From sudaneseonline.com

مقالات و تحليلات
الوطنية ما بين "أحبك يا كتاحة" و "ملعون ابوك يا بلد"/د.علي عبدالقادر/ باحث أكاديمي/ باريس
By
Apr 14, 2011, 10:29

 

الوطنية ما بين "أحبك يا كتاحة" و  "ملعون ابوك   يا بلد"

د.علي عبدالقادر/ باحث أكاديمي/ باريس

لبنان بلد صغير من حيث المساحة 10452 كم، ويقدر عدد سكانها بحوالي 5 مليون بالداخل ولعل عدد المهاجرين في بقاع الأرض - خاصة أمريكا اللاتينية وإفريقيا يوازي عدد الموجدين داخل البلاد وناهيك عن تكوينها التاريخي فهي دولة  تتنوع فيها الطوائف حوالي 18 طائفة وتعدد فيها الأديان )ماروني، سني، شيعي، المسيحي، درزي( . و أدى ذلك لاستمرار الحرب الأهلية لمدة 15 عام، وكل ما يهمنا مما سردناه أن اللبناني أينما وجد على مشارق الأرض و مغاربها يشده حنين ويربطه رابط وإخلاص لتلك البلاد التي ولد بها هو أو مسقط راس آبائه فلما كل هذا التعلق والعشق للأرض!  وهل للأمر علاقة بالوطنية!

مساحة مصر نصف مساحة السودان وثلثها صحراء وعدد سكانها يفوق ال 80 مليون نسمة ولم يبق شبر ولم يستغل فيها حتي المقابر، وعانت مصر ما عانت من اضطهاد شعبها واستعباده خلال كل الحقب التاريخية من عهد الفراعنة ومروراً بكل عهود الغزاة والفاتحين لها. حتى بعد الاستقلال لم تعرف مصر سوى الحكم العسكري والقبضة الحديدية بواسطة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، أي أن المواطن المصري لم يذق يوما في حياته معنى الحرية، ولا يأكل المواطن المصري حتى الشبع سوى الفول والطعمية والعدس والبصل (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها...قيل اهبطوا مصر فان لكم ما سألتم ). ورغم ذلك لا تجد مصري واحد مهما بلغت به درجة الخيانة يقبل أن تسب مصر الوطن سراً أو علنا. بل مهما ابتعد عنها أو بلغ ما بلغ من المنصب أو الجاه تجده يحن بالرجوع إليها ولو كان آلفايد أو فاروق الباز أو بطرس غالي.

 

ما سبق يقودنا إلى ما خلصنا إليه في مقالنا السابق )الفشل في التربية الوطنية شرط لدخول حكومة "البلد الما عندو وجيع"( إلى أن ضعف الانتماء بين الفرد السوداني وأرض السودان قد يرجع لكراهية المواطن لكل الحكومات السابقة والحالية بل وتخوفه وعدم ثقته في الحكومات القادمة أيضا، أي كراهية المواطن لكل من يحكمه ويسيسه والتحسر عليه عند ذهابه ومجيء من هو أسوأ منه "ضيعناك وضعنا معاك". وما سبق جزء من أسباب ضعف الروح الوطنية لدى المواطن السوداني.

 

ولنستعرض في هذا المقال نوعين من أسباب الإحساس بضعف الروح الوطنية:

أولاً : عدم وطنية لأسباب خارجية عن الفرد كأسباب سياسية بسبب الحكومة الظالمة وكمثال لذلك عدم التحسر على حلفا القديمة وآثارها التي غرقت تحت المياه عند بناء السد العالي ما عدا لدى قلة من الأجداد الذين بقوا بالمنطقة وهم يرددون "حلفا دغيم ولا باريس ، يخرب بيتك يا عبود".

وعلى نفس النسق، من منا "يا هداك الله" غضب يوما ولو في قرارة نفسه لأن الأرض في مثلث "لامي" الحدودي مع إثيوبيا وكينيا قد سرقت، بل لعل شباب اليوم لا يعرف أين يقع هذا المثلث لان كتب التاريخ والإعلام الحكومي يتعمدان أن لا يذكروه. ومن يفكر اليوم في منطقتي الفشقة وقروره اللتين احتلتا )قلعوها( في عهد "الزارعنا غير الله اليجي يقلعنا" و "الدايرنا يطالعنا الشارع". ولماذا الغضب وقد قيل أن أحد السياسيين البارزين في الثمانينات عندما أخبره قادة القوات المسلحة بأن مدينة قيسان قد سقطت في أيدي قوات الجيش الشعبي لتحرير السودان، أجابهم قائلاً "يعني شنو لو سقطت ما برلين سقطت". 

 بل من منا غضب غضبة مضرية عندما ضرب مصنع الشفاء باعتباره أرض سودانية، بل نجد أن البعض قد شمت في الحكومة  ولم ينظر بأن التراب والحمى السوداني قد دنس في تلك الضربة الجوية في شمال مدينة بورتسودان في 2009 م وهذه الضربة في مارس 2011م بالقرب من مدينة بورتسودان.

وكذلك نجد من مظاهر عدم الوطنية تخريب هيئة السكك الحديدية، فبعد أن ترك المستعمر الانجليزي البلد موحدة وربطها بخط حديدي من أقصى شمالها لأقصى جنوبها ومن أقصى شرقها إلى أقصى غربها، وكانت خدمات السكك الحديدية في قمة الجودة والدقة وقيل بأنه كان يمكن أن تضبط الساعة على مواعيد القطار، ثم جاء الاستقلال وصولا إلى مايو وحوربت مدينة عطبره عاصمة الحديد والنار وتدهورت الخدمات وكان البعض يخادع نميري بأنهم صنعوا أو قاموا بتركيب قطار بأيدي سودانية وسموه "قطار الوحدة" ، في حين انه استمر التدهور وجاء زمن قمنا فيه ب"دفرة القطر" واستمر التدهور إلى أن توقف القطار تماماً وبيعت السكك الحديدية ثم انتهينا ببيع بيوت السكة حديد نفسها.

وبمناسبة البيع دعونا نتوقف عند ظاهرة البيع كنوع من عدم الوطنية، فلقد بيع مصنع اسمنت عطبره ومصنع اسمنت ربك ولو اقتصرنا على الخرطوم فقد بيع موقع مدرسة الخرطوم الأهلية وبيع موقع حديقة الحيوانات وحل محلها برج الفاتح، وبيع موقع حي "العشش"وجاء بدلاً عنه حي النزهة، وبيع زنك اللحمة والخضار وبيع حي المقرن وبيع المطار الحالي ولا استغرب أن يباع متحف السودان وان يباع القصر الجمهوري نفسه في الأيام القادمات.

بل أسوأ من كل ما سبق هو بيع الوطن من خلال الوحدة المنفرة، والرضا بقسمته مقابل البقاء على كرسي الحكم، فمثلاً من باب التضحية بالذات لماذا لم تسلم الحكومة السودانية "الثلاثي المرح"  البشير والوزير و"العوير" لمحكمة العدل الدولية، ثم تدافع عنهم بأساليب قانونية وحضارية، ولنفرض أنه تم الحكم عليهم بالسجن ظلما بعدد من السنوات ، فليكن ذلك مهر للحفاظ على وحدة البلاد. ومن باب القياس مع الفارق نقول سجن مانديلا حوالي 27 عام وخرج من السجن شيخ هرما محققاً حلمه في توحيد البلاد عرقيا ومناهضة التفرقة العنصرية ، ونجح في توحيد البلاد، فهل ذلك الثلاثي المطلوب للعدالة الدولية أفضل من مانديلا وهل مابين شمال وجنوب السودان اشد سؤ مما هو في جنوب أفريقيا؟

 

ثانياً :  عدم وطنية ذاتية وترجع للتربية الخاطئة وللقصور في الفهم حتى من قبل النخب، والمختصين وأساتذة الجامعات وأصحاب التخصصات الدقيقة ، وكمثال ذلك الجراح الذي يرفض إجراء الجراحة وإسعاف ذلك المريض قبل إن يأتي له بأورنيك 8 وقبل أن يجمع أهل المريض التكلفة المالية  للعملية الجراحية.

بل  حتى ذلك التاجر الذي يبحث عن الثراء أو الوجاهة بالاستثمار من خلال تحويل مدرسة ثانوية لجامعة فقط باستبدال كلمة ثانوية بجامعة أو كلية دون أن يوفر الحد الأدنى من إمكانيات ما يمكن تسميته كلية، وفي خلال بعض سنوات يتم تخريج الكثيرين ومنهم أطباء ومهندسين لم يتلقوا التدريب ولا التأهيل الكافي، لماذا لا يفتح ذلك التاجر مستوصف في القرى النائية راجياً من الله الأجر؟ أما الخريج فهو ضحية المجتمع الذي لا يحترمه إلا إذا كان معه مالاً أو شهادة ما، ثم يصبح ذلك الخريج جلاد عند ممارسته نوع من النظرة الدنيوية لبقية قطاع المجتمع، والتقوقع في برج عاجي في انتظار التسبيح والتمجيد وقيام الآخرين بخدمته. ولكم في انتشار حروف الدال وألقاب "البروف" في السودان أكثر من انتشارها في أي بلد أوربي خير مثال. قيل إنه إذا ناديت "يا دكتور" في سوق الخرطوم التف إليك نصف السوق وكل يعتقد أو يحلم انه المعني.

كثير من خريجي الزراعة في بلادي لا يحلمون بالزراعة ولا بالطورية ولا بالمكننة الزراعية بل بالمكتب والامتيازات،خاصة وان الدولة تشجع تخرجهم من الجامعات ولكن ترفض تشغيلهم! ومحاربة الخريجين بما فيهم الأطباء جعل كل خريجي الطب في بلادي يحلمون بالاغتراب لبريطانيا أو ايرلندا حيث توجد فرص للتخصص ومرتبات مغرية مما أوجد الآلاف الأطباء السودانيين بالخارج، متناسين قول القائل و"للأوطان في دم كل حر يد سلفت ودين مستحق". وهكذا يصبح الكثير منا مظلوم وظالم في نفس الوقت، فهل للأمر علاقة بصدق الوطنية.

تعجبت لعدم اهتمام الأوربي بالألقاب العلمية بل وبزهده في دراسات السلك الثالث وتواضع حملة تلك الألقاب العلمية منهم ، قال ابن تيمية " ..فالمسكنة خلق في النفس.. وهو التواضع والخشوع."

ومما رأيت في الجامعة بفرنسا كيف أن الأستاذ بمجرد انتهاء المحاضرة يذهب ليقف في صف المطعم الجامعي مع بقية الطلاب دون أن يمجده أحد أو يقدمه احد في الطابور ويحمل صينيته ويجلس ليأكل ثم يرفع صينيته ويضعها في مكان الغسيل ويذهب. ليس هناك من يحضر له صحن الفول بالكبدة و"الشية" والشاي! ثم تجد ذلك الأستاذ الأوربي في المكتبة يجلس بجانب الطلاب يراجع الكتب ويحضر محاضراته في هدوء ويمكن للطلاب أن يناقشوه داخل أو خارج القاعة في أريحية، وكمثال على احترامه لأراء طلابه واعتقاده بأنه  "يوجد في النهر مالا يوجد في البحر"، تجد أن الكثير من الأبحاث والدراسات العظيمة هي إعمال مشتركة بين الأستاذ وطلبته . هل للتواضع والأمانة هنا علاقة بالوطنية!

 

وكذلك من جوانب عدم الوطنية البسيطة والتي هي من صميم التربية ولا علاقة لها بالسياسة و"الحكيومه"، فمثلاً لماذا يرمى الفرد بسفة "التمباك" بطريقة يشمئز منها الجميع وعلى الأرض ومعها بصاق،في حين أننا نجد صاحب الكلب بالدول الأوربية يخرجه لقضاء حاجته ونجد صاحب الكلب يسير خلفه ويجمع فضلاته في "كيس" بكل هدوء ويرميه في سلة المهملات!

 لماذا لا ينظف كل منا أمام بيته ولو في يوم الجمعة ولماذا يعتبر أن ذلك الأمر غير مهم، و لماذا لا ينظف كل منا داخل بيته ويرتبه إلا قبل مجيء الضيوف بقليل، و لماذا يتبول الكثير منا في النيل، ناهيك عن من يرمون النفايات في النيل ولا يأبهون كثيراً للأمر، وهو أمر حقيقي أن كثير من المصانع السودانية ترمي بنفاياتها في النيل. و لعلنا نذكر كيف أن المعارضة في سنوات الثمانينات كانت ترمي الدقيق في النيل.

هل من حب الوطن في شيء الحضور إلي العمل يوميا متأخراً ساعة أو أكثر ثم قراءة الصحيفة وشرب الشاي و الإفطار ثم إضاعة الوقت حتى الثانية عشر والزوغان من العمل في تمام الواحدة بحجة الصلاة وصعوبة المواصلات، ناهيك عن من يقوم بتسجيل أسمه في كشوف أحد المصالح الحكومية واستلام الراتب دون العمل حقيقة في تلك الجهة؟ وهو يعلم بأن "من أخذ الأجر حاسبه الله بالعمل"  ويبرر الأمر بأنها الظروف التي تجبره على ذلك . وتجد نفس ذلك الفرد بين رشفة من كوب الشاي وأخرى ينظر ويحلل أسباب تأخر عجلة التنمية وتخلف البلاد.

قبل سنوات طوال مضت شاءت الصدف أن أتحادث مع أحدى  القيادات بالحزب الشيوعي السوداني وإحدى سيدات الأعمال حينها وأقنعتني بأن أتوجه إلى التعليم الفني وكيف أن التعليم الفني هو المستقبل للشباب وللبلد، خاصة وأنها عضو في لجنة تسعي لتطوير التعليم الفني بالسودان. قبل أن أخرج من عندها أخبرتني في أمانة بأنه رغم ذلك فإن ابنها يدرس إدارة أعمال ببريطانيا حتى يطور أعمالها التجارية عند رجوعه! وكفرت من حينها بالشيوعية. وحديثها كشيوعية يقابله من الناحية الأخرى ما يروى من أن أحد الأئمة كان يحدث في المسجد بتيسير الزواج وتقليل المهور وفي نهاية الدرس، خارج المسجد، تقدم نحوه أحد الشباب يطلب منه يد بنته بمهر قليل فأجابه الشيخ "يا ولدي دا ما كلام جوامع ساكت".

هل كلنا سواسية في حب التنظير إلى درجة الهوس وكلنا أبو كلام السندكالي؟ وماذا لو كان هوسنا بالعمل مثل الشعب الياباني بدلا عن الكلام والتنظير.

كذلك نحن "المختبئين بالخارج" نعلن حباً بلا سقف ولا حد ولا عد ونسجد عند الوصول لمطار الخرطوم ونقبل الأرض ونصرخ عشقا "أحبك يا كتاحة" ولكن بمجرد أن يمر أسبوع أو أسبوعين نبدأ بالتململ والإسراع بالوقوف في صفوف تأشيرة الخروج ونحن نسب ذلك التخلف الذي وجدناه بالداخل ونقارن بينها وبين التقدم في تلك البلاد التي قدمنا منها. ولا نسأل أنفسنا نحن المغتربين أو المهاجرين ماذا فعلنا لتعمير وتطوير البلد خلال إقامتنا بالخارج أو حتى خلال هذه الأسبوعين من الإقامة بالداخل، هل مثلا قمنا بغرس شتلة "إذا قامت القيامة وكان بيد أحدكم فسيلة فليغرسها". هل قمنا بالمساهمة في حفر بئر بالقرية أو شراء حجارة للمقابر بالمنطقة أو قمنا بالحديث وتوعية أهل الحي؟ بدلاً عن إظهار النفخة الكاذبة وإشعال الغيرة في نفوس المدفونين بالداخل.  

و يبقى السؤال هل يمكن لبلادنا أن تخطو إلى الأمام في يوم ما "الناس بتمشي لقدام ونحن ماشين لوراء" . وهل هناك من أمل في إصلاح ما أفسده الدهر وتحسن الحال؟ قليل منا حاكماً كان أم محكوماً يحمل عشقاً حقيقياً لبلاد الكتاحة ، ولعل الكثير منا على قناعة بالثانية وان لم يقلها "ملعون ابوكي يا بلد".

[email protected]



© Copyright by sudaneseonline.com