From sudaneseonline.com

بقلم: محمد عثمان ابراهيم
قراءة في دعوة د. أمين حسن عمر للتغيير (2-2)/محمد عثمان ابراهيم
By
Feb 20, 2011, 11:31

الثبات في إهاب التحول

قراءة في دعوة د. أمين حسن عمر للتغيير (2-2)

كتبنا في الحلقة الماضية أن تحالف النخب المثقفة والعسكرتاريا  في العالم العربي قد أنتج نماذج متشابهة من المثقفين المتأرجحين ما بين أفكارهم المتقدمة ومصالحهم المعاكسة، وأشرنا إلى نموذج د. مصطفى الفقي في مصر وألمحنا إلى أن دعوة د. أمين حسن عمر (الوزير والسياسي والمثقف) يمكن النظر إليها في سياق ذات التأرجح الذي يسم طبيعة مساهمة المثقفين في الشأن العام ضمن المنظومات الشمولية.

تحدثنا عن الغلظة على الخصوم، وعن تورط الحكام في التجارة، وقلنا إن التفاعل الإيجابي مع دعوة الدكتور أمين دون النظر في ما قدمه طوال عقدين من المسئولية العامة غير ممكن، وخلصنا إلى مردود عمل الدكتور أمين خلال العشرين عاماً المشار إليهما لم يكن موجباً، وإنما كان سالباً ضمن مسالب النظام الحاكم كله وقلة حيلة المثقفين في فريق الحكم.

تحدثنا بعدها إلى أن دعوة الدكتور أمين ليست موجهة لعامة الشعب السوداني، وإنما هي موجهة لخلايا الحزب الحاكم بحيث يتم احتكار المستقبل لصالح الحاضر عبر إحداث تغيير شكلي في النظام أو في رأسه (على الأرجح) مع إبقاء نفس السياسات والوجوه القديمة، وكان دليلنا على ذلك أن الدكتور أمين لا يرى أي خطأ في سياسات حزبه الحاكم وممارساته وإنما بالعكس هو يعتقد في فلاحها. وبدأنا بالسياسات الإقتصادية...

***

الحقيقة أن السياسات الإقتصادية  لنظام الإنقاذ هي إحدى مواطن الخيبة الكبيرة، وهي أحد اسباب تفشي الفساد والرشوة والمحسوبية بما لم يعد سراً، ولعل حديث الرئيس الأخير وإعلانه عن التخطيط لإنشاء مفوضية لمكافحة الفساد يعتبر تفاعلاً من رأس النظام الحكام مع الدعوات الشعبية. بالطبع لا يتوقعن أحد أن تنجح المفوضية في مواجهة الفساد ولكنها ستعتبر الخطوة الأولى بالإتجاه الصحيح. إن إنشاء هذه المفوضية ينبغي أن يتم بشكل يتفادى خطايا المفوضيات السابقة وآخرها مفوضيتي الإنتخابات والإستفتاء واللتان تجاوزت الإتهامات الموجهة للقائمين عليها بالفساد المالي والإداري كل حد، لكنها لم تستنفر أحداً في الحكومة ليقول للفاسدين لا!

ألمح الدكتور أمين إلى عدم استعداد الإنقاذ للتخلي عن تطبيق الحدود (الشريعة الإسلامية) بقوله أن دولة السودان " لن تكون في يوم من الأيام دولة تتنازل فيها الأغلبية عن امتثالاتها . ولا دولة تقهر فيها الأقلية علي خلاف حقها الطبيعي في أن تؤمن كما تشاء أو تكفر كما تشاء". حسناً، تريدون الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية؟ لا بأس كفوا أولاً عن الخلط ما بين السياسة والتجارة " عالم السياسة مثل  عالم الأعمال والتجارة لا تصلح فيه صفقه ما لم تتضح معالمها وأركانها والتزاماتها واستحقاقاتها" عالم السياسة لا صلة له بالتجارة وهو عالم منذور نفوس الذين يعيشون فيه لخدمة الأمة والمجتمع، أو هكذا ينبغي أن يكون، كما تقول العبارة السائرة. لقد إختلط أمر السياسة بالتجارة حتى صار في بيت كل مسئول شركة يملكها هو بالأصالة أو يديرها أقاربه وأبناءه بالوكالة ومن يرد الأمثلة فليفرغ فريقاً من الباحثين سيملأون له المجلدات بالأسماء، هذا ليس سراً. بلغت بشاعة ولوغ السلطة في التجارة أن يعمل وزير الزراعة في الإستثمار الزراعي ثم لا يستنكف أن يتباهى في إجتماع لمجلس الوزراء ب"أن لديه بولاية النيل الازرق 10 آلاف فدان، و2 ألف نعجة ، و50 بقرة، استطاع ان يحقق في الموسم الماضي 400 مليون جنيه أرباحاً". تنقل صحفنا أخبار اشتغال وزراء عهد الرئيس مبارك في مصر بالتجارة وتنسى أن مثل هذا هو بضاعتنا التي يمكن أن نبز بها العالم. جاء السيد عبدالحليم المتعافي في أول عهد الإنقاذ من السعودية حيث كان مغترباً يعمل بالطبابة ليعمل محافظاً للبحر الأحمر ثم وزيراً للمالية في الولاية فأسس شركة الثغر الهندسية وشركات أخرى وكشف عن شغف مبكر بالإستثمار. خلال عشرين عاماً فقط تحول المغترب العائد إلى مليونير في دولة الإنقاذ التي يسعى الدكتور امين حسن عمر إلى تثبيتها بالمسامير على ما تبقى من خريطة السودان. لست متحاملاً على المتعافي لكني آخذه كنموذج فقط لعشرات النسخ الأخرى، ومن كان من حكومة الإنقاذ بلا خطيئة فليرم المتعافي بحجر.

***

في دولة الشريعة الحقة روى الشيخان عن أبي حميد الساعدي أن  النبي، صلى الله عليه وسلم، استعمل  رجلاً يُقال له ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، قال: فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه، فينظر أيُهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ أحدٌ منكم شيئًا إلا جاء به يوم القيامة، يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيْعرُ، ثم رفع يديه حتى رأينا عُفرة ابطيه، ثم قال: "اللهم هل بلغت (ثلاثًا)" إننا نسأل الله ألا يأتي عبده عبدالحليم المتعافي يوم القيامة وهو يحمل ألفي نعجة وخمسين بقرة اعترف بملكيتهما وهو وزير، اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد!

ونبحث في سجلات التاريخ وعلى شبكة الإنترنت فنجد أنه وفي دولة الشريعة الحقة روى أن  عمر وأبوعبيدة اعترضا الخليفة أبو بكر الصديق وهو غادٍ إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتجر بها، فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله ؟، قال: السوق، قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين ؟، قال: فمن أين أطعم عيالي ؟، قالا له: انطلق حتى نفرض لك شيئًا، فانطلق معهما ففرضوا له كل ما يقيم أوده وأود أهله ويغنيه عن شبهة استغلال منصبه في التجارة.

وفي دولة الشريعة الحقة شعر سيدنا عمر بنمو الأموال لدى بعض الولاة فخشى أن يكون الولاة قد اكتسبوا شيئًا من هذه الأموال بسبب ولايتهم أو عن طريق المحاباة  في المعاملة من المبايعة، والمؤاجرة والمضاربة، والمساقات والمزارعة، ونحو ذلك هو من نوع الهدية، فاقتسم معهم أموالهم وتقول روايات التاريخ أن عمراً أخذ من أموال  سعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وعمرو بن العاص-رضى الله عنهم بل  قام أيضًا بمشاطرة بعض أقارب الولاة لأموالهم دون أن يتهم أحد بخيانة. إننا نثق في نقاء وطهر يد السيد المتعافي وكافة المسئولين ولا نتهم أحداً في ذمته ولكننا نريد ان نقول إن قيام الشخص بممارسة التجارة وهو على الولاية العامة فيه شبهة وقد يوقع في الفساد. إننا ننصح (الوزراء التجار)  كإخوة لنا أحباء نريد بهم الخير ولا نريد بهم الشر، فقط لا غير!

كفى، فلنغلق باب الفساد، ولكن إذا أرادت الحكومة التعرف على شيء منه فلتنظر حولها!

***

يقدم الدكتور أمين تبريرات كاسدة جداً في الدفاع عن سياسة الحكومة إذ يقول إن غلاء الأسعار (يقصد غلاء السلع) له أسباب موضوعية مشيراً إلى الأزمة الإقتصادية العالمية وارتفاع أسعار الغذاء حول العالم ثم يضطر إلى الإعتراف بضعف أداء العاملين والمديرين ومخططي السياسات! شكراً جزيلاً، ولكن كيف يمكن تبرير أن يكون سكر كنانة الذي يتم تصديره للخليج ثم يعاد تصديره مرة أخرى إلى إرتريا ثم يتم تهريبه عبر الحدود مرة أخرى إلى السودان ارخص من السكر الذي يقدمه نفس المصنع للمواطن السوداني عبر منافذ البيع المحلية؟ لماذا يباع  كيلو اللحم والفراخ في الخرطوم بنفس سعره في نيويورك؟ لماذا يكون سعر قطعة الأرض اليباب في ولاية الخرطوم أغلى من الشقة المبنية الجاهزة في القاهرة؟ لماذا تقيم الحكومة سداً بملياري دولار ولا يجد المواطنون في بعض المناطق كهرباء لشحن هواتفهم النقالة؟

أما بالنسبة لضعف أداء العاملين والمديرين ومخططي السياسات فنتفق معه، ولو شاء دراسة نماذج للفشل فإننا نحيله بكل سرور للنظر في تجربة الشريف أحمد عمر بدر في كل من مشروع الجزيرة وسودانير  ، هذا على سبيل المثال لا الحصر العصي.

قدم الدكتور أمين تصوراً من التاريخ لحل الضائقة المعيشية وذلك باقتراح العودة إلى نظام التعاونيات الذي كان يعمل بها (مجلس السوفيات الأعلى) والذي لا يطبق حالياً سوى في كوبا وكوريا الشمالية وفنزويلا وبقاع أخرى لا نعلمها! أخشى ما أخشاه أن تبدأ الحكومة في إرسال الوفود إلى كوبا (للوقوف على التجربة الكوبية في التعاونيات) مثلما هو الأمر الآن بالنسبة للتجربة الماليزية ! ثم إن المرء لا يفهم كيف يمكن أن يكون الشخص مؤيداً لتحرير الإقتصاد، وداعياً في نفس الوقت لتطبيق نظام التعاونيات؟ السرعند الدكتور أمين وحده.

***

يبدي الدكتور أمين ارتياحه لأوضاع الحريات في البلاد ف(يمن) على الشعب ان حكومة الإنقاذ لا تطبق قانون الطواريء مثلما تطبقه دول أخرى (يشير إلى مصر). والرد في منتهى البساطة وهو أن قانون الطواريء مطبق في السودان وإن لم يحمل ذات الإسم. في السودان يمكن للسلطة الحاكمة أن تفعل أي شيء دون أن تخضع للمحاسبة، فما حاجتها لقانون الطواريء؟ يقول د. أمين " ان الأعتقال لا ينال إلا من اشهر سلاحه في وجه الدولة أو ظاهر علناً من شهر ذلك السلاح في وجه الدولة". كاتب هذه السطور يعلم تماماً أن حديث د. أمين هذا مناف للحقيقة ولا أساس له من الصحة ويستغرب كيف تخفى معلومات بسيطة كهذي عن  وزير الدولة برئاسة الجمهورية فيما هي متاحة لرجل الشارع العادي!

***

يعرب د. أمين عن ارتياحه لما اسماه قيام الحكومة بوضع "اتفاقية أعادت تقسيم السلطة أفقياً بين المركز والولايات" والحقيقة أن مواطني السودان صاروا اليوم بموجب هذه السياسة الحكومية تحت سلطتين شموليتين بعد أن كانوا تحت سلطة شمولية مركزية واحدة. هل أتى القيادي النافذ والوزير حديث الجمهوريات الولائية في شمال السودان؟ إن لم يكن يتابع الأمر نرجو أن نحيله ليستمع من البروفيسور الأمين دفع الله، الأمين العام للمجلس الأعلى للحكم اللامركزي، إلى تنوير عما يقوم به هذه الأيام حتى يتعرف على سلبيات هذه التجربة. ما يزال المواطنون في السودان يسافرون لمئات الكيلومترات من أجل توثيق شهادة فقط أو استخراج وثيقة حكومية فما قيمة الحكم اللامركزي إذا كان قادراً فقط على تنزيل الحكام وغير قادر على تنزيل الخدمات؟ هل يعلم الوزير أن الرقابة على الصحف والتي رفعت على مستوى المركز صارت تطبق في الولايات؟ يقرأ مندوبو الولايات في الخرطوم الصحف كل صباح ثم يقدمون تقاريرهم لولاياتهم وحين تصل الصحف المعنية منتصف النها يتم الحجز عليها عبر أجهزة غامضة. اسألوا الصحف تجدون عندها الخبر اليقين! إن الحاجة إلى تفكيك الجمهوريات الولائية الحالية وإعادة الولاة من الوهم الذي يغرقون فيه أنفسهم إلى مستوى

 

البشر العاديين ضرورة ملحة وعاجلة وأي تغيير لا يشمل هذا هو تغيير مزيف. السل الرئوي يفتك بشرق السودان،  والحرب والأسواق بدارفور، والسرطان وتردي الخدمات الصحية بنهر النيل، والقهر والعدم بالشمالية البائسة، والحكام بكردفان والنيل الأزرق، والجوع وتباهي الحاكم بالجزيرة، والجريمة والسماسرة بالخرطوم. كيف يتم إقناع الولاة بأنهم بشر عاديون؟ هذا هو السؤال!

***

إحتوى مقال الدكتور أمين الداعي للتغيير على فكرة مثيرة للدهشة والإستغراب وهي مطالبته للمؤتمر الوطني (حزبه الحاكم) بإدارة حوار "متكافيء" مع القوى السياسية حول الدستور وتمثيل القوى السياسية والمدنية والإجتماعية في المفوضية الدستورية، لا على اساس الغلبة ولكن على اساس التكافؤ، أو كما قال. وجه الإستغراب هنا لماذا التمثيل متكافيء في مفوضية الدستور فقط وليس في الحكومة المركزية، والخدمة المدنية، والقوات النظامية، وتوزيع الأراضي والإعفاءات الجمركية، والتمويل المصرفي، والأسواق؟

***

وجه الدكتور أمين اتهاماً للمعارضة بأنها تطرح أجندتها الوطنية وفق ما أسماه بنهج (الملائمة) السياسية  والإقتصار في أطروحاتها على المصالح الحزبية وتجاهل المصالح الوطنية وهذا صحيح إلى حد كبير ولعل الحاجة إلى معارضة جديدة وأحزاب معارضة جديدة هي أكثر إلحاحاً من الحصول على حكومة جديدة. ها أنذا أتفق مرة مع أطروحة في المقال رغم أنني تمنيت لو كان قد قام بكتابة (الملائمة) هكذا (الملاءمة). على كل فإن الطاقة التي تسير بها الحكومة عجلاتها وتروسها مستمدة فقط من عجز هذه القوى المسماة (معارضة).

***

لن يتناول مقالنا هذا الجزء الثالث من سلسلة مقالات الدكتور أمين حسن عمر المنشورة في صحيفتنا هذه تحت عنوان (التغيير واجب الساعة) لأن الجزء الثالث يخص منسوبي حزب المؤتمر الوطني فقط، لكني قبل أن أبرح مكاني هذا أريد أن اشرك القراء في قراءة عبارة وردت في الجزء الثاني على النحو التالي:

"تحدي الهوية:

أما التحديات الكبرى في المجال الثقافي فأهمها بناء الوطنية السودانية على حد أدنى من التوافق على الأسس التي تشكل سودانية السوداني أاً كان لونه أو جنسه أو دينه"

هوية بتاع الساعة كم؟

 



© Copyright by sudaneseonline.com