
    شئ يعصف بمشلهت كالملح في حلقه … لم يصدق مشلهت ان يديه تيبستا في نصف المسافة وهو يمدها ترحيباً بحاج العاقب الا ان حاج العاقب الذي نشأ معه في ذات الحي … انكره أمام الجميع :
    • دا مشلهت ؟ … دا ما مشلهت … مشلهت ما كدي …
    وكيف يكون مشلهت إذن ؟ وكيف يبرهن مشلهت إنه مشلهت الذي عاش حياته كلها وسط قومه ما عدا تلك السنين التي قضاها في الاغتراب بعد ان أجبرته ظروف الحكم المايوي على مغادرة السودان بعد ان كان وكيلاً لإحدي الوزارات ذات الشنة والرنة ؟
    • يا حاج العاقب … ما عرفتني ؟
    • ما عرفتك انت منو ؟
    • لا حول ولا قوة الا بالله … انا مشلهت يا حاج العاقب … مالك انت حاصل عليك شنو ؟
    • انا ما حاصلة على حاجة … لكن انت ما مشلهت البنعرفو … مشلهت داك غير كدا … وما بشبهك ولا انت بتشبهو .. وبعدين يا أخي مشلهت مات ودفناهو وقعدنا في فراشه كيف يعني بتكون انت مشلهت؟
    • يا حاج العاقب … انا بقول ليك انا مشلهت … حتى كمان انا بعرف أولادك على وصبير …
    • يا زول هوي … كن بتعرف شنو … انت ما مشلهت … واخير ليك تقول انت منو … قوم يا زول وديني … قال هذا الكلام وهو ينظر ناحية سائق التاكسي حاثاً له على الذهاب . سائق التاكسي كان يستمع لهذه المحادثة وهو غير مصدق … لابد ان أحد الرجلين يكذب وخرج سائق التاكسي من العنبر وسط دهشة الشرطي ومشلهت الذي قذفته المفاجأة في قاع التساؤلات والإحباط والحيرة ...حاج العاقب الذي خاطبه إبنه حيدر بخصوصه وانه يود من مشلهت ان ينقل له رغبة حيدر في الاقتران بإبنته فائزة … كيف يتناسى عرفته … وماهو الهدف من وراء ذلك ؟
    ويغمغم الشرطي :
    • دا كلام شنو دا ؟ … هسع طيب الزول دا منو .
    • ويفتح سائق التاكسي باب عربته ثم يقفز في داخلها .. بينما يتحرك العاقب ببطء حتى يقترب من باب العربة وبعد جهد يستطيع ان يفتحه ثم يرمي بجسده على المعقد .
    • يا لطيف …
    • ويتحرك التاكسي … ثم يقول حاج العاقب :
    • انت هسع موديني وين .
    • موديك محل ما جبتك … موديك بحري طبعاً …
    • وأسوي شنو في بحري ؟
    • الله … انا مش جبتك من بحري ؟
    • انتي جبتني من بحري … ؟
    • بسم الله الرحمن الرحيم .. جبتك من وين طيب ؟ … انت مش ساكن جنب ناس مشلهت ؟
    • ايوا … ايوا …. ايو خلاص نمشي بحري … قول يا لطيف .
    وتدور بذهن سائق التاكسي أسئلة كثيرة … ما معني هذه الأسئلة التي يسال عنها حاج العاقب ؟ لقد اتفق معه ان يحضره لمشلهت في المستشفى وان يعيده إلى المكان الذي أخذه منه … وألآن فان المهمة التي نقل حاج العاقب من أجلها إلى مقابلة مشلهت قد انتهت ولكن إلى غير ما يشتهي أحد … وهاهو يحمله إلى منزله … فلماذا يسأل بتلك الطريقة … هل يمكن ان يكون حاج العاقب قد "خرف" وانه لا يعرف الناس ؟ إذا كان هذا هو الحاصل فان هذا يوضح لماذا لم يتعرف على مشلهت … والتفت سائق التاكسي إلى يمينه فإذا بحاج العاقب يغط في نوم عميق وقد فتح فمه واخذ يشخر بصوت واضح … ومن وقت لآخر يفتح عينين محمرتين عندما يتوقف التاكسي عند إشارة مرور يسأل :
    • يا خوي .. انت موديني وين ؟
    • موديك لبيتكم يا حاج …
    • كدي؟
    • أيا …
    ويواصل نومه مرة أخرى …
    وتوقف سائق التاكسي أمام الشجرتين في نهاية الشارع الذي يقع فيه منزل مشلهت ويوقظ الحاج :
    • يا حاج … يا حاج … خلاص وصلت …
    • وصلت وين؟
    • وصلت بيتك
    • وينو بيتي؟
    • ماياهو دا القدامو الشجرتين … مش انت قلت دا بيتك ؟
    • ايوا … لكن قاعدة فيهو بتي … قول يا ليطف …
    وخرج حاج العاقب ببط شديد من التاكسي … وبدلاً من ان يتجه نحو بيته … اتجه في الاتجاه الآخر … فإذا بسائق التاكسي يناديه :
    • وين يا حاج … وين ماشي .. ؟ دا مو بيتك ؟ …
    • ايوا … بس عايز أسأل صاحب البفالة
    • تسأل صاحب البقالة؟ والله حكاية …
    واخيراً قرر سائق التاكسي ان يقود عربته ويغادر … فقد أوفى بوعده واوصل حاج العاقب إلى منزله … أما إذا أراد حاج العاقب ان يذهب لصاحب البقالة فهذا من شأنه بينما لا توجد بقالة في الإتجاه الذي ذهب إليه حاج العاقب.
    ويستعيد سائق التاكسي في ذهنه تلك الأحداث العجيبة … ولا يدري ما الذي يمكن ان يفعله مشلهت بعد ألآن … واحس بتعاطف قوي وعميق يربطه بمشلهت … ولا يمكن ان يتركه في محنته هذه … صحيح إنه لا يدري لماذا يرافق ذلك الشرطي مشلهت ولكن الذي يدريه هو إنه يواجه محنة قاسية … تتشابك حلقاتها كل يوم ولا يدري أحد كيف ستنتهي .
    مشلهت يجلس حائرا … ما معني كل هذا ؟ … أهله لا يصدقون انه على قيد الحياة … وذلك بعد ان قاموا بثلاث زيارات لمراكز الشرطة والمستشفيات … والشخص الوحيد الذي زاره كان يمكن ان يساهم مساهمة فاعلة في حل مشكلته لم يتعرف عليه …
    وبحث مشلهت حوله ليجد مرآة يرى فيها صورته … وهل صحيح إن ملامحه قد تغيرت إلى الحد الذي جعل حاج العاقب لا يتعرف عليه ؟ حمامات المستشفى ليست بها مرآة … ولو كانت بها بقية من ماء فان هذا يعتبر محمدة عظيمة للفيلق الإداري الذي يقود المستشفى .. واخيراً هداه تفكيره ان ينتهز فرصة الزيارة ويتقدم لأي فتاة تحمل شنطة ان تعطيه مرآة ولابد ان تكون هناك مرآة داخل شنطتها … ان فتيات اليوم يحملن معهن غرفة مكياج متحركة ويضربن بأحمرهن على شفاههن فلا نامت أعين المتطفلين .
    جلست الفتاة بالقرب من والدها على السرير وأول شئ وقع عليه نظر مشلهت هو شنطتها وكانت الفتاة تضبطه من وقت لآخر وهو يطيل النظر لشنطتها … فتغير من جلستها وتضع كفيها الاثنتين على الشنطة … ولكن الأمور لا يمكن ان تسير هكذا … فزمن الزيارة سينتهي وستغادر الفتاة المستشفى دون أن يكون مشلهت قد نظر إلى وجهه في المرآة … فتشجع وقال لها :
    • يا بتي …. ما عندك مراية أشوف فيها عيني دي … باقي وقعت لي فيها وقيعة .
    ألآن فقط تدرك الفتاة لماذا كان هذا الرجل يطيل النظر إلى شنطتها … فأسرعت بالبحث في محتوياتها وناولته مرآة صغيرة مستديرة .. لا يستطيع أن يرى فيها كل وجهه في آن واحد … ولذلك قرر ان يقسم مساحة وجهه ( لحواشات) صغيرة يمر من خلالها على تفاصيل ما حدث له في الأسبوعين الماضيين منذ أن فارق بيته .
    تجاعيد مبعثرة تحت العينين أصبحت سوداء وذات خطوط واضحة تفشى فيها قلق واضح … وعلى جبينه تقطيبة لم تكن موجودة من قبل ولكنها حفرت أخدودا بين الحاجبين … أما الشيء الذي غطي مساحة كبيرة من وجهه كانت ذقناً ( بلاك آند وايت) مثل التلفزيون ابيض واسود يمكن ان تقاس بالبوصة .. لقد مضي الزمن الذي كان يمكن ان يرى فيه صورته وهو يرتدي ذقناً سوداء … لان طيلة مرحلة الشباب هو لم يدعها تنمو بل كان يحلقها .. واليوم يا عجائب الزمان .. هاهي تخرج من قبوها بيضاء من غير سوء … يتخللها بعض السواد … انتهزت فرصة إنشغال مشلهت بمشاكله المتعددة فلم ينتبه لحلاقاتها كما كان يفعل … فنمت وترعرعت وها هي تطل من وجهه معلنة للجميع ان هذا ليس بمشلهت … والا لماذا لم يعرفه حاج العاقب ؟
    ولكن هل تعرفه زوجته وأولاده ان رأوه على هذه الحال ؟ تلك أمور يصعب الجزم بشأنها ولكن … مشلهت لم يكن يدري ان حاج العاقب قد (خرف) وإنه أصيب بمرض الزهايمر أو النسيان منذ مدة وان أولاده بحجة العلاج حجزوه في المنزل فترة طويلة وأول يوم يغادر فيه المنزل كان عندما سمع بوفاة مشلهت ثم عندما وجد سائق التاكسي يقف أمام منزل مشلهت … ولهذا عندما عاد سائق التاكسي ووجد مشلهت ينظر في المرآة بادره مشلهت قائلاً :
    • شفت المصيبة … الزول الجبتو ما قدر يتعرف علي ونحنا ناس ساكنين سوا … يعني بعد دا معقول أولادي يتعرفوا علي ..؟
    • ويرد سائق التاكسي :
    • أولادك يا خوي … ما ممكن ما يتعرفوا عليك … علا بس الموضوع يعني الله ما أراد يلاقيك بيهم … وهسع لو مرتك ساكت سمعت كلامي وجات كان خلاص الموضوع اتحل … لكين هي المسكينة عشان جات تلاتة مرات وطلعت الحكاية فشوش استسلمت ورضت بحكم السيد .
    ويرد مشلهت بيأس :
    • وحتى ولو جات ما حتعرفني … انا ذاتي ما كنت قايل شكلي دا بتغير بالطريقة دي .. وبعدين يا أخي حاج العاقب نفسه ما عرفني
    • ويوضح سائق التاكسي مخففاً عن مشلهت ما يحس به :
    • حاج العاقب دا بقولوا في كلاماً … والله انا ذاتي ما خابر حكايتو شنو … مرة يقول لي انت موديني وين وهو عارف انا موديهو البيت .. ومرة يقول لي المحل دا … وين .. يا خوي .. الزول دا ظنيتوا عقلو ما تمام
    ويرد مشلهت بقوة :
    • كيف يا راجل تقول على حاج العاقب كدا … دا مخه زي الساعة الراجل كان محاسب كبير وحافظ ليك الأرقام كلها … تجي تقول لي عقلو ما تمام؟ .. عقلوا تمام وستين تمام … بس انا الشكلي ما تمام … وخلاص نقنع من حكاية ناس البيت دي لحدي ما انا أمشى ليهم برجلي … يمكن ربك يفرجها … وزي ما شايف … اهو انا هنا في الاسبتالية مافي زول عمل لي حاجة … بس كل يوم تجي الممرضة تغير الجرح وتسألني:
    ما جابوا ليك المصل ؟
    وانا خلاص نسيت حكاية المصل دي وبقيت على طينة ود الطريفي .. ويؤكد سائق التاكسي :
    • يا زول ارقد قفا …الطينة دي اصلو ما بتجيك معاها عوجة .. لكين يا أخوي مشلهت بدور اسالك … انت خبارك معاك البوليس دا هنا … سويت شنو ؟
    • دي زي ما قلت ليك قصة طويلة … واخذ مشلهت يحكي قصته لسائق التاكسي والذي ازداد تعاطفاً مع مشلهت … وكأنه يستمع لقصة من قصص الأحاجي التي كانت تقصها جدته عليه وهو صغير ينام على رجليها في قريته … ولا بد ان يجد حلاً لمعضلة صديقه مشلهت فيقول :
    • اسمع … انا بكرة بمشى لمركز سوق ليبيا أشوف القضية عملوا فيها شنو … لازم يحكموا فيها عشان تعرف البيك والعليك …
    ويراجعه مشلهت :
    • يا أخي … انت هسع بطلت شغلك … وضيعت وقتك معاي كتر خيرك .
    • لا والله … انا ما عملت الا الواجب … وبعدين الناس بالناس وكان للشغل … انا عندي موظفين بوصلهم واخر اليوم برجعهم والصباحية دي كلها شغال … وموضوعك دا لو ما خلص انا أصلي ما برتاح …
    • يا أخي كتر خيرك .. والله قمت بالواجب واكتر وما خليت للرجالة شئ … وعلى أي حال ما تتعب نفسك ناس القضية نفسهم بجوا هنا عشان يحققوا معاي … وهم اصلاً اخدوا أقوالى …
    • لا … انا لازم أمشى ليهم …
    وتمد الفتاة يدها لمشلهت .
    • عمو … إذا انتهيت من المراية …
    • ايوا .. يا سلام … اتفضلي … شكراً جزيلاً.
    ويناولها المراية ويشعر إنه في هذه اللحظة محتاج لحمام ولماكينة حلاقة ليحلق ذقنه ولنومة طويلة … طويلة …
    وقف سائق التاكسي أمام المتحري…هو يسأل عن قضية مشلهت و أبكر بتاع العناقريب .
    • وليه انت عايز تعرف حاجة عن قضية أبكر بتاع العناقريب ..
    • انا عندي واحد قريبي مقبوض في القضية دي …
    • قريبك اسمو شنو ؟
    • بقولولو مشلهت
    • مشلهت دا … هو وين هسع ؟
    • في الاسبتالية في الثورة
    • والوداهو هناك شنو ؟
    • اصلو عنده قضية مع ناس غرب الحارات .
    • على أي حال بالنسبة للقضية دلوقت قدام النيابة ومر علينا بعد يومين تعرف الحاصل .
    ويقف سائق التاكسي ليشرب ماء من زير تحت شجرة في فناء المركز عندما يقف بالقرب من رجل جاء هو الآخر ليشرب .
    • يا أخوي … بسمعك … بتتكلم مع عن قضية أبكر بتاع العناقريب .
    • ايوا .. باقي عندنا ولدا لينا مقبوض … وجايين نعرف الحصل لهم شنو
    • ويفاجأه الرجل قائلاً :
    • اسمع يا خوي … ولدكم دا … والله قول لو الحبة دي ما جاياك … وخلو إليطمئن
    • كيف ؟
    • انا سمعت كلام كتير … فايت اضاني .. اصلو انا شغال في البوفيه الهناك دا… والخبورات بتجيني في محلي … اها من الخبورات السمعتها قالوا اصلو القضية دي فيها واحد اسمو إسماعيل الساعاتي وإسماعيل الساعاتي دا عنده سفلي وحتى هو اسمو ورد في القضية .. بعدين عاد بقولوا تحت تحت … إسماعيل رسل خدامو … غتسوا ليك حجر القضية … وهسع موهن قادرين يسووا شئ … لكين عليك آمان الله قضية مافي … وهداك إسماعيل الساعاتي في شغلو … دا زول ختري … من المغرب يقفل دكانو وبيتو زي العيادة … والسفلي حقو دا … سفلي كافر … نسأل الله السلامة
    ويتساءل سائق التاكسي :
    • لكين قال القضية قدام النيابة :
    • هي وين … تسمع الكلام دا … غايتو إسماعيل الساعاتي والسفلي بتاعو عملوا عملتهم … وقلت ليك قضية مافي … وكل مرة ما بلقوا أي شهود .
    • لكين المرة دي في شهود .
    • شهود زي منو مثلاً ؟
    • قريبي القلت ليك مقبوض دا … هو الشهد وقال جا عشان يشتري مصل .
    • اوف .. اوف ..اوف .. أمانة ما كتل … لي شنو تخلي قريبك يشهد كدي … والله وقع في ورطة كبيرة … انت قايل إسماعيل والسفلي حقو دا بخلوا قريبك ؟ ديل والله بجهجهو ليك ما يقدر ينضم … إذا كان هم غتسوا حجر القضية ما بقدروا يغتسوا ليك حجر قريبك ؟
    ويشعر سائق التاكسي عوض الله بخوف شديد على صديقه مشلهت … فيستفهم اكثر من الرجل :
    • اسمع انت قلت إسماعيل الساعاتي ما بخليهو ؟
    • طبعاً … يخليهو كيف ؟ تلقي هسع مرسل ليهو السفلي حقو مطير جنو … وفي حالة القضية ذاتها لازم زولك دا يغير اقوالو …. وبعدين انت لازم تمشى معاهو لإسماعيل الساعاتي تراضوه وتخليهو يفكوا … ديل يا خوي ناس الزول العاقل ما بقع في شبكتهم .
    ويتساءل عوض الله :
    • ويعني تفتكر لو مشيت أنا لإسماعيل الساعاتي ممكن يفكو لينا؟
    • دون شك …
    • يفكو كيف؟
    • دي شغلتو هو … بس لازم تمشوا وتراضوه .
    ويتحرك عوض الله وقد ألقي بجسمه داخل التاكسي في طريقه للمستشفى بالثورة وفي ذهنه تختلط أشياء كثيرة .. هل كل تلك المتاعب التي مر بها مشلهت كانت بسبب تلك الشهادة التي أدلى بها ضد أبكر بتاع العناقريب وإسماعيل الساعاتي ؟ هل مجيء أهله وعدم مقابلتهم له وما حدث له مع المسدس وعدم حصوله على المصل وعدم معرفة حاج العاقب له كلها بسبب شهادته تلك ؟ هل أرسل إسماعيل الساعاتي السفلي الذي يعمل معه ليعقدها على مشلهت بمثل ذلك التعقيد ؟ ربما … ولكن من أين يستمد ذلك السفلي قوته وقدرته على تنغيص حياة الأخرين أمثال مشلهت وهو رجل قذفت به الأقدار في دوامة من المشاكل ليس له فيها يد ولا كراع؟ .. صحيح ان الظروف التي مر ويمر بها مشلهت ليست عادية … وكانما الأقدار تترصده لتضع أمامه كومة من العراقيل والمطبات ولذلك قرر ان ينقل هذه المعلومات لمشلهت في المستشفى .

    لم يجد مشلهت ماكينة حلاقة لحلاقة ذقنه ولم يأخذ حماماً بل غط في نوم عميق … تلك الأمنية الثالثة التي لم يستطع أحد ان يحرمه منها … وظلت ذقنه معشعشة تغطي جزءاً كبيراً من وجهه .
    جلس عوض الله سائق التاكسي بالقرب منه يراقب الحركة الروتينية داخل العنابر … كالعادة الباعة المتجولين والمرافقين وزوار المرضي والممرضات والنقالة التي تحمل مريضاً من وقت لآخر لتضعه على سريره .
    واخيراً صحا مشلهت ونظر في ساعة يده ووجد ان وقت صلاة العصر قد دخل . فجلس على سريره واصلح طاقيته بينما كان الشرطي الذي يحرسه ينام على كرسيه وقد اسند يده على حافة شباك العنبر .
    • اها … مشيت للمتحري ؟
    • ايوا …
    • قال ليك شنو؟ …
    • كلامو خلو … قال القضية لسع قدام النيابة لكين انا سمعت كلاماً اخر قالو لي زول البوفية .
    • قال ليك شنو؟ ..
    • قال في واحد أسمو إسماعيل الساعاتي … بتعرف الزول دا ؟
    • ايوا .. بعرفو … دا اصلو الوصلني ل أبكر بتاع العناقريب .
    • وانت عارف عنده سفلي ؟
    • بقولوا كدا …
    • الزول دا قالوا عنده سفلي كافر … وهو رسل السفلي دا وغتس حجر القضية .. وهسع ما لاقينها وقالوا زعلان منك جداً …
    • زعلان مني انا .. ؟
    • ايوا …
    • وانا عملت ليهو شنو ؟
    • كيف … انت شهدت ضدهم وقلت انك جاي تشتري مصل …
    • ودي مش حقيقة ؟ ودي فيها شنو؟
    • فيها انو اسماعيل الساعاتي رسل ليك خدامو عشان يجهجهوك ويخلبطوا عليك امورك … وهسع دا السبب الخلا اهلك ما يلموا فيك و لاتلم فيهم وبعدين عملية القضية الكلو يوم انت داخل في قضية .
    ولم يشعر ان هناك ربطاً بين ما شهد به وما يحدث له .. فمن الطبيعي ان يدلي بشهادته والتي يقول فيها إنه قد جاء لشراء مصل ولا يمكن أن يقول بغيرها
    كما إنه ليس هناك من نبهه إلى هذه المسألة .. ثم انه يمكن ان يدافع عن نفسه لانه لم يجد مصلا في الصيدليات وسمع أن المصل موجود في سوق ليبيا فماذا يفعل؟ …ولكن هل صحيح ان ما حدث له كان بسبب غضب اسماعيل الساعاتي والسفلي؟ … اذا كان الامر كذلك فانه يشكل خطورة عليه .. لقد ظل حياته كلها لا يؤمن بهذه الاشياء … فقال :
    • والراجل دا عايز مننا شنو ؟
    • انا الزول الكلمني قال لي لازم انت تمشي تراضيهو وتتعضر ليهو يمكن يرفع منك شوية …
    • وانا امشى كيف ؟ ما انت شايف الحراسة المشددة دي …
    • ولا يهمك انا بمشى لاسماعيل وبخليهو يشتغل الحكاية دي ويمهد ليك تقابلو

    بالنسبة لمشلهت فالأحداث تأخذ برقاب بعضها وتشتبك كشوك شجر الكتر … لا تستطيع ان تعبر من نقطة إلى أخرى دون ان تدمي جسمك أشواك كانها قرون الشياطين . فما الذي أتي بإسماعيل الساعاتي مرة أخرى في هذا الكابوس المتسلسل … لقد ظن مشلهت ان قضية أبكر بتاع العناقريب وإسماعيل الساعاتي أمرها انتهي بأنتقاله من حراسة سوق ليبيا وتجواله بين المستشفيات وانتهائه بحراسة غرب الحارات ثم إلى هذا المستشفى بالثورة ولكن يبدو انه يجر من خلفه قائمة من القضايا ستظل تلاحقه وتنفرد به وأهله لا يدرون عنه شيئاً . أية ريح مجنونة تلك التي قذفت به إلى هذه الأصقاع دون إرادته واسلمته للتيه والأرق العبثي .
    اقتحم بصره وجه عوض الله سائق التاكسي … وشعر ان عوض الله ضائع مثله .. ولكنه ضائع باختياره … فلم يكن هناك شئ يجبره ان يغوص في وحل التيه الذي يتلاطم حول مشلهت .. هل هو ذلك الفضول الذي ينتاب بعض الناس أمثال عوض الله فيجعله يغرق في تفاصيل كربة رجل اخر ؟ … لا … لا يمكن ان يفسر الفضول بقاء عوض الله بجانبه … شئ يتحرك داخل التركيبة النفسية لبعض السودانيين فيجعل منهم أسرة واحدة … تنهار بين أفرادها الحواجز والأسوار .
    قال مشلهت لعوض الله :
    تفتكر ممكن إسماعيل الساعاتي والسفلي بتاعو البقولوه دا يغطسوا حجر القضية وممكن كمان يتسلط على ويغطس حجري انا ذاتي ؟
    ويجيب عوض الله بالكثير من التأكيد :
    • يا زول … عليك أمان الله … ديل ناساً خترين .. الزول تب ما يرقد لهم على أمان .. وانا عندي الزول لو أتساوى معاهم احسن … على الأقل يكفي شرهم .
    ويتساءل مشلهت :
    • لكين انا ذنبي شنو عشان ما يغطس حجري ..؟ وبعدين يا أخي هو اصلو حيغطس حجري اكتر من دا يعني يعمل لي شنو ؟
    • هه .. يعمل شنو ؟ … قلت لك دا عندو سفلي … جان وجان كمان كافر … والما بخاف الله انت خافو … ونحنا عايزين شنو هسع ؟ نحنا عايزنك تطلع من هنا … عشان تمشي اهلك .. وتشوف حكايتك هناك شنو .
    • طيب انت بتقترح شنو .
    • انا كان في محلك … لازم أصلو … واتساوى معاهو …
    • أصلو كيف؟ … ما انت شايف … انا ما عندي طريقة
    • كيف ما عندك طريقة ؟ انا أولا بمشى بقابل إسماعيل … انت بس وصف لي محلو ..
    • محلو في سوق ليبيا .. لو سالت أي زول .. في محل الإلكترونيات بوريك ليهو … وبعد ما تمشى تقابلو حتقول ليهو شنو ؟
    • انا بعد ما اقابلو … بشرح ليهو ظروفك كلها وبشوفو هو داير شنو …
    • بعدين بجي بوريك ؟
    ويوافق مشلهت وهو غير مقتنع مائة بالمائة ان تلك الخطوة سينتج عنها إطلاق سراحه … فهو رجل متعلم ولا يؤمن بالدجل والشعوذة … ولكن قناعته تلك وهو في محنته هذه اهتزت … فلماذا لا يجرب … ربما كانت هناك أمور هو لا يدركها تقع في لحظة زمنية مصيرية في تاريخه .

    ***
    إسماعيل الساعاتي يجلس على كرسي وأمامه طربيزة لها سياج زجاجي … معلقة عليه بعض الساعات وتناثرت أمامه على سطح الطربيزة عدد من الساعات التي أخرجت أمعاؤها وملأت مساميرها أرجاء المكان … وإسماعيل يضع على عينه عدسة أسطوانية ينظر من خلالها إلى ساعة مكشوفة الحال امسكها بأصابعه وامسك بمفتاح صغير يلعب في أحشائها … و لا يرفع رأسه إلا من فترة لأخرى … أو عندما يريد ان يخاطب الولد الذي يعمل مساعدا له في المحل … ولذلك عندما وقف عوض الله أمامه … ظل إسماعيل فترة منهمكاً في العمل في أحشاء الساعة ثم توقف برهة رفع فيها رأسه فرأى عوض الله يقف أمامه .. فقال :
    • أهلا .. خير
    • خير ان شاء الله .. انا اصلو جاييك بخصوص أخونا مشلهت
    • مشلهت دا منو
    • دا الراجل الكان شهد على أبكر بتاع العناقريب وقال انو جا بيتو عشان يشتري مصل .
    • انا ما بعرف زول بالاسم دا …
    • يا أخي كان جاك هنا … وانت رسلت معاهو واحد وصلو ل أبكر بتاع العناقريب
    • شوف يا أخي انا ما بعرف حاجة زي دي .. ولا عندي علاقة بزولك دا … ولا بي أبكر بتاع العناقريب … يمكن انت وصوك تقابل زول تاني :
    • زول تاني زي منو مثلا ؟
    • الناس كتار … انت أمشي شوف زولك الوصوك تقابلو
    • انا بس وصوني أقابلك انت …
    • يا أخي تقابلني عشان شنو ؟ انا زول ساعاتي … والناس دي كلها بصلحوا ساعاتهم عندي وعارفيني انا ما عندي كدا ولا كدا ولا بشتغل في الأمور الفارغة.
    إسماعيل كان يتكلم بصوت عال وكأنه يريد ان يرسل تلك الرسالة لأحد .
    لم يكترث عوض الله بما كان يقوله إسماعيل إلى اخر الحكاية حتى يفهم حقيقة الموقف ولكن إسماعيل ظل في انكاره بأنه لا يعرف مشلهت أو أي شئ متعلق بقضية أبكر بتاع العناقريب .
    بالقرب من محل إسماعيل الساعاتي توجد كافتيريا من تلك التي تستطيع ان تتحصل منها على زجاجة مشروب غازي وسندوتش شاورما … وفنانة ذات صوت مشروخ تملأ الساحة غناءً هابطاً.
    يا يابا يا والد
    ما تبقي لي عارض
    ود الناس احرجتو
    بسؤالك البارد …
    وبما ان عوض الله طلب شيئاً بارداً يشربه فلا بأس ان يستمع لود الناس وقد أحرجته أسئلة الوالد البارد.. وبينما هو يحتسي مشروبه ويفكر في الذي سيفعله بعد انكار إسماعيل جهاراً نهاراً لعلاقته بأي شئ يختص بمشلهت أو بمشكلته ربت على كتفه المساعد الذي يعمل مع اسماعيل في الدكان … وقال له :
    • اسمع …انا عايزنك في كلمة .
    • ان شاء الله خير…
    • انت لما كنت بتتكلم مع اسماعيل انا كنت بغمز ليك عايزنك تفهم انو اسماعيل ما ممكن يتكلم معاك في موضوع مشلهت هنا في الدكان وناس الأمن في كل بكان .
    • يعني انت بتعرف مشلهت ؟
    • ايوا بعرفو .. واسماعيل ذاتو بعرفو …
    • طيب يعني شنو هسع؟
    • ما قلت ليك يا اخي دا ما محل كلام بخصوص مشلهت ؟
    • طيب هسع نعمل شنو؟
    • هسع بس انت اسمعني ..اولاً لو عايز تعرف حاجة عن قضية مشلهت لازم تجي في بيت اسماعيل .
    • واسماعيل بيتو وين ؟
    • ما هنا ..
    • ما هنا يعني وين ؟
    • بعيد شوية …انا بوصف ليك البيت .. انت لازم تجي بعد المغرب … شفت محطي الرملة …
    • ايوا …
    • لما تصل محطة الرملة .. على يمينك مش في محل اتصالات ؟
    • ايوا…
    • انا بنتظرك هناك في محل الاتصالات … ونمشى سوا …
    • نمشى وين ؟
    • نمشى لبيت إسماعيل …
    • وإسماعيل بيتو مش هنا ؟
    • ايوا … هنا بيتو .. فيهو أولادو … لكين محل الخدام والشغل هناك …
    ويتساءل عوض الله :
    • طيب إذا انا جيت هناك … وبرضو أتغابى فيني العرفة … وقال ما بعرف مشلهت زي ما قال.... هسع انا اعمل شنو ؟
    ويجيب المساعد مؤكداً :
    • ما ممكن يقول كدا … هو ذات نفسه كلمني ورسلني ليك عشان أقول ليك الكلام دا …
    ويطمئن عوض الله سائق التاكسي لما سمعه من المساعد … ويتحرك راجعا من سوق ليبيا … ويعود لينقل ما دار بينه وبين إسماعيل إلى مشلهت … وانه لا شئ يمكن عمله الا بعد المغرب وذلك بعد مقابلة إسماعيل الساعاتي بواسطة مساعده في محطة الرملة .
    ويقول مشلهت :
    • شوف يا عوض الله … انت خلاص كتر خيرك … تعبتك معاي دحين انت أمشى قضي باقي يومك .. وأمشى شوف إسماعيل في المساء وما تجيني الا الصباح بعد ما تودي الموظفين بتاعينك … رينا يقدرنا على جزاك .
    • يا راجل … انا ما عملت الا الواجب .. وانت ان شاء الله ربي يفك كربتك ويفرجها عليك .

    أمور مشلهت وهو في المستشفى تسير بروتينية لا يكسرها الا حضور عوض الله سائق التاكسي والذي لازمه منذ ان تعرف عليه وقد اعتاد مشلهت ان يعطي رجل الشرطة المكلف بحراسته بعض النقود لإحضار طعام له ولرجل الشرطة الذي اصبح يعرف كل شئ عن مشلهت واخذ يشترك معه في اقتراحات تتعلق بحل مشكلته:
    • انا شايف يا مشلهت .. حقو انت تشوف زول يضمنك وتقدر تمشى لأهلك … بعدين يوم القضية تجي .
    • زول يضمني وين ؟ وانا عندي كم قضية هسع ؟ … قضية أبكر بتاع العناقريب وقضية الهدوم بتاعة البقجة الفاتحين على بلاغ فيها والبلاغ المفتوح برضو بخصوص المسدس وكمان ما تنسى انو حاج العاقب ما عرفني … ودا زول نحنا اتربينا سوا … يعني تاني منو الحيعرفني … وطبعاً انا ذاتي بالنسبة لأودلاي مفروض اكون مت … ودي كلها حاجات عجيبة غريبة بتجي من وين انا ما عارف .
    ويوافقه الشرطي إنها فعلاً ظروف عجيبة … غير انه لا يتوانى عن إحضار الطعام .

    ***
    إسماعيل الساعاتي في منزله إسماعيل آخر … ليس هو ذلك الرجل الذي ينكر انه يعرف مشلهت هذا شخص آخر … ذو شخصية طاغية متحكمة… يتحرك وسط الموجودين في تلك الصالة والتي بطنت بستائر حمراء وينطلق من وسطها بخور اجتهدت في صنعه " خردوات" عديدة مثل اللبان وحبة الملوك والكافور الطيار والكابسندة وعرق الطيب وغيرها من العيدان العطرية فتجعل الجو مسحوراً .. يسلب ما تبقي من إرادة مقاومة للدجل والشعوذة … وسط هذا الجو يتحرك إسماعيل وهو يرتدي عباءة حمراء يقال ان السفلي المرافق له أحضرها من فاس أما ما يضعه على رأسه من غطاء اخضر فقد وهبه له شيخه الذي علمه هذا العلم وذلك بعد ان بلغ مرحلة كبيرة في الشياخة … فأذن له بالعلاج وكشف المستور وتسهيل الزواج منهن وان ظفروا بالزواج يسلبهم القدرة فيصابوا بالخزي والعار … فنعوذ بالله من سوء الحال وبلاء المآل وتوبيخ النساء للرجال … يتحرك إسماعيل واسمه في البيت الشيخ إسماعيل وسط ذلك الحشد من الناس من أصحاب الحاجات والمرضى مزهوا بقدراته وما يمكن ان يتحقق على يديه وهو يعرض أصلة ضخمة يلفها حوله … جعلت عوض الله سائق التاكسي يرتجف ويتعلثم وهو يفصح عن مشكلة مشلهت للشيخ إسماعيل :
    • والله يا الشيخ بدور اتكلم لكين المصيبة حقتك دي ام لسنات بالحيل مخوفاني … دحين ابعدها منى خلني اتكلم .
    ويبتسم الشيخ اسماعيل بزهو :
    • اتكلم … اتكلم … دي بس من الحراس … ما بتعمل حاجة
    الجو كله مشحون بطاقة من السحر التي تجعل سيدنا موسى عليه السلام يتخيل من سحر سحرة فرعون ان العصي حيات تسعى … فلا غرو ان تملك ذلك السحر وجدان عوض الله .
    • انا جيت بخصوص ولدنا مشلهت
    • هو ولدكم؟
    • يعني .. اخونا …
    • واخوكم دا … ليه يغلط معانا كدا … ويخلي الخدام يزعلوا منو ؟
    • والله يا الشيخ .. هو اصلوا غشيم وما عارف … وما في زول وجهو ولا كلمو يقول شنو.
    • يمشى يقول هو جا عشان يشتري مصل ؟
    • غايتو الحصل … حصل … وانت عايزنك تسامحو وتحل مشكلتو … هسع أهلو ذاتهم ما عرفوه .
    • ايوا … اهلو ما يعرفوه … عشان نحنا والخدام زعلانين منو جداً … أبكر بتاع العناقريب دا راجل أخونا وما عمل ليهو حاجة … يمشى يفتن عليهو ؟
    • ما خلاص … انت بس سامحو …
    • انا بسامحو … بشرط انو يمشى يغير اقوالو ويقول انو هو ما جا بيت ابكر عشان يشتري مصل لكين جا عشان يشتري حبال … وكان قاعد منتظر يديهو الحبال وبعدين هم قبضوا عليهم … يقول الكلام دا قدام النيابة .
    • خلاص … دي ليك على … انا اخليهو يغير اقوالو … هو اصلو جا عشان يشتري حبال … وبعدين كان منتظر يقوم يديهو الحبال والبوليس جا وقبض عليهو … وانا ذاتي ممكن اقول الحبال دي كان جايبها لي انا … انا الوصيتو يجيب لي الحبال … ويشعر الشيخ إسماعيل بقدرته على السيطرة على زبونه فيسأله :
    • انت لكين عندك ناس مضادينك في التاكسي بتاعك دا وديل ناس قريبين منك
    ويفتح عوض الله فمه من الدهشة … فمن اخبره بذلك ؟
    • والله يا شيخنا كلامك تمام … وانا حالتي جيت في موضوع أخونا مشلهت تقوم انت تشوف لي موضوعي انا ذاتي ؟ والله دي حكاية عجيبة .
    ويؤكد الشيخ إسماعيل :
    • ولا عجيبة ولا حاجة … الخدام دلوقت كلموني …
    • طيب انا اعمل شنو ؟
    • في كلام كتير تقدر تعملو
    • طيب ما تعملو لي انت …
    • خلاص نشوف الخدام بقولو شنو
    ويغمض إسماعيل عينيه كمن يستمع لصوت يأتيه من بعيد وبقول
    ايوا … ايوا …تمام … تمام … خلاص نبلغو … طلباتكم ؟ معقول … معقول … معقول
    ويفتح إسماعيل عينيه :
    • الخدام بقولوا … نعمل ليك كشحة … انت تاخذها وتكشحها محل الجماعة ديل يلمو .. تاني ليوم القيامة ما يلمو … وانت تمشي تلقى شهادة البحث بتاعة التاكسي باسمك … وناسك ديل مارقين كيت ..
    ويصيح عوض الله بفرح :
    • الله يبارك فيك … خلاص يعني ارقد قفا ؟
    • ايوا ارقد قفا … واشخر كمان .
    • الله يبارك فيك .. خلاص تكون مشكلتي اتحلت .
    • ومشكلة صاحبك مشلهت اتحلت … لكين لازم يمشى يغير اقوالو
    • يا سلام .. دا كلامك؟ … يمشى يغير اقوالو هوا .
    • والخدام بقولوا .. هم ما بياخدوا قروش هسع لكن تديهم أيراد التاكسي بتاع يومين … ولو نقصت منو قرش هم بيعرفوا الحكاية دي وبعدين التاكسي بتاعك دا ما بقوم من محلو
    ويصيح عوض الله بفزع .
    • لا .. لا .. انا كلو شئ ولا يقيف التاكسي إيراد بكرة وبعد بكرة ان شاء الله يصلك هنا في محلك .. بس انت طمن الخدام .
    ويشعر عوض الله انه قد انجز عملاً عظيماً لصديقه مشلهت ولنفسه لأن موضوع التاكسي كان يؤرقه جداً وخاصة من الذين استدان منهم بعض المال وذلك لتصليح وعمل عمرة للتاكسي … واضطر أن يرهن التاكسي بأسمهم … وهم يطالبونه فيضطر إلى الزوغان منهم … وألآن فانه سيرتاح منهم إلى الأبد بتلك الكشحة وقبل ان يغادر منزل إسماعيل … طلب منه إسماعيل ان يبقى فترة حتى يقضي بعض الأمور مع شخص نادى عليه من وسط الناس … فإذا به يقول له :
    • شوف انت مشيت سنار لابو راكوبة عشان المسدس بتاعك … وابو راكوبة ما عمل ليك حاجة … دلوقت انا جبت ليك زول مشلهت هنا في محلك وهو من دربه دا ياخدك لمشلهت محل ما يكون وانت تلقي المسدس بتاعك .
    ويسلم ذلك الشخص على يد الشيخ إسماعيل ويتجه نحو عوض الله .
    • انت بتعرف محل مشلهت ؟
    • ايوا…
    • يا سلام … خلاص انا ما بفكك لحدي ما توديني لمشلهت … انا مشيت سنار لابوراكوبة طلع غير راكوبتو ما عنده حاجة … وهسع أخوي زكريا جابني هني … وقال لي الناس وصفوا ليهو شيخ إسماعيل … واهو شوف جابك من وين عشان توديني لمشلهت .
    • انت منو؟
    • انا الرقيب موسى الحاكم … كنت حارس مشلهت في الاسبتالية … بعدين جيت لقيتو مافي … والمسدس بتاعي برضو مافي عشان هو اخدو معاهو … وانا مشيت سنار عشان أحوطه عشان ما يمرق من ولاية الخرطوم .
    • يمرق وين … يا أخي دا فاتحين عليهو ستين بلاغ وهسع عشان مسدسك دا ودهو لغرب الحارات :
    • غرب الحارات .. دا انا كنت تابع ليهو … وهسع مشلهت وين ؟
    • مشلهت في المستشفى في الثورة …
    • طيب يلا وديني ليهو بالليل دا … ما بنتظر لبكرة الصباح .
    • يلا نمشى…
    وخرج الاثنان من منزل شيخ إسماعيل في طريقهما إلى المستشفى بالثورة .
    اختفت حركة الزوار داخل عنابر المستشفى وبقيت حركة المرافقين وبعض المرضى الذين وجدوا ان الجلوس مشكلة وان النوم مشكلة وان " الصحيان" مشكلة … واخف تلك المشاكل ان يتجولوا بين ردهات المستشفى والعنابر … يزورن دورة المياه دون هدف معلوم ويقفون ليبصقوا خارج البرندات … في انتظار ان يأتي النهار فإذا جاء النهار تحوصلوا داخل قلقهم حتى يهبط الليل … ولكن مشلهت كان يغط في نوم عميق عندما وقف بالقرب من سريره عوض الله سائق التاكسي والرقيب موسى الحاكم .
    ومن أغوار سحيقة يعود مشلهت ليرى شبح الرقيب موسى الحاكم أمامه فينهض من نومه مذعوراً:
    • بسم الله الرحمن الرجيم … منو ؟
    • كيف حالك يا زول ؟
    • انت مش … مش
    ويرد عوض الله :
    • ايوا … هو ذاتو …
    • وجيت من وين … ولاجبتو من وين هسع ؟
    • كدي انت روق وأهدأ .. وبعدين نشرح ليك
    وفي هذا الأثناء يصحو الشرطي المكلف بحراسة مشلهت وقد تسربت إلى أذنيه تلك الضوضاء .
    • اها … يا أخوانا …. انتو عاوزين شنو ؟
    ولكنه يتدارك السؤال عندما يلمح عوض الله :
    • ايوا … عوض الله …لا … كويس .. كويس …
    ويجلس الرقيب موسى على طرف السرير الذي جلس عليه مشلهت بينما يجلس عوض الله بالقرب من الشرطي الآخر … وتتقدم منهم امرأة منطفئة النظرات … وتقول :
    • في زول فيكم عنده حبة وجع راس ؟
    ويلتفت كل منهم نحو الآخر وكانه يبحث في جيوب الآخر قبل ان يبحث في جيبه وذلك لتأكده انها خإلية من حبوب وجع الرأس …
    • انتي ما تشوفي الممرضة … تديكي حبة …
    • الممرضة ما عندها… وقالت لي … شوفي الجماعة العيانين ديل بتلقي في زول فيهم عنده حبة وجع راس
    ويدخل مشلهت يده تحت المخدة ويخرج قرصين بندول ويسلمها للمرأة :
    • خدي …
    • يا يابا تتبارك …
    وتتحرك المرأة مبتعدة عن المسرح … هذا مستشفى … يتحرك في داخله الباعة والمتسولون .. ولكن تسول الدواء من المرضى هذا لم يسمع به أحد من قبل ولكن بالنسبة لمشلهت فان ظهور الشرطي صاحب المسدس الذي اختفى مرة أخرى جعل الأمور تتحرك في عدة اتجاهات ويتساءل مشلهت :
    • انت اصلو حكايتك شنو ؟ مش انت كنت آخر مرة في مستشفى السكر ؟
    • ايوا …
    طيب … مش خليت المسدس بتاعك معاي وقلت لي انا ماشي أتسير ؟
    • ايوا
    • وتاني ما جيت؟
    • لا … جيت لكين ما لقيتك … مافي زول قال لي انت مشيت وين …
    • يعني انا … أكون مشيت وين ؟
    • ما انا قلت يمكن انت هربت بالمسدس بتاعي …
    • طيب وعملت شنو ؟
    • ماياهو … بعد داك … انا مشيت لاخوي زكريا … وهو قال لي تمشي سنار
    • وتمشى سنار ليه ؟
    • عشان نشوف كلام المسدس دا
    • وباستغراب شديد يستفهم مشلهت :
    • كلام المسدس في سنار ؟ وسنار دخلها شنو ؟ والودا المسدس لسنار شنو؟
    • ما ياهو دا كلام زكريا … قال انت تمشي لابوراكوبة في سنار وهو بوريك المسدس والزول الشال المسدس وين … دا كلام زكريا أخوي …
    • يا أخي … بدل تسال ناس الاسبتالية عني وعن المحل الودوني ليهو … تمشى تسأل ابوراكوبة في سنار ؟ وتدخلنا نحنا في حيص بيص ؟ انت عارف انو بسبب مسدسك دا انا فاتحين لي بلاغ في غرب الحارات … مش انت كنت في غرب الحارات ؟
    • ايوا …
    • طيب هسع انت حتتصرف كيف ؟
    • انا بكرة بمشى لغرب الحارات وببلغ هناك …
    ويتدخل الشرطي الآخر وكان قد عرف القصة كلها من مشلهت .
    • لا … انت ما تمشي غرب الحارات …انت تمشي تبلغ مع وحدتك في سوق ليبيا … مش انت نقلوك هناك سد طلب ؟
    • ايوا
    • خلاص انت شيل معاك اورنيك … قول انك كنت عيان وكان عندك ملاريا شديدة وهسع نصيح وجيت راجع …
    • وحكاية المسدس أقول فيها شنو ؟
    • قول انك خليتو مع مشلهت … ولما جيت راجع ما لقيت مشلهت عشان هم كانوا حولوه لمستشفى السكر … لكين برضوا دا كلو ما بمرقك من المساءلة … أصلك خليت شغلك وأهملت في حراسة متهم …
    • وبعدين كيف موضوع المسدس دا ؟
    • المسدس ناس سوق ليبيا بكتبوا جواب لغرب الحارات وبرسلوك هناك عشان يأخذوا أقوالك عشان انت ماخد المسدس عهدة منهم … وبعدين هم يشطبوا القضية ضد الزول دا …
    ويبدو على الرقيب موسى الحاكم انه قد اقتنع بما يفعله … وهدأت خواطر مشلهت الا إنه يريد ان يعرف كيف سارت الأمور مع إسماعيل الساعاتي وبالأحرى كيف التقي سائق التاكسي عوض الله بالرقيب موسى الحاكم ؟
    • وانتو اتلاقيتو كيف ؟
    • يرد عوض :
    • لقيتو بالصدفة عند إسماعيل الساعاتي ….
    • وهو ذاتو مشى إسماعيل الساعاتي ؟ والله دي حكاية ….
    • ايوا … انا بعد ما جيت من سنار وأبو راكوبة ما عمل لي حاجة … أخوي زكريا قال نمشي نقابل إسماعيل الساعاتي … كمان جيت هناك …. ياهو لقيت الزول دا … وإسماعيل الساعاتي قال لي :
    • شفت الشغل كيف ؟ اهو نحنا جبنا ليك الزول البوديك لي مشلهت في محلو…
    • ويفتر فم مشلهت عن ابتسامة
    • يعني هسع اسماعيل الساعاتي جابك لي هنا؟
    • ايوا إسماعيل الساعاتي انا بسمع قالوا عندو سفلي بوريهو حاجات كتير… ومن ضمن الحاجات ياهو وصف محلك … وشوية كدي جا سيد التاكسي دا وجابني ليك .
    • على العموم انا ذاتي كنت عايزك … عشان تفكني من حكاية المسدس دا … الفاتحين على بلاغ بسرقته … ويلتفت نحو عوض الله :
    • اها … ما قلت لي حصل شنو مع إسماعيل الساعات .
    • إسماعيل الساعاتي كان زعلان جداً
    • مني انا ؟
    • ايوا … زعلان منك … قال انت شهدت ضد صاحبو أبكر بتاع العناقريب والخدام زعلانين جداً وعشان كدا قاموا عملوا ليك الجهجهة دي كلها … ودلوقت لازم تمشى تغير أقوالك تقول انك جيت تشتري عناقريب ويصمت مشلهت برهة ثم يتساءل :
    • وافرض أبيت أغير أقوالى …. الحيحصل شنو ؟
    • الحيحصل الله لا وراك ليهو … يا زول … إسماعيل دا ملعون … والسفلي ألعن منو … البدخلك في شبكتو شنو ؟
    يتدخل الرقيب موسى الحاكم :
    • والله كلامك صحي … انا إسماعيل دا مما شافني طوالي سألني قال لي مشكلتك شنو ؟ حكيت ليهو المشكلة … ما اشعر ليك الا دقائق كدا وناداني وقال لي اهو دا الزول البوديك لمشلهت … وناس كتار حل ليهم مشاكلهم … وانا شايف … إذا قال ليك تغير أقوالك … تغيرها المكاجرة ما من الصالح … وانا بكرة بمشي ببلغ هناك …. وممكن اسحب ورقة الأقوال دي ذاتها …
    ان فكرة تغيير الأقوال التي ينادي بها إسماعيل الساعاتي ويروج لها عوض الله سائق التاكسي والرقيب موسى الحاكم تحتاج لتقليب على نار هادئة في دماغ مشلهت فهو رجل قضى فترة من الوقت في السجن من قبل في نظام الحكم المايوي وذلك لانه رفض ان يغير أقواله في ادانة الوزير … ولما كان شخصاً ناشفاً مثل الويكة لم تستطيع كل الاغراءات ان تجعله يغير أقواله … فحكم عليه بالطرد من الوزارة … واضطرته الظروف إلى الهجرة خارج السودان … وعاد أخيرا ومر ببعض الصعاب ولكن الناس كالأشجار … ينحنون للطرق المستمر ولكنهم يخضرون من جديد … وهاهو ألآن يواجه بإمتحان جديد … فهل يصمد أم ان الظروف تستدعي ألا يكون الشخص لينا فيعصر ولا يابساً فيكسر … وان كانت كمية العصر التي تعرض لها تفوق توقعاته …. مما جعله يؤمن ان ألآنسان لفي خسر .
    وما الذي سيحدث لو انه انكر انه قال انه جاء لشراء مصل – الدليل الوحيد الذي يدين أبكر بتاع العناقريب – وقال انه جاء ليشتري حبال؟ … هل عدم انكاره سيوقف سيل الأدوية التي تباع " كيرى" أي خارج نطاق التصاريح الطبية والضوابط الطبية ؟
    وانتقل إلى السطح سؤال ظل يلح عليه من وقت لآخر .
    • لماذا هو هنا ؟ ما الذي يبقيه هنا في هذا السرير وفي هذا المستشفى بصحبة هذا الحرس الذي توطدت علاقته به ؟ ان كان ذلك للعلاج فهو لا يجد علاجاً … كل الذي يجده فحوصات تقوم بها الممرضة أحيانا فما الذي سيحدث لو انه عاد إلى مركز الشرطة وبقي في الحراسة هناك ؟ على الأقل سيضمن تحريك قضيته … وهو قد نسي تماماً الكلب … والمصل المضاد للسعر … ولذلك عندما أعلن عن رغبته صراحة في الرجوع إلى الحراسة بسوق ليبيا بادره … الشرطي قائلاً :
    • مركز ليبيا ما عندو بيك أي شغلة … دلوقت انت مقبوض في بلاغ في مركز غرب الحارات ولو عاوز تمشي هناك خلي ناس سوق ليبيا لو عايزنك يطلبوك من قسم غرب الحارات .
    • حتى لو ما عندي حاجة مع غرب الحارات ؟ وحتى لو الرقيب موسى مشى وشرح ليهم الموضوع ؟
    • ناس غرب الحارات بعرفوا ليك دفترهم دا وبعرفوا المكتوب فيهو شنو … وإلى ان يكتب في الدفتر ان القضية شطبت في مرحلة التحري أو ما بعد التحري فالوضع هو … هو
    وفي هذا الأثناء تأتي الممرضة وبطريقة روتينية تتناول أوراق المريض مشلهت لتفحصها ثم تسأل:
    • طيب … انت عندك سكري .. والسكر مرتفع ….
    وبتاخذ حبة دوانيل في الصباح وحبه في المساء وعندك غذا خاص
    ويقاطعها مشلهت :
    • اهو دا ما حصل … غذا بتاع شنو ؟ انا من ما جيت هنا بأكل من حسابي وبأكل العسكري دا معاي .. ويعني انا محل ما أمشي بستعمل الحبايتين ديل بالطريقة دي … ودي محتاجة ليها لإسبتالية ؟
    وترد الممرضة :
    • يا أخي ماهي دي اصلها الاسبتالية كدا ولا انت ما عارف؟ … وبعدين يا أخي حقو تحمد الله انك في الاسبتالية على الأقل بجوا اهلك بزورك كل يوم … وناس كتار في السجن عايزين يجوا هنا ما لاقين .
    ويصيح مشلهت :
    • أهلي وين يزورني ؟ حلوين زي ديل بجوا يزورني ؟ ليه … انا عندي أهل ؟

    وتشعر الممرضة بمرارة شديدة في كلمات مشلهت ولكنها لا تدري لها سبباً … الا انها تصر على رأيها :
    • شوف من هنا ما عندك مرقة الا الدكتور يكتب ليك …. ويتدخل عوض الله سائق التاكسي :
    • ما يمرق كيف ؟ مش عندو اورنيك طبي هنا ؟
    • ايوا … لكن إلا يجي الدكتور يكتب في الاورنيك دا خروج ويسلمه للحارس بتاعو …
    ذلك الحوار الذي دار ليقرر مصير مشلهت أضاف لحيرته حيرة جديدة … ولأول مرة يشعر انه في سجن حقيقي … وتفور في داخله نافورة من الأحزان والكآبة. لقد فقد صبره ورباطه جأشه وأهله وذلك الخيط الذي يربطه من الداخل ويجعله يشد حيله وألآن فقد حريته وهو ميت مدفون بالحياة … ففي نظر أهله مات وانتقل إلى جوار ربه ونصب صيوان العزاء … أمه جميع معارفه وأهله وأصدقاؤه وجيرانه ونشر نعيه في الصحف مع انه ينادي ويصر على انه حي وانه مستعد لاعطاء الدليل على ذلك ولكن الحصار الذي ضربته حوله الممرضة وحارسه والبلاغات المفتوحة ضده ثم تلك المساومة التي فرضت عليه مع إسماعيل الساعاتي لتغيير أقواله … كلها تدفنه بالحياة … فهل سيبقي حجراً ملقى على قارعة الطريق أم انه سيملك إرادة من نوع ما ويتدحرج إلى المكان الذي يختاره ؟
    في تلك الليلة لم يستطع مشلهت ان يعقد حلفاً مع النوم. لقد كان يشعر بأن الكلب الذي عضه في البداية تحول إلى وحش جائع يعوي في داخله وهو ألآن يعيش في ذاكرة الأمس.. شخص كان يتحرك بإرادته واليوم فهو لا يملك الا ذاكرة مليئة بالاحباطات والخيبة .
    تحرك من سريره ومشى في الممر الذي نام الرجال والنساء على جنباته والرائحة المميزة للعنابر تملا خياشيمه وهو لا يرى لماذا وصل إلى هنا … وكان يقصد دورة المياه وليس له رغبة في ذلك … ربما كانت تلك الخطوات هي الوحيدة التي بقيت له يمارس من خلالها إرادة محصورة في مساحة لا تتعدى ستين متراً مربعاً هي بطول الممر وعرضه … وعندما رجع إلى سريره واستلقي لينعم ببعض الراحة والنوم كان الآذان يعلن دخول الفجر.
    في الصباح جاءت عربة عليها شرطي يحمل أمرا بأخذ مشلهت إلى مركز سوق ليبيا. كان هناك ممرض تولى أمر العنبر جاء خلفاً للممرضة التي كانت تؤدي وردية الليل .
    • عندنا أمر هنا عشان نأخذ مشلهت للحراسة …
    • بس الراجل دا عيان … وحالته امبارح ما كانت كويسة وهو دلوقت نايم
    • نايم نصحيه..
    • ايوا … بس انتظر يجي الدكتور عشان يكتب ليهو خروج .
    • نحنا مش عايزين يكتبوا ليهو خروج … نحنا حناخدوا عشان ناخد اقوالو … وبعدين نرجعوا …
    ويوافق الشرطي المرافق لمشلهت .. والذي جاء لتوه ليغير الشرطي الذي كان مرابطاً بالقرب من مشلهت ليلة البارحة .
    • ايوا … دا إجراء عادي … اصلوا قاعدين ناخذهم ونرجعهم والموضوع تحت تعهدنا …
    ويرد الممرض :
    • بس انا غير مخول لي عشان اكتب خروج أو أدي إذن لمريض عشان يخرج … انتو انتظروا الدكتور يجي في المرور ويكتب ليهو خروج ؟
    • بس نحنا لازم ناخدوا عندنا جلسة بعد ساعة ووكيل النيابة لازم يشوفو ويسمع اقوالو. ولا يستطيع الممرض ان يعترض سبيل الشرطي وهو يوقظ مشلهت ويخبره بأنه مطلوب للمثول أمام النيابة في شرطة سوق ليبيا. لم يفاجئ هذا الأمر مشلهت لانه كان قد تعود على ان تحمله الأحداث ولا يحمل هو الأحداث فإذا كانت الأحداث ألآن تحمله على ظهر عربة إلى مركز سوق ليبيا … فان ذلك يتوافق مع جريان الأحداث التي مر بها .
    خرجت عربة البوليس من المستشفى وعلى ظهرها مشلهت و بقية أفراد الشرطة و الشخص الوحيد الذي كان غائبا عن هذا المولد هو عوض الله سائق التاكسي و لهذا التفت مشلهت إلى الممرض موصياً:
    • بالله إذا عوض الله جا هنا قول ليهو مشلهت أخدوه لمركز البوليس في سوق ليبيا و بعدين حيرجعوه آخر اليوم.
    و في مركز الشرطة كان وكيل النيابة يوجه أسئلته التقليدية لمشلهت .. اسمك ، عمرك ، عنوانك … الخ ثم قرأ عليه الاتهام و هو انه متورط بأنه قد احتال على البائع المتجول فأخذ ملابسه دون حق و اختفى.. و كان البائع المتجول يقف على ناحية و هو ينظر إلى مشلهت و تتجاذبه مشاعر متعددة .. هل فعلاً هذا هو الرجل الذي احتال عليه ؟ و لماذا احتال عليه و هو قد ذهب لإحضار أهله لرؤيته؟

    أوضح مشلهت للمتحري انه فعلاً أخذ بقجة الملابس بعد ان تركها البائع المتجول معه و ذلك عندما أخذ للمستشفى إذ انه ليس هناك مكان يتركها فيه .. و عندما عادوا به من المستشفى مرة أخرى للمركز وجد بلاغاً مفتوحاً ضده و انه قد سرق الملابس و هو يقول انه لو كان فعلاً ينوي سرقة الملابس أو الاحتيال على صاحبها .. لم تركها دون ان تمسسها يد و دون ان يفقد صاحبها قطعة واحدة ؟

    ظهر التأثر على وجه البائع المتجول و هو يستمع إلى مشلهت يدافع عن نفسه و شعر انه قد تسرع بفتح ذلك البلاغ و لذلك عندما سأله وكيل النيابة عن رأيه فيما سمعه من مشلهت أجاب:
    • و الله يا جنابو انا يبقى لي غلطت .. و الزول دا ما عليهو شبه سرقة .. لكين تقول شنو .. انا جيت و ما لقيتو و ما في زول قال لي هو وين.
    و يقاطعه وكيل النيابة:
    • يعني انت عايز تشطب البلاغ ؟
    • انا بقول الزول دا شايفو كدي ود حلال .. و يقاطعه وكيل النيابة مرة أخرى:
    • يا أخي خليك من حكاية شايفو .. و ما شايفو انت عايز تشطب البلاغ و لا لا؟
    • انمهل يا جنابو اللحدثك
    و لكن جنابو لا ينمهل .. فالموضوع يحتاج لكلمة و غطايتها.
    • ما بنمهل .. انت عايز تشطب البلاغ ؟
    • أيوا
    • خلاص شطب البلاغ كطلب الشاكي و عليه تقفل القضية و تحفظ.

    سارت عربة البوليس على ذات الشوارع المزدحمة في طريقها لمركز غرب الحارات .. و بقي مشلهت ساهماً ينظر من خلال النافذة تنقله أفكاره الشاردة إلى أزمان بعيدة في الذاكرة .. لا يشوش عليها إلا توقف العربة أمام إشارة المرور و متسول يمد يده من خلال النافذة يطلب شيئاً .. فلا يجيب عليه أحد .. و من وقت لآخر يدخل سائق العربة مع العسكري في حديث مثل:
    • هسع تلقوا موية وين في غرب الحارات ؟
    • الموية تجي و تقطع .. و ناس الحارات أغلبهم بيشتروا الموية من ناس الكارو ..
    • و يتذكر مشلهت انه قرأ مرة ان الحرب القادمة ستكون حرب مياه و خاصة في منطقة الشرق الأوسط فقال:
    • انتوا عارفين الحرب الجاية حتكون حرب مياه ؟
    • كيف يعني تكون حرب مياه ؟
    و يجيب مشلهت إجابة الشخص المستنير:
    • أصلو الحكاية انو ما حتكون في موية كفاية .. عشان كدا لازم الدول تتحارب عشان كل دولة تاخد نصيبها من الموية..
    و يلتفت نحوه العسكري و يقول:
    • و هي دي حالتها حرب جاية ؟ نحنا عندنا هناك جات من زمان و بتحصل هسع كل يوم…
    و يتساءل مشلهت:
    • جات وين ؟
    و يجيب العسكري إجابة الواثق:
    • انت ما سمعت بالحرب بين المعالية و الرزيقات في الدونكي بتاع أب كارينكا في سنة كم و سبعين؟ ما عرفت الماتوا كم من الجانبين ؟ تفتكر ماتوا في شنو ؟
    • مش ماتوا في الموية ؟
    • بالله حصلت حكاية زي دي ؟
    • و انت كنت قاعد وين .. ما سمعت بحكاية زي دي ؟

    أما مشلهت فكان وين ؟ هذه قصة طويلة و لو حكاها لما انتهت .. و يبدو ان الحرب بين المعالية و الرزيقات قد حدثت عندما كان في بلاد الإغتراب .. و يبدو اننا نسبق العالم في جميع الحروب .. و لو بحثنا في التاريخ القديم لوجدنا اننا قد سبقنا حرب داحس و الغبراء بحرب بين موسى ود جلي و بين يوسف ود سنينات .. و يواصل العسكري حديثه:
    • هناك الموية و المرعى سبب موت الرجال ..
    • و في مداخلة سريعة يقول سائق العربة:
    • و النهب المسلح …
    • النهب المسلح دا .. ما جا ورا .. في اليومين دي ..
    • في اليومين دي كيف ؟ … و طيب الهمباتة ديل كانوا بعملوا شنو ؟
    و يستمر النقاش حول ظاهرة النهب المسلح و حول المياه التي تقطع في جميع الحارات .. و يتذكر الرجال عندما كانت السيول تغمر الحارات فينقطع الماء و يغرق الناس من تحت و يعطشون من فوق … جملة من متناقضات المشهد السوداني و كأننا قد انفردنا بها…
    و تصل العربة إلى مركز غرب الحارات … و ينزل مشلهت و العسكري و يدخلان مكتباً يجلس بداخله أحد الذين يقومون بالتحري و بعد ان يؤدي العسكري التحية العسكرية يقول:
    • المتهم دا قالوا نجيبوا عندكم هنا …
    • و يتساءل :
    • أولاً هو منو و تجيبوا هنا عشان شنو ؟
    • عشان في بلاغ مفتوح ضده هنا …
    • بلاغ بتاع شنو ؟
    • بلاغ حيازة مسدس حكومي بدون ترخيص …
    • و يتذكر برهة ثم يقول:
    • أيوا .. دا مش الكان مع الرقيب موسى الحاكم ؟
    • أيوا ..
    • و هسع انت جبتو من وين ؟
    • جبتو من سوق ليبيا
    • و الوداهو سوق ليبيا شنو ؟
    • عشان كان عنده بلاغ مفتوح هناك و شطبوه …
    • و هو أصلاً كان وين ؟
    • كان في الاسبتالية .. بعدين أخدناهو من الاسبتالية للبلاغ في سوق ليبيا و هسع جبناهو هنا ..
    • و ليه ما رجعتو الاسبتالية ؟
    • عشان الرقيب موسى الحاكم مشى بلغ هناك …
    • و في هذه الأثناء يدخل الشرطي سائق العربة …
    • انا أمشى يا جنابو ؟
    • تمشى وين ؟
    • أرجع سوق ليبيا .. أصلو قالوا لي وصل الجماعة ديل و تعال طوالي ..
    • لا .. انتظر شوية .. عشان تاخد الراجل دا و العسكري المعاهو لللاسبتالية في الثورة هناك ..
    و باستجداء يقول العسكري:
    • يا جنابو انا مفروض أكون في الراحة .. و يجي واحد يغيرني ..
    • و انت معاك منو ؟
    • معاي النفر عبيد
    • طيب هسع تاخد الراجل و تمشي معاهو الاسبتالية الأورنيك بتاعو بكون هناك .. و انا أخلي النفر عبيد يجيك يغيرك..
    • و هنا لا بد ان يقول مشلهت شيئاً … فيسأل:
    • طيب و انا هسع مصيري شنو ؟
    و ينتبه لذلك السؤال الذي لن يجد له إجابة إلا بعد ان يعرف أين الرقيب موسى الحاكم فيتساءل:
    • طيب الرقيب موسى الحاكم نفسه وين هسع ؟
    • و يجيب العسكري:
    • هناك بتحروا معاهو في سوق ليبيا …
    • يعني هو اتعرف ليهو محل ؟
    • أيوا
    • و يلتفت ناحية مشلهت:
    • خلاص القضية بالنسبة ليك قربت تخلص .. الرقيب موسى الحاكم يتحروا معاهو في سوق ليبيا بعدين يجي عندنا هنا و يقول حسب روايتك انو خلى المسدس العهدة عندك و لما جاء ما لقاك نقلوك لمستشفى السكري حسب ما قلت في أقوالك .. و بعد دالك بنطلق سراحك .. إلا إذا في حاجة تانية .. على العموم انت دلوقت ارجع الاسبتالية .. و هناك أحسن ليك من هنا …

    و يخرج مشلهت ليصعد على ظهر العربة و تتردد كلمات في إذنيه:
    • إلا إذا في حاجة تانية ..
    طبعاً في حاجة تانية و تالتة و رابعة .. من الذي قال ان مشاكله ستنتهي بمجرد ان يدلي الرقيب موسى الحاكم بأقواله ؟ و كما هو واضح من الأقوال التي أدلى بها الرقيب موسى في مركز سوق ليبيا فإنه كان يحاول ان يخرج من ورطته و ذلك بإلقاء المسئولية كلها على مشلهت .. فكما ألقى بمسدسه الحكومي في يد مشلهت فكذلك سيلقي بتبعاته عليه .. و شعر مشلهت في تلك اللحظة انه يحتاج فعلاً لمحام قدير يعرف كيف يخترق الثغرات في أقوال الرقيب موسى الحاكم .. و في هذا الوقت بالذات هو في حاجة لصديقه عوض الله سائق التاكسي و الذي كان يتبعهم بعربته إلى مركز غرب الحارات .. و ألآن فهو لا يدري أين اختفى عوض الله …

    عوض الله في طريقه إلى غرب الحارات و هو داخل عربته التاكسي .. و لا ينوي ان يأخذ ركاباً .. استوقفه شرطي المرور وهو قد اعتاد على ذلك إذ ان شرطة المرور يقضون وقتاً كبيراً في فحص أوراق السائقين و رخصهم و دائماً تكون أعينهم مفتوحة على سائقي التاكسي. و لذلك فهو يحرص على ان تكون كل أوراقه حسب النظام ولا يحاول ان يخالف القواعد و إشارات المرور ، و لذلك فان إيقاف رجل المرور له لا يهمه كثيراً لان الموضوع لن يتعدى دقيقة أو دقيقتين ويطلع على أوراقه ثم يشير عليه بالتحرك .. و سيلحق بصديقه مشلهت في مركز غرب الحارات .. و لكن رجل المرور هذه المرة صعد إلى عربته و أمره ان يسير بسرعة ليلحق بعربة كان رجل المرور قد أشار لسائقها بالتوقف فلم يتوقف .. و من حق رجل المرور ان يستعين بأي مواطن في مثل هذه الحالات طالما إنه لا توجد عربة مرور أو موترسايكل لدي سلطات المرور .. العربة المطاردة زرقاء اللون ذات زجاج مظلل لا يدري أحد من بداخلها .. كما انها سريعة تمر من بين السيارات كالسهم فكيف يطاردها و هو يسير على عربة كورولا موديل 76 ومن قطع غيار تلك السنة التي انتجت فيها لا شئ يدل عليها إلا إسمها .. و هو يحافظ عليها إذ أنها عادت للخدمة من جديد بعد انتهاء عمرها الإفتراضي و الإضافي والجزافي .. فتساءل قائلاً:
    • العربية الزرقاء دي ؟
    • أيوا
    • عمل شنو ؟
    • أشرت ليهوا عايز أشوف ترخيص التظليل .. رفض يقيف ناس ما عارف مخهم كيف .. انت أسرع شوية ..
    يسرع شوية ؟ سيسرع كثيراً لو يقدر و لكن هذه قدرته و تقف الحركة فيجدها رجل المرور فرصة سانحة فيقول لعوض الله:
    • انت أطلع بجاي و حاول تجيهو من قدام ..
    و يحاول عوض الله ان يتجاوز الصفوف المنزرعة أمامه و المتزاحمة بالمناكب الحديدية .. فتسير العربة و نصفها على التلتوار و نصفها على شارع الأسفلت .. و عندما تقترب من بداية الصف تضئ الإشارة باللون الأخضر فتنطلق العربة المطاردة كالسهم .. و تندفع جحافل العربات فتضيق المساحة على عربة عوض الله فينزل شرطي المرور ليوقف العربات و ذلك ليسمح لعوض الله بالدخول في الشارع مرة أخرى ثم يصعد إلى العربة و تكون العربة المطاردة قد توارت عن ألآنظار … و لم يفطن عوض الله إلى وجود سائق موتر على شماله فيدلف شمالاً حيث يصطدم به سائق الموتر فيقع على الأرض وسط ذهول رواد الشارع.
    يوقف عوض الله سيارته و ينزل رجل المرور و يحاول ان ينهض سائق الموتر و الذي يبدو عليه أنه قد أصيب على الجنب الأيسر من رأسه حيث كان الدم يتدفق .. و لم تمض دقائق حتى ضاق الشارع بمن فيه و ذلك لتجمهر الناس و هم يتأملون منظر سائق الموتر ملقى على جنبه و العسكري منحني فوقه .. و توقف رجل يحمل جوالاً و قال:
    • أديني رقم أتصل بيهو للأسعاف ..
    • و في كلمات قليلة شرح الرجل للجهة من الجانب الآخر من المكالمة تفاصيل ما حدث و طلب منهم إسعاف الرجل و مضت فترة ليست بالقصيرة ثم جاء الإسعاف و كانت هناك سيارة مرور نزل منها ضابط تفقد مكان الحادث و وجه حديثه لرجل المرور الآخر:
    • إيه الحصل ؟
    • دا كان جاي من هنا و قام لف على شماله و صاحب الموتر كان على شماله .. و حصلت الحادثة ..
    • و انت عملت شنو ؟
    • نحنا بنعمل في الإجراءات لحدي ما الزملاء البغطوا المنطقة دي يجوا ..
    • و انت يا زول ما كنت شايف بتاع الموتر بشمالك ؟
    • لا أبداً .. انا لو شفته ما بلف على شمإلى …
    • انت عندك رخصة وتأمين وأوراقك كلها جاهزة ؟
    • أيوا عندي … و ما ناقصاني حاجة ..
    • المهم عندنا الزول ده بعدين يكون كويس ..
    • ان شاء الله …
    قضي عوض الله فترة طويلة و هو بين شرطة المرور و بين المستشفى و بين أهل سائق الموتر .. بينما كان مشلهت منشغلاً عنه طيلة الوقت يتساءل لماذا اختفي عوض الله و هو الذي كان يقود عربته خلفهم .. و كان يتوقع مجيئه في مركز غرب الحارات .. و هو ألآن في طريقه للمستشفى .. ان عوض الله يمثل صلته بالعالم الخارجي .. و قد سهل عليه أموراً كثيرة و لكن يبدو ان عوض الله اليوم في حاجة لمن يكون صلته بالعالم الخارجي و هو لا يدري كم سيبقى في ضيافة الشرطة .. و ينظر باحتجاج صامت و غضب لرجل المرور الذي تسبب في هذا الموقف و لكن رجل المرور لا تظهر عليه أية علامات للتأثر .. فهو يقول لعوض الله:
    • يا أخي انت ما شايف الزول على شمالك ؟ تقوم تلف بالطريقة دي ؟
    ولكن عوض الله لا يمكن ان يحتفظ بذلك الاحتجاج الصامت فيقول:
    • يا أخي ألف يمين و لا شمال .. مش انت الجبتني في الحتة دي .. انا مالى و مال أطارد زول .. وكت انتو ما عندكم عربيات بتطاردوا الناس مالكم ؟
    • انا قلت ليك أمشى ورا العربية ديك .. قلت ليك أضرب دا ؟
    • هي لكين انا بخاطري أضربو ؟ ما انت قعدت تقول لي لف يمين و لف شمال .. و انا صالحي في دا كلو شنو ؟
    ويحاول رجل المرور ان يتنازل في نبرة تصالحية:
    • غايتو انحنا ممكن نطلعو هو الغلطان ..
    • و يرد عوض الله:
    • يا أخي تطلعوه .. ما تطلعوه.. بس انا عايز أمشي من هنا ..
    • تمشي من هنا كيف و الزول ما معروف عندو شنو في الاسبتالية ؟ يمكن عنده نزيف داخلي ..
    • و دا كلو انا مسئول عنه ؟
    • و المسئول عنه منو ؟
    • بالله شوف الحكاية دي .. انا لا إيدي لا كراعي أجي ألقى نفسي مدبس في حاجة زي دي …
    • و يشعر عوض الله ان هناك خيطاً قوياً يربطه بمشلهت فالظروف ذات الظروف .. و ما حدث لهما متشابه في غرابته بإخراج مختلف.

    ****
    • استقبلت الممرضة مشلهت و هي تقول:
    • تاني جابوك هنا ؟
    • نعمل شنو ؟
    • و انت أصلو عملت شنو ؟
    • انا بعمل و لا بعملوا فيني ؟ كل مصيبة رامنها علي …
    • خلينا نقيس السكر .. و هاك افتح خشمك .. و وضعت ميزان الحرارة .
    و قامت بكل تلك الأعمال الروتينية و سجلتها في الدفتر ثم قامت بإعطائه حبة الداونيل و طلبت منه ان يرتاح ويأكل شيئاً بينما اتخذ العسكري كرسياً بالقرب منه و أسند رأسه على الحائط .. و بعد فترة قصيرة تدلي رأسه على صدره و هو يغط في نوم عميق…
    مضي ذلك اليوم بحاله و عوض الله لم يحضر و لكن حانت التفاتة من مشلهت فلمح البائع المتجول .. و كانما قد هبط عليه من السماء ..
    • هوي يا عربي هوي .. تعال ..
    ودخل البائع المتجول العنبر و فرحة طاغية تغمره ..
    • يا زول كيفنك ؟ خلاص وصلتو هني ؟
    • أيوا بس انت عرفت محلنا كيف ؟
    و يجيب البائع المتجول:
    • انا من ما قالوا مودنك غرب الحارات .. مشيت عديل على غرب الحارات و سألتهم في المركز هناك و هم قالوا لي أجي أفتش هنا ..
    • الحمد لله انك وصلت .. مش زي صاحبنا عوض الله صاحب التاكسي .. انت مش شفتو معانا في مركز ليبيا ؟
    • أيوا تمام ..
    • لحدي هسع ما جا .. ما عارفين الحاصل عليهو شنو ؟
    • يتلقي حصلوا الحصلوا .. لكين الزول دا راجل عديل ما عندو عوجة .. و لا بد يجي ..
    • بس بجي متين ؟ عندنا حاجات كتيرة و مستجدات عايزين نناقشها معاهو .. الراجل دا انا ما اتخيلت انو ما يجيني إلا يكون حصلت ليهو حاجة ..
    • يا أخي الغايب حجتو معاهو .. و يمكن يكون لقي ليهو مشوار بره الخرطوم ..
    • لا ما أظن .. أصلو مافي يوم هو مرق بره العاصمة ..
    • و هو أهله من وين ؟
    • من المسعودية ..
    • طيب ما يمكن يكون مشى المسعودية كان عندهم فرح و لا كره ؟
    • جايز .. على العموم الله يجيبو ..
    و في هذه الأثناء تأتي الممرضة و توجه سؤالاً لمشلهت:
    • انت عملت شنو في موضوع المصل ؟
    • وانا خلوني أمشى عشان أفتش للمصل ؟
    • و ليك كم يوم هسع من الكلب ما عضاك ؟
    • أكتر من شهر ..
    • أكتر من شهر و ما سعرت ؟ ما أظن الكلب بكون سعران ..
    • انا برضو قلت كدا .. أو يمكن دي طينة ود الطريفي ..
    • و تتساءل الممرضة:
    • و انت برضو بتؤمن بالحاجات دي ؟
    • أومن و لا ما أومن .. الحاجات دي موجودة و نحنا ما لاقين ليها تفسير .. لكين على أي حال طالما لحدي ألآن ما حصلت لي حاجة .. أقول يمكن الكلب ما كان سعران .. و دي الحاجة البتدي الاطمئنان …و بصراحة انا ما قاعد أفكر في الحكاية دي .. إذا أصلو ربنا حكم على بالسعر نعم بالله … قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا .. انا بس عايز عوض الله يجي عشان القصة عايزة ليها محامي وتوكيل و غلبة كتيرة ..
    و فجأة تنتاب البائع المتجول حالة بيع فيقول للممرضة:
    • يا اختي ما عايزة ليك ملايات كانون أصلية ؟
    • عندك انت ؟
    • أيوا
    • معاك هنا ؟
    • بلحيل .. حتى شوفي …
    و يجذب بقجة الملابس و يخرج منها الملايات من داخلها و هو يقول:
    • شوفي البضاعة دي كيف .. قماش أصلي ونقشة بلدها .. ما في زول الليلة في البلد دي بديكي قماش بالحالة دي .. و السوق مليان بالبضاعة الفاسدة ..
    و تتمعن الممرضة في البضاعة ملياَ ثم تقول:
    • طيب انا ما عندي قروش هسع ..
    • مالو .. انتي ما ست مضمونة . ما ياهو دا محلك ؟ أيوا شيليهم و بعدين انا ذاتي بجي هنا من شهر لشهر و نقول أول كل شهر تجيبي لينا القسط .. و حتى كمان ممكن تخليهم مع ٍأخونا دا .. انا بجي باخدهم منو ..
    و ينتبه مشلهت لما قاله البائع المتجول:
    • و انا يا خوي حأقعد هنا إلى يوم القيامة ؟
    • لا .. حاشاك .. انا ما قصدي .. لكين هي مضمونة و انا بجيها هي و اخواتها .. ان بقى عندها واحداتاً دايرات ملايات متل حقاتها .. انا بجيبهم .. و البضاعة كتيرة و راقدة و رخيصة ..

    كل تلك الحوارات و الأحداث التي تجري في المستشفى لا تلفت انتباه مشلهت بعيدا عن حقيقة أنه في انتظار عوض الله سائق التاكسي .. و هو يحس في قرارة نفسه أن مكروهاً قد لحق بعوض الله .. يسأل الله ان يجعله خفيفاً .. و لكن عوض الله لم يحضر.
    ظل عوض الله سائق التاكسي في حراسة البوليس و ظل الشخص راكب الموتر في المستشفى و أدخل العناية المركزة .. إذ انه فقد الوعي بعد وصوله لقسم الحوادث .. و يبدو ان الموضوع دخل مرحلة التعقيد .. لقد قال له رجل المرور انهم سيطلعون صاحب الموتر غلطان .. و لكن كل الأمل ألآن الذي يتعلق به عوض الله ان "يطلعوه" من العناية المركزة سليماً .. وبالرغم من أن هذه المشكلة العارضة التي يمر بها عوض الله فانه لا يزال مشغولاَ بصديقه مشلهت : تري ماذا فعل ألآن ؟ و هل أعادوه للمستشفى أم لا زال بمركز غرب الحارات .. و خيل إلى عوض الله ان جميع أهل السودان متشابهون و ان مشاكلهم متشابهة و ان الذين يوجدون بالحراسات أو السجون هم ضحايا المكان الخطأ والزمان الخطأ … يكفي ان تكون موجوداً في المكان الخطأ أو الزمان الخطأ او كليهما … فتدخل في دوامة من المشاكل لن تجد فكاكا منها … واي مجهود تبذله للخروج من المأزق يزيدك تكبيلاً . ولهذا فضل ان لا يسأل حتى يسأل اذ ان اجابة اي سؤال ربما تسوءه اذا بدت له . وهو ألآن يدرك لماذا ظل مشلهت مستسلماً تعصف به الاقدار .. خوفاً من عاصفة اكبر .
    مشلهت كان قلقاً على صديقه عوض الله .. غيابه لا يجد له تفسيراً و كما يقول السودانيون "لعل المانع خير" و لكن ما حدث لعوض الله لا يمكن ان يوصف بأنه خير .. إلا ان الغائب يحمل معه حجته… هكذا كان مشلهت يجد العذر لصديقه

    الروتين اليومي في المستشفى يسير كالعادة .. و ليس هناك ما يلفت ألآنتباه .. حتى الذين ينتقلون إلى جوار ربهم ينتقلون بهدوء و كانهم ذاهبون في نزهة .. و كل الذي يفعله الأطباء في هذه الحالة ان يتناقلوا كلمة انجليزية واحدة حاسمة .. تضع المريض في حالته الأبدية "Passed" .. يعني مات..
    و كم واحد "Passed" أو مات منذ ان ولجت قدما مشلهت من خلال بوابة المستشفى ؟ لا أحد يدري ..
    كان البائع المتجول يتحدث مع الممرضة التي اتفق معها ان يحضر لطاقم المستشفى من الممرضين و الممرضات و السسترات و بقية العاملين .. لبسات و ملايات و لوازم التجميل و غيرها من احتياجات أهل المدن .. و ذلك بالتقسيط المريح جداً للطرفين.
    كان مشلهت يستمع للبائع المتجول و هو يصل لذلك الاتفاق مستغرباً كيف استطاع البائع المتجول الذي تبدو عليه سذاجة لا نهائية ان يبرم ذلك الاتفاق؟ ان عبقرية هذا الشعب تتجلي في سلوك أفراده الذين يلتزمون جانب الواقعية.. و لو سارت الأمور على ذلك المنوال لاستطاع السودانيون ان يصلوا لاتفاق شامل كامل حول جميع القضايا. وبينما يعجز السياسيون الفطاحلة .. و دهاقنة علم الحكم أن يصلوا الى تلك المعادلة .. لا يعجز أولئك الناس الذين نطلق عليهم لفظ "عربي ساكت" و لو كان ساكت فانه ساكت فوق رأي.
    و ينتهي الاتفاق و تتحرك الممرضة إلى عنبر آخر عندئذ يقول البائع المتجول:
    • و الله الست ما عندها عوجة .. نجيضة .. ما شاء الله عارفة كل حاجة.
    • و انت خليت ليها حاجة عشان تعرفها ؟ ما انت وريتها كل حاجة ..
    • بس عندى فرقة صغيرة ان بقت اتملت خلاص تاني عوجة ما في ..
    • زي شنو ؟
    • هسع يا مشلهت البضاعة دي ان بقى جبتها خليتها عندك و انت تصرفها حسب معرفتك و تاخد حقك المانع شنو ؟
    و يستغرب مشلهت لهذا العرض و يجد نفسه يقول بأندهاش:
    • المانع شنو ؟ المانع شنو ؟ انت يا أخي ماك شايف العسكري القاعد دا ؟ و بعدين انا في يد الحكومة .. توديني أي حتة .. أقعد كمان أشيل بضاعتك معاي زي المرة الفاتت .. و أجي ألقاك فتحت على بلاغ؟.. لا يا خوي حكاية زي دي أصلك ما تفكر فيها..
    و يجادل البائع:
    • يا خوي ان بقى على العسكري .. خلو على انا .. و بعدين نحن قلنا انت ما دام قاعد ساكت .. تستفيد و نحنا نستفيد ..
    و يرد مشلهت:
    • و يعني انت فهمك الاستفادة لازم تتم بالطريقة دي ؟
    و يرد البائع المتجول:
    • هي نان كدي ورني كيف الاستفادة بتحصل ؟ الناس دي كلها ما ترى شغالة كدي .. اشمعني يعني لما نجي نحنا عشان نسترزق زيهم تحصل المشاكل ؟
    لقد لعبت الصدف دوراً كبيراً إلى الحد الذي دفنته حياً .. و لكن مشلهت لم يكن يتوقع عرضاَ كهذا .. ان يصبح وكيلاً للبائع المتجول .. و باختصار شديد ان يمثل هو البائع المقيم…
    و تلفت مشلهت حوله ليجد عدداً من المرضى و مرافقيهم أصبحوا تجاراً وسط العنابر .. و يبدو ان إدارة المستشفى تغض الطرف عن ذلك النشاط لانه يوفر للمرضى ما يحتاجونه من أغذية و مواد مساندة كالشاش و القطن و الإبر أو السرنجات ..
    في اليوم الرابع جاء عوض الله سائق التاكسي .. و كان مشلهت يغط في نوم عميق .. فجلس عوض الله يتحدث مع العسكري ..
    • انت كنت وين المدة دي كلها ؟
    • انا كنت في الحراسة ..
    • مالك ؟
    • ضربت واحد راكب موتر .. لكن ربك هون .. بقي كويس و انا فكوني بضمان
    • عشان صاحبك دا كان قلقان عليك .. طوالي بسأل عنك …
    • و الله لو ما ربنا ستر انا ذاتي كنت أكون في قصة و ورطة زي ورطة صاحبي دا ..

    و كانما يأتي صوت عوض الله من بئر سحيقة الأغوار .. تسلل الصوت إلى أذن مشلهت .. فاختلط مع حلم كان يأخذ شكلاً ..فرأي مشلهت صديقه عوض الله … و كان يتحدث إلى جماعة .. و كان مشلهت يرجو من العسكري ان يعطيه إذناً حتى يسلم على صديقه .. و لكن العسكري رفض .. و كان مشلهت يحاول ان يصرخ و ينادي على عوض الله و لكن عوض الله لا يسمعه .. و فجأة هب مشلهت من نومه ليجد عوض الله يجلس مع العسكري .. فلم يصدق .. إذ انه قال:
    • انت ما كنت سامعني و لا شنو ؟
    • سامعك وين ؟
    • هنا قبل شوية ..
    • بسم الله .. انت بتهلوس و لا شنو ؟
    و رويداً رويداً يكتشف مشلهت انه كان في حلم فيبتسم و يسلم على صديقه عوض الله ..
    • يا زول شفقتنا عليك .. مالك بالله ؟ حصل ليك شنو ؟
    • دي قصة طويلة بحكيها ليك .. المهم كيف انت ؟
    • أهو زي ما شايف .. ما في جديد .. و فضلت لينا بس قضية المصيبة دا .. الرقيب موسى الحاكم .. يعني لو كان موسى الحاكم جا و اعترف انو خلى المسدس عندي و انو انا ما عندي بيهو شغلة .. كان من زمان فكوني و مشيت البيت لكين تقول شنو ؟ المهم انت - الحصل عليك شنو؟ ان شاء الله مافي عوجة؟
    و أخذ عوض الله يحكي لمشلهت ما حدث له و من وقت لآخر يقاطعه مشلهت:
    • شوف بالله .. زي حكايتي تمام ! ..
    و أخيراً يقول مشلهت:
    • يعني في الآخر اتخارجت منها؟ …
    • أيوا .. بعدما اتراضينا انا وبتاع الموتر .. و هو طلع ود حلال و اتنازل .. و بقت حكاية تسوية حأدفعها و خلاص.
    و كأنما الجميع كانوا على موعد للالتقاء إذ ان البائع المتجول عاد يحمل بقجة كبيرة .. و صاح عندما رأي عوض الله:
    • عان زولك ! .. ما قت لك بجي؟ .. تراهو جا .. ها زول .. إزيك .. كيفنك
    و استمر البائع المتجول و عوض الله في عناق و تحيات .. ثم مد البائع المتجول يده ليسلم على مشلهت و العسكري .. و جلس و وضع البقجة على الأرض ثم أدخل يده فيها و أخرج كرتونة صغيرة بداخلها سندوتشات فصاح عوض الله:
    • دا الكلام .. و الله يا ود عمي تب ما عندك عوجة .. عفيت منك .. انا ذاتي كنت عايز أجيب أكل لكين تقول شنو .. الواحد لامن يفوت محل السندوتشات حتى يتذكر .. القلب مشغول …
    و يتناول ثلاثتهم طعامهم .. و بتلقائية اعتادت عليها تتحرك بائعة الشاي لتقدم لهم الشاي .. و لا أحد يسأل من يدفع الحساب .. المهم في النهاية يأتيها حقها
    لاحظ عوض الله ان بقجة البائع المتجول قد زادت وزناً و محتويات فيقول:
    • الشئ شنو ؟ شايل السوق الشعبي كله هنا ؟
    و يرد البائع:
    • سوق شنو ياخوي ؟ دا كلو هتش ..
    • و نان وكت دا كله هتش .. مالك شايلو فوق ضهرك متل –الله يكرمك- الحمار؟
    و يبتسم البائع فيقول:
    • يا خوي خلنا في تلقيط رزقنا .. الزباين منتظرين و الليلة مواعيدهم ..
    • زباين شنو كمان ؟ انت عملت ليك زباين هنا ؟
    • أي و الله ببركة الزول دا .. جوني ناس كتار واحدين ممرضين و واحدين ممرضات و سسترين و سسترات .. أوع بالك دكاترة كن ماك عارف …
    • و هسع انا قلت صاحبك دا طالما هو قاعد هني .. و ما بتحرك من محلو و زول مضمون .. قلت لو .. نشارك .. انا ببضاعتي و هو يبيع في محلو .. و قروشو تصلو لحدي محلتو دي .. لكين بشوفو كدي ما رضيان …
    و يفكر عوض الله برهة ثم يقول:
    • و الله يا العربي بقيت كمان بتخطط .. خلي بالك العرب ديل ما ساهلين .. شوف الزول دا هسع بفكر كيف .. خامين القروش دي و مكنترنها بجنس الشغل دا .. غايتو انا بفتكر انو الحكاية دي كدا تمام .. و كمان يا مشلهت أخوي انت في محلك دا محتاج لمصاريف و القروش الأخدتها من صاحبك ما فضل فيها شئ .. اشتريت منها الجلاليب و العراريق والمعجون و الفرشة و عدة الحلاقة و سويت ليك منها شنطة فيها حاجاتك المهمة .. و لامن يفرجها الله عليك .. تراكا هنا في الاسبتالية .. و كلام الزول دا تمام .. و انا لو قاعد في محلك هنا .. كنت فتحتو كنتين عديل دحين انت وافقو و انا ذاتي بشتغل معاكم .. بـ"عربيتي" انقل ليكم البضاعة و انتو اشتغلوا بعدين البمرقا الله نتقاسما …
    ويتدخل العسكري:
    • و الله حكاية عجيية .. و انتو هنا .. تخططوا و تعملوا سوق و تجارة و انا قاعد بسمع في كلامكم .. انتو قايلين حكومة مافي ؟ …
    و يسارع عوض الله لتهدئته:
    • ياخوي انت موجود .. و حقك برا .. إت قايل نحنا ناسنك .. لا و الله .. نحنا عاملين حسابك …
    و يتدخل مشلهت:
    • بس الزول الما عاملين حسابو هو انا .. كيف يعني نعمل لينا سوق هنا في العنبر ؟
    و يرد عوض الله:
    • و فيها شنو ؟ ما الناس كلها عاملة أسواق .. الله ما كتر إلا الأسواق .. و انت قايل البلد دي كلها شايلاها المواهي ولا العلاوات .. أتخن تخين ماهيتو ما بتقضيهو لآخر الشهر .. كل زول فاتحلو سوق .. و الما فاتح سوق بسمسر .. و عليك أمان الله إت قاعد في محلك دا .. الناس يبيعوا و يشتروا فيك .. من قبل التجارة ياها عصب الحياة .. زي ما بقولوا .. إلا بس الحكومات جات و سوت بعض الناس أفندية حددت رزقهم .. بقوا ياخدوا راتبهم آخر الشهر … و ات قايل الضيق الحاصل على الناس دا من وين ؟ مو من الماهية؟ …عشان كدي .. هسع الأسواق فتحت وصاحب كل رزق يجي يشيل رزقو.
    وبالطبع فان مشلهت الذي عمل يوماً ما وكيلاً لإحدى الوزارات لا يمكن ان يفهم ذلك المنطق .. فهناك موردون و تجار جملة و تجار تجزئة و بياعون لهم رخص و أسماء مسجلة في الغرفة التجارية و في ديوان رجال الأعمال ... و لا يمكن ان يسمح القانون لكل من هب و دب ان يفتح دكاناً تحت سريره في عنبر المستشفى .. و لكن ماذا يفعل مع هؤلاء ؟ لقد امتدت لوثة البيع و الشراء لتشمل كل مناحي الحياة .. و صدق عوض الله إذ قال ان المجتمع كله تحول إلى باعة و سماسرة .. إلا إنه لا يمكن ان يجاريهم:
    • شوفوا يا أخوانا .. انتو ناس كرام .. و انا وجدتكم في محل أهلي هنا .. و كل زول يعمل في المجال الهو بعرفو .. انا لا التجارة مجالي و لا العنبر دا محلي .. لكين انتو إذا عايزين تبيعوا و تشتروا على كيفكم .. لكن انا ما تدخلوني معاكم
    و بامتعاض يرد البائع المتجول:
    • و الله نحنا قلنا بس تستنفع انت في قعدتك دي لكين معليش .. وكت قلت ما موافق خلاص .. معليش ..
    و تمر فترة صمت قصيرة يكسرها عوض الله قائلاً:
    • طيب انت آخر حاجة عملوها معاك شنو ؟
    و يرد مشلهت:
    • مافي حاجة .. بس قالوا ننتظر لحدي ما أوراق الرقيب موسى الحاكم تتحول لمركز غرب الحارات و طبعاً هسع هو بحققوا معاهو في سوق ليبيا و ما عارفين دي بتنتهي بتين و بعدين كويس انك جيت .. انا شايف انو الحكاية دي بعد ما سمعت كلام موسى الحاكم .. حتتعقد .. و لذلك محتاجين نجيب محامي ..
    • محامي زي منو ؟
    • انا من يومداك بفكر في زملانا من المحامين الكانو معانا في الجامعة .. و عايزك تمش تشوف أخونا المحامي عبد العظيم .. مكتبو جنب الخطوط البلغارية في الخرطوم …
    • أيوا شفتها …
    • ممكن تصلو و انا بديك جواب ليهو .. و تشوفو يقول شنو …
    • طيب انت الجواب بتديني ليهو متين ؟
    • بكرة لما تجي حتلقاني حضرت ليك الجواب …
    و يستمر القوم في جلستهم تلك حتى يأتي موعد انتهاء الزيارة فيغادرون بينما يكون البائع المتجول قد صرف نصف كمية البضاعة فيحمل الباقي على كتفه و يغادر.
    ****

    ليل المستشفى طويل .. يحمله المرضي في دواخلهم ألماً و قلقاً و هم يجلسون على بوابة الموت .. فالذي يدخل تلك العنابر لا يخرج منها إلا إلى بيته أو إلى المقابر مروراً بالبيت .. و لا يوجد باب آخر .. و الذين يبقون مع المرضي ملازمين لهم تكتسب شخصياتهم بعداً متشابهاً .. نساء يجلسن على الأرض داخل و خارج الردهات .. كل واحدة لها كوزها الخاص .. و هي دائماً تبحث عن ماء وعندما تتفقد المريض تقول له:
    • أديك موية ؟
    و في أغلب الأحيان يوافق المريض .. فينهض ليحتسي كوزاً من الماء أكانت به حاجة للماء أم بدون حاجة… و بالتالي فان دورات المياه لا تخلو من رواد …
    و في كل ليلة يستعيد مشلهت تلك الصورة المتتابعة لما حدث له منذ أعوام خلت و حتى ورطته الأخيرة.

    عند بداية الزيارة في اليوم التالي كان عوض الله يغادر المستشفى وهو يحمل معه خطاباً للمحامي عبد العظيم زميل مشلهت و قد قرر ان يذهب له في المساء . . فقد علم من مشلهت ان عبد العظيم يعمل في المساء عندما يكون في الخرطوم .. إذ انه اعتاد السفر إلى خارج السودان…
    لم يستغرق عوض الله زمناً طويلاً في العثور على مكتب المحامي عبد العظيم فهو في مكان ظاهر .. فصعد إلى الدور الثاني و استقبله موظف الاستقبال قائلاً:
    • اتفضل اجلس .. الأستاذ معاهو واحد جوه و قرب يخلص …
    و بعد مدة خرج الرجل وهو يتكلم مع موظف الاستقبال طالباً ضم بعض الأوراق إلى ملف يحفظه الموظف عنده و هو يقول:
    • الأستاذ قال ليك بكرة ذكرو بالملف دا
    • كويس…
    • أها مع السلامة …
    • مع السلامة … و يلتفت إلى عوض الله:
    • اتفضل أدخل …
    و يقرأ الأستاذ خطاب مشلهت فيرفع حاجبيه و يقول:
    • مش معقول .. مشلهت مش مات ؟
    • لا أبداً …
    • طيب المات منو ؟
    • ما عارف …
    • يا أخي انا قبل كم شهر كدا واحد صاحبنا قال لي مشلهت مات و مشينا عزينا فيه.. انا شخصياً ما مشيت لأني كنت خارج السودان .. لكين الجماعة أصحابنا قالوا مشلهت مات …
    • أبداً .. هو ما مات … و هسع لو ممكن تشوف قضيتو دي و تتولاها …
    • طبعاً حأتولاها … لكين بس نشوف حكاية موتو دي …
    • قلت ليك ما مات و انا هسع جاي منو.
    • أيوا … بس دي كمان إذا ثبت انو الناس اعتقدوا انو مات و دخل في السجلات كدا .. دي قصة تانية .. على العموم انا بكره بجي عليهو .. الساعة حداشر صباحاً …
    • شكراً جزيلاً يا أستاذ …

    ****
    استمع عبد العظيم المحامي لقصة مشلهت من بدايتها و كان يردد بين الحين و الآخر (شئ غريب) .. لم يكن يتوقع ان تتضافر الأحداث بمثل تلك الصورة لتطبق في النهاية على عنق مشلهت و تحوله إلى كومة من الاستسلام ترقد على سرير في مستشفى في انتظار ما تخبئه الأقدار. أمر غريب في سلوك الناس .. شئ يختص به أهل السودان دون غيرهم من الأمم.. لا أحد يعرف حقوقه القانونية .. حتى في أعلى المستويات التي نالت قدراً عالياً من التعليم .. أمية بالقانون مستشرية جعلت الناس يستسلمون ولا يتمسكون بحقوقهم التي كفلها لهم القانون .. و لذلك تظل الحراسات مكتظة بمنتظرين ما كان لهم ان يكونوا في ألآنتظار لو أنهم وجدوا مساعدة من جهة قانونية .. فكيف بقي مشلهت في الحراسة طيلة هذه المدة دون ان يتحرك هو أو تتحرك الأمور ناحيته .. و سأله المحامي:
    • هسع انت في الحراسة ليك كم يوم ؟
    • أكثر من شهرين
    • في المدة دي كلها ما في زول سألك و لا عرضوا قضيتك في المحكمة ؟
    • كان في بلاغين و اتشطبوا و بقي بلاغ واحد ..
    • بلاغ بتاع المسدس ؟
    • أيوا
    • دي حكاية بسيطة .. ما محتاجة لإجراءات كتيرة.. انا دلوقت بمشي لمركز غرب الحارات أشوف البلاغ المسجل كيف و حأمشي برضو مركز سوق ليبيا عشان أطلع على أقوال الرقيب موسى الحاكم .. و حأعمل عريضة للنيابة .. و في أمل كبير الليلة تمشى بيتكم..
    و تتهلل أسارير عوض الله سائق التاكسي و هو يرى كيف طوى ذلك المحامي الضليع كل مشاكل مشلهت و وضع يده على ذلك الضوء في نهاية النفق فإذا بكل شئ يبدو ساطعاً مبهجاً مملوءً بالأمل و التفاؤل…
    خرج المحامي و قد ترك مشلهت و أصحابه و قد سرت فيهم روح نشطة و حماس و فرح يحسون به يغمرهم و كانهم أطفال .. فيقول عوض الله:
    • يا زول شوف كيف الأمور اتحلت .. هسع كان من الأول مشينا لصاحبك دا ما كان قعدت انت في الحراسة المدة دي كلها .. و يوافقه مشلهت بنبرة متفائلة:
    • أصلو أيام .. ربنا حكم اننا نقضيها هنا .. و كان لازم نقضيها ..
    و يوافق البائع المتجول:
    • أيا .. كلامك تمام والله .. الزول عاد جاي يفوت المكتوبالو ؟ لكين الله كريم
    و يتواصل الحوار بين الأصحاب و هم يشعرون إنهم يخرجون من دوامة كادت ان تبتلعهم.
    كان مشلهت يرقد على سريره و هو يرقب زوار المرضي يتوافدون و تختلط أصواتهم بأصوات الأقدام على ممرات المستشفى .. فيكتظ العنبر بمجموع الزوار و هم يتحلقون حول كل مريض بعضهم واقفون و بعضهم يجلسون بالقرب من المريض على سريره و من وقت لآخر تطوف بنت بصندوق حلوى و أخرى تقدم أكواباً من الماء .. منظر مألوف .. مطبوع في ذاكرة الأمة السودانية .. و لا تكتمل صورة المريض و بقائه في المستشفى إلا به
    و من بين الذين زاروا مشلهت في ذلك اليوم كان المحامي .. الذي قضى يومه متجولاً بين مركز غرب الحارات و مركز سوق ليبيا .. كان الرجل يتحدث و مشلهت يثبت نظره على ربطة العنق التي كان يرتديها … و قد أصبحت ربطة العنق شارة يعرفهم بها الناس .. فليس في صيف الخرطوم و حره من يلبس ربطة العنق إلا المحامون …
    • شوف يا صديقي .. انا مشيت قريت الكلام المكتوب والأقوال والموضوع واضح جداً .. والمتحري نفسه قال لي يظهر من كلام الرقيب موسى الحاكم انو لقى نفسه في ورطة و عايز يتخارج منها وانا حركت الأمور كلها .. وعلى العموم حتكون في جلسة في اليومين دي .. و دلوقت انا عايزك تركز معاي و تحكي لي الموضوع بتاع المسدس دا من أوله …
    أخذ مشلهت يحكي القصة والمحامي يسأل و يدون .. و استمرت هذه العملية مدة طويلة .. نفد صبر مشلهت فتساءل قائلاً:
    • هي أصلو الحكاية معقدة بالشكل دا؟
    • هي مش معقدة لكين ممكن تكون معقدة .. بيعتمد على إفادات الرقيب موسى الحاكم .. و طبعاً هو لازم يحاول يرمي المسئولية عليك .. و تكون انت الضحية .. عشان كدا الواحد لازم يفتح عينو و يعرف كل كبيرة و صغيرة .. و المهم في الموضوع انو انت ما عندك مصلحة في سرقة المسدس أو إخفاء المسدس .. بس المشكلة انو إتلقى عندك و بواسطة واحد من ناس المباحث .. لكين دي كلها أمور من السهل الواحد يجاوب عليها ؟
    • جداً .. مستعدين نجاوب على أي سؤال مهما كان.
    و ينهض المحامي مودعاً مشهلت:
    • هانت .. كلها يومين تلاتة و ان شاء الله تكون مع أهلك.. طيب مع السلامة …
    • الله يسلمك.
    و يغادر المحامي و يستلقي مشلهت على سريره في انتظار آذان المغرب و هو يستعيد في مخيلته شريطاً طويلاً .. هل سيعود فعلاً إلى أهله ؟ أمراً كان يظنه بعيد المنال .. زرع في نفسه الحسرة وألآنكسار و عدم الرغبة في المقاومة .. و لكن الأمل ألآن ينهض في داخله وأن ما حدث له لا يمكن ان يكون نهاية العالم .. و لهذا ظل يستمع للمتحري في تلك الجلسة و هو يلخص أقواله وأقوال الرقيب موسى الحاكم وإنه يتحدث عن شخص آخر .. و خاصة عندما كان القاضي يستجوب الرقيب قائلاً:
    • انت بتتهم الزول دا بأنو سرق منك المسدس ؟
    • انا ما قلت انو سرقو .. انا قلت شالو ..
    • الفرق شنو ؟
    • أيوا .. الفرق انا كان عندي ملاريا خبيثة و دخلت في غيبوبة و بعدين ما صحيت إلا لقيت نفسي في البيت و المسدس مافي .. و عرفت انو مشلهت لقاهو و شالو ..
    و هنا يوجه المحامي للرقيب عدداً من الأسئلة:
    • انت قبل كدا جاتك ملاريا خبيثة ؟
    • لا
    • يعني دي أول مرة تجيك فيها ملاريا خبيثة ؟
    • أيوا
    • و الفرق شنو بين الملاريا الخبيثة و الملاريا العادية ؟
    • انا نعرف كيف ؟ انا ما دكتور .. بس الحمى المسكتني قالو لي دي اسمو ملاريا خبيثة ..
    • القال ليك منو انها ملاريا خبيثة ؟
    أخوي زكريا ..
    • و أخوك زكريا دكتور ؟
    • لا
    • بشتغل شنو ؟
    • بشتغل ترزي ..
    • يعني مافي دكتور قال ليك عندك ملاريا خبيثة ؟
    • لا
    • و لما دخلت في غيبوبة .. كنت قاعد وين ؟
    • كنت بقوم بحراسة مشلهت و جالس في الكرسي .. بس شعرت بتعب شديد في جسمي كلو .. بعدين تاني ما وعيت ..
    • و الغيبوبة استمرت معاك كم ساعة و لا كم يوم ؟
    • انا ما عارف ..
    • كيف ما عارف ؟ ما عارف انت كنت واعي بتين .. و بعدين بقيت ما واعي و بعدين وعيت ؟
    • لا
    • طيب نسهل عليك السؤال .. لما حصل ليك التعب و انت ما وعيت بنفسك كانت الساعة كم ؟
    • دي كان يوم الاثنين في العصر .. يعني قول الساعة خمسة ..
    • و لما صحيت لقيت نفسك في بيت أخوك زكريا كانت الساعة كم ؟
    • كانت الساعة حوالى خمسة و نص ..
    • في نفس اليوم ؟
    • لا
    • كان ياتو يوم ؟
    • ما بعرف ..
    • يعني انت صحيت لقيت نفسك في بيت أخوك زكريا ؟ طيب دا كان ياتو يوم الثلاثاء .. الأربعاء ..الخميس ؟
    • يكون يوم الخميس ..
    • انت متأكد ؟
    • أيوا متأكد ..
    • طيب دي حكاية بتاعة يومين أو ثلاثة .. في اليومين دي انت كنت وين ؟
    • كنت في غيبوبة ..
    • أيوا ..بس كنت في بيتكم و لا كنت في الاسبتالية ؟
    • ما عارف ..
    • ما انت لازم تعرف .. لانك لو ما عرفت .. نحنا ما بنقدر نقدر الحصل شنو للمسدس ..
    • الحصل للمسدس ما ياهو ظاهر .. الزول براهو بخشمو قال شالو ..
    • انت عندك أورنيك طبي ؟
    • أيوا ..
    • الأورنيك دا الطلعو منو ؟
    • طلعوه في الاسبتالية ..
    • الماضي عليهو منو ؟
    • المراقب ..
    • مختوم و معتمد ؟
    • أيوا ..
    • الأورنيك دا موجود هنا ؟
    • أيوا ..
    و يتقدم المحامي ليقف أمام القاضي قائلاً:
    • ممكن نطلب من المحكمة الموقرة السماح لنا بالاطلاع على الأورنيك الطبي ؟
    • اتفضل ..
    و يأخذ المحامي الأورنيك و يدون بعض الملاحظات ثم يتجه نحو الرقيب:
    • و ليه انت حسب الأورنيك ما قعدت في المستشفى ؟
    • عشان أخوي زكريا قال المستشفى ما فيها علاج .. و أحسن يوديني البيت يعمل لي علاج بلدي ..ويموص لي عرديب أشربه.
    • و نقلوك في نفس اليوم ؟
    • و الله ما عارف ؟
    • و جيت تاني راجع المستشفى بعد ما طلعت من بيت أخوك ؟
    • لا
    • ليه ؟
    • بقيت كويس ..
    و يتقدم المحامي بطلب:
    أرجو من محكمتكم الموقرة السماح للدفاع بفحص الختم على الأورنيك و استدعاء كل الموقعين به بالإضافة إلى رئيس العنبر ..
    أوافق ..
    • وأن نحتفظ بحقنا في استجواب الشاكي مرة أخرى ؟
    • أوافق ..
    و يستجوب القاضي مشلهت قائلاً:
    • انت سمعت كلام الشاكي ؟
    • أيوا ..
    • طيب إيه إفاداتك في هذا الموضوع قبل ما نوجه ليك الاسئلة ؟
    • أولاً يا مولانا الزول دا جا معاي من مركز سوق ليبيا .. كحرس .. و فضل معاي طوالي إلا لما تنتهي ورديتو بجي واحد تاني يغيرو .. و في يوم الاثنين جا وخلى عندي المسدس بتاعو و قال لي انا ماشي مشوار صغير كدا و لو أي زول سأل مني قول ليهو مشى يتسير .. و بعدين انا جوني و قالوا لي انت السكر بتاعك مرتفع و نحنا حاولنا ننزلوا هنا و ما قدرنا و لازم نوديك مستشفى السكر في بحري .. حتى قلت لواحد ممرض حقو تنتظر الحرس المعاي عشان لما يجي ما حيلقاني هنا .. و هو قال لي:
    • نحنا عندنا الإسعاف واقف . . و إذا فوتنا الفرصة دي تاني ما بتلقي بسهولة .. و لازم انت يعملوا ليك إسعاف سريع بعد دا بتخش في غيبوبة و عشان كدا انا مشيت معاهم و ما كنت عارف أودي المسدس وين .. قمت ختيتو مع الهدوم بتاعة البائع المتجول الخلاها عندي .. بعدين شرطي المباحث شاف المسدس في المستشفى بتاع السكر و حقق معاي و فتح على بلاغ ..
    و يسأله القاضي:
    • طيب .. لما الممرض قال ليك عايزين نرحلك لمستشفى السكر ذكرت ليهو أي حاجة عن المسدس ؟
    • لا
    • ليه ؟لاني كنت ملخوم و ما كنت عارف أتصرف كيف .. و بعدين يا مولانا انا لو كنت عايز أسرق المسدس أقوم أخليهو في محل ظاهر عشان أي زول يشوفو ؟
    • انت بتوجه سؤالك لي انا ؟
    • معليش يا مولانا انا متأسف ..
    • الأسئلة دي تقولها في دفاعاتك ..
    رفعت الجلسة و رجع مشلهت إلى المستشفى و هو منقبض النفس .. ثقيل الهم .. كثير الوساوس .. فقد ظهر الرقيب موسى الحاكم في موقف أقوى من موقفه .. هل يستطيع صديقه عبد العظيم المحامي ان يجد له مخرجاً بعد تلك الأدلة الدامغة التي قدمها الرقيب موسى الحاكم ؟
    لاحظ عوض الله ان مشلهت بقي ساهماً بعد عودته من المحكمة .
    • يا أخوي ما يهمك .. صاحبك المحامي دا نجيض و هسع بمرقك منها زي السلام عليكم .. الحبة دي ما بتجيك ..
    و يتنهد مشلهت و هو مستلق على سريره ينظر للسقف ..
    • زي السلام عليكم كيف ؟ مش شايف الرقيب عامل كيف ؟ جايب أورنيك ووثائق .. و انا ذاتي خلاني أشك انو انا سرقت المسدس و انه كان عندو غيبوبة ..
    و ينتبه عوض الله قائلاً:
    • كان كدي يا خوي الرقيب موسى عاملو حاجة الزول دا انا لقيتو عند إسماعيل الساعاتي صاحب السفلي .. و لازم يكون مشى لإسماعيل و أخد منو عمل .. و خلاك انت و القاضي في شك و لجم المحامي خلاهو ما قادر ينضم ..
    و ينهض مشلهت و يستعدل في جلستة في السرير:
    • معقول يكون عمل كدا ؟
    • معقول و نص و خمسة .. ديل ناس مخافة الله عندهم قليلة .. ناس بتاعين شواطين و جن و سفلي .. لازم يكون إسماعيل عمل ليهو عمل..
    • لا لا .. دي حاجات انا ما مؤمن بيها ..
    و يجادل عوض الله:
    • تقدر تقول لي كيف القضية بتاعة أبكر بتاع العناقريب شطبوها ؟ دي يا خوي حكاية واضحة .. أسماعيل رسل السفلي بتاعو قام غطس حجر القضية ..
    و بنصف موافقة يرد مشلهت:
    • انا حقيقة ما عارف كيف اتشطبت القضية .. لكين دا ما معناهو انو إسماعيل كانت عندو يد في الحكاية دي ..
    • طيب ليه شطبوها ؟
    • ما عارف ..
    • يا خوي قلت ليك الكلام واضح .. و انا رأيي أقوم من دربي دا أمشي لو .. و أشوف الحكاية معاهو .. باقي هو بكون في بيتو مع خدامو و مصايبو في المسا .. بعد صلاة المغرب ..
    • يا خوي ما تتعب نفسك ساكت .. البسويها الله بتبقى ..
    كان مشلهت يتوقع حضور عبد العظيم المحامي بين كل لحظة و أخرى .. و لكنه لم يحضر .. و أخذت الأوهام تساور مشلهت و تطوف بذهنه مثيرة الكثير من التساؤلات التي لا يجد لها إجابة ..هل يعزي ذلك إلى ان المحامي قد وجد موقف مشلهت ضعيفاً فلم يأبه به ؟ لماذا لم يحضر ليخبره بما ينوي عمله في الخطوة التالية ؟ أشد ما يؤلم مشلهت ان تدينه المحكمة و هو لم يخطر بذهنه ان يدبر لسرقة المسدس .. و ماذا يفعل به و هو الذي لم يمسك بيده مسدساً في يوم من الأيام ..

    ليلة طويلة مرت عليه .. تمددت في تاريخه الطويل .. في هذه الليلة الأضداد تنام إلى جوار بعضها .. الصدق و الكذب .. الخير و الشر .. الظلمة و النور .. الحر والبرد .. الأبيض و الأسود .. و الذي يمشى بينهما يقتله الحياد .. فإما ان تقع في حبال الوهم فتتخيل ان الذي مر بك هو كابوس طويل مرعب ستفيق منه حتماً أو ان تسقظ في براثن الحقيقة فيقتلك الوهم .. أشياء كثيرة نمشى بينها و نحن نحمل أكفان اللامبالاة و الاستغراق في تفاصيل الحياة اليومية .. فتنحني قاماتنا من البحث عن الرزق في فجاج الأرض أو البحث عن العدل وسط ركام من الأكاذيب و الافتراءات و التضليل و التزوير .. و كأننا نبحث عن إبرة وسط كوم من القش ..
    أطل الفجر .. و استبدل المستشفى نشاط الليل بنشاط النهار .. حيث اختفي عراك القطط الليلي حول القمامة .. بحركة الممرضين و الممرضات و الأطباء و هم يمرون على المرضى .. العسكري الذي يحرسه استبدل بغيره .. اناس طيبون حكمت الظروف ان يحرسوه و هم يؤدون واجبهم وان يكون محروسهم .. و لكن لاحظ إنه سرعان ما تذوب الحواجز بينه وبينهم فيشتركون في طعام واحد ويتبادلون التحايا و يفتحون قلوبهم لبعض .. فإذا كل منهم قصة طويلة من المعاناة والمشاكل .. إلا انهم متماسكون من حيث البناء الخارجي .. مثلهم مثل غيرهم من أهل السودان .. صابرون راضون بما قسمه الله لهم .. و طمأن مشلهت نفسه .. و هو يدير حواراً داخلياً .. هذه قسمتك يا مشلهت .. ما الذي ستفعله .. أو قل (ما الذي ستفعله لو كان هناك أكثر من موت ؟)
    لم يمض وقت طويل حتى جاء عوض الله يحمل الفطور كعادته .. جلسوا يفطرون .. مشلهت و عوض الله و العسكري .. و انضم إليهم ممرض كان يقف قريباً دعوه فلبي دعوتهم .. و التفت إلى مشلهت قائلاً:
    • انت بتاكل في الرغيف .. ما بنفع معاك ..
    • هو انا أصلو البنفع معاي شنو ؟
    • بينفع معاك أكل خاص ..
    • طيب وينو الأكل الخاص ؟ مالكم ما جبتوه لي ؟
    • هو قال ليك المستشفى فيها أكل ؟ إذا كان انت بتجيب الشاش والقطن و الدوا و الإبر .. كلو من بره .. كيف يعني يكون فيها أكل ؟
    و يتدخل عوض الله:
    • يعني الزول يا مات من السكري يا مات من الجوع ؟ أخير نموت شبعانين .. و لا مو كدي يا جنابك ؟
    • أيوه تمام .. الجوع كافر ..
    في هذه الأثناء كانت بائعة الشاي "حواية" تجهز الشاي كالعادة أيضاً ..
    عالم دخل في موازنة مع أموره المختلفة .. كل شئ يحدث بالتتابع .. تكيف معه الجميع .. لا يكسر ذلك الروتين إلا وفاة شخص أو حضور مريض على النقالة..
    و ينظر مشلهت في عيني عوض الله و كانه يقرأ جديداً و صدق حدسه .. إذ ان عوض الله قال:
    • يا خوي .. البارح مشيت لك .. لإسماعيل الساعاتي .. لقيت البيت مكردن .. و البوليس و ناس الأمن بطلعوا في الناسم من جوة .. سألت قلت الحكاية شنو .. قالوا لي إسماعيل كشوه ..
    • هو و السفلي بتاعو ؟
    • أيوا ..
    • يعني كنت عايز تودينا هناك عشان كمان يكشونا مش كدا ؟
    • و انت ذاتك ربنا سلمك .. انا قلت ليك .. يا أخي دا راجل دجال .. خليهو دلوقت يقدر يفك نفسو ..
    و لا زالت عند عوض الله بقية من إيمان بقدرات إسماعيل فيقول:
    • يا أخي ديل ناس عندهم سبعة أرواح .. هسع باكر يرجع لمحلو .. و انت تشوف..
    و قبل ان يستمر الحديث عن إسماعيل الساعاتي و السفلي .. يطل عليهم عبد العظيم المحامي فتتهلل أسارير مشلهت:
    إتفضل.. دخل إيدك معانا..
    شكراً... ماكل قبل شوية.
    طيب أقعد..
    يجلس عبدالعظيم المحامي على حافة السرير وهو يقول:
    • انا طلبت تأجيل القضية لحدي بكرة .. عندي شك في الأورنيك القدمو الرقيب . . و كمان في دفتر الاسبتالية ذاتو .. وعلى العموم القضية في صالحنا .. بس انا جيت عشان أطمنك .. أمس ما قدرت مريت عليك كان عندنا عقد بعد صلاة العصر في العزوزاب .. لكين خليك مطمئن .. انا حأطعن في كل أقوال الرقيب و في الشهود بتاعينو ..واضح المسألة فيها تزويز ..

    لم يستغرق المحامي عبد العظيم زمناً طويلاً في الكشف عن التزوير الذي توصل إليه في الأوراق التي قدمها الرقيب موسى الحاكم .. كما إنه لم يكن هناك ما يدل على ان الرقيب دخل في غيبوبة أو انه أصيب بملاريا خبيثة..
    استمع القاضي لكل تلك الإفادات و أصدر حكمه بشطب البلاغ صد مشلهت و ان يفتح بلاغ بالتزوير في الأوراق التي قدمها الرقيب موسى الحاكم .. و أمر بإطلاق سراح مشلهت.
    إجراءات إطلاق سراحه لم تأخذ زمناً طويلاً أيضاً .. و لأول مرة منذ ما يقارب الثلاثة أشهر .. يشعر مشلهت بالهواء يملأ رئتيه و بحيوية و نشاط يتسرب إلى خلاياه .. و إن الدنيا ليست قاتمة كما كان يعتقد .. و لم يستطع ان يعبر عن فرحه لصديقه المحامي ولا لحارسه ولا لصديقه عوض الله سائق التاكسي و لا للبائع المتجول .. هؤلاء هم الذين ربطته بهم وشائج قوية .. و قد إنطوى لسانه على كلمات كثيرة كانت في نظره أضعف من أن تعبر عما بداخله لهؤلاء .. و اندفع نحوه الجميع يهنئون و يباركون و يحمدون الله على انه فرج كربته و أزال عثرته و انه ألآن سيطير إلى بيته ليعلن للجميع إنه لم يمت ..
    • قال عبد العظيم المحامي:
    • شوف يا مشلهت .. بعد دا عربية البوليس ذاتها ما عايزنها .. انا حأسوقك بعربيتي دي لحدي الأسبتالية تاخد حاجاتك و طوال على بيتكم و أنا عايز أكون أول من ينقل الأخبار السارة دي للأولاد .. يا سلام .. بالله شوف ربنا حلاها كيف ..
    و يوافقه عوض الله قائلاً:
    • يا زول و الله كنا متوكدين انو حيطلع منها زي السلام عليكم و ياريت كان جيناك من الأول .. دا كلو ما كان يحصل ..
    و يقول البائع المتجول:
    • يا أخي قال لك دي حكاية مسطرة .. ربنا قدرها .. و الواحد لازم كان يمشى في المكتوب لو ..
    جمع مشلهت أشياءه من العنبر و ودع الممرضين و الممرضات و حواية ست الشاي .. ثم وضع كل تلك الأشياء في عربة عبد العظيم المحامي بينما صعد إلى المقعد الخلفي البائع المتجول وقد أصر ان يرافقهم بينما تبعهم عوض الله بعربته التاكسي ..
    و بينما هو في عربة عبد العظيم في طريقهم لمنزل مشلهت يقول عبد العظيم:
    • نحنا طبعاً بعد دا لازم نعمل عريضة عشان نصحح وضعك لانك هسع بتعتبر في عداد الموتى .. لازم نعمل الحكاية دي ..
    يا سبحان الله .. اليوم يعود مشلهت إلى بيته و غداً يعود إلى الحياة في أوراق رسمية .. من كان يصدق هذا؟
    من بعد ما يقرب على الثلاثة أشهر يشاهد مشلهت باب منزله و كانه يراه لأول مرة .. ذلك الباب الحديدي الذي اشتراه من منطقة أبوروف بأم درمان و جاء العمال و ركبوه إيذاناً بضرب خصوصية لمشلهت تجعله ينتهي إلى الداخل
    • وقف عبد العظيم بعربته أمام الباب ثم قال:
    • انت خليك هنا .. انا عايز أعملها مفاجأة .. أقول ليهم انا عايز مشلهت .. يقولوا لي مشلهت مات .. أقوم أدخل معاهم في مغالطة .. و بعدين اناديك تقوم تجي و تكون مفاجأة ..
    طرق عبد العظيم الباب .. و بعد مدة جاء رجل يلبس جلابية و على رأسه طاقية مزركشة ..
    • أهلاً ..
    • يا أخي انا عايز مشلهت ..
    • مشلهت منو يا خوي ؟
    • مشلهت سيد البيت دا ..
    • أيوا تقصد المرحوم أبو الأولاد الكانوا هنا ؟
    • كانوا هنا يعني شنو ؟
    • يعني كانوا ساكنين هنا ..
    • و مشوا وين ؟
    • ديل أصلو عندهم ولد في السعودية .. و قدم ليهم في اللوتري بتاع أمريكا .. و جا و ساق والدته و أخوانه عشان يعملوا عمرة و بعدين عرفت انهم مشوا أمريكا أو كندا مش عارف ..
    • يا زول ؟!! كيف الكلام دا ؟
    • يا هو كدا ..
    • و طيب هسع البيت دا ساكنو منو ؟
    • البيت دا هو وكل عليهو بتاع عقار قام أجرو لينا ..
    كان مشلهت يستمع لذلك الحوارمن المحامي و هو غير مصدق .. كل تلك الأشياء تحدث في مدي ثلاثة أشهر .. يموت هو ويذهب أولاده و أمهم لأداء العمرة ثم يهاجرون لأمريكا أو كندا مش عارف .. أهو حلم أم كابوس جديد ؟ .. أصابه ذهول و تدلت شفته السفلي من الدهشة .. و مر برأسه دوار جعل ألآنجم البعيدة تخرج عن وقارها فتغادر مداراتها ..
    و يعود عبد العظيم إلى العربة و هو يقول:
    • و الله دي حكاية عجيبة .. انت أصلك ما كان عندك خبر بالحكاية دي ؟
    • لا
    • طيب هسع حتعمل شنو ؟
    • ما عارف ..
    • انا طبعاً بكره أول شئ أعملو .. أمشى أصحح وضعك القانوني .. أقدم عريضة أثبت فيها انك حي .. و بصوت خافت و نظرات أخفت .. يقول مشلهت:
    • و لزومو شنو دا كلو .. انا خلاص مدفون بالحياة .. كلنا مدفونين بالحياة .. مافي لزوم ..
    • و يتساءل عبد العظيم:
    • طيب و هسع أوديك وين ؟
    • أي حتة ..
    • و هكذا تبدأ رحلة الضياع الكبير …

    تمت ويليها الجزء الثالث من الثلاثية (مشلهت والضياع الأكبر)



                  

09-01-2007, 03:51 PM

جمال السنوسي
<aجمال السنوسي
تاريخ التسجيل: 09-14-2002
مجموع المشاركات: 6372

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تكملة (مشلهت والضياع الكبير) (Re: Rayah)

    عزيزى الدكتور ود الريح

    لك كل الود وأنت تتعمق في تفاصيل مجتمعنا السوداني لتعكس وتزيل الغبار عن معاني وقيم شارفت على الاندثار بحكم الظروف

    ونحن في انتظار الجزء الثالث


    خالص التحايا


    جمال
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de