From sudaneseonline.com

زفرات حرى بقلم : الطيب مصطفى
علي عثمان محمد طه والجمهورية الثانية/الطيب مصطفى
By
Feb 19, 2011, 22:24

زفرات حرى

الطيب مصطفى

[email protected]

علي عثمان محمد طه والجمهورية الثانية

 

كان إطلاق شعار الجمهورية الثانية سبباً كافياً لعقد المؤتمر الصحفي للأستاذ علي عثمان محمد طه فكما أُقيمت احتفالات لتدشين مشروعات كبرى مثل مشروع إنتاج البترول أو سد مروي أو مصانع الأسمنت فإن تدشين ذلك الشعار المدوِّي كان يحتاج إلى مؤتمر صحفي بل إلى مؤتمرات وندوات وورش عمل ومحاضرات تسبر غوْره وتحدِّد ملامحه الثقافية والاجتماعية والحضارية وتغوص في أعماقه وأبعاده وترسم بها خريطة طريق جديدة وإستراتيجية شاملة لدولة السودان الشمالي تتناول مختلف مجالات النهضة والانطلاق نحو المستقبل. وإذا كان الناس قد خاضوا في مواضيع صغرى تناولها علي عثمان في حديثه في ذلك المؤتمر الصحفي فقد غفل كثيرون عن المعنى الأكبر الذي كان ينبغي أن يكون الشغل الشاغل لنا جميعًا منذ ذلك اليوم.

دعُونا نغوص أكثر في أبعاد الشعار فإذا كان المؤرخون يقسمون الفترة منذ استقلال السودان بين فترات عسكرية وأخرى ديمقراطية فإن ذلك كله يأتي في إطار حقبة الجمهورية الأولى ولا يعدو أن يكون تقسيمًا سياسياً فضفاضاً تكتنفه كثير من الضبابية أما التقسيم الجديد «الجمهورية الأولى والثانية» فقد قفز فوق تلك التقسيمات الصغيرة المحدودة إلى تقسيم حضاري أشمل وأكبر يحمل بين طياته مجموعة من العناصر السياسية والثقافية والاجتماعية ذلك أن انفصال الجنوب لا يعني البتة انفصالاً جغرافياً فحسب وإنما انفصالاً حضارياً شاملاً بكل ما تحمله تلك الكلمة من دلالات وهل كان الصراع بين الشمال والجنوب منذ الاستقلال إلا صراعاً ثقافياً معبَّراً عنه بأشكال سياسية؟!

لقد اتخذ الصراع خلال التمرد الأخير بُعداً فكرياً وثقافياً حين طرح قرنق مشروع السودان الجديد الذي قال فيه صراحة إنه يريد أن يعيد هيكلة الشمال السياسي بما يُنهي «النموذج العربي الإسلامي» ولذلك فإن انفصال الجنوب يُنهي ذلك التنازع حول هُوية الشمال بصورة كاملة أو هكذا يُفترض أن يكون فقد خرج الجنوب الذي يحمل مكوِّنات ثقافية وحضارية واثنية مختلفة تماماً عن تلك التي يحملها الشمال الأمر الذي أنهى معظم أسباب التوتر والصراع والاحتراب.

إن من يتأمل في توقيت إطلاق ذلك الشعار يدرك أن الجمهورية الثانية تعني أننا طوال الفترة الماضية منذ الاستقلال أو منذ أن آل حكم السودان إلينا نحن السودانيين وحتى انفصال الجنوب كنا نعيش في إطار حقبة الجمهورية الأولى أما الجمهورية الثانية فقد بدأت مع نشوء السودان بكيانه الجديد «السودان الشمالي المنفصل والمستقل عن الجنوب» بما يعني أن الجمهورية الأولي هي تلك التي شهدت فترة السودان القديم بشماله وجنوبه أما الثانية فهي جمهورية السودان الجديد بعد أن خرج منه الجنوب.

كنا نحن في منبر السلام العادل ندرك ذلك عندما قلنا إن انفصال الجنوب يمثل الاستقلال الحقيقي للسودان الشمالي تماماً كما عبّر عن ذلك جنوب السودان ممثلاً في الحركة التي تحكمه ومعظم الأحزاب الجنوبية بل وشعب جنوب السودان حينما صوّت للانفصال الذي سُمِّي بالاستقلال ولذلك كانت احتفالاتهم عبارة عن احتفال بالاستقلال بكل ما تعنيه تلك الكلمة من معنى وهذا ما تعامل به العالم معهم حيث إن الانفصال أنتج دولة جديدة مستقلة ستكون عضواً في المنظمات الدولية والإقليمية بصورة مستقلة عن السودان القديم الذي نشأ الجنوب في حضنه كما ينشأ اللقيط في الأسرة.. نشأ غريب الوجه واليد واللسان وأهم من ذلك نشأ بمشاعر مُبغضة تحمل من الحقد ما تنوء بحمله الجبال الراسيات ولن أكتب في هذه العجالة عن أسباب تلك المشاعر الحاقدة التي لم يكن الجنوب وأبناؤه هم السبب في زرعها وإنما سياسات المستعمِر المتآمر.

إذن فإن الجنوب لم يشعر في يوم من الأيام أنه قد نال استقلاله في الأول من يناير 1956م وإنما كان يشعر بالأسف لمغادرة الإنجليز الذين كان يشعر بأنهم أقرب إليه من أبناء الشمال وهل أدل على ذلك من بغض النخب الجنوبية للغة العربية وحبهم للإنجليزية؟ وهل أدل من الحرب المتطاولة التي نشأت قبل استقلال السودان؟ لقد كان العقلاء منهم يقولون في تعليقهم على الاستقلال بأنه لا يعنيهم وأنهم استبدلوا سيداً بسيد أما الآخرون فقد حزنوا أيما حزن لمغادرة الإنجليز!! لذلك فإن أبناء الجنوب خاضوا معركة الاستفتاء باعتبارها معركة الاستقلال وكنا نحن في منبر السلام العادل نخوض منذ أن طرحنا رأينا حول الحل الناجع والحقيقي وليس الترقيعي أو الحل بالمسكِّنات..  كنا نخوض معركة إقناع أبناء السودان الشمالي بأن أسباب الصراع والحرب بين الشمال والجنوب أكبر من أن تعالَج بالبنادول وهذا ما أثبتت صحتَه الأيامُ.. لذلك كله فإننا نقبل تعبير «الجمهورية الثانية» لكننا في ذات الوقت نرى تطابقاً في الأبعاد الثقافية والحضارية بين ذلك الشعار والشعار الذي طرحناه بعبارة «الاستقلال الحقيقي» الذي يقابل استقلال جنوب السودان فهل بربكم نعمنا باستقلالنا الأول وهل يجوز أن نفرض استقلالاً على السودان لا تؤمن به كل مكوِّنات الشعب وأعني تحديداً أبناء الجنوب؟!

لقد كان استقلالاً منقوصاً ذلك الذي احتفلنا به في الأول من يناير 1956.. استقلالاً بين متنافرين في بيت واحد سُمِّي بالسودان مما جرّد المعنى الحقيقي للاستقلال من أهم دلالاته وأهدافه وأدّى إلى تلك الحرب الطاحنة وذلك الصراع المرير الذي لا نزال نشهد بعض فصوله في التشاكس الذي يسود العلاقة بين الشريكين المتخاصمين أو قل اللذين يُضمر أحدُهما للآخر شراً مستطيراً لم يخبُ أواره حتى بعد أن خرج الجنوب من السودان وما عرمان والحلو وعقار ممّن زرعتهم الحركة كمسمار جحا في الشمال لتستمر في الكيد والتآمر والعمل على إنفاذ مشروعها العنصري في السودان الشمالي إلا دليلاً على ذلك الشر الذي تُضمره الحركة بعد أن استغلت طيبتنا وحسن نيتنا لزرع تلك القنابل الموقوتة في أحشائنا حتى تعطِّل من مسيرة الجمهورية الثانية كما عطّلت من قبل انطلاق الجمهورية الأولى!!

صحيح أن أهم مرتكزات الجمهورية الثانية أنها قامت على التجانس الذي أنهى حالة التنازع حول الهُوية بعد أن صار المسلمون يشكِّلون أكثر من 98% من سكان الجمهورية الثانية لكن التحدي يتمثل في استدبار حالة الاسترخاء والانبطاخ التي سادت الفترة الانتقالية والتي كشفت وبرهنت أن نيفاشا لم توقف التنافر والتطاحن والتشاكس ولو قُدِّر للوحدة أن تتم لاستمرت حالة التنازع ولتطورت إلى حرب ضروس يزيد من ضراوتها أن الجيش الشعبي سيكون مكوِّناً أصيلاً من مكوِّنات القوات المسلحة السودانية بل إن استحقاقات نيفاشا ستستمر سيفاً مسلطاً على رقابنا فالحمد لله رب العالمين.

أقول للبشير وعلي عثمان إننا نرحب بالجمهورية الثانية وبذلك الشعار لكننا ننصح بأن تجربتكما السابقة مع الحركة الشعبية كافية لإقناعكما بأن الجنوب ليس من ثقافته أن يقدِّر ما يُبذل في سبيل استرضائه وليس من ثقافته أن يقدِّر من يلاطفه ويهادنه ويتنازل له وهل من دليل أكبر من نيفاشا وسلوكهم بعد كل ما بُذل لهم فيها وهل من برهان أكبر من أحداث الإثنين الأسود في مواجهة من احتضنوهم وفتحوا لهم بلادهم؟!

إن مسؤولية المؤتمر الوطني ليست عن الجنوب الذي له شعب آخر قرّر بالإجماع أن يغادر الموطن الذي يجمعه بمن يبغض ويكره ويحقد عليهم وإنما عن أرض الشمال التي يريد أن يقيم فيها جمهوريته الثانية وينبغي له أن يستخدم ذات الأسلوب الذي انتصر به في الجنوب قبل أن يهجر الجهاد ويركن إلى التفاوض.. لا  يبدأ بعدوان لكنه يُعمل مبدأ المعاملة بالمثل ويحافظ على سلامة أرض جمهوريته الثانية.

 



© Copyright by sudaneseonline.com