From sudaneseonline.com

مقالات و تحليلات
بادي 00 ومضة "تجليات" في محراب فيض الأغنيات بقلم : عبد المعين الحاج جبر السيد
By
Apr 17, 2011, 19:10

بادي 00  ومضة "تجليات" في محراب فيض  الأغنيات  

بقلم : عبد المعين الحاج جبر السيد

لا أعرف أحداً من الفنانين السودانيين القدامى أو المعاصرين , بلغ به مدى الحب والإخلاص حد الوله والوجد والتجلي  للفن ,وظل عاكفاً في محرابه ,حيناً من الدهر , (طيلة عمره الفني) كترجمان الحقيبة , الكروان , البلبل الصداح , بادي محمد الطيب (1935ـ2007م) , الذي أفرغ كل مساحة من قلبه  لحب الفن وتجديداً أغاني  الحقيبة  , لا ينازعه في هذا الحب الجارف أي حب آخر , لقد وجد بادي في الغناء متعة باذخة , ولذة فائقة , تفوق بكثير متعة الزواج , ونعمة الولد ,وهو ما يفسر في اعتقادي سر عزوفه عن الزواج , فنه كان محرابه ,وأهله وولده ,وكل شيء في حياته , اكتشف أن (لذة النص) كما يرى الفيلسوف والناقد الأدبي  الفرنسي رولان بارت , قيمة  تسمو بالقارئ /المستمع /المشاهد , حتى تكاد تلغي وجود مؤلف النص ,(موت المؤلف) ,فبادي حين يصدح  تنسى مع رقة أدائه , وعذوبة ألحانه الندية , شاعر النص الغنائي  ,  دعونا نقول بكل صراحةً و وضوح , بادي تزوج الفن إن صح التعبير , أمينة رزق , رفضت الزواج و نذرت كل حياتها للتمثيل فابتدعت قرابة 1000عمل في السينما والمسرح والتلفزيون والإذاعة  , د/ عبد الرحمن بدوي كرس حياته كلها للفلسفة , العقاد عشق الأدب إلى درجة الوله , توفيق الحكيم هام بالكتابة حد الجنون , شغف الروائي العالمي كزنتازكس ,بجزيرة كريت حرضه على كتابة رواية زوربا فكانت بحق قمة الإبداع والإمتاع , "ابن الحارة" القاص والمؤرخ والكاتب محمد صادق دياب (توفى 17أبريل 2011) عشق بوابة الحرمين (جدة) , إلى أبعد الحدود وخصص كل أعماله الإبداعية لجدة ,  سئل ذات مرة الفنان الكبير عثمان حسين ,أيهما أحب إليك : الولد أم الفن ؟ فأجاب الفن .بادي ظل مخلصاً للفن حتى آخر يوم في حياته , لإيمانه العميق بأن الفن الأصيل إنما يمثل  رسالة ذات أهداف نبيلة ,وغايات كبيرة .

   أثبت بادي أنه (سادن) غناء الحقيبة , حارس كلماتها (الذهبية) من السرقة وبيعها  في سوق فناني "العدادات" والغفلة  أصحاب "التوابيت" على رأي المطرب زيدان إبراهيم ,  بأرخص الأثمان ,بكاء بادي وهو يغني في منزله بالعباسية بأم درمان ,ما هو إلا إحساساً غريزياً صادقاً  بالخوف على ضياع هذا الميراث الكبير ,  الفن عند بادي ليس ترفاً ولا تسليةً ولا تزجيه  فراغ , بل هماً وعملاً شاقاً  يتطلب بذل الجهد , وسكب العرق , هو معركة لنيل إحدى الحسنيين , حياة بشرف ,أو موت بشهادة  , بلغت به الغيرة على (كنز الحقيبة) ,إلى اقتحام استديو الإذاعة السودانية لسماعه أغنية (ياحبيبي هل تدري أنا صاحي طول الليل أتأمل البدر وأذكر جمال محياك) ,بطريقة  غير مطابقة للحن الأصلي ,فقام بأداء الأغنية باللحن الصحيح , على الهواء مباشرة .

      قبل نحو ربع قرن تقريباً , استضاف عوض بابكر الباحث في التراث , ومقدم برنامج حقيبة الفن في الإذاعة السودانية ,المطرب الباذخ بادي , الواقع أننا اكتشفنا منجماً ثرياً يضج بلآلئ أغاني الحقيبة  وجواهر التراث الشعبي الأصيل , ليس على مستوى أداء صوت الحنجرة الذهبية , فحسب , بل بأستاذ في علم الأصوات والموشحات , و بحور الشعر العربي ,والتعامل مع "لزوم مايلزم"   وخبير في فن الموشحات  والتقاسيم والمقامات والذي راح يشرح بعمق أنواعها  (الحجاز , الصبا , السيقا , النهواند ) ,مع إيراد الأمثلة التطبيقية الحية , على كيفية مخارج الحروف الجزلى المموسقة باللحن الشجي  , وماهية المواضع التي يتوجب فيها الوقف , والتي لايجوز فيها ,وحركات المد وحروف الغنة  ,والوصل والفصل , والإظهار والإدغام والإخفاء والإقلاب , وأماكن الزخرفة اللحنية والتنغيم والترخيم ,ووزن الجمل الموسيقية ,واللحن الدائري ,إنها دروس مجانية عبر الأثير  للأجيال  الشبابية القادمة لترسيخ أسس الفن الغنائي على قاعدة الطرب الجميل , وصناعة تشكيل الذائقة الفنية السودانية  بمعايير عالية الجودة .لتكون مدرسة مفتوحة لكل الراغبين في الانتساب إليها , ضد فساد الذوق والحس الفني الذي لوثته الحناجر الصدئة الباهتة الممسوخة ,ومظاهر ظواهر  الفقاعات "الغنائية" التي  سرعان ما تتبدد في الهواء ,لأن هذه الأصوات النشاز , لاتجيد إلا التسلق على أكتاف الآخرين , مثل نبات اللبلاب .  

 حافظ بادي على "رقه" ورقته كعادته حين يكون في حضرة الغناء , وعندما يهيم حباً , ويذوب عشقاً مع النص "العظيم" واللحن الفخيم , تتملك بادي حالة من التجلي والتماهي , فيما يشبه الصوفي الغارق في بحر النشوة , ولذة الوجد ونفحة التسامي المحلق فوق طيات السحاب , مستشرفاً لتشوقات سماوية , وتشوفات علوية , فيطلق صيحات "الوجد "  الله 00الله 00ياسلام 00أوه , عندها تدرك أن بادي تلبسه الوله الذي يشي باتحاد الروح مع النص , في ائتلاف جواني باطني , مثله مثل مصطفى سعيد الهائم في سياحة وسباحة بحر الصوفية , بطل رواية موسم الهجرة إلى الشمال , للروائي العالمي الطيب صالح , بادي ومصطفى كلاهما صوفي حتى الثمالة , الفارق الوحيد هو أن مصطفى بطل متخيل , و بادي شخص حقيقي من لحم ودم .

       إذا كانت كوكب الشرق الست أم كلثوم , قد اتخذت من المنديل شعاراً , والمطرب عبد العزيز داود , الكبريت شارة , والفنان عوض الكريم عبد الله  ,العصا علامةً , فقد فطن بادي لهذه الكاريزما , وانكب يرسم لنفسه ملامح شخصية تميزه عن غيره , تتواءم مع صوته المتفرد ,وتصوفه الاستثنائي , ووجد ضالته في إطلاق "ضفائر" شعر رأسه , وهي صفة غير مرحب بها في مجتمعنا وتراثنا السوداني  , اللهم إلا في حالة استثنائية واحدة ,وهي حالة الرجل المتصوف "السائح" الزاهد , بادي وازن بين تبتل العابد , وتنسك الفنان الزاهد , سيماء التدين لاتخطئها العين , ولا نزكي على الله أحداً. لقد رفع مقام الفن من النظرة السوداوية  , إلى مرتبة العفاف وصيانة الفضيلة ,والتخلق بالآداب الحميدة ,والتمسك  بأهداب الشرف الرفيع في مضمار الحب الطاهر الشريف النظيف .

     لا أعرف من الذي أعطي الحق في توزيع الألقاب المجانية على الفنانين المعاصرين , وإطلاق المسميات والتوصيفات والتصنيفات على كل من هب ودب , بلا معايير أو ضوابط تحكيم ,فهذا فنان العرب , وذاك سلطان الطرب , وهذا فنان الشباب , رغم أن بعض هؤلاء مجرد "لخمة رأس" , لا اعتراض على لقب موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب , والعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ , وكوكب الشرق "ثومه" , وكروان السودان كرومه , بادي ملأ فراغ كرومه بعد رحيله ,واستلم الراية من بعده , واستحق بجدارة لقب كروان الحقيبة  بشهادة الخبراء والمختصين في شؤون الفن .

    نفض بادي "ترجمان الحقيبة" غبار النسيان عن الأغنية التراثية , وأعاد للأغاني الشعبية عافيتها وعنفوانها وشبابها , بضخ "دم الدوزنة" إلى قلب الأغنية , فعادت لها الروح , والهيبة والصولة , والشخصية الاعتبارية , نقلها من "السليقة" والتلقائية إلى العلمية والهرمونية , بث في مفاصلها الحركة , بعد التكلس والتيبس , جدد ثوبها القديم , وكساها الحلل والديباج والحرير , التجديد عند بادي ,ليس إدعاءً أو انقلاباً على الثوابت , وقولبة التراث ومس الجوهر , أو القفز فوق المعنى والمضمون , هو تطور تاريخي ممتد عبر الأجيال ,شريطة احترام الأصل ,والتفاعل مع النص واللحن في إطار السياق العام , المستند على العلم والمعرفة والدراية والدربة , والتحرر من سطوة التبعية , والقدرة على إحداث التغيير , بإضافة البصمة الخاصة ,بعد إعادة نبش التراث , وإزاحة الركام عنه , بتطويع المفردة "الخالدة" إلى علمية  التنويت , بتلوين الحروف بطيف  ألوان قزح الفرايحية , لقد بز بادي خريجو معهد الموسيقي , أثبت أن الموهبة تتقدم على الدراسة , عطر أثير السودان بالشجن النبيل , والنغم الطروب كشدو بلابل الدوح عند الغروب .

    حفظ بادي للقرآن الكريم , مبكراً منذ الصبا , أعطته ملكة خاصة في معرفة دقائق النحو والصرف , وأسرار اللغة العربية ,وعلم القراءات , حتى غدا مؤرخاً شفاهياً موسوعياً , في أغانيي الحقيبة , إلى جانب كونه "كروان " وصداح الفن , مهنته الأولى في كافتيريا جامعة الخرطوم , دربته على التذوق من الطعام إلى تذوق الكلمات , المغموسة في اللحن "الدسم" , فتربع بحق ملكاً على قلوب الملايين  من محبي ومعجبي فنه من السودانيين في الداخل والخارج , نهل بادي من معين عبقرية الكاشف اللحنية المتدفقة بعفوية , ومن مدرسة كرومه وزنقار وبطران وعبد الله الماحي ,تعلم صناعة الطرب الأصيل بتحويل النص الجامد , إلى حروف يانعة مورقة , تزدهي بجلال الحياة , وجمال الإشراق , وفيض النور , فكم من مغن أدى "لزمة" أو "كوبلي" من أغاني الحقيبة تحديداً , تستشعر فقر الإحساس , وفقدان  الطرب والبوح والإدهاش  ,والاخضرار ,ودفئ الحرارة وزخم التفاعل والانسجام , فشتان مابين شدو القماري , ونعيق الغربان . يجبر بادي الأذن على الاستماع والاستمتاع بتذوق النغم الرخيم , عرف كيف يستل الدمعة من المآقي , بدغدغة المشاعر المرهفة , بفخامة اللحن , و الكلمة الرصينة الرشيقة , ككل العظماء من أساطين الشعراء الذين غزل كلماتهم في ديباجة الحرير أمثال : محمد بشير عتيق , ومحمد عبد الله الأمي , وصلاح عبد السيد أبو صلاح , وسيد عبد العزيز , وعبيد عبد الرحمن ,وعبد الرحمن الريح , وخليل فرح , وود الرضي , وعمر البنا  وغيرهم من الذين مثلوا أعظم دور على خارطة شعراء الأغنية السودانية  , قلة من الفنانين يدهشون جمهور المتذوقين , بادي ضمن قائمة هؤلاء , فمنذ أن صدح بادي " بالكبريت" أغنية قائد الأسطول في أوائل الستينات من القرن الماضي , في الإذاعة  , أعتقد الناس أنه كرومه , ترى أي فخر تتوج بها بداية مسيرة هذا المشوار الفني الكبير  ؟ واكتمل العقد بتسجيل أكثر من مائة أغنية بقيت حيةً في ذاكرة الأمة السودانية , بداءً من أغنية  أنة المجروح , مروراً بمسو نوركم , وانتهاء بود مدني .

   نالت بادي سهام عدة طائشة  من الحاسدين , وطعنات غادرة وغائرة من الحاقدين المتربصين بموهبته الفذة , الذين أكلت نيران الحسد  قلوبهم , وأعمت بصائرهم الغيرة على  ذيوع  شهرته , التي طبقت الآفاق , وعلو درجات  نجاحه التي سطعت في سماء الإبداع  , إنهم "الأقزام"  الذين تعلقوا بالمهنة للارتزاق , أولئك  "الببغائيين"الغوغائيين  , المتسكعين اعتباطا في شارع الفن ,فنانو الغفلة والثرثرة و"البلطجة" الذين يتناسلون كالناموس والبعوض . فهم بادي الرسالة , وعرف أن الشجرة المثمرة لابد أن تقذف بالحجارة , وكالكبار تسامى عن اللغو والترهات والمهاترات والمشاحنات والخلافات ,وصرف همته نحو تجويد الأداء  وتطوير الذات , والقراءة  للمعرفة والتثقيف والتنوير .

    في الوقت الذي يتساقط فيه العشرات من "مرتزقة " الفن على فتات موائد الرؤساء , مدحاً وتلميعاً , عف  بادي لسانه عن التدليس , وطهر يده من أوساخ الهبات والإكراميات , بقي بادي كالطود شامخاً , صامداً , عصياً على التدجين والتهجين السياسي , رغم إغداق المال لركوب قطار الجوقة ,  قناعة بادي بمبدأ مالحب إلا للحبيب الأول (الفن) , أعطته حصانة ضد أي فيروس إغواء ، وجرثومة إغراء مهما كان الثمن , لم يسجن نفسه وفنه بين أقبية أي حزب , أو فريق رياضي , الفن عند بادي , لغة عالمية تتجاوز الحدود الجغرافية , لتخاطب الإنسان في كل مكان , أنت أمام فنان مفكر , لديه رؤية وفلسفة فنية تؤهله ليكون سفيرا للرومانسية و النوايا الحسنة , لأنه آسر القلوب حباً , ومحرضاً على ثورة الحب , يرش المحبين بمخدر النغم اللذيذ , و"بنبان" المحبة المسيل لدموع العاشقين , كما كان يفعل الشاعر الكبير نزار قباني ,

لم ينل بادي حظه من الاحتفاء والتكريم في حياته فضلاً عن مماته , من قبل وزارة الثقافة والإعلام السودانية , رغم الشذرات المتفرقات من اللقاءات العابرة , والمقابلات الشحيحة , في مختلف الأجهزة الإعلامية , والدراسات النقدية لأعماله الإبداعية في الصحافة الفنية , أمام الباحثين فرصة ذهبية لاستخراج "كنوز" بادي المدفونة , وبسطها للعامة والخاصة من المهتمين بالغناء , أسس بادي مدرسة (السهل /الممتنع) الغنائية , إن مسيرته الإبداعية مادة دسمة وثرية لنيل درجة الماجستير والدكتوراه , من خلال الأطروحات العلمية الجامعية , تجربة بادي كظاهرة فنية فذة تستحق أن تدرج في مناهج معاهد الموسيقى العربية والأفريقية , لعمق ثرائها , وقوة تأثير نفوذها , فرادة تميزها . حان الوقت لإطلاق اسم بادي على أحد استوديوهات الإذاعة , وكذلك على أي من قاعات كلية الموسيقى والدراما , وأيضاً على واحد من شوارع العباسية بأم درمان , وأيضاً على أحد شوارع الكاملين /حلة عباس ,مسقط رأسه , وفاءاً وتكريماً وعرفاناً بالجميل لهذا الفنان النبيل , كيف لا وبادي ليس ملك نفسه أواقاربه أو أبناء منطقته , إنه ملك لجميع أهل السودان من أقصاه إلى أقصاه , ويبقى ترجمان  

  التكريم الحقيقي في نقش اسم بادي على  قلوب ملايين السودانيين  من عشاق ومحبي فنه الأصيل , ليبقى خالداً  محفوراً في الذاكرة على مر الدهور والأجيال , متفوقاً بذلك على كثير من الرؤساء الذين سقطوا في غيابة الجب والنسيان بمجرد أن أنزلوا  في  اللحود .

[email protected]



© Copyright by sudaneseonline.com