الجذور التاريخية لانتشار ظاهرة الهوس الديني في العالم الإسلامي..د. محمد سعيد القدال

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 03-29-2024, 11:32 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-20-2007, 06:57 PM

امبدويات
<aامبدويات
تاريخ التسجيل: 06-06-2002
مجموع المشاركات: 2055

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الجذور التاريخية لانتشار ظاهرة الهوس الديني في العالم الإسلامي..د. محمد سعيد القدال

    الجذور التاريخية لانتشار ظاهرة الهوس الديني في العالم الإسلامي

    د. محمد سعيد القدال

    السوداني 23-9-2007

    تجتاح العالم الإسلامي أمواج عاتية من العنف الذي لم يشهده في تاريخه. وهذه الموجة العاتية من العنف لها عدة مسميات. فتسمى الأصولية أو الإسلام السياسي أو التأسلم أو الإسلاموية وغيرها. على أننا نفضل استعمال الهوس الديني لأنها الصفة المشتركة بين تلك الحركات على اختلاف مظاهرها ومراميها، ولاتها الصفة التي تعطيعها الوصف المميز لها، فالذي يحدث هذا ما هو إلا طيش وانفلات مجنون. ورغم ان كل واحدة من تلك الحركات لها خصوصيتها في كل بلد إسلامي وتختلف درجاتها من الهوس والتعصب. إلا إن بينها خصائص مشتركة وهي التي سوف نتناولها في هذه الدراسة عن الجذور التي خرجت منها. فما هي الجذور التاريخية التي تشكلت فيها معالم تلك الحركات واتخذت منها صفاتها ؟ نتناول أولا المعالم الأساسية للظاهرة، ثم الصفات المشتركة بينها وأخيراً الجذور التي خرجت منها.

    انتشرت ظاهرة الهوس الديني في العقدين الأخيرين من القرن العشرين بين قطاع واسع من جيل الشباب، جيل الغد. وهم جيل ايجابي وليس سلبياً رغم اختلافنا معه في التعبير عن ايجابية، فلم يتجه إلى إدمان المخدرات أو السقوط في مستنقعات الرذيلة التي أخذت تحاصره من عدة جهات، بل خرج بعضه مضحيا بحياته في سبيل ما يؤمن به. وإذا استرخص الإنسان حياته من أجل المبدأ فهذا الأمر يحتاج لتمحيص متروٍ وفحص عميق، وليس مجرد الردع بقوات الطوارئ والوعظ المسطح الغث، فالأمر ليس مجرد إرهاب. كما انه ليس تعصباً للدين وإلا لانتشر وسط الكهول والشيوخ أيضا ولما اقتصر على جيل الشباب. إنها ظاهرة تحتاج إلى فحص، فهذا الجيل من الشباب المهووس ليسوا أعداء من الخارج بل من داخل أسرنا ومجتمعنا. فلابد من البحث عن الأسباب التي أدت إلى هذا الجنوح الذي أصابهم.

    المعلم الثاني، ان الظاهرة انتشرت بين جيل الشباب في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، واتسع انتشارها بشكل عنيف منذ منتصف الثمانينات. فلماذا أصبح قطاع واسع من جيل الشباب مهووساً دينياً في أخريات القرن الماضي؟ وحتى إذا قبلنا تسمية صحوة، فسوف تجابهنا عدة أسئلة : لماذا الصحوة الآن ولماذا اقتصرت على الشباب ولم تمتد إلى الكهول أو إلى الشيوخ الذين ترعرعوا في كتف العقيدة الإسلامية؟ فنحن أمام ظاهرة انتشرت بين قطاع معين من الشباب وخلال فترة زمنية معينة، فلماذا؟ هذا هو السؤال الملح.

    ما هي الصفات الأساسية لظاهرة الهوس الديني؟ تركز أجهزة الإعلام على الإرهاب باعتباره الصفة المميزة للتعصب الديني. ذلك أن الإرهاب مثير وعنيف ويودي بأرواح الناس فوجد تركيزاً في الأجهزة الإعلامية. ولكن ليس كل من هو مهووس ومتعصب دينياً إرهابياً. قد يكون رصيداً للإرهاب، لكنه لا يمارس بالضرورة الإرهاب. فالإرهاب صفة لشريحة من المهووسين دينيا. وهو تعبير عن مرحلة منفلتة. كما ان الإرهاب موجود بين المهووسين دينياً وغير المهووسين. وموجود في البلاد العربية وغير العربية. ولاشك أن الإعلام يلعب دوراً سلبياً لحد بعيد، فهو إعلام تسيطر عليه المؤسسات الرأسمالية أو الطفيلية. ولذلك تعمل على صرف الأنظار عن جوهر الأزمة، لإضعاف الحس النقدي لدى الشباب حتى لا يصلوا إلى الطفيلية، فالإرهاب تمارسه شريحة من المهووسين دينيا. ولا يقتصر الإرهاب عليهم فيمارسه الهندوس والصهاينة كما مارسته التنظيمات الفلسطينية، ومارسه من قبل النازيون بشكل همجي.

    الصفة الثانية التي تنتشر على نطاق واسع بين المهووسين دينيا هي التركيز على المظاهر الخارجية والطقوس بشكل مبالغ فيه، هذه أخطر مظاهر الهوس الديني، لأنها تجعل الشباب يتمسك بالقشور دون الجوهر، ويتباهى بها. وأبرزها انتشار الحجاب بين الفتيات، أو ما يسمى اللبس الإسلامي. وليس للإسلام لبس محدد للنساء. لذلك نجد أنواعاً مختلفة من الحجاب تمتد من تغطية الشعر إلى تغطية كل الجسم بما في ذلك أصابع اليدين والرجلين بلباس أسود في طقس حار جداً تصل الحرارة فيه درجات عالية، وهناك مثل صارخ : قبل أعوام خلت رأى احد الشباب في الجزائر من المهووسين أن لبس إحدى الفتيات ليس إسلاميا فأطلق عليها الرصاص وأرداها قتيله. فذلك الشاب نصب من نفسه حكماً يقرر ماذا يكون عليه اللبس الإسلامي، ثم ارتقى منصة القضاء وأصدر حكما بإعدام الفتاة وتولى أخيراً دور الجلاد فقام بتنفيذ الحكم. وحتى إذا فرضنا أن اللبس ليس إسلاميا حسب زعمه فهل عقوبة ذلك الإعدام؟ وهذا مثال جانح للهوس الديني. ودونكم والحجاب الذي تفرضه حركة طالبان على النساء في أفغانستان.

    وانفجرت في مصر معركة عام 2006 حول النقاب، عندما قالت د. سعاد صالح عميدة كلية الدراسات الإسلامية في جامعة حلوان إن النقاب ليس من الإسلام، وأن النقاب عادة وليس فريضة. فصدرت فتوى بإهدار دمها. وقال أحد أئمة المساجد: لو رأيت سعاد صالح لقتلتها على فتواها بأن النقاب ليس فريضة.

    الأمر الأهم ان الفتيات أصبحن يتحجبن بأشكال مختلفة بالذات في العقد الأخير من القرن الماضي، بينما كان الحجاب قاصراً في الماضي على النساء دون الفتيات. وحتى ذلك الحجاب كان في حدود معينه فما الذي حدث حتى ارتدت الفتيات إلى الحجاب الذي عارضه الإمام محمد عبده وقاسم أمين وهدى شعراوي وجيل كامل من رواد الاستنارة المسلمين؟ وكيف تقبل المرأة بالحجاب الذي يرتد بها من إنسان إلى عورة؟ ولماذا اغلب الحجاب لونه اسود في بلاد حرارتها عالية وهل هو مظهر للتدين أم مزايدة؟

    وانتشرت بين الشباب ظاهرة إطالة اللحية. ليس هناك غرابة في إطالة اللحية، فها هو جيل الشباب في البلاد الغربية يطلق لحاه. ولكن الغريب هو انتشارها بين الشباب وليس الشيوخ وفي سنوات بعينها. وقد امتعض المتنبي قبل ألف عام حتى من هذه الظاهرة وقال بيت شعره المشهور:

    أغاية الدين أن تحفوا شواربكم يا امة ضحكت من جهلها الأمم؟

    ومن المظاهر الخارجية التي انتشرت أيضا الجلباب القصير أو تقصير البنطلون،لأن اللبس الطويل كان لبس الأباطرة والملوك، واللبس القصير يعبر عن قصور الإنسان وينطوي على نزعة تصوف.

    كل هذه المظاهر الخارجية تعطي الشباب إحساساً بالذاتية وتفرداً، وتمنحهم المظاهر الخارجية المشتركة انتماءً وتواصلاً ورابطة تجمع بينهم دون تعقيد فكأنهم في فيلق عسكري. ويجدون في تلك المظاهر المشتركة حماية وجداراً يتكئون عليه في وقت أصبح السقوط في الهاوية قاب قوسين أو أدنى. كما أن تلك المظاهر هي الجانب السهل الذي لا يحتاج الأخذ به إلى كبير عناء.

    إن اقتفاء سيرة الرسول ليس لحية وجلباباً قصيراً ومسواكاً، ولكن الاقتفاء بتلك السيرة العطرة أكثر مشقة من ذلك. إن سيرة الرسول (ص) تمثل انسجاماً لا تناقض فيه بين سلوكه الشخصي ونشاطه العلمي والدعوة التي حمل أمانتها، تتداخل كلها معاً في نسيج واحد لا انفصام ولا تناقض فيه. هذا ما أعطى الرسول (ص) مكانته المتفردة نموذجاً أعلى للإنسان الكامل، ويرتقي الإنسان كلما اقترب من ذلك الكمال. وهذا هو الأمر الشاق الذي يحتاج إلى مجاهدة حقيقية للنفس. أما المظاهر الخارجية أمرها سهل ويستطيع أن يأخذ بها من هو صادق ومن هو أفاك.

    _______________________

    الجذور التاريخية لانتشار ظاهرة الهوس الديني (2)

    د. محمد سعيد القدال

    السوداني 30-9-2007

    نواصل تناول الصفات التي تتسم بها ظاهرة الهوس الديني. الصفة الثالثة هي النفور الذي يصل أحيانا مرحلة العداء لأغلب مظاهر الإبداع من فنّ وموسيقى وغناء ومسرح ورقص، باعتبارها مظاهر تفسّخ وانحلال. وربما كان في ممارسة البعض لتلك الجوانب ما ينفّر منها، ولكن حركة الإبداع أعمق من ذلك، وقد أعطت حياة البشر عمقا وبعدا وثّق من انتماء البشر إلى الكون وإلى خالقه. وفى الوقت الذي يهاجم فيه اليوم بعض أئمة المساجد قمم الإبداع ، نجد الإمام محمد عبده يكتب إلى تولستوي الروائي الروسي رسالة في مطلع القرن العشرين يشيد برواياته التي تمجد القيم الخيرة في الإنسان. فتجسيد هذه القيم روائيا يختلف عن الوعظ، لأن الإبداع أكثر مشقة ويحتاج إلى مقدرات في الخلق والابتكار. ولذلك لن تجد بين جيل الشباب المهووس دينيا أي مبدع. بل حاول أحدهم اغتيال نجيب محفوظ دون أن يكون قد قرأ رواية من رواياته، في الوقت الذي تقرأ فيه هذه الروايات على امتداد كوكبنا بمختلف اللغات. وقامت حركة طالبان بتحطيم أجهزة الراديو والتلفزيون لأنها مظهر تفسخ، بينما ينطلق مقاتلوها بالدبابات والمدافع التي تحصد أرواح الناس . وتنتشر فيها زراعة وتجارة المخدرات التي تدمر الشباب فتزوي أيامهم.

    الصفة الرابعة ،الموقف المعادى للمرأة، مع وجود اختلافات في ذلك الموقف. فهم ضدّ عمل المرأة وبعضهم يشتط وينادى بعدم خروجها من المنزل. ويصرّون على الفصل بين الجنسين في الجامعات والمعاهد. ولا يعارضون تعدد الزوجات. ويصل هذا الموقف إحدى قمم التطرف في ما ذهب إليه الشيخ عبد العزيز بن باز من أن عمل المرأة مثل الدعارة. وتعبر حركة طالبان في موقفها من المرأة عن أقصى ما وصل إليه الهوس الديني من درك سحيق. والشيء الغريب أن بعض الفتيات يشاركن من هذه الأفكار التي تحيلهن إلى حريم وإلى مواطنات من الدرجة الثانية أو ما دون ذلك. ويبدو أن هؤلاء لم يطلعوا على ما قاله القرآن عن المرأة، أو قرأوه بعيون الموتى.

    الصفة الخامسة الاقتناع المطلق بصحة الرأي. فلا يحتملون الرأي الآخر ويعتبرونه خروجا على الحقيقة ومروقاً. بل قد يكفّرون صاحب الرأي الآخر لمجرد اختلافه معهم. وهذا ما يدفعهم إلى مجابهة مخالفيهم بالعنف الجسدي. ولا يميلون إلى مناقشة الآخرين. فهم آلة فكرية صماء مورست عليها درجة كبيرة من غسيل المخ. لذلك يحفظون نصوصاً يستشهدون بها يمنة ويسرة دون تمحيصها ويرفضون أي رأي عقلاني حولها. ولذلك قامت إحدى جماعات الهوس الديني بتأسيس جامعة اسمها "جامعة الإيمان"، وهو أمر ينافي تماما رسالة الجامعة. فالجامعة تجمع مختلف التخصصات ومختلف التيارات الفكرية، وتصطرع كلها في إطار المنهج العلمي، وهذا ما جعل الجامعات تصبح منارات عالية. أما جامعة الإيمان فهي ملهاة هزلية.

    الصفة السادسة تداولهم كتبا معينة وقراءتها دون تفكير ناقد، باعتبار أن ما جاء فيها مسلمات. وليست هناك غرابة في قراءة هذه الكتب، إنما الغرابة في الانتشار الواسع لهذه الكتب بين جيل الشباب في فترة زمنية معينة. فما الذي يجمع بين أفكار هؤلاء الكتاب مما أعطاها هذا الرواج بين الجيل المهووس دينيا؟ كتبوا جميعهم في ظروف أزمات حادة. ففي القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلادي واجه العالم الإسلامي التتار من الشرق والصليبيين من الغرب وصراعات الحكام داخل البلاد العربية والانحرافات الجانحة لبعض الفرق الصوفية. فانبرى ابن تيمية للدفاع عن الهوية الإسلامية بالعودة إلى السلفية. وكانت سلفيته المتزمتة تمسكا بمعيار ثابت في مواجهة تلك الغزوات والتشققات. وعاش ابن كثير في ظروف أزمة حادة أيضا. وتعكس أفكار المودودي أزمة القلة المسلمة وسط طوفان من الهندوس. وفى إطار تلك الأزمة تشكلت مرتكزاته الأيديولوجية. وكتب سيد قطب "معالم في الطريق" وهو في سجون عبد الناصر، وحركة الإخوان المسلمين في قمة أزمتها ولا تستبين أمامها أفقا واضح المعالم. وتحول سيد قطب من الكتابة عن "معركة الإسلام والرأسمالية" و"العدالة الاجتماعية في الإسلام" و"التصوير الفني في القرآن" إلى الجاهلية الجديدة في كتابه "معالم في الطريق" و كتابه "مشاهد القيامة في القرآن". وظل كتاب "معالم في الطريق" متداولا طوال عهد عبد الناصر، وطبع ثلاث مرات بأمر عبد الناصر رغم اعتراض الأجهزة الأمنية، لأن أجهزة الأمن تنظر تحت رجليها وليس لها أفق سياسي عريض، لذلك لم يجد الكتاب الرواج الذي لقيه فيما بعد. فهذه كتابات مأزومة إن صح التعبير. والكتابات التي تستسلم لمحاصرة الأزمة لا تضيء طريقا ولا تنير بصيرة. ولم يحدث أن خرج فكر مأزوم من ضبابية الوضع المأزوم وعتمته، لأنه يكون في الغالب ردّ فعل للأزمة، فيرتد إلى ظلمات الماضي ليختبئ فيها من نور الحاضر الذي يرتعد من وهج ضيائه.

    وأصبح لأولئك الكتاب نسخ جديدة استغلت معطيات ثورة الاتصالات من تلفزيون وكاسيت وفيديو، وأخذوا يروّجون لأفكار غثة تجد لها استجابة وسط مشاعر جيل الشباب المهووس وهم في حالة توقف العقل و غيبة الوعي. فهم يهاجمون الحضارة الغربية المتفسخة المنهارة من فوق الأجهزة التى ابتدعتها تلك الحضارة. دون أن يحفلوا بالتناقض الصارخ في موقفهم الانفصامي.

    لماذا حدث هذا؟ مثل هذه الظاهرة تحتاج إلى تمحيص يغوص إلى القاع ويشارك فيه مختلف الكتاب. و يجب أن يتحول الحكام من الدفاع عن أنظمتهم المهترئة وعروشهم المهتزة إلى التصدي لهذه الظاهرة التي تهدد جيلا بأكمله، جيل الغد. وسوف نحاول أن نتتبع الجذور التاريخية التي يمكن أن تفسر بروز وانتشار هذه الظاهرة في السنوات الأخيرة، وننظر إليها نظرة شمولية، لعل هذا يساعد في فتح المزيد من قنوات الحوار، ويساعد على الخروج من سياسة الردع إلى المعالجة الموضوعية للظاهرة.

    _______________________

    الجذور التاريخية لانتشار ظاهرة الهوس الديني (3)

    د. محمد سعيد القدال

    السوداني 7-10-2007

    نتناول أولاً تطور الأوضاع السياسية في البلاد العربية. كانت الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، هي سنوات التحرر الوطني وبروز المشاعر القومية المفعمة بالأمل الكبير لتحقيق الاستقلال والدولة القومية والاقتراب من حلم الوحدة العربية. وكانت الآمال ساطعة حتى يكاد يلامسها البعض بـأطراف أصابعه. ولم يكن الناس في ذلك الوقت يعيشون في بحبوحة من العيش. ولكن كان هناك الأمل. فتحملوا ما كان يصيبهم من ضيق انتظاراً للأمل، أمل الدولة القومية المستقلة التي سينعمون تحت أفيائها. وأمل الغد المشرق يجعل الإنسان أكثر قدرة على تحمل الصعاب. وكانت تلك الآمال تتماوج بدرجات مختلفة بين الشعوب العربية، ولكن الأمل لم يغب. ولعل الناس قد توقعوا الكثير من الاستقلال، بل لعلهم قد بالغوا في توقعاتهم، مما عمّق من خيبة الأمل فيما بعد.

    وتحقق الاستقلال وبرزت الدول القومية، ولكن الحلم أخذ يتراجع، بل اختفى بعضه لدى ثلة من الآخرين. فلم يصاحب ميلاد تلك الدول بداية تبلور الحلم الذي ترقب الناس سناه، وإنما غشيته ضبابية وأخذت الأزمة تزحف بسحائبها السوداء. وغدت أفناء الحلم سراباً. ولم تكن نكسة 1967 بداية الأزمة وانهيار الحلم، ولكنها كانت معلماً صارخاً في درب الإخفاق. ولأنها هزيمة عسكرية وحدثت بشكل درامي، أدت إلى ردّ فعل درامي.

    ويقول نصر حامد أبوزيد إن هزيمة 1967، أدت إلى تنامي الإحساس بالعار والخجل، وانجرحت الذات العربية انجراحاً لم يجد دواء ولا حتى شفاء. وأدى العجز من المواجهة إلى الهروب إلى الماضي. وعلى المستوى السياسي العربي أخذ التشرذم هروباً من الوحدة، وعلى المستوى الاجتماعي استيقظت الطائفية بديلاً عن القومية، وعلى مستوى الانتماء حل الدين محل الوطن والمصالح المشتركة والتاريخ والجغرافيا. وما زال الآخر يواصل انتصاراته. إسرائيل تعربد في المنطقة كيفما شاءت. والولايات المتحدة متزعمة النشاط العالمي الجديد. والرفيق الذي كنا نلوذ بظله اختفى من الوجود. وهكذا لم يبق إلا التشرذم والطائفية وغطاء الدين. وحين ينضم الثلاثة في تشكيلة واحدة فإنها لا تفرخ إلا الإرهاب. ثم يقول إن الهزيمة أدت إلى انشطار الفرد، فارتدت الجماعة في البداية إلى التراث الذي مثل للبعض حماية من عار الهزيمة، وكان عند البعض الآخر موضوعاً للتأمل والدراسة. ومع تنامي فعل التفتت الطائفي انحسر كل تيار في خندق. فصار هناك خندقان فكريان: الأصولية الإسلامية بكل تياراتها والعلمانية بمختلف شرائحها. (دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة، ص 38- 39 و56).

    ومما زاد من قتامة الوضع السياسي أن الحكام العرب لا يتزحزحون عن كراسيه، فإما يزيفون الانتخابات أو يزيفون الوعي. وأصبح شعارهم الذي يتداوله الناس هو: من القصر إلى القبر. وأصبحوا أكثر قسوة في قهر شعوبهم للبقاء في ذلك القصر. وغابت الديمقراطية. ولا يوجد في البلاد العربية كلها حاكم يحظى بالقبول الطوعي من شعبه سواء جاء بانقلاب عسكري أو من مشايخ البدو أو ورث الحكم من أسلافه. ولعل البلاد العربية من أكثر البلاد التي يبقى حكامها في الحكم أطول فترة من أي بلد أخر حتى فاقت ربع القرن، مما يبعث بقاؤهم في كثير من الأحيان على الملل. وجيل الشباب يدخل يوماً بعد آخر في دهاليز اليأس المظلم. ويبتعد أكثر فأكثر من المشاركة في أمور بلاده.

    وكان وقع الفشل والخيبة أكثر إيلاماً في نفس الشباب جيل الغد. فالشباب يحمل بين جنبيه الرغبة العارمة إلى حلم الغد، بينما جيل الكهول والشيوخ يجترون أحلام الماضي الذي ولى، أو يلتقطون من الحاضر ما يعيشون عليه في ما تبقى من أيامهم. وأدى ضعف ساحة الأمل إلى بروز الأزمة بين جيل الشباب، وبدأ يتبدى غورها السحيق وخطر السقوط إلى الدرك الأسفل منها.

    وسلكت الدول الرأسمالية المستقلة طريق التطور الرأسمالي. ولكنها كانت رأسمالية هامشية، وليست كالرأسمالية الأوربية التي حركت التاريخ عند ظهورها. وتحولت الرأسمالية في الدول القومية الحديثة إلى كمبرادور. ثم كان الوليد الشرعي لتلك الرأسمالية العرجاء الرأسمالية الطفيلية الشائهة: وفى أحسن الأحوال ظهرت رأسمالية الدولة، التي حملت معها قبساً من أمل. ولكن الفساد وأساليب العنف التي صاحبت تطبيقها أفسدت أهدافها رغم نبل مقاصدها.

    وفى العقود الثلاثة الأخيرة دخلت الرأسمالية العالمية هي ذاتها في أزمة. فقد نشر مؤخرا البرفسور لستر ثوراو أحد العمداء السابقين لكلية إدارة العمال في معهد ماساشوستس الشهير كتابا عن "مستقبل الرأسمالية". وتنبع أهمية الكتاب من أنه يصدر من أحد دهاقنة النظام الرأسمالي. تناول الكتاب انخفاض النمو الرأسمالي العالمي في الأرقام التالية:

    نما الاقتصاد العالمي خلال عقد الستينات بمعدل 5 %

    , , , , , , , , , , خلال عقد السبعينات بمعدل 3.6 %

    , , , , , , , , , , خلال عقد الثمانينات بمعدل 2,8 %

    , , ,, , , , , , , , خلال عقد التسعينات بمعدل 2%

    وبدأ يظهر عدم المساواة منذ الستينات. وعندما حلّ عقد الثمانينات حصل 1% على 90 % من إجمالي المكاسب.

    وإذا أخذنا مصر كنموذج نجد أرقام النمو الرأسمالي كالآتي :



    1985 - 1989 نما الناتج المحلي الإجمالي بمعدل 2,92%

    1993 انخفض , , , , , , , , بمعدل 1- %

    وفى مصر فإن 73 ألف شخص يملكون أكثر من خمسة مليون جنيه. و50 ألف شخص يملكون ما بين 100 إلى 200 مليون جنيه. وقد حصلوا على أموالهم من بيع الأراضي واحتكار السلع والعمولات والفساد، أي باختصار من النشاط الرأسمالي الطفيلي.

    ثم جاء الانفتاح الاقتصادي وما تبعه من خصخصة. وكانت علاماته الأولى الاندماج في الدورة الرأسمالية العالمية من موقف التخلف والفقر والضعف، مما أدى إلى تغيير اجتماعي واسع لمصلحة الثراء الطفيلي والنمط الاستهلاكي والفساد والمخدرات. ويضرب برفسور ثوراو مثلا بالمكسيك. فبعد ستة اشهر من الانفتاح أصبحت خراباً. فخلال عام فقد نصف مليون عامل مصدر رزقهم، ويستعد نصف مليون آخر لنفس المصير. وانخفضت قيمة النقود إلى 30%. وكانت النتيجة حركة مسلحة في الغابات معتمدة على التراث النضالي في المكسيك منذ عهد الثائر زباتا الذي قاد ثورة الفلاحين.

    وأدى بروز الطفيلية ثم انتشارها فيما بعد إلى تدهور قيمة التعليم. لقد كان الشباب الذي يتخرج من الجامعات والمعاهد في الخمسينات والستينات يجد أمامه سبلاً واسعة من الحياة الكريمة. كان يجد سكناً مناسباً، ويستطيع أن يتزوج ويتولى تعليم أبنائه، وربما امتلك عربة. فكان الشباب الذي حصل على تعليم عال يحس بالاستقرار، ويستشرف مستقبلاً مشرقاً، وله مكانة في المجتمع، بل يمكن لبعضهم المشاركة في صنع القرار وصياغة مستقبل بلادهم. ثم جاءت الطفيلية لتمحو كل ذلك. ولم يعد للشهادة الجامعية وفوق الجامعية قيمتها الأولى، ولم تعد مصدراً للاستقرار، ولا تفتح باباً لغدٍ مشرقٍ. أما التعليم مادون ذلك فلم تعد له قيمة. وأصبح الثراء السريع من النهب الطفيلي هو السبيل إلى حياة الاستقرار. والنهب لا يحتاج إلى تعليمٍ عالٍ وجهدٍ جهيد.

    وبدأت ثورة الاتصالات منذ السبعينات، وبلغت قمتها في الوقت نفسه الذي بلغت فيه حركات الهوس الديني قمتها. مصادفة عجيبة، كانت لها آثار مدمرة بعيدة المدى. فالإعلام العربي تسيطر عليه الأنظمة الحاكمة والقبضة المالية الطفيلية، وهو إعلام يقوم في الغالب على الكذب وتحوير الحقائق وتشويهها لإطالة عمر تلك الأنظمة، أو تمرير القيم الطفيلية وتسويقها. الأمر الثاني أنه إعلام يمجد القيم الاستهلاكية ويقدمها في صورة تشتهيها النفس، ويدفع الشباب إليها دفعاً بحكم سنه ورغباته، ولكنه لا يجد سبيلاً إليها. الأمر الثالث، أنه دخل في مزايدة مع الهوس الديني، بدلاً من التصدي لخطابه. فظهر فيض المسلسلات الدينية المسطحة. وكثرت البرامج الدينية الساذجة التي يقدمها دعاة ترعرعوا في كنف أموال البترول. وكان هذا أخطر جوانب ذلك الإعلام. وفى هذا الصدد كتب الدكتور نصر حامد أبوزيد يقول: " إن هؤلاء الشباب ضحايا بكل معنى هذه الكلمة. و إذا كان يبدو أحيانا في سياق بعض الأحداث والمواقف أنهم جلادون، فإن الجلادين الحقيقيين هم الذين ملأوا عقولهم عبر أدوات البث الإعلامي العديدة والمختلفة، بكل ما تمتلئ به من أفكار، ووضعوا في أيديهم السياط و الجنازير".
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de