From sudaneseonline.com

بقلم :شوقى بدرى
محنة سودانية 71/س. شوقي
By
Feb 19, 2011, 21:16

محنة سودانية 71

 

 

رجعت يوم الاحد الماضي, بعد ستة ايام في هولندا ودعت فيها أخي خالد الحاج الذي انتقل الى جوار ربه. عدت و طعم كل شئ قد تغير. و أول شئ قاله ابني فقوق نقور حتى قبل أن يسلم علي ( عندنا صقر في البيت ). فقلت له بدون مبالاه انحن زمان  عندنا حي كامل في أمدرمان اسمه حي الصقور. وهو الحي المجاور لبانت و حي الضباط. إلا انه اخذني لخارج الدار ليريني صقراً بحجم صغير يجلس في الركن و يغطي رأسة باحد جناحيه .

كان من المؤكد ان الصقر قد اصيب بضرر و إلا لما قبع مستكينا في ركن ساحتنا الخلفية . و كان ابنائي في حالة حزن و فزع لمصير الصقر المسكين . فوعدتهم بأن اتصل بالمسؤلين يوم الاثنين. و طمأنتهم بأن الصقر سيجد العناية و الرعاية. و كان قد وضعوا بعض اللحم في شكل مارتديلا للصقر. و لكن الصقر لم يقرب الأكل .

عندما عاد ابنائي من المدراس , هرعو للأطمئنان على الصقر . و فرحوا عندما قلت لهم أن احد المسؤلين قد اتى و أخذ الصقر. و في الصباح قمت بالأتصال بالاستعلامات. و طلبت منهم ان يعطوني رقم تلفون منظمة تهتم بالحياة البرية . و بسهولة أعطوني رقم رعاية الحياة البرية في استوكهولم . و بسرعة اعطوني رقم مسئول رعاية الحياة البرية في جنوب السويد. و الذي قال لي انه متواجد على بعد 30 كلم من مدينتنا . و قام بأعطائي رقم تلفون المسئول عن الطيور في مدينتنا. و ذكر لي المسئول المتواجد على بعد 30 كلم بأنه على استعداد لكي يحضر لمنزلنا لمساعدة الصقر , اذا لم يكن الاخرين مستعدين .

الرجل المسئول كان لطيفاً و شكرني على اهتمامي و قال لي مباشرةً . ان الصقر الذي حل ضيفاً علينا هو من نوع صقور العصافير . و هذه الصقور تنشط في هذه الفترة من السنة و تتطارد العصافير. و لا بد أن هذا الصقر كان يطارد عصفوراً و اصطدم بنافذة او حائط زجاجي بمنزلنا . لأن الطيور لا تستطيع أن تتفادى النوافذ الكبيرة. لأن نظام الرؤية عندها ليس صالحاً لتفادي المنشأت البشرية . و أفهمني الرجل بأنه في عمله اليومي . و أنه سيحاول أن يخلص عمله نصف ساعة قبل المواعيد , لأن الصقر المسكين قد قضى يومين بدون طعام . و ان الصقر لا بد انه كسر احد جناحيه. لأن الصقور بعد ان تصطدم بالنوافذ أو الحيطان الزجاجية تحتاج فقط لساعات لكي تستعيد قواها و تنطلق طائرة. و طلب مني الرجل العنوان .

قبل الساعة الرابعة أتى الرجل , و كان يرتدي ملابس البريد. فهو موظف في البريد . و لكن يقوم بهذا العمل كعمل تطوعي  . و هنالك مجموعة من الناس يتطوعون لهذا العمل . و في دقائق أمسك الرجل بالصقر و بحذر شديد حتى لا يؤلمه . و كان يستخدم شبكة  بعصا قابلة للمد . و عرفت أنه يحتفظ بهذه المعدات و قفص خاص , حتى ينقل به الطيور لكي تجد العناية و الرعاية.

و تحسس الرجل جناح الصقر , و أكد أنه مكسور , إلا ان الكسر في مكان واحد و في مكان يمكن شفاءه . و شكرني على اهتمامي و ذهب فرحاً بالصقر الذي استكان للدفئ تحت جاكتة الرجل . و تذكرت المثل القديم الذي يقول الصقر كان وقع كترة البتابت عيب . فالدجاج عندما يمسك به يبدأ في الصياح و الركل و الضرب بالأجنحة . إلا ان الصقور لا ( تبتبت ).

بعد انصراف الرجل بدأت افكر, و تخيلت أنني في السودان أو اي دولة عربية أو افريقية , و أنني قمت بالأتصال بالاستعلامات طالباً رقم منظمة لكي تساعدني في صقر سقط في منزلي . و فكرت في السوداني الذي يحتفظ بشباك و قفص في سيارته و يعالج الصقور. و كيف ستكون نظرة زملائه و أهله و جيرانه . هذا إذا لم يقبضوا عليه و يأخذونه إلى فكي أو إلى مستشفى امراض عقليه. و فكرت هل كان رئيسه يسمح له بأن يخرج مبكرا, لأن في صقر كسر جناحه . و فكرت في زوجة السوداني الذي يأتي متأخرأ للغداء, أو لأخذها لبيت نفاس , حراره أو عزاء, و يكون قد ذهب لأن وزينة قد علقت في الشجرة .

فكرت في رجل عظيم رحمة الله عليه و طيب الله ثراه , الدكتور فيصل مكي صاحب معهد سكينة . الدكتور فيصل رحمة الله عليه حاصل على وسام لأنه كان ضمن الفريق الذى عالج زوجة رئيس يوغسلافيا و الشخصية العالمية جوزف بروس تيتو وأحد مؤسسي مجموعة دول عدم الانحياز, مع جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند و أحمد سوكارنو رئيس اندونيسا الأول.

دكتور فيصل طيب الله ثراه , رجع ألى السودان لكي يقدم لبلده و أراد ان ينشئ معهداً للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة أو المتخلفين عقلياً. فأستأجر منزلاً لمساعدة الأطفال . إلا ان صاحب المنزل السوداني الأصيل و المسلم أبن المسلم و الذي يؤمن بالله و اليوم الاخر, قام بطرده من المنزل شر طرده قائلاً له ( جايب لينا عواليق في بيتي يا عواليق). و ذهب دكتور فيصل ألى السيد أبو عاج دراج المحن , و البطل المغوار ( ابوكم مين ؟ نميري .... ) . و بعد صعوبات و اجتهادات و وساطات, تمكن دكتور فيصل من مقابلة نميري الذي لم يدعه يكمل كلامه, بل بدأه بالصراخ قائلاً ( انحن الناس الشديدين ما قادرين نعالجهم , داير تجيب لي الناس المكسرين المعولقين ) . و كما أورد دكتور فيصل في كتابه عن معهد سكينة , فأنه خرج من مكتب نميري و هو غضبان و محتار , لدرجة انه لم يتوقف و لم يحس بالتعب بعد ان خرج من مكتب نميري في الخرطوم , الى ان وصل الى منزلي في امدرمان . و ترك سيارته امام مكتب نميري .

قامت الخالة سكينة بصرف مدخراتها و بيع ذهبها. و كانت بداية معهد سكينة . و هذا في الوقت الذي كان نميري و رجال مايو يبعذقون المليارات في أمور لا تسوى, و هذه احدى المحن السودانية .

الدكتور فيصل ذكر في كتابة أن احد الاسر السودانية المشهود لها بالوسامة و الجمال , و اذكر انا شوقي بدري فأن احد شباب تلك الاسرة كان البنات يتغنون بأسمه في أغاني السيرة في بداية الخمسينات . وكان لهذه الاسرة طفل متخلف , و كانوا يضعونه في خلف المنزل مع الكلب حتى لا يشاهده الاخرون , فصار الطفل يحك اذنه بقدمه كما تفعل الكلاب . و الكاتب المصري الرائع عوض لويس ذكر في كتابه عن حياته ان شقيقته كانت متخلفه و أن الاسرة كانت تمارس الغش التجاري , و كانوا يخبؤنها في المنزل الى ان تزوجت شقيقاته . و لكن الاوربيون الذين نوصفهم بانهم بلا قلوب و بانهم كفار لا يمارسون هذه الاشياء .

من المحن السودانية اننا نتشدق بأننا اهل الكرم و النخوة و الشجاعة و النجدة و هذه حقيقة . الا اننا نطبقها بصفة شخصية, و ليس كنشاط جماعي منظم لأننا لا نحب التنظيم و القيود . عندما حضر العميد ادريس فضل الله و هو مسئول الحريقة في الخرطوم اتصلنا بالاطفائية هنا في السويد , فأخذونا في جولات تعريفية . و بعضها كانت لمحطات حريقة بدون موظفين . و لكن عربات الحريقة متواجدة  , و المعدات متواجدة عند حدوث حريقة . يهرع أهل القرية المتدربون و يرتدون ملابس رجال حريقة و يقودون سيارات الحريقة و الاسعاف , و يقومون بأطفاء الحريق و اسعاف المصابين . فالجميع قد تدربوا على هذه الاشياء . و هنالك مبنى للأطفائية مزود بتلفزيون و مسجل و ماكينة للشاي و القهوة . و يكون هنالك شخص أو شخصين متطوعين للتواجد في ذلك  المبنى و كل من سمح وقتهم . و هنالك مسئول أول و مسئول ثاني ..... الخ . المحن السودانية اننا لا نقبل رئاسة الاخرين , و يمكن ان نضحي بحياتنا من أجل الاخرين , و لكن ينقصنا الانضباط و التنظيم .

قبل فترة كنت اشاهد فلما تلفزونيا عن الاوربين الذين يهرعون لمناطق الزلزال , و كيف يخاطرون بحياتهم و يدخلون في اماكن ضيقة بين الانقاض , و هنالك احتمال حدوث هزات جديدة . و شاهدتهم ينقذون أم و طفلها بعد ثلاثة ايام , و أذكر ان اسم الطفل كان عباس . و أعجب لماذا لا تتكون فرق بهذا الشكل في الدول الاسلامية , التي تدعو الناس للقيام بصالح الاعمال و توقع الجنة و النعيم و حسن الثواب. و أغلب الاوربيين الذين يخاطرون بحياتهم لا يؤمنون حتى بالله , و لا يتوقعون جزاءاً ولا شكورا. و في حوادث رواندا التى قتل فيها ما يقارب المليون من البشر , كان الاوربيون أول من ذهب الى المساعدة . و أذكر انني قد قلت لمسئول عربي, لماذا لم ترسلوا حتى حاوية مليئة بالبسكويت . و زوجة نائب الرئيس الامريكي قور , كانت هنالك وسط المساعدين . فقال لي المسئول العربي ( دا كلو عشان التلفزيون و الدعاية السياسية و هدول افارقة ايش لينا فيهم  ) . فقلت له لقد وقف الافارقة معكم في كل نضالكم ضد اسرائيل . و صوتوا بجانبكم في الامم المتحدة .( ياخي رسلو انسان لابس دشداشة حتى كأظهار نوع من التضامن ). فنظر الي المسئول العربي مستعجباً .

 في الستينيات و عندما قطع السودان علاقته مع بريطانيا و ألمانيا , صاروا يرسلون المبعوثين الى شرق اوربا . و صار شكل السودانيين و السودانيات بالتوب السوداني ظاهرة عادية في براغ . أذكر أن الاخ ابراهيم عبيد الله و الاخ ابراهيم صالح عليهم الرحمة و الاخ عبد الوهاب عثمان وزير المالية السابق يرحبون بمبعوث جديد . و قدموه لي على اساس انه ابن عمي رباطابي . و في اثناء الحديث و الدردشة سأله ابراهيم عن زواجه , لأنهم عندما تركوه في السودان كان على وشك الزواج . فأنتفض الرباطابي الذي لم يكن يتمتع بأي مسحة جمالية , بل هو اقرب من الدمامة قائلاً ( عرس شنو ! البت ما طلعت عميانة ). و بالاستفسار عن غرابة الموضوع أكتشف ان اهله عندما ذهبوا لزيارتها في المنزل , اكتشفوا انها كانت تقرأ لانها و كانت ترتدي نظارة .

 المحنة أن الرجل لم يكن يجد اي غرابة في انه فسخ خطبته . فقلت له ياخي عندها نظارة ما معناها عميانة . و أي زول يفوت الاربعين سنة يستحسن أن يقرأ بي نظارة عشان يحافظ على نظره , و ضعف النظر ليس من الشئ الذي يقلل من قيمة الانسان . و كان يمكن ان أفهم اذا كان يتحدث عن اخلاق البنت أو تربيتها أو شئ اخر , و لكن نظارة النظر يجب ان لا تكون حائلاً.

غضب الرباطابي بشدة و قال لي ( ياخي أعرس لي مرة عميانة, ليه ؟ النسوان المفتحات ما في . و بعدين هم ليه ما كلموني من الأول , البنت عندها نظارة , مش الحمد لله اهلي عرفوا بالصدفة . كان هسا اجيب لي أولاد عميانين برضو) . و اكتفيت بأن اتجاهل ابن عمي الرباطابي لان الكلام معه لا يجدي . و هذه بعض المحن السودانية , فالشخص جامعي و متعلم و من المؤكد انه الان يلبس نظارة نظر و سيغضب جدا اذا وصفه الانسان بأنه أعمى .

الصقر الذي وقع في ساحة بيتنا الخلفية , لم يستطع ان يذهب بعيداً لأن تلك المنطقة محاطة بسور. و هذا السور بنيناه في الصيف الماضي لأن القانون السويدي يلزمنا ببناء ذلك السور و كان يفصلني من الجيران الثلاثة حائط من الاشجار المتشابكة طوله  أقل من المتر. و ليس للمنزل ابواب بل فتحات كبيرة في ذلك السور و نحن على الناصية . و السبب هو أننا قد بنينا حوض سباحة . و لأننا سودانيين نعيش في المريخ بالعقلية السودانية . فقد اكتشفنا فيما بعد بأننا ملزمين بأن نبني سوراً. و السبب هو أن القانون يحمي البشر أو الحيوانات . و قالت لي المسئولة لأنه اذا أتى طفل من الجيران أو من الشارع و غرق في ذلك الحوض فأنا المسئول . و اذا اتى لص ( مسكين) و سقط أو اصيب بكسر أو ارتطم رأسه بحافة الحوض في الليل و غرق ذلك اللص ( المسكين ) فهذه مسئوليتي . لأن اللص المسكين حضر فقط ليسرق , و اذا فقد حياته فأنني و لا شك سأندم بقية حياتي . ثم واصلت و لربما يحضر كلب صغير أو قط أو قنفذ أو أرنب و يسقط في الحوض . لهذا يلزمك القانون أن تبني حائط من كل الجهات لسلامة الحيوانات و اللص المسكين . فأقتنعت بكلامها في حماية اللص المسكين الذي يأتي بشعور جميل و لا يقصد لنا شراً سوى السرقة .

قبل ان اذهب لأوروبا بفترة قصيرة , انتقلنا من منزلنا من العباسية فوق ميدان الربيع الى العباسية تحت السردارية . و لكن كلبنا الذي لم نربطه , لم يتعود على المنزل الجديد . فرجع الى المنزل القديم . فقام صبية الحي بقتله كنوع من الرياضة او المتعة. و غضب اخوتي الصغار. و كنت ذاهباً لتصفية الحساب مع أهل الاولاد . الى ان اوقفني تؤام الروح بله رحمة الله عليه . و كان يقول لي ( ديل شفع صغار ما حتقدر تعمل ليهم حاجة . يعني حا تمشي تضارب اهلهم في كلب . ما الكلاب دي عادة ً الناس بقتلوها بأمدرمان . و انت ذاتك يا شوقي, قبل كدا ما كتلت او دقيت كلب ؟ ). فخجلت من نفسي . و ما يحدث للصوص في بلادنا فحدث و لا حرج .

التحية ع. س. شوقي .



© Copyright by sudaneseonline.com