From sudaneseonline.com

بقلم :مصطفى عبد العزيز البطل
مصر: ثوار ما بعد الثورة!/مصطفى عبد العزيز البطل
By
Apr 12, 2011, 22:48

غربا باتجاه الشرق

مصر: ثوار ما بعد الثورة!

مصطفى عبد العزيز البطل

[email protected]

------------------------------------------

 

(1)

هذه الأيام نستعد - عادل الباز وأنا - للسفر الى القاهرة لقضاء العطلة السنوية المشتركة. وقضاء العطلة كل عام في معية عادل الباز ابتلاءٌ كتبه الله لي في اللوح المحفوظ. منذ سنوات نسعى الى التغيير فنفكر مثلاً - بدلاً من القاهرة - في قبول دعوة صديقنا طلحة جبريل المفتوحة والدائمة لقضاء الإجازة في ربوع المغرب، متراوحين بين الرباط وكازابلانكا وأغادير. أو في ماليزيا، معشوقة عادل. أو ربما تركيا. ولكننا في كل مرة نُجيل النظر ونطيل التأمل، ثم ينتهي بنا الحال مجندلين في قلب شقة ابن الباز في شارع جامعة الدول العربية بالمهندسين!

قلت لعادل: (خلاص يا زول. على بركة الله. القاهرة القاهرة. ولكن ليكن في علمك أن الأخبار من هناك ليست مطمئنة تماماً. سمعت أن هناك انفلاتاً أمنياً، وأن البلطجية والحرامية يصولون ويجولون في الشوارع). رد قائلاً: (غريبة. بالله إنت بتخاف من البلطجية والحرامية؟!). استغربت من السؤال. ماذا يقصد هذا الكوز الماكر؟ هل يقصد يا ترى أن مثلي يتوجّب عليه أن يكون متصالحاً مع "البلطجية"، ومروّضاً على التعامل مع "الحرامية"، طالما أنه يكتب منذ سنوات في صحيفة تدفع له أجره شهراً، ثم تغيب عنه شهراً؟!

(2)

لم تكن ظاهرة الحرامية والبلطجية هي التي أهمتني وأنا أتدبر أحوالي وأستعد للسفر. الذي أهمني حقاً هو الحالة المضطربة التي تعيشها مصر حالياً. فمنذ أصبحت الآلاف من وثائق جهاز أمن الدولة متاحةً للغاشي والماشي صار نصف شعب مصر يحمل وثائق تدين النصف الآخر. كما إن صفوف الشعب تمايزت الى صفين. المصري اليوم إما شاكٍ وإما مشكو! مكتب النائب العام يتلقى كل يوم تلالاً من الشكاوى المشروعة والمصنوعة، وأرتالاً من البلاغات الشرعية والكيدية. التظاهرات الاحتجاجية لم تعد أخباراً تتناقلها الصحف والقنوات، بل أصبحت نهجاً يومياً راتباً: التلاميذ يريدون فصل المدراء والعمداء، الصيارفة يلحون على استبدال رؤساء البنوك والشركات، العمال ينادون بمضاعفة المرتبات، الموظفون يطالبون بزيادة بند الحوافز. قبل حوالى شهر سار عدد غفير من ضباط الشرطة في تظاهرة هادرة يهتفون ويرفعون الشعارات: مطلبهم هو عزل الوزير الجديد اللواء منصور العيسوي، وإعادة الوزير السابق اللواء محمود وجدي!

ظواهر مزعجة، ولكنها - للحق - طبيعية.  في ذيل الثورات الكبرى دائماً أزمات مطوية، ومظالم متراكمة، وأوجاع محتقنة، وأحقاد تغل النفوس، ومرارات تغص بها الحلوق، وأيدٍ تعمل في الخفاء. ثم هناك الاذكياء الذين لا بد منهم: أصحاب المصالح والأجندة، المسرعون الى نُشدان الغايات. أحبُّ ولد آدم اليهم بشار بن برد، القائل: (من راقب الناس لم يظفر بحاجته / وفاز بالطيبات الفاتك اللهجِ). عند هؤلاء قناعةٌ راسخة مؤداها أن الانطلاقة المباغتة، والحركة السريعة، والصوت المرتفع هو الصراط المستقيم المفضى الى المغانم. الأستاذ/ عصمت مصطفى، وكيل ديوان شئون الخدمة السابق في السودان، كان يطلق على انتفاضة أبريل 1985م "انتفاضة المهندسين". لم يكن السبب هو ما قد يتبادر الى الذهن من أن تلك الفئة كان لها قصب السبق في إنجاز الانتفاضة. أبداً. السبب هو أن المهندسين، من مستخدمي الدولة، في مرحلة ما بعد الانتفاضة، كانوا هم من نال نصيب الأسد من المكتسبات الفئوية، فكنسوا وحصدوا أضعاف ما أصاب غيرهم من مظاليم الهوى المايوي. كنس المهندسون وحصدوا من المكتسبات المادية والامتيازات المهنية أكثر بكثير حتى من الأطباء الذين قامت الانتفاضة على أكتافهم! كان صوت تلك الفئة آنذاك شديد الارتفاع، وقد أعان على ذلك وجود بعض نشطاء المهندسين وأذكيائهم داخل حكومة الانتفاضة، وفي مقدمة هؤلاء وزير الصناعة المهندس عبد العزيز عثمان موسى، الذي نصّب نفسه مشرفاً على اللجنة الوزارية المكلفة بمراجعة مطالب الفئات المختلفة، فكان المهندسون يصرخون من الخارج، وهو يغرف بالمغراف ويبذل لهم من الداخل. وفي الإنجليزية يقولون: Squeaky wheel gets the grease، أي أن أصحاب الصوت العالي هم الذين يكسبون. والذي يراجع محصول المكتسبات الفئوية عقب انتفاضة أبريل يجد أن الفئة التي قبضت الهواء هي فئة العمال. مع أن عمال السودان كانوا في طليعة من حاق بهم العسف والقهر خلال سني الحكم المايوي، كما أن كسبهم من الحراك النضالي ضد الحكم المايوى يفوق غيرهم بكثير، إذ لم يكن هناك من هزّ أعمدة النظام وأدخل الرعب في قلب قائده أكثر من إضرابات "الأيام الخمس" المتوالية الشهيرة التي نفذها عمال السكة الحديد، ودفعوا ثمنها قمعاً وترويعاً وتشريداً. الغريب أنه عندما تصرّم العام الانتقالي، وانتخب البرلمان السيد الصادق المهدي رئيساً للوزراء، توجه المهدي الى القصر الجمهوري حيث أدى اليمين الدستورية، ثم اتجه ظهر ذلك اليوم التاريخى للمرة الأولى الى مكتبه في مبنى مجلس الوزراء. وقبل أن يصافح الرئيس الجديد مستقبليه ويجلس على مقعده ليشرع فى ممارسة مسئولياته، أبلغه الأمين العام للمجلس أن مهندسي الإذاعة توقفوا عن العمل وأعلنوا إضراباً عاماً مطالبين بمنحهم مكتسبات مالية إضافية، فضرب الرجل كفاً بكف ولم يجد على شفتيه ما يهتف به سوى: لا حول ولا قوة إلا بالله!

(3)

الثورة المصرية فتحت أمام صحافة المحروسة وقنواتها التلفازية من حيث لا تحتسب بحيرات وشلالات من القصص والحكايات الشيقة والمثيرة والفوارة، يتزاوج فيها الواقع بالخيال، ويتآلف تحت ظلالها المحقَّق مع الملفق، وتختلط فوق صفحاتها المعلومات الرتيبة بالمرويات الخصيبة!

بالنسبة لي شخصياً لم أستغرب العدد الكبير من الوزراء والمسؤولين المصريين السابقين الذين عملوا تحت إمرة الرئيس حسني مبارك، ممن انفتحت شهيتهم بشكل عجيب للحديث عن الرجل بعد افول نجمه وانحسار ظله، فتفرغوا لمهمة تزويد الإعلام بنوادر تفوق الوصف عن الرئيس ونظامه وأيامه. من وجهة الرصد القريب للتاريخ المصري فإن الظاهرة في الأصل تبدو طبيعية وتلقائية ومتداولة.  بعض من حكم مصر الى جانب الزعيم الكاريزمي جمال عبد الناصر كانوا الأسرع الى فتح خزائن الأسرار، فلما عزّت الأسرار اختلقوها اختلاقاً للوفاء بحاجات السوق الإعلامية. ولم تكن دماء الراحل أنور السادات قد جفت، بعد حادث المنصة، عندما شرع البعض في "البعبعة" ولف الحبال حول عنق الرئيس!

الوضع يختلف في السودان. هناك كثير من المشاركين والشهود ممن كتب وتحدث باستفاضة عن العهود السابقة. ولكن ظاهرة التلذذ بالإساءة الى الرؤساء السابقين والسخرية منهم وكيل الاتهامات لهم من قبل أولئك الذين عملوا بجانبهم محدودة للغاية، بل وشبه منعدمة عندنا. أكبر تجربة سودانية عايشتها في هذا الصدد كانت تجربة سقوط الرئيس جعفر نميري عام 1985م. وعندما بدأت محاكمات رموز العهد المايوي الشهيرة، وكانت عهدذاك مذاعة على الملأ ومتلفزة، لاحظت أن جميع الشهود الذين جاءت بهم المحاكم بدوا متحفظين تماماً ومقتصدين في طرح العلل القادحة بحق الرئيس المطاح به ومساعديه من المتهمين داخل الأقفاص (لعل الاستثناء الوحيد تمثّل في شهادة اللواء عثمان السيد نائب رئيس جهاز أمن الدولة، أثناء محاكمة صديقه السابق ورئيسه المباشر اللواء عمر محمد الطيب نائب النميري ورئيس جهاز أمن الدولة. فقد أبدى الشاهد همةً عالية، وسعى سعياً حثيثاً الى إحكام الانشوطة حول عنق رئيسه). كما كان القطاع الأكبر من رفقاء الرئيس المخلوع وزملائه السابقين قد امتنعوا تماماً عن قبول دعوات الصحف والبرامج التلفزيونية للحديث والاسترسال حول ممارسات الرئيس السابق ونوادره ومغازيه ومخازيه!

(4)

من أكثر رجال حسني مبارك السابقين حضوراً في القنوات التلفازية والصحافة المصرية والعربية هذه الأيام المدير السابق لمكتب الرئيس مبارك للمعلومات الدكتور مصطفى الفقي (من المؤكد ان ظهوره الاعلامى المكثف فى هذا النوع من الانشطة سيتوقف ابتداء من الآن، بعد ان تحقق مراده ورشحه المجلس الاعلى للقوات المسلحة لمنصب أمين عام جامعة الدول العربية). وقد كان الفقي إبان عنفوانه القيادي وصولته السياسية يشغل مكتباً يجاور جغرافياً مكتب مبارك في ديوان الرئاسة، وكان يلتقيه بحكم طبيعة المنصب عدة مرات في اليوم. ومن الطبيعي أن تكون عند الفقي معلومات من الدرجة الأولى حول الرئيس وأسرته ومعرفة لصيقة بطبيعته الشخصية وممارساته وأساليب عمله. الدكتور الفقي نفسه اعترف بأنه كان في بعض الأحيان يرتجف ويرتعد أثناء توجيه الرئيس السابق الحديث اليه، إذ كان الرئيس يخاطبه بعبارات مثل: (شوف يا مصطفى، لو ده حصل مش حأرحمك)!

غير أنني أجد عصياً جداً على فهمي استيعاب الظاهرة. أعنى ظاهرة استرسال موظف سابق بديوان الرئاسة فى الحديث اثناء حوارات تلفزيونية، بحيث لا يتحرج من اغتياب زوجة رئيسه السابق. الفقي لا يتورع من أن يشرح ويستفيض حول كيف أن الزوجة كانت تتدخل في شئون الرئاسة وعمل الموظفين فيقول: (سوزان كانت لمّا تزعل من واحد تديلو مهموز. يعني واحد ياور أو موظف في الرئاسة ما يعجبهاش سلوكه تديلو مهموز. ونحن كنا نعرف على طول ونقول: ده مهموز حرملك. يعني جاي من الست)! المعايير السودانية بالقطع تستغرب، بل وتستهجن، "بعبعة" موظف سابق في مكتب الرئيس بمثل هكذا روايات، في وقت يجتاز فيه ذلك الرئيس أضعف لحظات حياته على الإطلاق، أسيراً حسيراً، مكفياً منفياً، مجرداً من الحيلة، تتعاوره الخناجر، وقد انفضت عنه صفوف السمّار والخلان!

قلنا إن الدكتور مصطفى الفقي شغل منصب مدير مكتب الرئيس مبارك للمعلومات في ديوان الرئاسة. فلماذا لحقت بلقبه كلمة "سابق"؟ الإجابة: لأن الرئيس كان قد عزله من منصبه وأمره بمغادرة القصر الرئاسي! ولماذا عزله الرئيس؟ الإجابة: قرار العزل والطرد جاء في ذيل فضيحة شهيرة عرفتها مصر في حقبة التسعينات، عرفت باسم "فضيحة لوسي آرتين". ولوسي آرتين - أعزك الله - امرأة مصرية، من أصل أرمني، ذات سحرٍ طاغ وجمالٍ آسر. أو قل انها كانت كذلك في الزمن الجميل. هي ابنة شقيقة الفنانة المعروفة لبلبة، وابنة خالة بطلة أفلام الإغراء في السبعينات الفنانة نيللي. تفصيلات الفضيحة لا يستوعبها فضاء هذا المقال. ولكن لا مانع لدي من أن أخبرك - إن لم تكن تعلم - بأن أبعاد تلك الفضيحة اللولبية بلغت حداً جاوز المدى، وطارت في معمعانها رؤوس كبيرة، وفقد عدد من كبار رجال الدولة المصريين مناصبهم بسبب تورطهم في علاقات مشبوهة مع تلك السيدة العجيبة، وهي علاقات قامت إحدى الجهات الرقابية برصدها وتسجيلها تسجيلاً صوتياً. تلك هي التسجيلات التي واجه بها الرئيس السابق بعض أولئك المسؤولين، وهو يقرعهم ويعبر عن خيبة أمله فيهم. كان في مقدمة هؤلاء الذين طارت رؤوسهم وزير الدفاع المشير عبد الحليم أبوغزالة، ومدير مباحث أمن الدولة اللواء حلمي الفقي. ومدير المباحث الجنائية اللواء فادي الحبشي، وثلاثة من القضاة البارزين، بالإضافة الى الدكتور مصطفى الفقي مدير مكتب الرئيس، الذي تم تسجيل محادثة واحدة له مع لوسي آرتين! ألم أقل لك ان تلك السيدة كانت ذات سحر طاغ وجمال آسر؟!

الفقرة السابقة أوردناها لنصل بتحليلنا الى نتيجةٍ ما. ربما تكون هذه الخصلة، ونعني القابلية للاندلاق في أحاديث التلميحات وتصفية الحسابات مع الرؤساء مرتبطة ارتباطاً عضوياً بمرارات فقدان الصولة وضياع الصولجان. وفي مصر فإن القرب المكاني - قبل الوظيفي - من رئيس الدولة يمنح الإنسان سلطة ونفوذاً يفوقان الخيال!

ولكن هناك نقطة أخرى لا ينبغي القفز فوقها عند التعرض لسيرة الدكتور مصطفى الفقي، الساعى الى ركوب قطار الثورة. بعد إبعاده من القصر الرئاسي أخذ الرجل يبحث لنفسه عن وسيلة لكسب العيش، فالتحق ونشط بالحزب الوطني الحاكم وطلب لنفسه مقعداً في البرلمان. وقد نجح في ذلك المسعى فاكتسب عضوية مجلس الشعب فعلاً في الانتخابات النيابية للعام 2005م. غير أنّ ذلك الكسب كان محلاً للتندر على مستوى العالم العربي بأسره. بل إن مجلتي تايم ونيوزويك الأمريكيتين أوردتا نفس الرواية الطريفة عن فوز الفقي. كما دخل ذلك الفوز التاريخ إذ ثبتته على صفحاتها الموسوعة الحرة العالمية ويكيبيديا! ما الذي حدث؟ كان معلوماً لكل ذي عينين في المسرح السياسي المصري أن مرشح الإخوان المسلمين في دائرة دمنهور، الدكتور جمال حشمت، يحظى بشعبية هائلة في تلك الدائرة. ولم يشذ مراقب سياسي واحد في أن اكتساح المرشح الإسلاموي أمر مفروغ منه. وقد فاز مرشح الإخوان بالفعل بما يقرب من سبعين في المائة من الأصوات، وتم إعلان فوزه بالمقعد رسمياً بواسطة اللجنة القضائية المختصة. ولكن الفقي سارع بالتنسيق والتآمر مع بعض قيادات الحزب الحاكم ووزارة الداخلية بتغيير النتيجة قولاً واحداً، بحيث أعلن فوزه هو وإلغاء فوز د. جمال حشمت! وقد رفضت هذا المسلك في حينه المستشارة نهى الزيني، وعدد من أفراد اللجنة القضائية المشرفة على الانتخابات، معبرين عن دهشتهم وامتعاضهم من ذلك التزوير الفاضح. وقد آزرهم في ذلك الاحتجاج 37 قاضياً! أفبعد كل هذا يصر الدكتور مصطفى الفقي - الضيف الدائم على ستوديوهات الفضائيات والصحف المصرية - على أن يحاضر شعبه وينصحه حول الفساد، وينتقد حكم الرئيس المخلوع؟!

الذى لا شك فيه أن سعى الفقى المحموم لأعادة صياغة ورسم صورته العامة، والحصول على "نيو لوك"  New look فى المشهد السياسى المصرى، على حساب النظام القديم الذى خدمه وأكل على موائده السيادية والتنفيذية والتشريعية على مدى ثلاثة عقود قد أتى بعض ثمرته متمثلا فى قرار المجلس الاعلى للقوات المسلحة اول امس الاثنين بتسميته ممثلا لمصر لمنصب الامين العام لجامعة الدول العربية. وإن كانت الانباء قد توالت عن صدور بيانات من جماعات ائتلاف شباب الثورة حركة 6 ابريل تعبر عن اعتراضها ورفضها لذلك القرار!

(5)

لم يكن الدكتور مصطفى الفقي نسيج وحده. فمن المسؤولين التنفيذيين السابقين ذوي الشهية المفتوحة للحديث عن الرئيس السابق - الذي تحول على حين غرة من "بطل الضربة الجوية" الى بطل مغارة علي بابا - رجل آخر ظلت تنقل تصريحاته عدد من الوسائط الإعلامية العربية خلال الاشهر الثلاث الماضيات. يتم تقديم الرجل على انه مدير سابق في ديوان الرئاسة. وينسب الى هذا المدير الرئاسي جملة مشهورة ترددت كثيراً فوق صفحات الصحف وموجات الأثير وهي أن (الرئيس حسني مبارك لم يكن يعبأ او يبدي اى اهتمام بمشكلات الجماهير، ولم يكن يهتم بمعاناة رجل الشارع العادي)! أنا شخصياً عملت الى جانب قياديين كثر في جهاز الدولة. غير أنني لا أعرف كيف يمكن أن يكون بوسع موظف بالرئاسة، ولو كان بدرجة مدير، أن يعرف عما اذا كان الرئيس يهتم بمشكلات الجماهير أم لا! عندما سمعت التصريح للمرة الأولى في إحدى برامج قناة الجزيرة انتابتني رغبة عارمة فى الوصول الى السبب الذي غادر به ذلك المدير وظيفته في رئاسة الجمهورية. اذ انتابنى إحساس طاغ بأن الرجل لم يكن قد تقاعد تقاعداً طبيعياً. مؤخراً قرأت عن ذلك المدير أنه كان قد صدر قرار بعزله من وظيفته، بعد شكوى تقدم بها محافظ الغربية عام 2001م فحواها أن صاحبنا استغلَّ صلته بديوان رئاسة الجمهورية استغلالاً بشعاً، وأنه تمكن عن طريق ترويع الموظفين المحليين من الحصول بوجه غير مشروع على عدد كبير من قطع الأراضي التجارية والسكنية بمدينة طنطا مسقط رأسه! ويبدو أن المدير المذكور لم يكتشف أن الرئيس مبارك "لا يهتم بقضايا الجماهير" إلا بعد عام 2001م، عندما تم عزله وإيقافه من استغلال صفته ووظيفته لأغراض الثراء والتربّح واكتناز الاراضى!

ليس صحيحاً أن مصر لم يكن فيها حرية قبل الخامس والعشرين من يناير، وأن أحداً لم يكن بوسعه أن يقول "البغلة في الإبريق". ذلك هراء محض. الصحافة المصرية المستقلة والمعارضة كانت تنشر خلال السنوات الخمس عشرة الماضية موضوعات بالغة الحساسية عن الفساد والسرقات والاستغلال. الواقع أن القضايا المطروقة حالياً تحت هذه العناوين بما فيها القضايا المفتوحة أمام المحاكم حالياً، جميعها بلا استثناء كانت قد طرحت بتفاصيلها من قبل في الصحافة المستقلة والمعارضة. بل إن أعداداً هائلة من المقالات الموجهة ضد الرئيس مبارك شخصياً كانت تنشر يومياً دون رقابة أو مساءلة. ولذلك فإن ظهور شخصيات مثل، نجم الفضاءات التلفازية والصحافية حالياً، وزير الاسكان السابق المهندس حسب الله الكفراوي، ليملأ الساحات تحت دعاوى الكشف عن أسرار النظام السابق تبدو لي مثيرة للدهشة بعض الشيء. لماذا انتظر الكفراوي كل هذه السنوات للكشف عن الفساد والمجال كان مفتوحاً على مصراعيه لا سيما وأن جميع القضايا التي تطرق اليها الرجل في أحاديثه التلفازية والصحافية المتكررة بلا استثناء لا تختلف في قليل أو كثير عن القضايا التي ظلت متداولة فعلياً في الصحافة المستقلة والمعارضة لسنوات طويلة؟! ولكن السؤال الأكثر أهمية هنا هو: كيف ولماذا استمر المهندس حسب الله الكفراوي لمدة سبعة عشر عاماً بالتمام والكمال في مقعد الوزارة الى جانب حسني مبارك في أمان الله وحفظه، ولكنه لم يكتشف فساد النظام إلا بعد أن غادر الكرسي في إحدى التعديلات الوزارية التي أجراها مبارك؟!

من فرائد الروايات التى بسطها مؤخراً، الوزير السابق في حكومات مبارك المتعاقبة، رواية أغرب من الخيال ظل الإعلام المصري يزيدها ويعيدها لأسابيع متواصلة بغير توقف. فحوى الرواية هو أن المهندس حسب الله الكفراوي عنده أدلة على أن الرئيس السابق أنور السادت لم يُقتل على يد الملازم خالد الإسلامبولي وزمرته فى حادث المنصة يوم العرض العسكرى الشهير. وإنما قتل على يد الرئيس حسني مبارك الذي تآمر شخصياً، وشارك في تدبير مخطط اغتيال الرئيس السابق بغرض أن يحل محله! مرة أخرى لم يقل لنا المهندس الكفراوي،  ربما لأن أحداً من الإعلاميين المبهورين بالتصريحات المثيرة، لم يعبأ بسؤاله: لماذا قبل طائعاً مختاراً أن يكون وزيراً كل هذه السنوات تحت رئاسة مبارك، طالما انه يعرف عن الرجل انه مجرم وقاتل؟!

عدد مقدّر من هؤلاء الذين ملأوا سماوات الإعلام والصحافة مؤخراً بحماستهم المنقطعة النظير في فضح أسرار النظام المباركي واغتيال شخصية الرئيس، شغلوا تحت حكمه مواقع حساسة وشديدة الارتفاع في هرم الدولة. أغلب هؤلاء المغاوير كانوا في الأساس جزءاً لا يتجزأ من بنية النظام لسنوات امتدت عند البعض لأكثر من ربع قرن. القاسم المشترك الوحيد بين هؤلاء هو أن النظام السابق - لسبب أو لآخر - قرر في لحظة من لحيظات التاريخ التخلي عن هذه الشخصيات. هم إذن ممن ينطبق عليهم وصف "الفاقد السياسي". الفاقد السياسي في أي دولة هم الشخصيات التي شغلت مواقع سياسية وتنفيذية وتشريعية مهمة في كيان الدولة، ثم تخلت عنها المنظومة الحاكمة وتركتها في العراء، فاضطرت، غير آثمة ولا باغية - بل مكسورة ومحسورة - الى مغالبة الدنيا ومجالدة ابتلاءاتها بدون غطاء من حصانات الدولة وامتيازاتها. 

(6)

ولكن ليس كل هؤلاء المغاوير سياسيون. هناك بعض قادة الأجهزة النظامية. من بين صفوف هذا الفصيل أقدم لك - رعاك الله - العميد حسين حمودة. الغرض من تقديمه هو ألاّ نطوي صفحة هذه الابتلاءات دون وقفة تخفف عنا وقع هذا الخبال الذي نراه من تقلبات الطبيعة البشرية المحيرة. عمل العميد حسين حمودة، الذي خصصت له صحيفة "الشروق" الواسعة الانتشار الأسبوع الماضي ما يقرب من صفحة كاملة لنشر حوار مطول معه، في جهاز مباحث أمن الدولة المرعب في مصر لمدة عشرين عاماً. أي والله: عشرين عاماً بالتمام والكمال. ولكن في نهاية هذا العمر الطويل من خدمة الجهاز الأمني حدث شيء لم يفصّله لنا سيادة العميد. كل الذي نعلمه هو أن قيادات الجهاز غضبت عليه لأمر ما، فقامت بإبعاده عن المجالات الأمنية الحيوية وعينته مسؤولاً من مكتب متخصص في محو أمية جنود وزارة الداخلية! ويبدو انه كان لهذا التهميش أو التقزيم الوظيفي أثره الكبير في أن الضابط الرفيع، انخرط في مسيرة الثورة فخرج يناصرها في معركتها ضد النظام السابق.

في الحوار الذي شتم فيه العميد وزيره السابق حبيب العادلي، الذي هو رهين المحبس حالياً، ومسح الأرض بقادة الوزارة الذين فقدوا نفوذهم، بعد أن تمت إقالتهم من مواقعهم، وقفت مطولاً عند نقطة وجدتها مثيرة للانتباه. سُئل العميد عن التعذيب وضرب المعتقلين كمنهج متبع في وزارة الداخلية المصرية فأكد أن التعذيب والضرب ممارسة رسمية ممنهجة في السلك الأمني، وانه يعتمد بصفة أساسية على 'الفلكة" والكهرباء والإيذاء الجنسي. وقال: (للأسف معظم العناصر التي تأتي لمباحث أمن الدولة عملت في إطار منظومة التعذيب. المشكلة الكبرى هي انه كان يتم إغفال الفرق الكبير بين طبيعة المجرم الذي يتعامل معه رجل المباحث الجنائية، ومجرم أمن الدولة. فالأول "صايع" وجاهل ومتخلف. والضرب والعنف قد يجدي معه. أما الثاني فهو مجرم سياسي صاحب عقيدة فماذا يفيد الضرب والتعذيب معه؟ يجب أن يكون الاستجواب مستوى الفكر). إذن العميد الملتحق بقطار الثورة لا يجد أي غضاضة في ضرب وتعذيب المواطنين المحبوسين في ذمة قضايا غير سياسية. سيادته يعترض فقط على ضرب وتعذيب المحبوسين السياسيين. هؤلاء فقط هم الذين يجب أن يكون استجوابهم "على مستوى الفكر". هل سمعت من قبل - أعزك الله - عن "الاستجواب على مستوى الفكر"؟ ولا أنا!

ويضيف سيادة عميد الأمن حسين حمودة وأرجو أن تولي انتباهك - رعاك الله - لهذا التحليل الفريد: (هناك اعتقاد سائد عند الأمن بأن المصري لا يتكلم إلا بالضرب. هناك أجهزة لكشف الكذب ولكن لا يتم استخدامها لأن الضباط عندهم قناعة بأن المصري يستطيع الضحك على ذلك الجهاز). ثم يضيف عن فلسفة الضرب والتعذيب: (هناك مبدأ عام يقول "ضرب الحكومة شرف". الرجل إذا ضربه الضابط على قفاه واعترض يقال له "ضرب الحكومة شرف. أخوك الكبير وضربك". المواطن أقنع نفسه أيضاً بأن ضرب الحكومة مش عيب. الضابط والمواطن اقتنعا بهذا المبدأ وتآلفا معه)!

(7)

والله فكرة. في ما مضى كنت قد آزرت أستاذنا وحبيبنا كمال الجزولي، وبعض قادة المجتمع المدنى كالناشط الحاج وراق، في دعوتهم لاعتماد وإعمال منهج الحقيقة والانصاف والمصالحة كأداة لمعالجة وطي ملف التعذيب في معتقلات العصبة المنقذة تأسياً بتجربة جنوب افريقيا ابان حقبة قيادة نيلسون مانديلا. ولكن العصبة، سامحها الله، أعطتنا أذناً من طين والأخرى من عجين. بعد أن قرأت الحوار مع العميد المصري الثائر فكرت في أن أهدي هذا الحل، او المخرج، الجديد للإخوة في معسكر الإنقاذ. قولوا لضحايا الضرب والتعذيب في بيوت الأشباح مثلما قال صاحبنا: (الضرب والتعذيب مش عيب. ضرب الحكومة شرف. أخوك الكبير وضربك)! هذه الاضافة بطبيعة الحال انما هى من إبداعات العميد الملتحق حديثاً بقطار الثورة المصرية. أما من جانبى أنا فيمكنني ان اضيف بأن حكومة الانقاذ بوسعها أيضاً ان تستخدم لذات الغرض المثل الشعبى المصرى الذائع: (ضرب الحبيب زى أكل الزبيب). وحكومة الانقاذ "حبيبة" لشعبها بغير شك. هل هناك من يرتاب في ذلك؟!

ولكننا لا نكتب هذا الذى نكتب هازئين ولا هازلين. بل هو مقام جد. وأنا لدي نصيحة خالصة للإخوة في معسكر العصبة المنقذة. وهو أن يشرعوا منذ الآن، وقبل أن تندلع الانتفاضة السودانية المرتقبة، والانتفاضات والثورات من حولنا آخذٌ بعضها برقاب بعض، في البحث الدؤوب والتقصي الدقيق داخل صفوفهم، وبين منظومة شاغلى المواقع المختلفة فى دولتهم، عن النماذج الشبيهة بنماذج مصطفى الفقي وحسب الله الكفرواي والعميد حمودة وغيرهم. أنا بطبعي إنسان عاطفي. وسيشق علىّ ويحزنني كثيراً أن يأتي يوم يكون فيه رئيسنا المفدى المشير عمر البشير، رئيساً سابقاً يقبع داخل أسوار فيلته في "شرم بانقا"، يحتسي الشاي أمام جهاز التلفزة، فتؤذى مشاعره المفاجأة وهو يستمع الى شخصيات من أقرب المقربين إليه، من سنخ الفقي والكفراوي، من الساعين للتعلق بأستار الثورة الجديدة، تبرطع وتلعلع وتبعبع، تذيع الروايات عنه وعن زوجته، أو قل زوجتيه، وتبيعها فى أسواق الاثير!

 

نصوص خارج السياق

(مَن يقرأ ما قاله إبراهيم الكوني في تصريحه لـ«الجزيرة نت» (26 شباط 2011) عن أنه «أول معارض في ليبيا» و«العدو رقم واحد للنظام الليبي» و«الوحيد الذي يحمل روحه على كفِّه ويقاتل النظام منذ جاء في 1969...»!! نقول من يقرأ هذه التصريحات الأخيرة يظنّ بأن الكوني كان أشدّ معارضي سفّاح ليبيا، وليس رئيس لجنة تحكيم «جائزة القذافي»، أو الكاتب الذي يعيش على حساب الحكومة القذافية في سويسرا، بل وليس صاحب محاضرة «أغنية الحقيقة» التي قدّمها تحت عنوان «القذافي كاتباً ومبدعاً» دارساً فيها المكان الأسطوري في قصص «القائد القذافي»! ومن يسمع نبوءات واسيني الأعرج للثورة العربية وتشجيعه لها، لن يُصدِّق بأنه صاحب الدراسة التي تحمل عنوان «المدينة والمثال في مجموعة معمر القذافي القصصية» التي تحدَّث فيها عن «تداخل فن القصّ بفن الديالكتيك»!! ومَن يقرأ ما يكتبه طلال سلمان في صحيفته «السفير» هذه الأيام عن القذافى المجرم (السفير، 2 آذار 2011)، لا يمكن أن يخطر في باله أن سلمان هذا أسَّس «السفير» من جيب القذافي وكان أحد أبرز أبواقه الصحافية!

ومَن يسمع ما تصرّح به ميرال الطحاوي في كل الصحف والمواقع عن حماستها للثورة وإزالة الديكتاتوريات، لن يدور في خلده بأن الطحاوي كتبت دراسة كاملة عن عبقرية القذافي الأدبية بعنوان «المكان في إبداعات معمر القذافي»! ومَن يقرأ اليوم البيانات التي يُوقِّعها المترجم السوري ثائر ديب، لا يقول بأن هذا الشخص هو نفسه مَن كان يُهلِّل ويصفِّق أثناء حفل تسليم «جائزة القذافي». ومَن يسمع أحمد إبراهيم الفقيه وهو يتحدّث عن انحيازه إلى الثورة، لا يمكن أن يخطر في باله أن الفقيه هو من قدَّم للمجموعة القصصية اليتيمة للقذافي، بل إنه السمسار الأدبي الرسمي للقذافي حيث أوكل إليه مهمة شراء ذمم المثقفين والأدباء لكتابة الدراسات والبحوث عن أدب القذافي وفكره).

 

"مجتزأ من مقال للكاتب أنس البيطار - مجلة "الغاوون" اللبنانية- العدد 37 - ابريل 2011"

 

 

 

 

 

 

 



© Copyright by sudaneseonline.com