From sudaneseonline.com

بقلم: محمد عثمان ابراهيم
قراءة في دعوة د. أمين حسن عمر للتغيير (1-2)/محمد عثمان ابراهيم
By
Feb 16, 2011, 20:09

الثبات في إهاب التحول
قراءة في دعوة د. أمين حسن عمر للتغيير (1-2)

في الفترة التي سبقت سقوط حكم الرئيس حسني مبارك في مصر، كان الدكتور مصطفى الفقي هو أحد أكثر المسئولين تأرجحاً في مقعده فتارة هو يحاول القفز من قارب الحكم الغارق لا محالة، وتارة هو مستمسك بمقعده على أمل النجاة. في حوار مع  فضائية (الجزيرة ) سمعته يتحدث مثله مثل أي ثائر ويرصد المطالب، وفي حوار آخر على نفس القناة سمعته وهو يؤكد أن الرئيس مبارك قد استجاب للمطالب، لكنه توقف عند ذلك ولم يقل إن الثورة قد فقدت مشروعيتها ما دام الحاكم قد لبى مطالبها. حالة مصطفى الفقي ليست استثناء وعند تأمل تحالفات النخب المثقفة مع العسكرتاريا الحاكمة في العالم العربي (بوجه خاص) تجد نفسك أمام عشرات النسخ المتشابهة من مصطفى الفقي.
الفقي يؤمن في ندواته ومحاضراته بالديمقراطية ثم يدخل البرلمان بالتزوير. يؤمن بالتداول السلمي للسلطة ثم يتفاخر في محفل آخر بالتعيين بحصوله على مناصبه بالتعيين المباشر من الدكتاتور. يتلقى الفقي خبر طرده من القصر الجمهوري ومن وزارة الخارجية ومن مجلس الشعب فيندب حظه دون أن يسعى لمحاكمة الظروف التي خلقت مثل هذا الوضع الشاذ. لقد حصل الفقي على عضوية مجلس الشعب في انتخابات مزورة لكن حين اراد الرئيس طرده من البرلمان لم تنقصه السبل إلى ذلك فعينه في مجلس الشورى،  وكان هذا يلزمه بالإستقالة من الأول والجلوس في شرفة الثاني لأن الجمع بين المجلسين حرام في شريعة جارنا الشمالي.
مالنا ومصطفى الفقي؟ والإجابة أن لنا في أمره أسباب!
 بدأ الفقي عمله مع مبارك بالعمل مديراً لمكتب الرئيس للمعلومات لكن الرئيس الملول من المثقفين والمحب لسمر قادة الأجهزة (...) أبعده عنه، وفي الخرطوم بدأ أمين حسن عمر (لم يكن قد أصبح الدكتور أمين بعد) مديراً لمكتب الرئيس للبشير للمعلومات (ثم تغيرت التسمية إلى مدير المكتب الصحفي) ثم خرج منه بعد أن ضاق به القصر وشاغله (راجع عبدالرحيم عمر محي الدين: الترابي والإنقاذ صراع الهوى والهوية). كلا الرجلان سياسي يحاول لعب الدور المرسوم له باجتهاد، ويحاول في ذات الحين الإحتفاظ بمساحة خاصة لممارسة ترف التفكير في عزلة عن ممارسات نفس الذات المفكرة. الفقي عروبي كاره للعروبة وأمين صحفي كاره لحرية الصحافة، وكلا الرجلان سياسي لا يؤمن بفكرة التداول السلمي للسلطة وإن قال أي منهما بعكس ذلك. كلا المثقفان نتاج أنظمة شمولية وكلاهما مغرم بالتبرير. مصطفى الفقي برر تقليد حملة الرئيس مبارك الرئاسية الأخيرة على النمط الأمريكي بالإنكار وحين سئل عن الزي غير الرسمي الذي ظهر به مبارك خلال الحملة قال إن الدنيا كانت "حر"! د. أمين حسن عمر كتب تعليقاً على رفض الرئيس البشير لتوجيهات الشيخ حسن الترابي بالتخلي عن البزة العسكرية ورده على ذلك بالذهاب إلى اجتماع مجلس شورى الحركة الإسلامية في كامل إهابه العسكري بأن الرئيس ليست لديه طموحات أو مطامع في الرئاسة وإنه فقط  وإنه يرتدي ذلك الزي بسبب "الإعتزاز المفرط بالشخصية العسكرية" وفي مقال له رداً على سلسلة الدكتور التجاني عبدالقادر (العسكريون الإسلاميون: أمناء على السلطة أم شركاء فيها؟) لم يجد الدكتور أمين بأساً من أن يساوي ما بين (كسب) الشيوخ و(كسب) الجنرالات في عمليات (Operations) الحركة الإسلامية السودانية "أن عمر البشير مثل يس عمر الأمام مثل بكري حسن صالح مثل التجاني عبدالقادر جميعهم إسلاميون ملتزمون منذ وقت مبكر وحتى قبل انتمائهم إلى ما انتموا إليه من مؤسسات مدنية وعسكرية" (عسكريو  الإنقاذ شركاء أم أجراء  (1)، موقع الدكتور أمين على شبكة الإنترنت).
ولا يعرف الرجلان الرأفة بالخصوم. الفقي لا يتورع عن استخدام تعابير مثل (قلة أدب) وأمين لم يتورع ذات مرة عن منازلة صحفي مجتهد، وهو في موقع المسئول الكبير فكتب عنه طاعناً في استقامته السياسية، وعايره بأنه يمشي بين الناس مطأطئاً الرأس في زهد بينما هو يقيم المراكز الطباعية (ترى هل كان ذلك المقال في السوداني الدولية في نسختها الأولى تلك؟). بعد أعوام سيقيم ذات (الناقد) أمين حسن عمر استثمارات مشهودة في مجال التعليم (مدارس كمبردج البريطانية) ثم لا يجد حرجاً في الجمع بين الإدارة والتجارة، والخلط بين منصبه الحكومي وموقعه (الإستثماري) حتى نشرت إحدى الصحف خبراً عن حفل تخريج مدارس كمبردج بقاعة الصداقة " يشهده الدكتور أمين حسن عمر وزير الدولة بالثقافة رئيس مجلس إدارة مدارس كمبردج" !  لا زلت أذكر حلقات برنامج (المنتدى الفقهي) عن فقه الأسواق. كان ذلك في تلفزيون  أوائل التسعينات لكنني لست على يقين مما إذا كان (رجال الأعمال) من وزراء حكومة الإنقاذ يعملون بتلك الفتاوى أم لا.
سنأتي على هذا مرة أخرى في هذا السياق وفي سياق آخر.
***
ليس من اليسير الإستجابة لدعوة د. أمين أو حتى التفاعل معها دون النظر في تجربة الكاتب وزيراً ومسئولاً إعلامياً رفيعاً وقيادياً سياسياً مرموقاً. في عهد د.أمين حسن عمر أوائل سنوات الإنقاذ كانت اقتناء أطباق استقبال البث التلفزيوني أمراً عسيراً لايقدر عليه إلا من تهيأت لهم الصلات وكان تثبيته في المنازل عملاً غير مسموح به دون إذن السلطات. إبان رئاسته لمجالس إدارات بعض الصحف كانت الحريات الصحفية وحرية التعبير في أدني مستوى لها وعلى عهده في التلفزيون شرد المئات من وظائفهم. لم اقرأ للرجل، وربما كان هذا عن عجز مني، دعوة واحدة لصالح الفقراء، أو موقفاً واحداً يصب في خدمة تأسيس صحافة حرة ونزيهة ومن حصيلة أحاديثه المتعددة لوسائل الإعلام عن مفاوضات السلام التي شارك فيها أقرأ أول أقرأ التشدد تجاه الآخر والغلظة إزاء الخصوم.
ومقالته الأخيرة للتغيير، وهي مقالة مكتوبة بعناية  أجدها أشبه بمذكرة داخلية  ضلت طريقها للنشر في الصحف، ليست استثناء من غلظة داعية التغيير الجديد! ربما  يجدر التأمل في بعض المفردات التي وردت في المقال المطول عند الإشارة للمعارضة ( معاندة المعاندين/ غلو الغالين/ الإبتزاز/ تجاوز المتجاوزين/ تطاول المتطاولين/ الساخط والطامع/ الإنتهازية) ، ماذا ترك الكاتب الرفيع المقام وعضو الإتحاد العالمي للكتّاب والمفكرين للآخرين من الكتّاب غير المفكرين؟
الملاحظ أن كل هذه العبارات الغليظة جاءت لتصف المعارضة بينما تم توفير صفات المديح كلها لحكومة الإنقاذ وحزبها الحاكم مما يؤكد زعمنا بأن الدعوة للتغيير موجهة لمنسوبي الجماعة الحاكمة، بحيث يتم إحداث تغيير صوري يخفف (العبء) كما صار يشار في بعض مجالس النخبة المتنفذة، ويعيد تقديم النبيذ القديم في قوارير جديدة! لا أستطيع ان أكون واضحاً أكثر.

***
بدأ المقال بمقدمة مطوّلة أخذت الحلقتين الأولتين وجاء جوهر المقال في الحلقة الثالثة. أحتوت المقدمة/ المرافعة على تعريف التغيير، ومنح المفردة تعريفاً إجرائياً ينقلها من خانة الوضوح اللغوي إلى ساخة الإبهام الأيديولوجي "وقد شاء بعض المفسرين أن يجعلوا كلمة التغيير مرادفه لمعني الفساد أي الانحطاط عن مستوي الفطرة الإنسانية ولكن الأدلة تتضافر علي خلاف ما ذهبوا إليه .لأن غير في اللغة تعني خلاف و(غير عاقل) تعني يتصرف بخلاف مقتضى العقل . والتغيير يعني الانتقال من وضع إلي وضع مخالف له سواء كان أفضل في الرتبة أو أدني في الرتبة.  فهو يعني التحول إي الانتقال من حال إلي حال . وقديماً قيل دوام الحال من المحال" وبما أن المقال كله ينبني على فكرة التغيير لم يشأ الكاتب ترك المفهوم دون ضبط لئلا تحمل القراء الأماني بحدوث شكل غير متفق عليه من التغيير.
***
بعدها يحدد الكاتب التغيير المراد تحقيقه وهو " لذلك فإن التغيير المنشود ليس هو التغيير في القيادة السياسية فحسب بل هو تغيير في الثقافة السياسية التي تدرك أن السلطان السياسي شان عام لا يحوزه  فرد من الناس أو ثلة من دون سائر الناس. ولئن كان الاحتكار في السلع الدائرة بين الناس مذموم فأن احتكار السلطان أو تأييده أو توريثه أكثر استحقاقاً للذم". لا بأس فتمكين الجماهير من إدراك أن الحكم عمل لا ينبغي احتكاره عند فئة أو جماعة عمل محمود ومبهر ولعل السودان أحوج ما يكون إلى مثل هذا التواطؤ على الفهم، لكن ينبغي أن ينسحب أمر الجماهير ليبلغ أمر التداول كل شعب السودان وهذا ما تنكره المقالة المطولة عليه ، إذ هي تقصر أمر التداول بين جماعات الحزب الحاكم فقط. أما حكاية توريث السلطان واستحقاقة للذم وفق ما رأى الكاتب فمن غير المتداول حتى الآن بين عامة الناس مثلنا أمر توريث السلطة في السودان. السؤال هو: هل هناك طرح داخل منظومة النخبة الحاكمة أو تخوف من طرح مبادرة لتوريث الحكم في بلادنا؟ إذا كانت الإجابة بلا، ما الداعي لتضمين هذا الأمر في المقالة وإذا كانت الإجابة بنعم ، هل هو اللواء طبيب عبدالله حسن أحمد البشير؟
ليس هناك حرج في رأيي من الحديث عن مستقبل السودان ما بعد الرئيس عمر البشير وما بعد الأستاذ على عثمان محمد طه وما بعد د.أمين حسن عمر وغيرهم، نسأل الله لهم جميعاً الصحة والعمر المديد، لأن هذا شأن عام.
***
هناك عيوب كبيرة في أطروحة الدكتور أمين للتغيير أهمها أن المقصود به هو تثبيت الراهن ووضع التاريخ في قارورة مواد حافظة بحيث ينوب الحاضر عن المستقبل. هذه الخلاصة لا تحتاج إلى كبير عناء للتوصل إليها إذ تكفي لذلك قراءة الحلقة الثالثة من المقال الذي جاء تحت خمسة عناوين جانبية : (الحزب القائد لا الحزب الغالب، شوري القطاعات، الشورى القيادية، الثورة الناعمة، التغيير من الداخل اولاً).
أما العيوب الأخرى فهي ان د. أمين ينظر بعين راضية للأشياء التي ينبغي عدم الرضا عنها، والتي هي مثار الخلاف بين الجماعة الحاكمة وشعب السودان سواء كان منتظماً في قوى سياسية، أو كان خارجها. يمكن بإختصار النظر في بعض المواضع التي أثنى عليها الكاتب فيما هي أحوج إلى نقده ورفضه وهدمه وفق دعوة المحاسبة  التي اختتم بها المقال " أولي الإطراف بالمراجعة والمحاسبة والتغيير هو المرء نفسه . إتباعاً لقول الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزن عليكم) ولا يتوجب أن نفهم المحاسبة وكأنها أمر أخروي فحسب بل المحاسبة عند العقلاء هي شأن كل برهة ولحظة وساعة من الزمان".
ينظر الدكتور أمين بعين الرضا إلى سياسات الإنقاذ الإقتصادية ويصفها بأنها : هي التي وضعت الإقتصاد في مسار جديد"  ولا بد أنه مدرك أن اتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء، والظلم في توزيع عائدات الثروات العامة،  وانتشار مساحات الحرب على امتداد خارطة البلاد، وتردي الخدمات في المدن والريف بشكل لا يليق بدولة منتجة للنفط كله ناتج عن سوء السياسات الإقتصادية للمؤتمر الوطني وخطأها وانحيازها لفئة من الأثرياء الجدد، لم يكن أي منهم يحلم باكتناز ثروات طائلة لو كان التنافس بين الناس وفق القدرات والإجتهاد متاحاً للجميع.
نواصل ..
* الحلقة الثانية والأخيرة في عدد الأحد 20 فبراير الحالي.



© Copyright by sudaneseonline.com