17 نوفمبـر 1958- 2007: في الذكري ال49 عامآ علي انقـلاب ابراهيـم عـبود!

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-26-2024, 08:53 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
11-17-2007, 00:22 AM

بكري الصايغ

تاريخ التسجيل: 11-16-2005
مجموع المشاركات: 19331

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
17 نوفمبـر 1958- 2007: في الذكري ال49 عامآ علي انقـلاب ابراهيـم عـبود!

    دراسة في وقائع الولوج الأول لجيش السودان دار السياسة:
    ______________________________________________________

    ©2004 Alsahafa.info. All rights reserved.


    فگرة الإنقلاب بين السرايتين.

    د. محمود قلندر:
    إذا كانت الحالة التي وجد فيها عبد الله خليل نظامه هي التي دفعته للاستنجاد بالجنرالات، والسعي لهدم صرح الديموقراطية، بما فيه ومن فيه، فإن الأميرآلاي لم يكن له أن يقدم على مثل تلك الخطوة التي يمكن اعتبارها بكل مقياس «تاريخية» لو لم يكن يستند على بعض منطق وبعض تعضيد..
    أما المنطق.. فقد سردنا تفاصيل تطور أحداثه خلال الحلقات السابقة بما نظن أننا لا نحتاج سوى الإشارة الملخصة إلى أن واقع الاختلاف السياسي والصراع المزمن الذي عاشته الساحة السياسية إلى حد العجز والشلل، مقارناً بواقع الانضباط، والثبات واستقامة التعامل وانسياب حركة الأداء في ساحة الجندية التي عاشها الأميرآلاي كماضٍ أولاً، ثم كحاضر يتعامل معه بوصفه وزيراً للدفاع. ثانياً، إضافة إلى شخصية الأميرآلاي التي وصفها عارفوه بالعناد المستند على الاعتداد بالذات، أصولها وماضيها ومكانتها.. كل تلك عوامل أخذت الخليل في اتجاه تغليب الخيار السمسوني بهدم المعبد على الكل.
    أما في ما يتعلق بالتعضيد، فإنه لا يشك قط أن عبد الله خليل لم يتخذ هذا القرار المفصلي في تاريخ الشعب السوداني وحده ودون استشارة أحد. وليس منطقياً البتة أن يكون الخليل قد تصرف بعيداً عن حزبه أقطاباً، وراعياً وقيادة.. ومهما حاول المدافعون عن موقف حزب الأمة من قضية دعوة الجيش لاستلام السلطة، فإن هناك من الدلائل ما يشير إلى علم العديد من زعامات الحزب، وضلوع بعضها في خطوات تنفيذه.
    وهناك الكثير من المعلومات التي وردت في تقارير المخابرات البريطانية- والتي نستند على جانب كبير منها في رواية هذه الحلقات، كانت تشير بوضوح إلى وجود وعي تام بقرب وقوع انقلاب من عديد من الاتجاهات والقوى السياسية.. من ذلك مثلا ما حفلت به صحف تلك الأيام خاصة «السودان الجديد» التي أشارت بالمواربة إلى ذلك.. بينما لم تخف عدد من القوى السياسية نيتها على مقاومة أية انقلاب..
    السرايتان وبيع الانقلاب
    من المنطقي والطبيعي -في تلك المرحلة من التطور التاريخي السياسي للسودان- أن أي تحرك سياسي مفصلي ما كان يمكن أن يتم أو يكتب له نجاح -دون «مباركة» أحد أو كلا قطبي السياسة السودانية وركيزتاها- السيدين عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني. فمن الطبيعي إذن أن الذي سيقدم على عمل سياسي بخطورة الانقلاب العسكري في ذلك الوقت أن لا يقدم عليه إلا بمعرفة -إن لم نقل برضى ومباركة - قطبي السياسة السودانية الميرغني والمهدي.
    ومن ثم فإن السؤال الذي يظل هو كيف اقترب عبد الله خليل بفكرة الانقلاب من السيدين؟ وهل تمكن الخليل من بيع الانقلاب لهما معا؟ أم هل أقنع المهدي دون الميرغني بها؟
    ليس لدينا معلومات مباشرة أو مصادر أولية في هذا الأمر، ولذلك نعمد إلى تحليل المعلومات المتوافرة فيها. وبقراءتنا لعدد من الوثائق نستطيع القول بأن سراي المهدي بالخرطوم كانت على علم ومعرفة تامة بتحركات الخليل واتصالاته.. بل تشير بعض الوثائق إلى أن السراي كان جزءاًً من تلك التحركات.
    من ذلك مثلاً:
    إن عبد الله خليل جمع الفريق عبود وأحمد عبد الوهاب وحسن بشير نصر إلى السيد الصديق المهدي، رئيس الحزب في ذلك الوقت، في «جلسة» بمنزل السيد الصديق، وقد دار الحديث في تلك الجلسة حول أحوال السياسة وتناول واقع الحكومة احتمالات الفشل والفوضى. وكان من الملفت أن اقتراحاً قد بدر في تلك الجلسة حول إمكان تعيين وزير دفاع من الجيش وذلك بغرض تقوية الحكومة وتأمين عدم حدوث فوضى. ويتضح من المعلومات حول ذلك الاجتماع أن السيد الصديق لم يكن يؤيد فكرة استيلاء الجيش الكامل على السلطة بينما كان يؤيدها عبد الله خليل..وكانت فكرة الصديق هي أن يكون في الحكومة وزير دفاع عسكري ذي رتبة عسكرية باعتبار أن ذلك قد يلقي بعض ظلال الهيبة على الحكومة. ومن ثم فإن ذلك الاجتماع لم يحسم الأمر وإن كان قد أشار بوضوح إلى وجود نوايا حزبية في التغيير بمعاونة الجيش..
    أما فيما بتعلق بموقف السيد عبد الرحمن المهدي، فإنه يمكن الاستنباط أكثر من الاستناد على وثائق ووقائع، ففي تقديرنا أن عبد الله خليل كان قد أقنع السيد عبد الرحمن بفكرة الانقلاب، بينما لم يقتنع بها السيد الصديق.. ومن ثم فإن اجتماع أغسطس بقيادة الجيش كان من ناحية نزولاً من السيد الصديق على رغبة والده المتفقة آراؤه مع عبد الله خليل.. دون اقتناع منه بفكرة تسليم السلطة كاملة للجيش.. وما يعضد قولنا هذا هو أن السيد الصديق أخذ نفسه خارج السودان قبل تنفيذ الانقلاب بأيام قليلة، ولم يعد إلا بعد وقوع الانقلاب بأيام..
    أما في ما يتعلق ببيع الانقلاب للسيد على الميرغني، فإننا نستند أيضاً على تحليل الوقائع أكثر من معلومات وثائق.. ولكننا نقول في العموم أن الغالب الأعم هو أن السيد على الميرغني لم يكن على علم يقين بالانقلاب، بالتأكيد تواترت له المعلومات حوله مثل تواترها لكل الناس على المستوى العام، فقد كان الانقلاب وفكرته في كل ركن من البلاد، حتى قيل يومها إن بائعات الفول كن على علم يقين به لأن ورق الصحف الذي كانت تبيع فيه النساء الفول احتوى على معلومات الانقلاب. ولكننا نستبعد أن يكون الخليل قد أسر بنية الانقلاب للميرغني أو حاول كسب رضاه حوله على نحو ما ذكر عبد الماجد أبوحسبو في مذكراته. فالميرغني وحزبه كانا في ذلك الوقت شريكين مرحليين للأمة، بينما هما في الأساس منافسان وغريمان على المستوى الاستراتيجي، ولايُعقل أن يضع حزب الأمة نفسه في مأزق تاريخي يكشف فيه لغريمه أنه يتآمر عليه. ففي تقديرنا أن السيد علي كان يدرك، كغيره من القوى السياسية، بمخطط الأمة، ولكنه لم يكن من المعضدين أو المساندين لفكرته.
    والدليل على أن الميرغني والمهدي لم يكونا على ذات المستوى من المعرفة ومن ثم المباركة والتأييد للانقلاب، نجده في ثنايا سطور البيانين الصادرين من السرايتين بعد وقوع الانقلاب. فقد صدر بيان المهدي مطولاً مفصلاً، بينما أصدر السيد الميرغني بياناً مقتضباً لم يتجاوز بضعة أسطر. وكان بيان المهدي مفصلاً وشاملاً، انتقيت كلماته بعناية، وصيغ بعبارات مليئة بالحرارة، وفاضت كلماته حماسة وتأييداً. وكان ملفتاً فيها إدانته للواقع السياسي الذي كان سائداً والذي كان حزب الأمة الطرف الفاعل فيه. وقد دللت أساليب وعبارات البيان على أنه جرت كتابته وتم إعداده منذ وقت سابق على يوم الانقلاب. بل إن بيان المهدي كان أشبه ما يكون بالبيان الأول للانقلاب..
    أما بيان الميرغني فقد جاء مقتضباً وعاماً بما يوحي بأنه كتب على عجل أو أنه كتب بغرض المجاملة أكثر منه لتسجيل موقف تأييد.
    ولعله من المفيد أن نتوقف عند مقارنة فقرات الخطابين قليلاً حتى ندرك الفرق بين موقفي الزعيمين ومكانتهما من الانقلاب..
    بيان الميرغني: علم ودعوة بالتوفيق:
    تكون بيان السيد علي الميرغني حول استلام عبود للسلطة من خمسة أسطر، أشار فيها في بدايته إلى علمه باستلام نفر من «الضباط المخلصين زمام السلطة في البلاد»، وأمل فيها في توحيد الجهود والنوايا لتحقيق الاستقرار في البلاد. ثم ختم بالدعاء بالتوفيق لمن تولوا السلطة لتحقيق الرفاهية والازدهار لأبناء الشعب السوداني كافة.
    ولم يزد بيان السيد علي الميرغني عن كونه بيان «علاقات عامة» من النوع الذي تتبادله المؤسسات السياسية والاجتماعية ببرود وميكانيكية مطلقة.
    وبالرغم من أن السيد علي الميرغني والدائرة الختمية في عمومها كانت على صلة وثيقة بالفريق إبراهيم عبود قائد الجيش، الذي ارتبط ارتباطاً وثيقاً بدائرة الميرغني في سنكات، إلا أن تلك الصلة لم تنعكس حماساً في البيان السياسي للسيد الميرغني وهو ما كان في تقديرنا يعني أنه لم يكن على رضى تام بالانقلاب وفكرته.
    بيان المهدي: ادعموا هذه «الثورة»
    أما بيان السيد عبد الرحمن المهدي، فقد كان في واقعه أقرب ما يكون لبيان الانقلاب الأول. فالقراءة الممعنة لبيان المهدي تبين اتصافه بالقوة والرصانة في سرد مسوغات الانقلاب على السلطة السياسية الدستورية.
    كانت نقاط بيان السيد عبد الرحمن المهدي الرئيسية على النحو التالي:
    ü يأسف لأن قادة الأحزاب وحكوماتها فشلوا في تحويل الاستقلال إلى أداة فعالة لازدهار الشعب ورفاهيته.
    ü كان هناك الخوف من فقدان الأمل في الاستقلال نتيجة لتصرفات الحكام وأن فقدان الأمل كان يمكن أن يكون طريقاً لضياع استقلال السودان . ومن ثم فقد تطلع الناس إلى الخلاص على يد منقذ يدافع عن الاستقلال ويحقق أهداف وتطلعات الناس.
    ü جاء الغوث اليوم على يد رجال الجيش السوداني باستلامهم السلطة وهم لن يسمحوا بعد اليوم بالتردد والفوضى والفساد في البلاد.
    ü جاء الوقت لنا جميعاً لنكون سعداء ونحمد الله لأنه منحنا من بين قادة الجيش وأبناء جيشنا المخلصين من استولى على زمام السلطة عازماً على تحقيق تطلعات الشعب وأماله.
    ü كونوا على ثقة وكونوا مع «الثورة المباركة» التي نفذها جيشكم الشجاع وانصرفوا جميعاً لأعمالكم بثقة وادعموا رجال الثورة السودانية بالعمل والإخلاص وبالتأهب للدفاع عن البلاد.
    ü إدعموا هذه الثورة وادعوا الله أن يكتب لها النجاح، وقفوا معها باليقظة وبالتصميم على تحقيق الأهداف التي من أجلها تحرك الجيش الساعي لمصلحة الشعب والمخلص لله..
    كانت تلك هي ملامح الموقفين، موقف المهدي والميرغني من الانقلاب، الذي استدللنا به على أن الخليل لم يتحرك مفرداً لقلب نظام حكمه..
    يبقى أن نعرف كيف اقترب الخليل من الجنرالات بفكرة الانقلاب؟.



    الحلقة الثامنة:

    عبد الله خليل يستنجد بالجنرالات.
    -----------------------------------

    دراسة في وقائع الولوج الأول
    لجيش السودان دار السياسة
    عصف أذهان الجنرالات حول ضرورة الانقلاب

    د. محمود قلندر:
    في بيت الصديق خليل يقول لعبود لا منقذ إلا الجيش وعبود يستشير القادة العسكريين
    مهما كان من أمر معرفة وموقف السيدين والسرايتين بالانقلاب وتأييدهما له، فإن المهم أن الخليل كان قد مضى بعيداً في مسألة انعقاد عزمه على استلام الجيش للسلطة.. وكان قد بدأ في دق أبواب رئاسة الأركان بفكرة تولي الجيش للسلطة.
    كيف بدأ عبد الله خليل رحلة بيع الانقلاب للجنرالات؟ ومتى بدأت؟
    الوثائق التي نبحث فيها تشير لنا بوضوح الى أن اجتماع (أو جلسة) أغسطس 1957 في بيت السيد الصديق كانت هي البداية.. وهي جلسة أشرنا إليها في الحلقة الماضية ولكن نفصل فيها هنا..
    ويقول الفريق عبود حول تلك الدعوة:
    «قبل الانقلاب بنحو شهرين جاءني عبد الله خليل إلى المكتب، وقال لي حتكون في جلسة في منزل السيد الصديق بأم درمان ودعاني لحضورها، فأخذت معي أحمد عبد الوهاب، وكان موجوداً السيد الصديق وعبد الله خليل وزين العابدين صالح. وافتكر كان معنا عوض عبد الرحمن وحسن بشير كان معي حتما».
    والملفت في حديث عبود أنه قرر اصطحاب قيادات عسكرية عليا معه، وهو ما يعني أنه كان على إدراك باتجاه الحديث، ومن ثم فقد أخذ معه نائبه وحسن بشير نصر، والاثنان من الشخصيات العسكرية ذات المكانة العالية. ولعل عبود أرادهما معه لأكثر من غرض، منها أنهما الرتب التالية له أقدمية - لغياب طلعت فريد في الجنوب - ومنها أنه لم يكن يريد أن يكون هناك تناول سياسي دون كل القيادة، حتى لا يبدو الأمر وكأنه «تآمر» من القائد العام، وربما لمعرفته بقرب الاثنين عبد الوهاب وحسن بشير من السرايتين. أما زين العابدين صالح فقد كانت له صلات وثيقة، بعضها صلة نسب بعبد الله خليل وأحمد عبد الوهاب، كما كان شديد القرب من السيد عبد الرحمن المهدي.
    في تلك الجلسة التي جرت في بيت الصديق، تطرق الحديث إلى الظروف السياسية التي شرحها الصديق، وأبان فيها أن البلاد في وضع سياسي غير مستقر، مشيراً إلى الحاجة إلى صيغة تمكن من أن يكون للجيش دور يمكنه من تثبيت الوضع غير المستقر، وكان من بين ما طرح إمكانية تعيين وزير دفاع عسكري.. وبالرغم من أننا لا يمكن أن نخلص من هذا الكلام إلى أن المجتمعين كانوا يحرضون الجيش لاستلام السلطة، لكننا يمكن القول بأن ما كان يجري هو شكل من أشكال العصف الذهني الرامية إلى تحقيق مناخ ذهني يمكن من قبول الأفكار غير المستحبة.
    ولقد انتهى ذلك الاجتماع دون أن يصل إلى شئ.. ولكنه في تقديرنا فتح أذهان العسكريين على أن الساحة السياسية يمكن أن تكون مسرح عملياتهم القادم.. ولعله هذا هو السبب الذي جعل أحمد عبد الوهاب يقول إنه كان يرى أنه من الأوفق أن يتسلم الجيش الأمر كاملاً بإرادته وليس «بتعليمات» من السياسيين.
    إن الفكرة - فكرة تولي ضابط كبير منصب وزير الدفاع- يمكن أن نرى فيها ظلال الرغبة في إقحام الجيش في السياسة، بحيث يصبح وزير الدفاع العسكري في فترة لاحقة، عنصراً سياسياً يمكن دفعه إلى تحريك الجيش في ساعة الحاجة السياسية.
    وفي تقديرنا أن حجة إشراك وزير دفاع عسكري، كانت هي الحل الوسط بين ما أراده خليل - وربما عبد الرحمن المهدي- وبين رؤية السيد الصديق الذي لم يرد أن يقحم الجيش في السياسة.
    عبد الله خليل و«الأمر» بالاستلام:
    كيف ومتى توجه عبد الله خليل بالوضوح وبدون مواربة، بطلب الي القائد العام لاستلام السلطة السياسية وقلب نظام الحكم؟
    في هذا الأمر تتباين الأقوال:
    تقرير المخابرات البريطانية المرسل صباح يوم الانقلاب، يقول إن عبد الله خليل صرح لصحافي بريطاني بأنه «أعطى أوامر للجيش» باستلام السلطة منذ شهرين (من الانقلاب نفسه). تقرير آخر يشير إلى أن هيلاسلاسي حذَّر عبد الله خليل من الخوض في انقلاب خلال زيارة سرية لعبد الله خليل لأثيوبيا حوالي أغسطس، أجرى فيها فحوصات طبية في مستشفى أميركي.
    أما إبراهيم عبود فإنه يقول إن عبد الله خليل جاءه قبل عشرة أيام من الانقلاب وقال له إن: «الحالة السياسية سيئة جداً ومتطورة، وممكن تنتج عنها أخطار جسيمة، ولا منقذ لهذا الوضع غير الجيش يستولي على زمام الامور».
    ثم جاء خليل بعد يومين يعاود عبود الذي كان قد أخطر ضباط الرئاسة - عبد الوهاب وحسن بشير- بما طلبه عبد الله خليل.
    ثم أرسل عبد الله خليل لعبود زين العابدين صالح الذي أخذ يستعجل التنفيذ مع اقتراب موعد انعقاد البرلمان المؤجل.
    وكان خليل لا يريد للبرلمان أن ينعقد بسبب ما كان يمكن أن يحيق به من هزيمة، ومن ثم احتمال عودة الأزهري بتحالف مع الشعب الديمقراطي أو مع الأمة ولكن بغياب الأميرآلاي.. بمعنى آخر فإن عبد الله خليل كان سيكون الضحية في كل الحالات..
    كيف كانت اتصالات الخليل بعبود؟
    يقول إبراهيم عبود: «مرة ثانية جاءني عبد الله خليل، فأخبرته بأن الضباط يدرسون الموقف، فقال لي ضروري من إنقاذ البلاد من هذا الوضع. ثم أرسل لي بعد يومين زين العابدين صالح ليكرر نفس الكلام.. والضباط كانوا وقتها يدرسون الخطة لتنفيذها».
    إذن فقد أعد الجيش خطة لتنفيذ الانقلاب..
    ولكن هل يعد مثل هذا الكلام أمراً من الوزير واجب التنفيذ على القائد العام؟ وهل كان يمكن لعبود رفض دعوة عبد الله خليل؟
    ليست هناك وثائق رسمية بصدور أمر وزاري بذلك. ولا نتصور أنه سيكون هناك مثل هذا الأمر. كما أنه يمكن القول بإن ما أدلى به عبود أمام لجنة التحقيق في الانقلاب، لا يشير إلى أن تعليمات صريحة قد صدرت بذلك من الوزير.. ففي الحالات العادية - ناهيك عن الخطيرة
    كدعوة انقلاب - يصدر الوزير أوامره في شكل مكتوب وبصيغة معروفة ومحددة... بل هناك استمارة محددة تتم تعبئتها في بعض الحالات.
    وبذلك يمكن القول بأن الالتقاء وتبادل الأفكار والرجاء والتطلع، ليست جزءا من وسائل «صرف التعليمات» في الجيش، كما أنها ليست من أساليب إصدار القرارات من قبل الوزراء.
    بيد أنه أيضاً لا بد من أن نأخذ في الاعتبار تلك الحقائق المتعلقة بصلة عبد الله خليل بالعسكريين وماضيه كضابط، ثم صفة الاحترام والانضباط العالي الذي يتعامل بها العسكريون السودانيون مع بعضهم البعض.. وبذلك الاعتبار يمكن القول إن الجنرالات أخذوا في اعتبارهم - عندما وافقوا على الاستيلاء على السلطة - احترام رغبة الأميرالاي صاحب المكانة العسكرية والسياسية على حد سواء.
    ثم إننا لا بد أن نضيف إلى ذلك حسابات الواقع السياسي الذي كان يعيش فيه السودان.. والجو العام الذي كان ينبئ بأن كارثة على وشك الوقوع.. وهي كارثة المنقذ منها بكل مقياس، هو العمل العسكري الحافظ للأمن والنظام. وقد عبر اللواء أحمد عبد الوهاب عن هذا الجو العام الذي كان سائداً وقتها إذ يقول:
    «وكان ناس كتار يتصلوا بي ويقولوا وين الجيش بتاع البلد؟ ولماذا لا يتدخل لينقذ من كل الأحوال السياسية السائدة في البلد».
    والواقع إن أحمد عبد الوهاب نفسه كانت لديه بعض المآخذ على واقع الممارسة السياسية الذي كان سائداً، فهو كان على صلة بالضباط الصغار الذين كانوا يتحركون سياسياً (الضباط الأحرار) بل وساند إحدى مذكراتهم التي طالبت بتسليح الجيش.. كما أن أحمد عبد الوهاب كان يكتب - عن طريق صديقه جعفر حامد البشير- المقالات السياسية التي تطالب بالاهتمام بالجيش والالتفات إلى احتياجاته المادية والمعنوية.
    ومن ثم فمن الممكن القول بأن قيادة الجيش كانت منذ أكتوبر 1957م، قد وضعت سايكولوجياً في أجواء الانقلاب على السلطة السيادية، بواقع اضطراب الحال السياسي أولاً، وبمباركة وتعضيد، بل وتحريض السلطة السيادية نفسها ثانياً.
    ولكن هل كان سهلاً على القيادة العسكرية الانفراد بقرار استلام السلطة، دون معرفة ومباركة الوحدات العسكرية الأخرى؟ وما هو موقف تنظيم الضباط الأحرار الوليد - وقتها - من ذلك التحرك؟.
    ------------------------------------

    الحلقة التاسعة.
    ------------------

    دراسة في وقائع الولوج الأول
    لجيش السودان دار السياسة
    أراده أحمد عبدالوهاب انقلاباً عسكريا دون تعليمات من أحد.
    -------------------------------------------------------

    د. محمود قلندر:
    رفض أحمد عبد الله حامد فكرة الإنقلاب وفكر في مقاومته..
    ماذا كان أمام إبراهيم عبود ورئيس الحكومة يضغط عليه من كل اتجاه ليتحرك في اتجاه استلام السلطة.. سوى أن يتخذ الخطوات العملية للاستلام؟
    كان واضحاً تردد عبود في اتخاذ الموقف من هذا الموضوع بمفرده على الأقل، لذلك فقد رأيناه يصطحب أحمد عبد الوهاب وحسن بشير وعوض عبد الرحمن إلى جلسة بيت السيد الصديق.. وهي تلك الجلسة التي سردنا تفاصيلها والتي تبلور منها اتجاه واضح لإقحام الجيش في السياسة، وإن اختلفت تفاصيل ذلك الاتجاه بين الصديق الذي فكر فيه في حدود إشراك وزير دفاع عسكري، وبين عبد الله الذي أراده انقلاباً تاماً.
    وفي جانب العسكريين يتضح من خلال قراءة الأقوال الواردة في التحقيق مع القادة بعد أكتوبر 64، أن عبد الوهاب كان يميل إلى استلام السلطة باستقلال من الإرادة التنفيذية. بل لعلنا لا نبالغ إن قلنا إنه أبدى بعض الحماسة في هذا الشأن.. فهو يرفض كما قال لعبود أن يأخذ الجيش تعليماته من رئيس الوزراء ليعمل انقلاباً..
    وليس لدينا شك في أن أحمد عبد الوهاب كان لديه بعض التطلع السياسي. فقد كان واحداً من أعضاء تنظيم الضباط الأحرار في مرحلته الأولى، كما كان له بعض النشاط السياسي، كالكتابة في الصحف ومطالبة السياسيين بالالتفات إلى احتياجات الجيش، ثم توقيعه على مذكرة من «صغار» الضباط - الأحرار- تطالب فيها الحكومة بتسليح الجيش..
    أما حسن بشير فإنه بالرغم من أنه لم يكن من المتحمسين كثيراً.. إلا أنه حين سأله عبود عن رأيه في اشتراك الجيش في الحكومة.. كان رأيه كرأي عبد الوهاب، إذ أفاد بأنه يحبذ أن يتولى الجيش المسؤولية لوحده وليس كوزير واحد..
    عبود يستطلع رأي القادة
    كان إبراهيم عبود حريصاً على أن لا يكون قرار قبوله استلام السلطة قراراً فردياً قائماً عليه هو وحده.. فقد رأيناه يعتمد على عبد الوهاب وحسن بشير وعوض عبد الرحمن في اتصالاته السياسية الخطيرة والممهدة لاستيلاء الجيش..
    وحين دخل كلام رئيس الوزراء في خانة «التعليمات» جمع عبود ضباط الرئاسة وهم: وأحمد عبد الوهاب، وحسن بشير نصر، ومحمد أحمد عروة، ومحمد أحمد التجاني، والخواض محمد أحمد، وحسين على كرار، وعوض عبد الرحمن صغير، ومحمد نصر عثمان، وقال لهم بالوضوح إن رئيس الوزراء يطلب من الجيش التدخل.
    ومن المهم أن نثبت نقطة ذات مرجعية هنا وهي قول عبود لمن التقى بهم من القادة -كما جاء في اقوال عوض عبد الرحمن صغير-:
    «إن الأمر يبدو في شكله العام وكأنه» مهمة إجراءات حفظ أمن». بمعنى آخر، إن القائد العام اعتبر طلب وزير الدفاع طلباً شرعياً هو في واقعة تنفيذ لمهام عسكرية بحتة هي «مهام إجراءات حفظ أمن».. وبذلك فإن خطة الاستيلاء على الحكم لن تتعدى كونها خطة لضبط الأمن كمهمة أساسية من مهام الجيش.
    ويبدو أن القادة لم يكونوا على أي خلاف فيما يتعلق باستلام السلطة كمهمة أمنية بحتة لأنهم انفضوا من اجتماعهم ذلك واتجهوا لتنفيذ أمرين:
    ü أولهما وضع خطة الاستلام العسكرية، وهي الخطة التي أنيط وضعها بالأميرالآي محمد أحمد عروة ومحمد نصر عثمان باعتبار الأول مدير إدارة الجيش.. والثاني مدير العمليات في ذلك الوقت. وقد شملت الخطة تحريك القوات الخاصة بحراسة المؤسسات والمرافق الاستراتيجية.. ولم تكن هناك أية خطة لاعتقال القيادات السياسية..
    ونشير هنا إلى أن الجيش كانت لديه خطط جاهزة «لحفظ الأمن» تضمنت تأمين المرافق والمنشآت وحفظ النظام العام، وتأمين الشخصات المهمة. وقد سبق أن أعدها الجيش لظروف حرب قناة السويس العام 1956، وخلافات حلايب مع مصر.
    ü ثانيها أعداد خطاب القائد العام، الفريق عبود الذي سيلقيه على المواطنين. وقد ذكر عبود أن خطابه ذلك تم إعداده من قبل ضباط الرئاسة، دون أن يحددهم. ومن المحتمل ان يكون قد شارك فيه ضباط من الاستخبارات والإدارة والعمليات، وذلك لما لهذه الوحدات من اتصال بالعمل السياسي..
    وقادة الوحدات خارج العاصمة
    لم يكتف عبود بالقادة في العاصمة، بل تطلع إلى أخذ آراء عدد من قادة الوحدات خارج العاصمة.. خاصة كبار الضباط من ذوي الأقدمية العالية. وحسب روايات القادة، فإن عبود أخذ على عاتقه الاتصال بأولئك القادة مستغلاً اجتماعاً للقادة في العاصمة كانت قد تمت دعوتهم لحضوره.
    وتذكر التقارير أن عبود كان يلتقي قادة الوحدات خارج الخرطوم على انفراد، ومن ثم يحاول جس نبضهم، ومعرفة رأيهم..
    وقد ذكر اللواء أحمد عبد الله حامد بأنه التقى بعبود في مكتبه، -بعد حضوره من الأبيض- فناقشه عبود في موضوع الانقلاب، فحذر عبد الله حامد من مغبة خطوة كتلك، مشيراً إلى أن في ذلك تقليداً أعمى لمصر وعبد الناصر..
    بل أن اللواء حامد قال إنه فكر في مقاومة الانقلاب من الابيض بعد حدوثه، بيد أنه تحير جداً من الحماسة الشعبية التي طوقت بها الجماهير حامية الأبيض تأييداً للإنقلاب..
    عبود يأخذ رأي
    المستشار القانوني للجيش
    لا يمكن تصور أن إبراهيم عبود سيقدم على اتخاذ خطوة كالانقلاب على السلطة الدستورية دون التعامل القانوني معها. إذ لم يكتف عبود باستشارة القادة العسكريين، لمعرفة مواقفهم الفردية من تلك الخطوة. بل سعى للوقوف على الرأي القانوني العسكري -والمدني كما سنرى بعد قليل-. فقد طلب إبراهيم عبود من صديقه وابن دفعته، والمستشار القانوني للقوات المسلحة وقتها، الأميرالاي عبد الرحمن الفكي، طلب منه الرأي القانوني في قيام الجيش باستلام السلطة بإيعاز من السلطة التنفيذية على الشكل الذي كان عليه. وقد جاءت إجابة المستشار القانوني «بالموافقة عليه مع ذكر بعض التحفظات» (أنظر محمود عبد الرحمن الفكي: القوات المسلحة في تاريخ السودان الحديث 1935-1975)
    ويستشير شخصيات سياسية ووطنية
    وفي كتابه عن تاريخ القوات المسلحة الحديثة يشير اللواء محمود الفكي- الباحث في التاريخ العسكري وابن المستشار القانوني للقوات المسلحة في عهد عبود -إلى أن عبود لم يستشر والده عبد الرحمن الفكي وحده، بل استشار بعض الشخصيات السياسية والتاريخية الوطنية ذات المكانة عنده. ويذكر الفكي في كتابة الشخصيات التالية من بين الذين استشارهم عبود:
    أحمد خير الذي صار وزيراً للخارجية فيما بعد، والسيد يوسف العجب، والعضو البرلماني، والسيد عبد الرحمن عبدون، والسيد إبراهيم أحمد.
    اجتماع 16 نوفمبر الحاسم
    يتضح من الوثائق التي أمامنا كافة أن مسألة استلام السلطة من قبل الجيش كانت فكرة مترددة حتى اجتماع 16 نوفمبر بين قيادات العاصمة.
    فلم يكن هناك اتفاق على ما سيكون عليه شكل الحكم، ولا اتجاهه السياسي، ولم تكن هناك خطط وبرامج وأهداف يعلنها العسكريون على الشعب كبرنامج عمل.
    بل ولم يكن أحد يعرف ما سيكون عليه شكل الحكم وتركيبته..
    فعبود يقول في أقواله للمحققين إنهم لم يفكروا في تكوين الحكومة إلا بعد تنفيذ الانقلاب.. ويعتبر ماتم استعراضه من أسماء وشخصيات ومواقع إنما كان «مجرد مشاورات». ولكن حسب أقوال الآخرين، فإن اجتماعات القادة بحثت في فترة قريبة من موعد تنفيذ الانقلاب، إقامة حكومة قومية ومجلس سيادة يشارك فيه الختمية والأمة، والوطني الاتحادي والجنوبيون بالإضافة إلى إبراهيم عبود.
    ويبدو أن هذا الرأي كان قد تبلور في شكل حكومة تضم شخصيات مثل محمد أحمد محجوب، ومبارك زروق، وعبد الرحمن على طه.. بينما تم اقتراح إسماعيل الأزهري لمجلس سيادة يمثل فيه الأحزاب الرئيسية.
    ويقول عدد من ضباط نوفمبر، إنهم كانوا أكثر ميلاً لمسألة الحكومة القومية ومجلس السيادة المشترك بين العسكريين والمدنيين، وأنهم قد تناقشوا فيها بالفعل. لكنهم ذكروا أن عبود -وهو القائد الأعلى- جاءهم في ليلة السادس عشر من نوفمبر «بفكرة جديدة.. وقال إنه يفتكر أحسن الحكومة تكون عسكرية مع بعض الناس المحايدين» كما ذكر حسن بشير..
    ويقول حسين على كرار، إنهم: «فوجئوا بأن فكرة مجلس السيادة -التي كان قد تم الاتفاق عليها- قد تلاشت صباح 17 نوفمبر عندما اجتمعوا بعد الانقلاب، فقد قرأ عبود عليهم من ورق معد أسماء المجلس العسكري»..
    كان واضحاً أن الجنرالات قد دخلوا في الواقع النفسي المهيئ للانقلاب، ولم يبق من بعد ذلك إلا بزوغ فجر يوم 17 نوفمبر 1958. كصباح أول يوم من مشوار طويل للعسكرية السودانية في دار السياسة.
    __________________________

    وأصبح صبح 17 نوفمبر:
    ____________________________

    الحلقة العاشرة
    دراسة في وقائع الولوج الأول
    لجيش السودان دار السياسة
    تقدم الجيش لاستلام السلطة «حسب أقدمية» القادة

    د. محمود قلندر:
    ____________________

    لا هو انقلاب
    ولا هي ثورة، بل «حركة تصحيح أوضاع»
    لا اعتقالات، بل خطابات إعفاء للوزراء
    من القائد العام
    صباح 17 نوفمبر أكمل الجيش عمليات التأمين للمراكز والمنشآت، وقد وشاركت في عمليات حراسة الكباري والمباني الحيوية قوات استقدمت من القضارف وشندي تحت ستار حماية الأمن صباح يوم افتتاح البرلمان- نفس ذلك الصباح.
    ولم يصب المواطنون بأي ذهول من هول المفاجأة.. فلم يكن الانقلاب مفاجأة ولا كان سراً. فحتى صحف صباح السابع عشر من نوفمبر كانت تبشر به -أو تحذر منه- بشيء من الذكاء معددة أسماء بعض القيادات العسكرية التي صارت قيادة سياسية بعد قليل..
    ولم يكن هناك تحسب من تحرك مضاد.. فالذين قادوا الإنقلاب هم كل الجيش السوداني بقيادته العليا، والمشاركون في التنفيذ هم ضباط من مختلف الرتب..
    ولم تكن هناك حركة اعتقالات في وسط الضباط المناوئين.. إذ لم يكن هناك مناوئون أصلاً.. ولم يكن الجيش قد عانى بعد مما عانى منه -بعد سنوات لاحقة- من اختراق العقائد والاتجاهات السياسية المختلفة..
    ولم تكن هناك حركة اعتقالات وسط السياسيين الذين انقلب عليهم الجيش..
    بل أن رئيس الوزراء كان في منزله ذلك الصباح والتقى ضابطاً جاءه بخطاب إقالة من عبود..
    وتلقى كل الوزراء خطابات إقالة شبيهة من القائد العام دون أن يتم اعتقال أي واحد منهم...
    ولم يكن هناك خوف من تحرك مضاد من الأنصار.. فقد كان العمل كله بعلم وموافقة المؤثرين في قيادة الأنصار..
    عبود يزور المهدي والميرغني
    ليس هناك حدث أبلغ للتعبير عن طبيعة حركة 17 نوفمبر من إقدام إبراهيم عبود قائد الإنقلاب على النظام السياسي الذي كان قطباه السيدان المهدي والميرغني، بعد ساعات من إذاعة بيانه الأول يصحبه أحمد عبد الوهاب (ذو الارتباط الأنصاري) ومحمد أحمد عروة (ذو الارتباط الختمي) بالتوجه إلى ذات السيدين ليدعما انقلابه عليهما وعلى حزبيهما..
    وليس هناك تعبير أبلغ عن طبيعة السياسة السودانية السريالية، أكثر من أن السيدين وافقا، وأيدا وأعلنا في بيان لجماهيرهما.. مباركتهما للانقلاب على حزبيهما..
    وكما ذكرنا من قبل .. كانت حماسة المهدي واضحة كل الوضوح من خلال البيان الذي صدر بعد قليل من لقاء عبود بالمهدي.. وهو البيان الذي أشار إلى الحركة باعتبارها ثورة.. وهو تعبير لم يرد حتى في بيان عبود الأول. وقد قال البيان إن الجيش أنقذ البلاد، بعد أن تلفت الناس بحثاً عن منقذ.. وطالب الناس بالانصراف إلى أعمالهم بهمة ونشاط..
    وحين توجه عبود وضباطه إلى السيد علي الميرغني، استقبلهما الميرغني ببيان محدود لم يتجاوز فيه حد الدعاء لهم بالتوفيق.. وقد أشار البيان إلى «تقبله لنبأ تسلم الجيش زمام السلطة في البلاد»..
    ومهما كان من أمر حجم البيانات وكلماتها، فإن المحصلة الأساسية هو قبول السيدين بالمآل الذي حاق بحزبيهما ورضوخهما لحكم العسكر.. وخروج عبود منهما بأول شرعية، وهي شرعية مباركة التحرك من قبل الطائفتين الأكثر تأثيراً في البلاد..
    بيان عبود الأول: ثورة بلا برنامج
    لأن البيانات الأولى لأية حركة عسكرية تتسلم السلطة من حكومة قائمة، تكون بمثابة العنوان لاتجاه وفلسفة وأهداف تلك الحركة، نجد من المهم أن نحاول قراءة بيان إبراهيم عبود الأول قراءة متأنية لاستشفاف أهداف وبرامج وغايات تلك الحركة. لهذا فإننا نلخص فقرات بيان عبود المذاع على المواطنين في صباح السابع عشر من نوفمبر على النحو التالي:
    > إشارة إلى الوضع المضطرب والفوضى التي سادت البلاد والتي عطلت الأداء الحكومي والأداء العام في البلاد.
    > تأكيد أن أسباب معاناة البلاد تعود إلى الصراع السياسي الذي احتدم بين الأحزاب والتي جعلت مكاسبها الذاتية فوق كل شئ واستغلت الصحف واتصلت بالبعثات الأجنبية.
    > تأكيد أن الجيش كان يراقب آملاً أن ينصلح الحال وتتغير الأوضاع إلى ما هو أحسن، ولكن وصل الحال إلى مرحلة لم يعد معها رجال الجيش قادرين على التحمل والسكوت.
    > لم يكن أمام القوات المسلحة غير التقدم واستلام زمام الأمر «لتصحيح الأوضاع» ووضع حد للفوضى وإعادة الأمن والنظام.
    > الهدف هو الاستقرار والازدهار ورفاه البلاد والشعب.
    > سنحافظ على العلاقات الودية مع الأقطار كافة بشكل عام والعربية بشكل خاص.
    > أما الجمهورية العربية المتحدة (مصر) الشقيقة فسنعمل على إزالة الجفوة المفتعلة بين البلدين.
    كانت تلك النقاط ملخصا شاملا لمحتويات البيان الأول لحركة 17 نوفمبر. والذي يتمعن في قراءة بيان عبود الأول يكاد يراهن بأنه أمام بيان لوزير داخلية حول أحداث شغب أكثر من كونه بياناً لحركة عسكرية تنقلب على نظام سياسي ديموقراطي منتخب من قبل المواطنين. فلا يبصر المرء في ثنايا ذلك الخطاب أية أهداف أو برامج سياسية تنوي الحركة استبدال الوضع القائم بها.. كما أن الخطاب خلا من تحديد أي بعد فكري للحركة والمتحركين.
    بل ان عبود لم يصف تحركه ذلك لا بالثورة ولا بالتغيير، ولا حتى بالانقلاب..
    قال عنها إنها «تصحيح للأوضاع».. وهو تعبير راج بين صحافيي تلك الفترة لوصف حركة عبود في استخفاف..
    وبذلك فإن البيان يدعم الحقيقة المعروفة سلفاً، وهو تحرك قيادة الجيش بكاملها في شكل طابور عسكري -يتقدمه الضباط بالأقدمية- لاستلام السلطة من السياسيين بغرض إيقاف مجرى الأحداث السياسية -أيا كان مجراها واتجاهها- في ذلك الوقت.
    كما يدعم ذلك البيان مقولة إن العملية لم تكن إلا عملية «إجراءات لحفظ الأمن» قام بها الجيش بتكليف من رئيس الحكومة المنتخبة شرعياً. أما ما حدث بعد ذلك -من استمراء العسكريين للحكم واستمرارهم فيه- فهو أمر مختلف تماماً.
    وفي تقديرنا أن التقييم الموضوعي لحركة 17 نوفمبر لا بد أن يأخذ في اعتباره هذه الحقيقة. حقيقة أن عبود استجاب لمطالب رئيس الوزراء بروح الالتزام بالمسؤولية وسعى بقدر ما استطاع إلى الحصول على المبررات الأخلاقية والقانونية التي تقنعه -أخلاقياً- بالتحرك والاستلام.. ولذلك رأيناه يتحرك -منفرداً وفي إطار المجموعة القيادة العليا- في عدة محاور من بعد إلحاح عبد الله خليل عليه:
    > على مستوى القيادة العليا للجيش.
    > على مستوى قادة الوحدات.
    > على المستوى القانوني.
    > ثم على المستوى السياسي الاجتماعي.
    ومن خلال ذلك التحرك وصل عبود إلى القناعة بأن ما يقدم عليه يمكن تبريره- قانونياً وسياسياً وأخلاقياً..
    حل الأحزاب ووقف الصحف: تعطيل أسباب الفوضى
    إذا كانت قناعات عبود قد استندت على تلك المبررات التي ساقها بيانه الأول، وهو أن الفوضى السياسية التي عصفت بالبلاد أساسها الصراع الحزبي، فقد جاءت قراراته السياسية الأولى مبنية على تلك القناعات. فقد قال البيان إنه كي تنفذ القوات المسلحة واجبها (في إيقاف الفوضى) تصدر القرارات التالية:
    > حل جميع الأحزاب السياسية.
    > منع التجمعات والمظاهرات والمواكب.
    > إيقاف جميع الصحف.
    بمعنى آخر أن العسكريين رأوا في الحركة السياسية الوطنية بأشكالها المختلفة من مؤسسات ومن أشكال وأدوات التعبير الديموقراطي، رأوا فيها أس البلاء فرأوا أن يعصفوا بها.. حتى يعصفوا بذلك بالبلاء كله..
    وحدها النقابات -كجزء من مؤسسات التعبير السياسي السائد في النظام الديموقراطي- لم تتعرض للعصف.. إلى حين..
    عبود تحاشى حل نقابات العمال.. ولكن!
    في واحد من تقارير المخابرات البريطانية المرسلة في تلك الأيام العاصفة، يتحدث السفير البريطاني عن لقائه مع عبود ذات يوم الانقلاب، ويصف حديثه معه بانه كان ودياً، ويشير السفير إلى أن عبود بدا متخوفاً في حديثه معه من النقابات أكثر من أي تحرك سياسي آخر. فلم يكن عبود مثلاً مشغولاً بموقف الأنصار كقوة سياسية شبه نظامية- لأنه كما رأينا بادر بالحصول على مباركة زعيم الأنصار الروحية، كما أنه لم يبد انشغالاً بموقف الختمية لأنهم لا يعتبرون أصلاً جماعة عدائية، إضافة إلى أن السيد الميرغني كان قد بارك وأيد هو الآخر.
    أما فيما يتعلق بالنقابات فقد قال عبود للسفير البريطاني، إنه ترك النقابات لحالها (حتى الآن) ولكنه «إذا بدأوا بأي شيء» فهو سيتصدى لهم..
    ولاشك أن النظام العسكري الجديد، الذي جاء لإزالة الفوضى التي عصفت بالبلاد، ما كان له أن يسكت على حركة النقابات التي رآها تمثل عنصر الفوضى وهي تهز الحكومات، وتخلخل أركانها. ولكن في تقديرنا أن عبود ورفاقه آثروا أن لايبادروا بمعادات النقابات لسببين:
    أولهما أنهم يعرفون قوة وقدرة الحركة النقابية السودانية وقد عايشوها منذ فترة قصيرة..
    والثانية أنهم أحسوا أنه ربما كان هناك ما يجمع بين حركتهم وبين مواقف النقابات.. فالنقابات كانت قبل أشهر قليلة قد قادت تحركاً واسعاً قصد إسقاط حكومة عبد الله خليل التي رأتها وهي تنفذ البرنامج الغربي الإمبريالي (بقيول المعونة الأميركية، والمساعدات العسكرية البريطانية، والابتعاد عن الموقف العربي المعضد لمصر ضد العدوان الثلاثي)، ومن ثم فإن النقابات ربما ترى في تحرك 17 نوفمبر العسكري ذلك خلاصاً من حكومة الخليل.. ولعل ذلك كان إحساساً من عبود ولرجاله لم يصدق البتة.. كما سنرى بعد قليل.
    >>>
    أنهى السفير البريطاني شابمان أندروز تقريره المرسل مساء 17 نوفمبر 1958، الذي قدم فيه عبود وأعضاء حكومته للخارجية البريطانية بقوله:
    «إنه على اية حال فقد جاء الجيش بحكومة صديقة لنا.. وأن قيادة الجيش بشكل خاص صديقة لنا أيضاً».
                  

11-17-2007, 00:40 AM

بكري الصايغ

تاريخ التسجيل: 11-16-2005
مجموع المشاركات: 19331

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: 17 نوفمبـر 1958- 2007: في الذكري ال49 عامآ علي انقـلاب ابراهيـم عـبود! (Re: بكري الصايغ)

    رفض عبود طلب عبد الله خليل تعيين عبد الرحمن المهدي رئيساً:
    __________________________________________________

    د. محمود قلندر:

    الصديق وأزهري يطالبان الجيش بإعادة "تسليم العهدة"...
    لم يبق الشيوعيون وحدهم في ساحة المواجهة لنظام عبود لوقت طويل، إذ سرعان ما استيقظت الأحزاب، وبدأت تفيق من حلمها الواهم بأن الجيش سيعيد الأمانة بعد أن تزول الفوضى (كما وعد عبود في بيانه الأول) . فقد وضح خلال العام ، أن عبود ورفاقه قد تذوقوا حلاوة السلطة، وأنهم على وشك أن يصابوا بإدمان بها لا فكاك منه..فقد أخذ عبود مع بدايات عام 59، في التصرف كرئيس دولة، لا كحافظ وديعة، فقد تمكن من توطيد علاقاته برؤساء مثل ناصر وتيتو وباندارنايكا، وصار له صيت ومكانة مع تصاعد نجم دول عدم الانحياز التي صارت موضع غزل دولي من القطبين. وهكذا فقد بدا أن عبود وأعضاء المجلس الأعلى بكامله، ليسوا مستعدين لإعادة العهدة التي سلمت لهم من قِبَلْ عبد الله خليل.

    والواقع أن أكثر الحالمين خسارة في تلك المعادلة كان هو عبد الله خليل، فقد ظن البيه الأميرآلاي أنه، وبعد أن أمر الجيش باستلام السلطة-كما صرح للسيد بيكر الصحفي البريطاني- سيكون له بعض سطوة وسلطة عند من جاء بهم، وأنه- ربما - بحكم الأقدمية العسكرية، و-ربما- بحق "الفتح" للجيش لاستلامها، سيكون له بعض نفوذ على النظام الجديد.

    بمثل هذا الوهم اقترب عبد الله خليل من عبود -بعد عدة أشهر من تسنم عبود للسلطة- طالباً منه أن ينظر في تعيين السيد عبد الرحمن المهدي، رئيساً للجمهورية. وساق عبد الله مبرراً لذلك الطلب كبر سن الرجل ومرضه، وأشواقه المعروفة للجميع. ولكن عبود -الذي كان قد استلذ حلاوة السلطة الغامرة - " زجر الخليل" معلناً بأنه يعمل من خلال سلطة مؤسسية لا تقبل مثل ذلك الكلام!
    نص ما قاله عبود في هذا الصدد كان ما يلي:
    " بعد الانقلاب بنحو شهر جاءني عبد الله خليل وقال إن السيد عبد الرحمن صحته معتلة وإذا ممكن تعملوه رئيس جمهورية، فقلت له إنني أعمل مع مجلس وهذا كلام غير مقبول"
    إن هذا يعني بالوضوح أن الخليل كان يحلم بأن تكون له سلطة ومكانة بين الانقلابيين- بعد أن حملهم بمحض اختياره إلى السلطة. بل لعله كان يظن أنه لا محالة عائد إلى مواقع النفوذ بصورة أو أخرى.. فقد رأيناه وهو يصرح بعد الانقلاب مباشرة لمن زاروه متعاطفين من بعد استيلاء الجيش على السلطة.. رأيناه منبسط الأسارير يتحدث مع المحجوب وشيخ على عبد الرحمن وكأنه لا زال صاحب السلطة.. فهو يقول للمحجوب أنه سيرسله وإبراهيم أحمد مع إثنين من الضباط لمصر لاستكمال المباحثات التي انقطعت (بالانقلاب).

    ويبدو أن عبد الله خليل ?وغيره- من مخططي أو مباركي انقلاب الجيش- قد أصيبوا بصدمة شديدة، وهم يشهدون عبود وقد قلب ظهر المجن لمن دفعوه دفعاً لمكان الرئاسة. فقد ظنوا أن الأسد الذي أخرجوه من القفص.. سيحفظ لهم صنيعهم، وسيكون طيعاً داجناً كما يشتهون..
    و لا بد أن إمبراطور إثيوبيا الحكيم هيلاسلاسي كان يضحك يومها وهو يرى القولة التي قال بها للخليل قد ثبتت صحتها وهي كلمات لم يجف مدادها بعد.. فقد كتب الإمبراطور إلى الخليل- في تلك الأيام التي كان الخليل يستبطئ الجيش فيها تنفيذ استيلائه على السلطة- كتب له عن طريق سفيره الأشهر مليس عندوم، ليحذره.. إن الجيش كالأسد، إذا أطلقته من إساره لن تستطيع أن تعيده.. فحذار..
    حرب المذكرات:
    _____________

    لا شك أن الخليل وصحابه، يئسوا ، من بعد مناورة تعيين الإمام رئيس جمهورية، من عودة المارد إلى قمقمه وقد استحلى السلطة واستطاب طعمها..
    و لاشك أن غيرهم من السياسيين الذين هادنوا وآثروا إحناء الرؤوس حتى تمر بدايات العاصفة، أيضاً يئسوا من انتظار عودة المارد إلى القمقم...
    وبمرور الأشهر رأت قيادات الأحزاب أنه لا بد من عمل ما لكي يفيق العسكريون من خدر السلطة اللذيذ الذي بدأوا في استمرائه. و لم يكن هنالك بالطبع- في ذلك الوقت المبكر- أي تحرك منظم للأحزاب. فقد وجدوا جميعاً أنفسهم عاطلين عن العمل بعد 17 نوفمبر ، ولم تكن هناك رابطة تربطهم، ولا تلاقوا على أي شكل من أشكال المعارضة. وكانت المناسبات والعلاقات الاجتماعية وحدها هي أسس التلاقي بين قيادات الأحزاب.

    كان الأمر كذلك، حتى وفاة الإمام عبد الرحمن المهدي في مارس 1959 وتسلم السيد الصديق للإمامة، فجاءت وفاته فاصلا مهماً في حركة المعارضة السياسية لنظام 17 نوفمبر. بل لعلها كانت نقطة بداية المعارضة، فالإمام عبد الرحمن كان مناصراً لفكرة الانقلاب، وقد استند الخليل على مباركته ومناصرته ليقفز فوق رغبات السيد الصديق الشاب الرافض لإقحام العسكر في السياسة.

    وبما أن الساحة كانت قد خلت من أية تناقض داخلي بالنسبة للسيد الصديق بعد موت والده.. فقد كان ذلك الحدث هو بداية التحرك السياسي المنفرد والمنظم، والذي تتوج بقيام الجبهة الوطنية.

    وجاء أول عمل سياسي حزبي مناوئ لحكم عبود في ثنايا مذكرة السيد الصديق المرفوعة بعد أشهر من وفاة والده. وكانت تلك المذكرة هي في الواقع مذكرة وضع الحد الفاصل ما بين موقف الوالد وموقف الإبن.

    فقد كتب الصديق المذكرة بعناية، حاول فيها أن يتلمس طريقه نحو قلوب وعقول العسكريين في آنٍ واحد. فقد قال الصديق فيها أنه وقف موقف والده المؤيد لاستلام الجيش للسلطة، باعتبار أن الظروف التي سادت في ذلك الوقت استدعت مثل ذلك العمل الاستثنائي. ثم قال إنه وبعد هذه الفترة- أي بعد هدوء الأحوال واستقرارها- يرى أنه من الواجب أن يعيد الجيش السلطة للأحزاب "مشكوراً على دوره في تحقيق الاستقرار". ثم تحدث الصديق عن خطوات محددة يتم من خلالها استعادة النظام الديموقراطي البرلماني.

    تسلم عبود ومجلسه الأعلى مذكرة السيد الصديق، ولكن عبود ومجلسه الأعلى المخمور بنشوة السلطة، لم يعيرا رسالة الصديق أي اهتمام، بل تجاهلا المذكرة تماماً.
    فتقدم إسماعيل الأزهري بمذكرة شبيهة بمذكرة السيد الصديق، طالب فيها هو الآخر بعودة الجيش ووضع دستور وقيام انتخابات برلمانية..
    فلم يعر عبود ومجلسه المخمور بنشوة السلطة مذكرة الأزهري أية اهتمام..

    تكوين جبهة الأحزاب:
    ___________________

    بتجاهل عبود ورفاقه لمذكرتي أهم شخصيتين سياسيتين في البلاد، وجدت الأحزاب نفسها في ركن ركين، وتأكد لها أن المجلس الأعلى قد أخذت بكل قواه نشوة السلطة، وأنه ليس أمام تلك الأحزاب إلا تجميع القوى ورص الصفوف استعداداً للمجابهة مع نظام في يده القوة، والسلطة، ولا حسيب عليه ولا رقيب.

    كانت بداية التوحد التقاء الأنصار والاتحاديين على صلاة العيد عام 1960 في قبة الإمام المهدي بأمدرمان، وهو لقاء توج بلقاءات تشاورية سياسية أزعجت المجلس العسكري... ونتج عنها قيام جبهة الاحزاب كأول تجمع مناهض لنظام نوفمبر ، وهو تجمع استند في أوله على ثلاثة أحزاب هي الأمة والوطني الاتحادي والشيوعيون.. وغاب عنه الختمية والشعب الديموقراطي.

    عبود يزيل الجفوة، وناصر يدعم عبود:
    ____________________________________

    وكان الختمية وحزب الشعب قد آثرا الابتعاد والبقاء في البداية- على الحياد، ثم انطلقا بعد قليل في ركاب الثورة مؤيدين ومبايعين، بل ومشاركين. و لاشك أن مبعث ذلك الموقف كان هو التقارب اللصيق الذي كانت خطواته تتسارع بين مصر عبد الناصر، ونظام 17 نوفبر. فقد تمكنت مصر من الفوز الثمين في علاقتها بنوفمبر في ثلاثة مجالات:
    * أولها، طي مشكلة حلايب من ساحة العلاقات السودانية المصرية، وتمكن النظام من إزالة "الجفوة المفتعلة"..
    * وثانيها، تتويج محادثات مياه النيل بتوقيع اتفاق يعطي مصر كل ما اشتهت وتمنت، في اتفاقية مياه النيل..
    * وثالثها قبول السودان-أو نظام عبود في السودان- بمشروعات السد العالي وقبوله تعويضات ترحيل أهالي حلفا البالغة 15 مليون جنيه استرليني.

    وما كان لنظام عبود أن يدفع كل هذا الثمن لمصر دون مقابل. فقد كان المقابل هو أن يسند ناصر النظام بما لديه من ظل ومكانة، فدفع عبد الناصر بحلفائه التاريخيين في السودان، لتأييد النظام والوقوف معه. فنجح ناصر في إقناع السيد على الميرغني، ومن خلفه الختمية والشعب الديموقراطي بذلك. وهو إقناع كان سهلا وهيناً على عبد الناصر بما كان عليه عبود كرئيس ختمي الالتزام ، شديد الولاء للدائرة الميرغنية، عميق التقدير والاحترام للسيدة مريم ساكنة سنكات ولأبنائها وبناتها.

    أما محاولات ناصر مع الاتحاديين فقد تعثرت لأن الاتحاديين في عمومهم كانوا أكثر ميلاً نحو الاستقلال في علاقاتهم بمصر، فقد رأينا كيف حول الأزهري موقفه من الاتحاد مع مصر عشية الاستقلال، ناسفاً بذلك أساس الكيان الاتحادي كله. أما الختمية والشعب الديموقرطي، فقد كان الولاء الطائفي يسيطر تماماُ على حركته السياسية، ومن ثم فقد ظللت الرغبة الميرغنية الموقف الحزبي ولونته بألوانها.
    وهكذا وجد عبود نفسه قريباً من ناصر- بكل زخمه العروبي والعالمي.. واستمد من ظله قوة سياسة محلية وظلاً عالمياً ساعده على الانطلاق نحو كتلة عدم الانحياز..

    فقد ازداد عبود زخماً سياسياً بزيارة عبد الناصر للسودان عام 1960، وهي زيارة كان الغرض منها دفع نظام عبود نحو مواقع الفاعلية وتثبيت الأقدام، ليس محلياً بل إقليمياً وعالمياً.
    فقد وجد عبود نفسه من خلال صلة حميمة بهيلاسلاسي، زعيما إفريقياً ورائداً من رواد الأفريقانية Pan Africanism المتجسدة وقتها في قيام منظمة الوحدة الإفريقية.

    ثم وجد عبود نفسه لصيقاً بناصر وتيتو ونهرو وباندرنايكا، وهم ثلة الرؤساء الذين قامت على أكتافهم حركة عدم الانحياز المشهورة وقتها بمبدأ الحياد الإيجابي.. فارتبط هو الآخر بتلك الجماعة العالمية.

    باختصار كان عبود يعيش نشوة الحكم حتى الثمالة..ولم يكن إيقاظه من تلك النشوة سهلاً.
    مذكرات الجبهة و"مذكرة كرام المواطنين"
    بازدياد زخم نظام نوفمبر بما حققته علاقاته مع ناصر، وجدت هيئة الأحزاب المكونة حديثاً تحت مسمى الجبهة الوطنية المتحدة- وجدت نفسها مرغمة على إثبات وجودها بأية صورة. ولم يكن أمامها في البداية إلا المخاطبة بما هو متاح، ومن ثم فقد بدأت حرب المذكرات..

    كان أولها مذكرة وقع عليها عبد الله خليل وإسماعيل الأزهري، وهي مذكرة،كسابقاتها، طالبت بعودة الجيش إلى الثكنات وتمكين الأحزاب من الحكم. ثم أعقبت تلك المذكر أخرى جرت مجرى سابقاتها دون أن تعيرها الحكومة اهتماماً.

    وفي خضم ذلك، وقف الختمية والشعب الديموقراطي، موقفاً استثنائياً تقدموا فيه بمذكرة اشتهرت يومها "بمذكرة كرام المواطنين"، وهي مذكرة تأييد طويلة تمادت في وصف النظام بالثورية والتقدمية، وكالت له من المدح، وكالت لكاتبي مذكرات المعارضة بالقدح والذم واتهمتهم بموالاة الاستعمار، وهي التهمة التي كان يوالي بها عبد النا صر أعداءه.

    لم يجد الحكم بداً، بعد أن أخذت تترى المذكرات، من مفاوضة السيد الصديق، فانعقدت لقاءات شارك فيها طلعت فريد والمقبول من جانب والسيد الصديق، منفرداً من جانب آخر. ولكن لم تؤد تلك المفاوضات إلى شيء. إذ لم يكن النظام مستعداً- في غمرة التلذذ بالسلطة- للتنازل عنها وتسليمها.

    وبفشل مفاوضات السيد الصديق مع المجلس، كانت الأحداث تنحدر نحو منزلق المواجهة الدموية..
    حوادث المولد، ونفي السياسيين
    توترت الأجواء السياسية باتصال التعنت العسكري وتضييقه الخناق على النقابات واعتقال قياداتها، وبتعطيله المتكرر للدراسة في جامعة الخرطوم والمعهد الفني، والقاهرة فرع الخرطوم..وبزجه بعدد كبير من قيادات الحزب الشيوعي ومن كوادره العمالية في السجون..
    كما تواترت أنباء التعذيب الذي أخذت تمارسه السلطات في المعتقلات ضد النقابيين والشيوعيين، وكانت أشهرها تعذيب أحد كوادر الحزب الشيوعي في الأبيض بما دفع جبهة الأحزاب إلى رفع مذكرة احتجاج شديدة اللهجة، وصفت النظام بالوحشية، وطلبت منه التنحي وتسليم السلطة. وقد قامت السلطات بعد تلك المذكرة باعتقال القيادات السياسية الحزبية وأرسلتهم جميعاً إلى جوبا في أول معسكر اعتقال جماعي للسياسيين.

    وفي الخرطوم توترت الأحداث بين السيد الصديق والنظام بدرجة خطيرة أدت إل منع الحكومة لمواكب شباب الأنصار في مناسبة المولد في يونيو 1961. وقد أصر شباب الأنصار على مسيراتهم فاصطدموا بالشرطة فيما عرف بحوادث المولد.. ونتج عنها أول أحداث دموية في صدام سياسي منذ أحداث أول مارس الشهيرة 1954.

    وفاة الصديق وانسلاخ الشيوعيين:
    _______________________________

    كانت وفاة الإمام الصديق في أكتوبر 1961 هي العلامة الفارقة في منحى مقاومة الأحزاب لحكم إبراهيم عبود.. إذ تلى اعتقال القيادات السياسية في جوبا، انحسار كبير في اتجاه الحركة السياسية المناوئة لنوفمبر. وكانت أهم أسباب ذلك الانحسار
    ?بالإضافة إلى وفاة السيد الصديق- هو
    انسلاخ الحزب الشيوعي من جبهة الأحزاب عام 62، واتجاهه اتجاهاً مناوئاً قرر بموجبه العمل من داخل مؤسسات النظام لتقويضه من الداخل.
    وباتجاه الشيوعيين نحو سياسة التقويض من الداخل، وانسلاخه من جبهة الهيئات ذهبت الجبهة في سبات عميق..
    وقد ظلت كذلك حتى أيقظها من سباتها هدير الجماهير في 21 و22 و23 و24 أكتوبر 1964.
                  

11-17-2007, 01:04 AM

بكري الصايغ

تاريخ التسجيل: 11-16-2005
مجموع المشاركات: 19331

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: 17 نوفمبـر 1958- 2007: في الذكري ال49 عامآ علي انقـلاب ابراهيـم عـبود! (Re: بكري الصايغ)

    كاد عبود أن يؤمم الصحافة
    الأيام تقارن محاكمات العمال بمحاكمات نورمبرج للنازيين!!
    _____________________________________________________

    د. محمود قلندر:

    تعتبر مؤسسات الوعي في أي مجتمع هي أدوات مهمة لقياس موقف الجماهير من النظام السياسي الحاكم ولمعرفة حجم القبول الجماهيري الذي يتمتع به ذلك النظام. إثنان من أهم مؤسسات الوعي الوطني هما الجامعات والصحافة. نفرد هذه الحلقة للنظر في واحدة من هاتين المؤسستين، الصحافة، لكي نتمكن من الوقوف على تعامل نظام 17 نوفمبر مع تلك المؤسسة ومواقف مؤسسة الصحافة من النظام..
    عبود للصحافة: ممنوع الكتابة:
    _____________________________

    يمكن تلمس نوايا نظام نوفمبر وموقفه من الصحافة بالتمعن في ملابسات تعامل النظام منذ يومه الأول مع تلك المؤسسة. ففي يوم استلام عبود للسلطة، وفي أول مؤتمر صحفي له توجه عبود نحو الصحافة والصحفيين ناصحاً بأن لا يكتبوا أي شئ عن الحكومة الجديدة وسياستها. وبنص حديثه، فإن عبود عدد قائمة الممنوعات الصحفية على النحو التالي:
    " لا تكتبوا أي شيء ضد سياسة الحكومة، و لا تنتقدوا أعمالها في الأمور الداخلية والخارجية، ولاتعلقوا على هذه الأعمال بشئ، ولا تكتبوا عن الأحزاب السابقة أو الطوائف.. ولا تكتبوا معلقين أو منتقدين سياسة البلدان الأخرى"
    أما وزير الداخلية، أحمد عبد الوهاب فقد أعقب حديث عبود "بقائمة تفسيرية" لتلك الممنوعات، وقد ضمت القائمة التفسيرية لما ينبغي تجنب الخوض فيه ما يلي:
    "الأنباء التي تثير الشكوك حول أهداف الحكومة ومراميها، الأنباء والتعليقات الخاصة بسمعة الحكومة، الأنباء التي تسيء إلى العهد أو تقوض الثقة فيها، التعليقات التي تؤثر على علاقات السودان بالدول الأجنبية"
    والواقع أن الصحفيين فوجئوا بحديث عبود عن الممنوعات الكتابية، حتى صاروا يتندرون بشمولية القائمة التي لم تترك ساحة للنقد لهم سوى كرة القدم، ولكنهم خشوا من حرمانهم من نقد "حكام" الكرة. ومن فرط ما حاق بالصحفيين من ضباب، طالبوا النظام الجديد بتوضيح المجالات التي يمكنهم الكتابة فيها، وقد قامت وزارة الداخلية بالفعل بكتابة مذكرة توضيحية تحدد المجالات التي لا يمكن التطرق إليها، وهي تلك التي وردت فيها قائمة ممنوعات وزير الداخلية.

    قانون 1930 أول تعديل:
    _______________________

    بات واضحاً منذ البداية، أن نظام نوفمبر يعتبر الصحافة اللبرالية جزء من فوضى العهد الذي جاء على أنقاضه، ومن ثم فإن السيطرة عليه كانت ضمن قائمة أوليات النظام. فبعد فترة وجيزة، عمد النظام إلى تعديل قانون الصحافة لعام 1930، ليعيد التعامل مع الصحافة والصحفيين إلى وزير الداخلية، كما كانت في ظل الإدارة البريطانية، معبراً بذلك عن رؤيته للصحافة باعتبارها -ليست جهازاً إعلاميأً ومؤسسة للتوعية الوطنية- بل جهازاً للتحريض ضد السلطة وبث الفتن وترويج الشائعات. وبذلك زرعت نوفمبر بذور الشك في حقل علاقتها مع الصحافة.

    ورغم أن الشخص الذي تولى وزارة الإعلام بعد فترة اللواء طلعت فريد- كان يتميز بقربه من الصحفيين والإعلاميين- لما له من صلات بعالم الكرة القدم ومحبيها، فإن ذلك لم يؤثر كثيراً على جو العلاقة المتوترة بين الصحافة والحكومة. فالحكومة ظلت لها شكوكها في الصحافة، وسعت إلى تكبيلها بالقيود، وممارسة الضغوط الاقتصادية عليها، حتى سقط بعضها وبعض ملاكها ومحرريها في قبضة الحكومة.

    الصراحة: الضغوط تسقطها في براثن الحكومة:
    __________________________________________

    ولعل أصدق الأمثلة على ذلك هو ماحاق بالصراحة وصاحبها عبد الله رجب. فالمعروف أن الصراحة كانت واحداً من منابر اليسار ومن أكثرها شعبية. ولما جاء حكم عبود تعرضت الصحيفة إلى تضييق الخناق عليها، باعتبارها منبراً من منابر الشيوعيين الذين كانوا في واجهة المعارضة للنظام الجديد. سعى النظام ما أمكنه ليحرم الصحيفة من مصدر دخلها الأساسي وهو الإعلانات، فتعرضت الصحيفة من جراء ذلك غلى ديون كبيرة وكثرت عليها المطالبات، وجر صاحبها إلى المحاكم حتى لم يجد صاحبها منجاة مما هو فيه سوى اللجوء للنظام نفسه، والذي كان ينتظر لحظة الاستسلام تلك، فاتفق معه على دفع ديونه على أن تؤول الصحيفة إلى وزارة الإعلام. وبالفعل آلت الصحيفة إلى الحكومة فأصدرتها باسم الصراحة الجديدة تحت إشراف محمود أبو العزائم. وظلت الصراحة الجديدة صحيفة حكومية حتى غضب عليها عبود مرة.. وطلب من طلعت فريد أن يقوم بإيقافها.. ففعل!. ولكنه أغلق معها الصحافة..!ولا يعرف سبباً لإغلاق جريدة الصحافة يومها سوى مزاج طلعت فريد الذي استغل غضب عبود على الصراحة ليجعل الصحيفتين صريعتي تلك الغضبة. رغم أن عبد الرحمن مختار يظن أن صحيفته أوقفت لأنها أشارت إلى مظاهرات الطلاب في البرازيل في الصفحة الأولى بما يوحي بتحريضه للطلاب.

    ومع ادلهام الأمر عليه، وجد عبد الله رجب، صاحب الصراحة، نفسه مضطراً من بعد ذلك- إلى الاستناد على النظام في معاشه، فانضم إلى وزارة الإعلام ليستظل بجناحي طلعت فريد العريضتين، ومن ثم أصبح واحداً من أعمدة جريدة النظام الرسمية " الثورة" بل ورأس تحريرها في فترة لاحقة.
    تعطيل الصحف لنصف عام وعام كامل!
    العاملون في الصحافة اليوم السودانية والذين عايشوا تعطيل الصحف تحت قانون الصحافة ليوم أو يومين، لا يدركون أن نظام عبود مارس هذه البدعة منذ أربعة عقود من الزمان، وأن عقوبة التعطيل كانت تمتد أحياناً إلى نصف عام وفي بعض الأحيان عام كامل.

    وقد بدأ مسلسل تعطيل الصحف بصحيفة الأيام التي تعرضت إلى أكبر قدر من التعطيل خلال سنوات عبود. فقد أوقفت الصحيفة أوائل عام 59- لمدة نصف عام بعد نقدها لقرار محاكمة القيادات النقابية الشفيع أحمد الشيخ، والحاج عبد الرحمن بموجب قانون دفاع السودان، بواسطة محكمة عسكرية في أول سابقة في تاريخ السودان المستقل. وقد انتقد تعليق الصحيفة مبررات المحاكمة كما انتقد إجراءاتها و محاكمة المدنيين تحت محكمة عسكرية. بل وقالت الصحيفة إن محاكم نورمبرج سمحت للصحافة والرأي العام متابعة القضايا، في الوقت الذي لم يرتكب عمال السودان جرماً كجرم نازيي نورمبرج.

    ومع استمرار المواجهة بين الصحافة والحكومة أصبح تعطيل الصحف وإيقافها ديدن العلاقة بينهما، فقد أوقفت الأيام لمدة عام في 1962، والصحافة- والتي ولدت في تلك الفترة- لمدة نصف عام في 1962، ولعام كامل في 1963.. كما تم إيقاف عدة صحف أخرى منها السودان الجديد، والصباح الجديد. أما الصراحة والسودان الجديد والرأي العام فظلت تنشر آراء مناهضة للحكومة وتتسلم على ذلك إنذاراً وتوبيخاً وتهديداً.

    وكان منظر ساعي وزارة الداخلية الذي يأتي حاملاً مظروفاً مختوماً بالشمع الأحمر،كلما كانت هناك أزمة سياسية، منظراً مألوفاً في دور الصحف تلك الأيام، إذ كان المظروف في الغالب خطاباً من وزير الداخلية، وفي بعض الحالات وزير الإستعلامات، يمنع النشر ويحذر من مغبة ذلك. بل تلقت الصحف في مرات عديدة مذكرات من وزير الداخلية بمن لا يسمح له بالكتابة من الصحفيين والكتاب. وقد ظلت الصحف- على اختلافها- تتلقي مذكرات وزير الداخلية، تارة، ووزيرالإعلام تارة، مصحوبة بتوجيهاتهما بخصوص ما يجب أو لايجب أن يكتب حتى أخريات أيام النظام. بل إن الصحف خلال أسبوع ثورة أكتوبر وجدت نفسها محاصرة بالأمن والشرطة، حتى غدا صدورها مستحيلاً..

    الصحف تقاوم التأميم:
    ________________________

    مع تواصل موقف الصحافة المناهض للنظام، واستمرار بعض الاقلام في كيل النقد الموارب حيناً، وفي بعض الأحيان الصريح، أخذ نظام نوفمبر في تدبر أمر التعامل مع الصحافة كمؤسسة تملك إمكانات تعبئة الجماهير ويمكنها أن تكون سلاحاً شديد الخطورة على النظام. وقد فكر النظام في هذا الصدد في أمرين: أولهما هو التمثل بجمال عبد الناصر في مصر، والسيدة باندارانايكا في سري لانكا (سيلان وقتها) والعمل على اكتفاء شر الصحافة الحرة بتأميمها تماماً. والثاني هو الاتجاه إلى إنشاء صحيفة تنطق باسم النظام وتنافس الصحافة المعارضة.

    وبالرغم من أن ناصر وباندارانياكا كانت لهما خلفياتهما الأيديولوجية التي أوحت لهما قرارات تأميم الصحافة في بلديهما، فإن نظام عبود رأي- في بادئ الأمر- أن يتجه ذلك الاتجاه رغم أنه لم تكن له تلك الخلفية الأيديولوجية.

    ولكي يصبح التأميم أمراً مجمعاً عليه، أوعز وزير الإعلام، طلعت فريد، ومعه وكيل الوزارة محمد عامر بشير فوراوي، أوعزا لبعض الكتاب أن يقوموا بالكتابة الناقدة لحال الصحف يومها، مقترحين أمر تأميمها كسبيل لإصلاح حالها. فظهرت في تلك الفترة عدة مقالات تناولت فكرة تأميم الصحافة السودانية، ودعت اليها باعتبارها مخرجاً لأزمة الصحافة كما رأوا.

    وكان من بين أشهر الكاتبين تأييداً للتأميم الدكتور عبد الله الطيب، والذي برر تأييده لفكرة التأميم بحرصه على سلامة اللغة العربية، التي رآها في حالة من التدهور المستمر على أيدي الصحافة والصحفيين الذين تتشكل بهم معارف أجيال من القراء.

    وبالجانب المقابل تصدت أقلام كثيرة لمعارضة فكرة التأميم، فخاضت صحف الأيام والرأي العام، ونقيب الصحافيين، بشير محمد سعيد وعدد من الصحفيين،وساندهم في ذلك بعض أساتذة الجامعات كالدكتور مدثر عبد الرحيم، وبعض السياسيين، معركة صحفية ضد فكرة التأميم. وباستعار المعارضة لتأميم الصحف، لم تجد حكومة نوفمبر بداً من تعليق فكرة التأميم من بعد ذلك.

    جريدة الثورة: "بِرِشْ" النظام الخلاب:
    ___________________________________

    كان الخيار الآخر هو إصدار صحيفة سياسية خاصة بالنظام. وقد وقع النظام على ذلك الخيار فأنشأ صحيفته الرسمية التي أسماها "الثورة". وجاءت الثورة وقد توفرت لها من الأمكانات ما جعلها تفوق غيرها مظهراً. فكانت أول صحيفة بالحجم الكبير، في وقت لم تعرف فيه صحف السودان إلا حجم التابلويد. وقد حشد لها (عم طلعت) عدداً من الصحفيين البارزين، يتقدمهم قيلي أحمد عمر، ومنهم محمد الخليفة طه الريفي، وعبد الله رجب، وجاء من خلف هؤلاء جيل من شباب الصحفيين (في ذلك الوقت) من أمثال محمد الحسن أحمد.

    ورغم الإمكانات المتاحة، فشلت صحيفة الثورة في جذب القراء إليها، وصرفهم عن صحف مثل الأيام والرأي العام والصحافة الوليدة وقتها. ولم يشفع للثورة أنها حشدت الأقلام المتميزة ورصدت حوافز مادية عالية-مقارنة بغيرها- للكتاب والمحررين. فظلت الثورة تعاني من مرض الصحافة الرسمية، لوقت طويل حتى هداها هادٍ إلى فكرة تقديم مسابقة يومية، تجذب بها الصحيفة القراء، فارتفع توزيع الصحيفة بتلك المسابقة اليومية.

    بشير محمد سعيد يطالب بعودة العسكر للثكنات:
    ___________________________________________

    اتصلت مواقف الصحافة والصحفيين المنتقدة لنظام عبود، وظلت الصحف تشكل هاجساً من هواجس النظام يضاف إلى هواجس المعارضة الطلابية والعمالية والحزبية. وقد جاءت قمة المواجهة بين الصحافة ونظام عبود إثر مشاركة بشير محمد سعيد، نقيب الصحفيين السودانيين وقتها، في التوقيع على مذكرة الأحزاب التي رفعت للفريق إبراهيم عبود في التاسع والعشرين من نوفمبر 1960، بعد أيام من نهاية زيارة عبد الناصر التي قصد بها أن تمنح عبود دفعة سياسية مهمة. وقد طالبت تلك المذكرة عبود ونظامه الالتزام بما وعد من عودة الجيش إلى ثكناته بعد أداء مهام تحقيق الاستقرار.

    ولعل المهم في أمر توقيع بشير محمد سعيد على مذكرة الأحزاب تلك، هو تعبيره عن موقف الصحفيين من النظام العسكري كله. فقد اشتملت المذكرة على مطالب سياسية شاملة نادت بإنهاء الحكم العسكري وتسليم السلطة للمدنيين، ورفع حالة الطوارئ وعودة الحريات السياسية بما فيها حرية التعبير. وبالرغم من أن نظام نوفمبر قرر تجاهل تلك المذكرة في ذلك الوقت، إلا أنه أضطر لاحقاً إلى التعامل مع الناشطين في معارضته، ومن بينهم بشير محمد سعيد، فاعتقل لبعض الزمن، ثم خرج ليغادر السودان إلى الأمم المتحدة ليعمل في مكتب الإعلام بالمنظمة.

    وقد بلغ من حجم خنق 17نوفمبر لصوت الصحافة، أنها منعت كافة الصحف ليلة 21 أكتوبر 1964، نشر أنباء الندوة وصدامات الشرطة مع الطلاب ووفاة القرشي. فصدرت الصحف في يوم الثاني والعشرين من أكتوبر وليس في صفحاتها أية إشارة إلى الحدث الجلل الذي هز وجدان الشعب كله.
    وحدها صحيفة الأيام التي آثرت الاحتجاب في ذلك الصباح بعد أن رأي أصحابها الثلاثة، بشير ومحجوب ومحجوب، أنه من الأوفق على للصحيفة أن لا تصدر بدلاً من أن تصدر وليس على صدر صفحتها أهم نبأ في ذلك الوقت.

    لا غرو إذن أن يكون واحداً من أسس ميثاق أكتوبر هو حرية الصحافة وضمانات التعبير الصحفي الحر، فقد كانت نوفمبر بما ظنته سوطاً لاهباً للصحافة والصحفيين على مدى سنواتها الستة.
                  

11-17-2007, 12:34 PM

بكري الصايغ

تاريخ التسجيل: 11-16-2005
مجموع المشاركات: 19331

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: 17 نوفمبـر 1958- 2007: في الذكري ال49 عامآ علي انقـلاب ابراهيـم عـبود! (Re: بكري الصايغ)

    نوفمبر.. تاريخ ما أهمله التاريخ.
    -------------------------------------

    جميع الحقوق © 2006 لصجيفة " السودانى ".

    العدد رقم: 721

    2007-11-17


    عقيد ركن (م) أبو القاسم الأمين كشه:
    ________________________________

    تمضي الحياة في مسيرتها وتتعاقب الأيام والسنون والتاريخ يدون ولا يكتم سراً ولا ينسى وان ضعفت ذاكرة البشر... منذ فجر الاستقلال وبلادنا الحبيبة تتأرجح في الدائرة الخبيثة ما بين ديمقراطية يعقبها انقلاب فديمقراطية ثم انقلاب وهكذا دواليك.. اثنان وخمسون عاماً من الزمان والحال هو الحال ونحن سادرون حتى صار حكم البلاد وكأنه نزاع بينهما ولـ(فولتير) قول في هذا استحببناه (النزاع الطويل يعني ان كلاً من الطرفين على خطأ) فلماذا لا نقلب دفاترنا ونأخذ الدروس والعبر من التاريخ.. والويل لأمة لا تقرأ تاريخها.. فلا عيب في الرجوع للماضي ولكن بشرط ان يكون ذلك الرجوع بغرض استصحاب العبر والتجارب منه للافادة منها في صياغة الحاضر والانطلاق للمستقبل المشرق فانعدام الماضي يعني تدهور الحاضر وضياع المستقبل..

    أكتب اليوم وكما يقول جبرا إبراهيم جبرا (الكتابة هي هذا الضوء الذي ينزل من السقف فينير لي الطريق في هذا النفق الذي يشير إلىّ باستمرار للاتجاه نحوه لأن فيها خلالاً لا لنفسي فقط وانما لعصري ولذلك أنا أكتب) أكتب وفي ذهني قاعدة صحفية ذهبية تقول (التعليق حر ولكن الحقائق محترمة) واليوم أروي عن حقبة من تلك الحقب صارت جزءاً من تاريخنا رضينا أم أبينا اتفقنا فيها أو اختلفنا.. ابدأ وأقول ما استهوتني السياسة ولم تستهوني قط ولم أسير في ركابها أو دروبها ومنحنياتها المتعرجة برغم حقي عليها واستحقاقي لها فقد عشت فترة من حياتي العملية بالقرب من.. بل مع صناع القرار عرفت فيها الكثير حتى صارت بالنسبة لي بئراً لا أردها ولا يطيب لي ماؤها وهذا ليس موضوعنا فمعذرة.

    في مثل صبيحة هذا اليوم 17 نوفمبر من العام 1958 استيقظت الأمة السودانية بل العالم أجمع على مارشات عسكرية من إذاعة أم درمان يتخللها من حين لآخر صوت المذيع يقول ويكرر بيان هام ترقبوه..

    حتى جاء صوت هادئ النبرات واثق الكلمات واضح العبارات بدأ بقوله (كلكلم يعرف ويدرك ما وصلت إليه البلاد من اضطراب وفوضى.. واننا إذ نقوم بهذا التغيير لا نرجو وراء ذلك نفعاً ولا كسباً ولا نضمر لأحد عداء ولا نحمل حقداً.. لذا أطلب من الجميع ان يلزموا السكينة والهدوء كل يقوم بعمله بإخلاص تام للدولة الموظف في مكتبه والعامل في مصنعه والمزارع في حقله والتاجر في متجره) كان ذلك الصوت الهادئ الوقور صوت الفريق إبراهيم عبود طيب الله ثراه معلناً استلام السلطة في أول انقلاب عسكري يحدث في العالم دون تآمر ودون سطو على السلطة بليل أو بواسطة رتب وسيطة أو من أصاغر الضباط ودون انحياز لفكر معين أو ايدولوجية بعينها أو انتماء حزبي وانما كان وكما اتضح جلياً بعد ذلك عملية تسليم وتسلم بين قمة السياسيين المدنيين وقيادة القوات المسلحة ولم يكن حباً في السلطة ولا شهوة في السلطان وبقدر ما كان الاصرار من الجانب المدني كان الرفض والتمنع من الجانب العسكري إلى ان قبلت أخيراً القوات المسلحة بكل هيئاتها وقيادتها وباجماع تام لذا حافظت على مهنية واحترافية القوات المسلحة والتي اشتهرت بها وكان ذلك برداً وسلاماً عليها فلم تختل احتراميتها ولم يهتز انضباطها وبذا حفظت القوات المسلحة وحافظت على صورتها العظيمة افريقيا وعربياً واقليميا ودولياً وتلك تعد من مفاخر نظام 17 نوفمبر حافظت على مهنية واحترافية القوات المسلحة وهي تقدم على الانقلاب وتركت الحكم وبقيت القوات المسلحة كما قال الزعيم أزهري في الاستقلال (كصحن الصيني لا طق ولا شق) يقابل ذلك ان الخدمة المدنية كانت صادقة وأمينة عريقة ودقيقة لان يد التطهير لم تطلها ولم تمتد إليها قوائم (الصالح العام) فحافظت على ارثها التليد وتقاليدها الحميدة ومفخرة البريطانيين الذين قالوا عنها يومها انها الثانية لخدمتهم المدنية خارج بلادهم.. وظلوا يتحدثون عنها باعجاب.. وعندما اجتمع بقيادتهم الفريق عبود حملهم ورفاقهم في القوات المسلحة المسؤولية للنهوض بالدولة.. ثبات الجيش بقياداته وتراتبيته وأقدميته والتي تعتبر العمود الفقري والحفاظ على الخدمة المدنية جعل التناغم والانضباط ديدن دولاب العمل الحكومي عسكرياً ومدنياً. وكان المعيار العادل والدقيق هو الكفاءة قبل الثقة عكس كل الحكومات السابقة واللاحقة مما انعكس على البلاد نمواً وتطوراً وازدهاراً.. وبلغة الرياضيين ثبات التشكيلة يؤدي إلى التجانس والتفاهم فيكون الانتصار وبذا تتحقق المرامي والأهداف.. بهذا كان نظام 17 نوفمبر بعيد النظر في تقديره للأمور بل واقعي.. لم يتعال على الممكن متعلقاً بالمستحيل لأن الواقعي هو الذي يقيم إصلاحاً يتيح الفرصة لإصلاح آخر على معجزة مستحيلة من شاكلة إعادة صياغة الفرد السوداني أو إعادة صياغة المجتمع من ادعياء المعرفة وحملت الشعارات البراقية والفضفاضة وأصحاب النظريات بما يحفظونه من مترادفات ومفردات والفاظ. والفاظنا كما يعبر محمد حسنين هيكل تعبر في كثير من الأحيان عن أكثر ما تقصده وأكثر مما تستطيع.. لذا إتخذوا من السياسة قول ابن القيم الجوزية (السياسة كل عمل يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وان لم يأت به رسول ولا نزل به وحي) ولأنهم رجال اكتسبوا المكون الأخلاقي في مسلكهم من الجذور العميقة التي ارتبطوا بها في أشرف المهن القوات المسلحة وبالأرض والعرض وجميعهم خاضوا الحرب العالمية الثانية فعرفوا معنى الوطن والوطنية والتضحيات الغالية ومعنى التحرر من المستعمر ومن التسلط ولأنهم عمليون كان شعارهم ثلاث كلمات لم يزيدوا أو يزايدوا عليها (أحكموا علينا بأعمالنا) فإن أعمالهم ومنجزاتهم تحتاج لمجلدات ولأن حيز الجريدة محدد سأختصر ما أمكن:-
    في أي طرف من الرداء اتحدث عن رجال 17 نوفمبر عن تطويرهم للقوات المسلحة عن الاقتصاد.. عن التعليم.. عن الصحة.. عن الزراعة أم التصنيع بعد ان حافظوا على مهنية القوات وتماسكها بدأوا في تطويرها وتنوع مصادر تسليحها فاتجهوا لالمانيا الغربية وعقدوا صفقة كبيرة للسلاح واختاروا أحدث ما وصل اليه تسليح حلف شمال الاطلسي فارفدوا المشاة بأحدث الأسلحة إلى يومنا هذا البندقية ج 3 والرشاشات 42 ومدافع البانزر باديت وقطع المدفعية وعربات وشاحنات المجروس وكونوا أول كتيبة لهذه الأسلحة اسموها الكتيبة المثالية والتي على منوالها حذت بقية الكتائب والألوية ثم اتجهت لسلاح الطيران والذي كان يومها قوامه أربع طائرات جاءت هدية من مصر حيث أدخلت طائرات الداكوتا والبمبروك والدورنير في مجال النقل ثم البروفوست للتدريب وحفظ الأمن ومن ثم تم تأسيس سلاح البحرية وتبعه تأسيس سلاح المظلات والذي ولد عملاقاً باختيار أميز الضباط لإنشائه ومن ثم تطور إلى ان وصل ما هو عليه اليوم.. ثم إنشئ مصنع الذخيرة ومن ثم تحسين شروط الخدمة وكل مستلزمات الأفراد من سكن ومهمات وملبوسات ومنشآت الشئ الذي ساعد كثيراً في جاهزية القوات لمقابلة كل الظروف مما كان محل اشادة الجميع واشراكها ضمن قوات الأمم المتحدة لإعادة النظام والأمن في الكنغو وضمن القوات العربية في الكويت عند تهديد عبد الكريم قاسم باحتلالها.. أما السياسة الخارجية فقد كانت متوازنة وحكيمة حكمة قائدها الوقور بين الشرق والغرب فزار كلاً من الاتحاد السوفيتي والذي تلقى منه عروضاً لإنشاء أكبر المصانع كما زار الولايات المتحدة الأمريكية وكان شرفاً وتكريماً له وللسودان حينما أمر جون كنيدي بإرسال الطائرة الرئاسة لتقله من الخرطوم إلى واشنطون حيث استقبله هنالك على سلمها أما زيارته لالمانيا الغربية فقد اثمرت زيادة على تسليح الجيش إنشاء تلفزيون السودان ومعاهد التدريب المهني وتشييد مصنع سكر الجنيد واتجه شرقاً فزار الصين والهند وباكستان وإتخذ خطوته الشجاعة بالاعتراف بالصين الشعبية فكان من المبادرين في ذلك كما زار يوغسلافيا ودولاً كثيرة من العالم العربي شملت الكويت والسعودية وجمهورية مصر وسوريا والأردن وكان عند عودته المظفرة من كل دولة لديه تصريح يكاد يكون محفوظاً (جئتكم بصداقة الشعوب).. أما التصنيع فالحديث عنه يطول فقد قامت مصانع سكر الجنيد ومصنع سكر خشم القربة حتى يتحقق الاكتفاء الذاتي وقامت صناعات الزيوت والصابون واوقف استيرادهم ومصنع الكرتون باروما ومصانع تعليب الفاكهة في واو وكريمة ومصنع تجفيف البصل في كسلا ومصنع تجفيف الألبان في بابنوسة بجانب صوامع الغلال في القضارف وبورتسودان ومصانع النسيج والصناعات الهندسية وطباعة الورق والتغليف والصناعات الغذائية ومصانع الكبريت أما الزراعة فلو لم يفعلوا شيئاً سوى إمتداد المناقل توأم الجزيرة لكفاهم ولكنهم بجانبه انشأوا المزارع التجريبية في جبل مرة واثبتت نجاحاً منقطع النظير لزراعة الخضر والفواكه وزراعة البن والتباكو بالاستوائية وتطورت صناعة الأخشاب.. ثم مشروع ملوط الزراعي أما في مجال التعليم فيكفي قول اللواء طلعت فريد طيب الله ثراه التعليم لكل طفل ولو تحت ظلال الأشجار وارتفعت المدارس المتوسطة لخمسة أضعاف ومدارس البنات أربعة اضعافها والثانوي من 8 مدارس إلى 17 مدرسة بنسبة 100% أيضاً افتتحت جامعة القاهرة فرع الخرطوم لكليات الحقوق والتجارة والآداب ومعهد المعلمين العالي والذي اضيف إلى جامعة الخرطوم وسمي كلية التربية.. وفي المواصلات إمتدت السكك الحديدية حتى نيالا وبابنوسة في الغرب وللجنوب من نيالا وحتى أويل ثم واو بجانب خط سنار الدمازين – كما انشئت الخطوط البحرية وتوسعت الخطوط الجوية وشملت كثيراً من بلاد العالم- أما الاسكان في المدن الثلاث فشملت العمارات- والشعبية بحري- والثورة أم درمان والصافية وإمتداد الدرجة الثالثة أما الخدمات الصحية فأنشئت 68 مستشفى على رأسها مستشفى الخرطوم الجديدة وأكثر من ألف نقطة غيار وشفخانة ومركز صحي.
    كانت ست سنوات ولكن بحسبان الانجاز فإنها عشرات السنين وكانت بحق وحقيقة أفضل العهود التي عاشها أهل السودان.. كان فيها الجنيه السوداني يساوي ثلاثة وثلث دولار ويساوي (11 ريالاً) هذا غيض من فيض وبعض من شذرات طافت بذهني في هذا اليوم 17 نوفمبر وفاء لرجال هم الآن جميعاً في رحاب الله والوفاء بعض من شمائلنا وخصالنا أو هكذا ينبغي له ان يكون – رجال جاءوا للسلطة مكرهين وحكموا نزيهين ومتجردين ويكفي مثالاً ان رئيسهم والذي إلى ان ترك الحكم كان مديوناً للبنك مبلغ 4.500 أربعة آلاف وخمسمائة جنيه سلفية بناء منزله المتواضع شارع 45 الإمتداد والتي استقطعت بعد ذلك من معاشه المتواضع وهذا المنزل لا يختلف كثيراً عما حوله ان لم يكن أقلهم بزخاً وعمراناً وبياناً.. ان عهد عبود ينبغي ان لا يمر مرور الكرام في يوم ذكراه بل الوقوف عنده طويلاً واستخلاص العبر والدروس لرجال لو أرادوا الاستمرار في الحكم على جثث وأشلاء الآلاف لكان لهم ما ارادوا لكنهم سلموا الحكم راضين فجنبوا البلاد ارتالاً من الضحايا والاشلاء والخراب والدمار.. اننا بحق نجيد صناعة التاريخ ولكن المؤلم اننا لا نجيد كتابته- هل تذكرون ذلك الهتاف العفوي (ضيعناك وضعنا معاك) يا عبود.. فألسنة الخلق أقلام الحق – حتى تجنب الرجل ارتياد الأماكن العامة ولجم تحركاته وهذا يذكرني قول الشاعر:
    دعوت على عمرو فمات وسرني وبليت باقوام فبكيت على عمرو

    ان رجال 17 نوفمبر استلموا السلطة كباراً وحكموا كباراً وتنحوا كباراً هم في أعظم أبناء هذا الوطن ما جبنوا وما خانوا راعوا مصالح الأمة وكما جاء في الأثر (حيثما تكون مصالح الناس هنالك شرع الله) لم يتركوا من عرض الدنيا الزائل سوى السيرة الحسنة والكلمة الطيبة التي هي أطول من العمر في تاريخ يوم انقلابهم سلام عليهم في الخالدين.

    أخيراً لابد لي ان أشكر الصديق العون اللواء مصطفى الزين صغيرون لعونه ولما أمدني به من سفر عظيم لمؤلفه الأمين عبد الرحمن مما ساعدني كثيراً في ابراز هذه المادة والتي آمل ان تنال رضى الأجيال التي عاشت تلك الحقبة وان يعرف شباب اليوم ما قدمه الآباء والجدود فالوطن والتاريخ ملك للجميع.. والله من وراء القصد.
                  

11-17-2007, 01:29 PM

اسعد الريفى
<aاسعد الريفى
تاريخ التسجيل: 01-21-2007
مجموع المشاركات: 6925

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: 17 نوفمبـر 1958- 2007: في الذكري ال49 عامآ علي انقـلاب ابراهيـم عـبود! (Re: بكري الصايغ)

    ان عهد عبود ينبغي ان لا يمر مرور الكرام في يوم ذكراه بل الوقوف عنده طويلاً واستخلاص العبر والدروس لرجال لو أرادوا الاستمرار في الحكم على جثث وأشلاء الآلاف لكان لهم ما ارادوا لكنهم سلموا الحكم راضين فجنبوا البلاد ارتالاً من الضحايا والاشلاء والخراب والدمار.. اننا بحق نجيد صناعة التاريخ ولكن المؤلم اننا لا نجيد كتابته- هل تذكرون ذلك الهتاف العفوي (ضيعناك وضعنا معاك) يا عبود.. فألسنة الخلق أقلام الحق – حتى تجنب الرجل ارتياد الأماكن العامة ولجم تحركاته وهذا يذكرني قول الشاعر:
    دعوت على عمرو فمات وسرني وبليت باقوام فبكيت على عمرو

    ان رجال 17 نوفمبر استلموا السلطة كباراً وحكموا كباراً وتنحوا كباراً هم في أعظم أبناء هذا الوطن ما جبنوا وما خانوا راعوا مصالح الأمة وكما جاء في الأثر (حيثما تكون مصالح الناس هنالك شرع الله) لم يتركوا من عرض الدنيا الزائل سوى السيرة الحسنة والكلمة الطيبة التي هي أطول من العمر في تاريخ يوم انقلابهم سلام عليهم في الخالدين.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de