From sudaneseonline.com

مقالات و تحليلات
الجيل الثاني:مقتطفات من كتابي (القيام بالدفرة):دار جامعة الخرطوم للنشر- 2009/comد. عمر بادي
By
Apr 10, 2011, 12:27

الجيل الثاني

مقتطفات من كتابي (القيام بالدفرة)

دار جامعة الخرطوم للنشر- 2009

        [email protected]د. عمر بادي

 

في المرة الماضية تناولت موضوع الجيل الأول من مغتربي الأقاصي و صراعهم المستميت من أجل الحفاظ على كيانهم وما به من قيم وعادات و تقاليد بعيداً عن التكيف والذوبان في مجتمعاتهم الجديدة . هم دائماً يفلحون في ذلك إلا من تخلّى طواعية عن جذوره وساير مجتمعه الجديد... أما الجيل الثاني والذي وعدت القارئ العزيز أن تكون مقالتي هذه عنه فهو مبتغى المَهاجر الجديدة كي يذوب في مجتمعاتها الجديدة.. في رياض الأطفال يبدأ التلقين مع تعلم الكلام وتبدأ حيرة الطفل ، فهو في البيت قد إستوعب لغة والديه وبدأ بتركيب الحروف بلغة أمه أقرب الناس إليه وهكذا تكوّن مخزونه اللغوي الأول . في روضة الأطفال تبدأ اللغة الأجنبية الجديدة ، وفي التمهيدي أو (مستوى الزيرو) يتم تركيب الجمل في لكنة خواجاتية تعجب الأبوين وتجعلهما يعاودان مراجعة دروسه والتحدث معه بتلك اللغة الجديدة في شيء من التباهي والفخر. بذلك سوف يستوعب الطفل اللغة الجديدة في سرعة متناهية تساعده في ذلك برامج التليفزيون والألعاب المختلفة ويواصل الأبوان التحدث معه بتلك اللغة لكي يزدادا معرفة بها ويمارسا النطق السليم، وهكذا تتلاشى معرفته باللغة العربية ، وبعد فوات الأوان يكتشف الوالدان أنهما قد جنيا على طفلهما .

اللغة هي مفتاح الولوج في الهوية ، وإجادة اللكنة هي الجواز للولوج في المجتمع . هكذا يتدرج أطفال المغتربين في مراحلهم الدراسية متشبعين بثقافة المجتمع الجديد وبتحريض المشرفين الإجتماعيين لهم على الآباء المغلوبين على أمرهم ، فأي أسلوب تربوي ينهجه الآباء يعتبر إرهاباً وتعذيباً للأطفال، وما على الطفل سوى رفع سماعة الهاتف وضغط رقم صغير حتى تحضر الشرطة في دقائق لإنقاذه ! كثير من الآباء لم يستطيعوا تأديب أبنائهم ولا حتى بالعقاب النفسي والنتيجة تمرد الأطفال منذ الصغر على الآباء وعلى صرامة الأنظمة في البيوت فانجرفوا مع إغراءات المجتمع الجديد ، وعندما يشبون عن الطوق تكون الفجيعة ! اللهم إلا لمن لم ينشغل عن أبنائه وإستمات في تغذيتهم بقيمه التي لم يتزحزح عنها وزاد في ذلك بأن ربطهم بجذورهم .

كل مجتمع يكون مستنداً على مجموعة من القيم ينظّم بها علاقة الأفراد في داخله ، وهي قيم عامة تجتمع عليها الإنسانية في أنها داعية للخير , تقابلها سلوكيات منافية لتلك القيم وهي داعية للشر. هذه القيم تزداد صلابة عن طريق العمل بالدين بإتباع أوامره وإجتناب نواهيه ، لأنها بذلك ترتفع من درجة القيمة إلى درجة العقيدة . في المجتمعات الجديدة كثيراً ما يصطدم الجيل الأول من المهاجرين بقضايا تلك المجتمعات والتي تكون غريبة في نظرهم . قبل أيام قرأت خبراً عن الأمهات المدانات بجرائم موت المهاد، وهو موت الأطفال الرضّع المفاجئ بدون علل ظاهرة . لقد تجاوزت أعداد تلك الأمهات المدانات مئات الآلاف ، ورغم أن نسبة كبيرة منهن لم يعترفن بجرمهن إلا أن أدلة الطب الشرعي أثبتت وجود كدمات أو شقوق في العظام أو آثار إختناق في التنفس تكون كافية لإدانتهن، والسبب الأساسي عندهم هو إزعاج المواليد والأطفال الصغار وصعوبة الإعتناء بهم ! فالأمهات مشغولات بأمور كثيرة أخرى..

سأروي لكم حكاية من صميم الواقع ولها علاقة بما ذكرته آنفاً . الأسرة هي من مغتربي الأقاصي وقد هاجرت إلى موطنها الجديد ذاك قبل سنوات ليست بالكثيرة ، مكونة من الأب والأم وطفلين ولد وبنت في مرحلة الدراسة الإبتدائية وبنتين توأم رضيعتين . في إحدى الليالي صرخت إحدى البنتين التوأم وواصلت البكاء دون توقف رغم محاولات الأم لدرأ سبب البكاء فأرضعتها ولكنها لم تسكت وغيرت لها الحفاضات وسقتها من ماء غريب وماء الأرز وشاي ميلوبا ولكنها لم تترك البكاء وحملها الأب على صدره وصار يدور بها و (يلولي) ولكنها لم تسكت . بعد كل ذلك أخذاها لأقرب مستشفى لإجراء الفحوصات لها لمعرفة ما يؤلمها . إحتجزتها المستشفى لإجراء الفحوصات وطلبوا منهما العودة لبيتهما للإعتناء بالأطفال الآخرين. في صبيحة اليوم التالي وعندما وصلا المستشفى كانت الشرطة في إنتظارهما وأقتيدا إلى قسم التحريات. قيل لهما أن إبنتهما تعاني من شق في الجمجمة وأنهما متهمان برميها وتسبيب الأذى الجسيم لها ! أثناء المحاكمة أنكر الأبوان التهمة ، بل زادا على ذلك بأن الممرضات ربما هن اللاتى سببن الأذى لإبنتهما، وكان أن حكمت عليهما المحكمة بأنهما غير جديرين بتربية أطفالهما وعليه إستلمت الدولة كل أطفالهما لتتكفل بتنشئتهم حتى سن العاشرة، على أن يثبت الأبوان حسن السير والسلوك طيلة السنوات القادمة. لجأ الأبوان إلى محامٍ ضليع في مثل تلك القضايا وإستأنفا الحكم فكان الحكم في غير صالحهما . تقدما بطلب آخر بأن طفليهما الكبيرين متعودان على طعام معين على الطريقة الإسلامية ، فأمرت المحكمة بتخصيص أصناف من الطعام مشابهة لما إعتادا عليه وبالطريقة الإسلامية .

جن جنون الأبوين وإنهارا ولم يصدقا أنهما قد فقدا أطفالهما جميعاً ، على الأقل لعدد من السنوات القادمة لا يدريان ما سيحدث فيها . كان همهما الأكبر في كيفية التربية التي سيتلقاها أطفالهما ، خاصة الكبيرين، فتقدما بطلب أخير الي المحكمة أن تسمح بأن تتولى خالتهما الموجودة مع زوجها وأطفالها في دولة خليجية أن تتولى أمر تربية أبناء أختها. نظرت المحكمة في الأمر وقررت إرسال لجنة مكونة من عدد من الأعضاء بتخصصات مختلفة في علم النفس وعلم الإجتماع وعلم الإقتصاد والعلوم الأمنية والقانونية لكي يسافروا إلى تلك الدولة الخليجية ويقابلوا خالة الأطفال هناك ليدرسوا على الطبيعة مدى تأهيلها و مقدرتها على تربيتهم ! هذا هو التطور الأخير في هذه الحكاية الغريبة على مجتمعاتنا ... شوفوا ليكم بالله مصيبة!

 

صحيفة (الخرطوم) ـ 14/2/2004م

 

 



© Copyright by sudaneseonline.com