From sudaneseonline.com

مقالات و تحليلات
سودانياتٌ قبلَ قرار ٍبقابل ِالأوْطاَن/محجوب التجاني
By
Apr 9, 2011, 14:45

 

سودانياتٌ قبلَ قرار ٍبقابل ِالأوْطاَن

"سلاحك إيمانك بعزة أرض السودان"

من أناشيد الموسيقار محمد الأمين

 

محجوب التجاني

السبت 2 أبريل 2011

 

متقاطعات إصطلاحية

تحوي موسوعة إستانفورد في الفلسفة دراسة قيمة أعدها إيقور بريموراتز (2009) في مفهوم الوطنية. يري الدارس أن الوطنية تثير أسئلة يناقشها الفلاسفة عادة: كيف نعّرف الوطنية؟ كيف تتصل الوطنية بسلوكيات مماثلة مثل القومية، وما وضعيتها الأخلاقية: ربما أن لها معني قيم أو لعلها قيمة إلزامية، يوصي بعضٌ بأن علينا تجنبها.

في صورة جميلة، رأي الباحث أن الوطنية تتمثل في حبٍ خاص للوطن يتضمن العنآء به والتضحية في سبيله. من دراسة مقاله، فيما يبدو لنا، تطورت النظرة إلي الوطنية – حيزا حياتيا غاليا في حياة الفرد والجماعة يرتبط مباشرة بالأصل والمنشأ والمربط – لتمد البصرمليا للقومية – حيزا معنويا شاملا للفضاء الثقافي العريض بهيمنة اللغة والعادة والمسلك والتقليد، ضمن سماتٍ أخري لا يستبعد منها الدين والعرق لتعزيز التبسيط القومي، سعيا لبسطه فوق حقائق الإجتماع وأوعية الثقافة، وممارسة حريات العقيدة، واختيار الرأي والتعبير، والتمتع بالسيادة.

ما عني الفلاسفة كثيرا بمصطلح الوطنية. وفي ظل احتدام مجّددٍ لتياراتٍ قومية في العالم، برز في الثمانينات اختلاف فكري حول الوطنية بمفهومي الجماعية والفردية. يمضي الحوار في الموسوعة في حرارةٍ بين قادح ومادح بمساهمات فلاسفة ومفكرين، يترآءي به رغم الإختلاف شيئٌ من التوافق علي حقل مستجدٍ من المعرفة في الفكر السياسي المعاصر: "... ما أكثر ما عُبر مدخلها من بوابة الأخلاق باعتبارها جملة من الولاءات العملية النافذة، لا مجرد مبادئ أو أفكار مجردة" يؤكد بريموراتز.

بكي الصحابة علي فراق مكة، القرية الوطن. و"الوطنية أساس الضاحية السياسية الصالحة" تقرأ الموسوعة. وهذا يا صاحبي ما فطن له شعبنا السياسي المحنك، الأديب، الأريب في فلسفة نضالاته الحية لمصارعة الإستبداد الثقافي والسياسي بالفكر الحر، وتغليب قابل الوطن السعيد بترسيخ الوطنية السودانية ورفض تنسيخ القومية الدينية والعرقية مكانها، أو إستبدالها بمذهبية عقائدية.

 

وطنية شعبنا

من إختلاف بيئاتهم المادية والجغرافية، وتعدد أصولهم وأعراقهم، وحّد السودانيون بتجربة حضاراتهم العريقة عقلا سياسيا متقدا، منفتحا علي التعاهد والتفاهم، بمنهج التآزر والتساند بين العشاير والاقارب، في وجه الغريب والغرائب.

صهرت الأجيال مجتمعات شعبنا بمنهجهم السياسي الفريد وتعددية بنآءاتهم الثقافية، فعّضوا بالنواجذ علي حريات إختيارهم الفكري والسياسي في وجه كل سلطةٍ ومستبد. هذه حقيقة الحقائق في ساحة الوطنية السودانية. ما أكثر ما جهلها قياصرة السلطة، أصاغر الإستبداد وأذناب العُصبة. وما أعظم إدراك الأصفياء الأنقياء توائم الصوفية الدينية والسياسية، أولئك النفر الراقي من ساسة أمتنا الفتية، الرافضين السلطة، الساعين بأخلاق الإستقامة الروحية لفرض حقوق الشعب وحرياته الوطنية، والتصدي للتجبر والإستبداد، دون حجر ٍعلي رأي، أو هجر ٍلحوار.

أرسي الصوفيون في نسيج مجتمعنا حب البشر وخدمتهم وتقدير أوضاعهم وتوقير خصوصياتهم. فانتشر في المليون ميل مزاج سوداني لا مثيل له في أي قطر مجاور: سودان المودة والضيافة والكرم والشجاعة. وكانت البيئة الجغرافية جوادة لطيفة إذ تنعم علي السودانيين بأغلي ما في البداوة والزراعة والتجارة – أساليب حيوانهم التليدة – من حكمةٍ وعلم بفنون التعامل وآدابه: إحترام جوهرة النفس، تقدير حق الغير، والتعفف عن المساقط ومزالق الخلق. سيرة خيرة قيادات شعبنا نقاباتٍ وأحزابا.

تعلم السودانيون جيلا عن جيل منذ أيام نبتة وإصلاحات أرقاماني فصل الخاص عن العام، وخوض السياسة وصراعاتها بالنأي بها عن قدسية التضامن الروحي والتعاضد الديني – شفاء القلوب قنوتا لبارئ النفوس. وبإدراكهم الثاقب عمق هذا التراث ومنعته، إمتنع الأرباب، مشائخ الصوفية ومريدوها، عن تمييز أتباعهم بالعرق أواللغة، أوالتعالي بفقه الدين علي خصائص الناس الشخصية. فواصلوا في حكمةٍ عظيمةٍ، ووطنيةٍ خالصةٍ صفات الثقافة السودانية بمحض أصولها واستقطاب دلائل السمو الروحي والحرص علي انبعاثها من بطن الحياة اليومية علي امتداد البسيطة.

دارت دروس الدين في آن ٍواحدٍ علي أنغام فنون الجبال ونوبات الجنوب وعرضة الأوسط ودفوف الشمال. وباتت أحياء المدن بنقرات الذكر الخشوع، وقرع الطبول علي الخنوع لمن لا إله غيره، ولا قوة إلا به. وفي الساحة السياسية، تعامل سياسيو وطننا وفيهم مناضلو الحريات النقابية مع حقائق مجتمعنا بأرق شفافية الذوق الرفيع والحس الصوفي العميق، فمن بيوتها انحدروا، وديار بعضهم مذكورة في طبقات الشيخ الأديب ود ضيف الله – أحد أعلام تاريخ بلادنا، والأوسع شأنا مزجة ثقافاتهم ومزاجهم الديني التعددي الغريد بالطنبوروالنوبة وترويض الاجساد بسلطان الروح، شأن توسل أهلنا الأفارقة برشاقة الحركة، كناية عن إستقلال الذات وحيوية التعبير.

 

سماحة الصوفيين

في أقوي مخاطباته حكومة الإنقلابيين، الإسلاميين الظلاميين، من منصة مؤتمرات التجمع الوطني  الديمقراطي – جامعة الوطنية السودانية المعاصرة،  ووالد قوي الإجماع المعارض – كثيرا ما أورد مرشد الختمية زعيم الإتحاديين الديموقراطيين الآية 99 "وَلو َشآء رَبُك لآمَنَ مَنْ فِي الأرض ُِكلُهُم جَمِيعَا أفأنتَ ُتكرهُ الناسَ حَتي يَكُونُوا مُؤمِنينَ" (سورة يونس). والمعني القريب واضح: ما في معاني الدين شئ من إكراه الخلق علي مفاسد الخلق. ليس عجباً أنه في عهد ثوران إنقلاب 17 نوفمبر 1958، رفضت الحركة الجماهيرية إغراق النوبة، وخرج طلاب المدارس في تظاهر بكل المدارس رفضا لفرض السلطة قرارها. وما من عجبٍ، أيضا بالوطنية السودانية، حين رفض عقل شعبنا فرض إتحادٍ ثلاثي بين السودان ومصر وليبيا عقب إنقلاب 25 مايو 1969.

وفي العهد المعاش ضنكاً، لم يرفع أحدٌ حاجبا حين سخر المجتمع علناً من تهافت الإنقلابيين الإسلاميين في 30 يونيو 1989 وما بعدها علي تخريج "سودان جديد" تحت رايات الجبهة القومية الإسلامية – حزب الأخوان الظلامي – شعاراتٍ غريبة من الإستعلاء بالقومية العربية، والإستغنآء باللغة العربية عن مناهج التعليم الحديث والتعرف علي العالم بكافة لغاته الحية. خرجت قوي الظلام تدعي عالمية الإسلام بفرقة حسب الله – رمز نشاز الأدآء في الرمزية الشعبية المصرية. واتسق مع كل ذلك ما طاف في الأقطار خبرا: أن أسامة بن لادن جعل السودان، فخر معاني العقيدة والتربية الصوفية السليمة، مرتعا لتخطيط الإرهاب والحرب والفوضي السياسية.

 

وطنية شعبنا الدستورية

لم تجد أدبيات التجمع الوطني الديموقراطي بعدُ ما تستحقه من تحليل سياسي عليم، يوفيها بتمحيص عميق وفهم رشيد، ما تستحقه من تفكير وتقييم، وتوقير وتكريم، كونها محصلة لمساهمات شعبنا الصديق الصدوق بأحزابه ونقاباته ومنظماته وكيانات قواته المسلحة المخلصة – مساهمات خّيرة نّيرة لعقول خصبةٍ من أعلم الساسة دراية بقضايا الوطن، وإلماما بأجندة إنتقاله الديمقراطي المرام، بقيادة حركته الجماهيرية العتيدة.

أبدأ هذا الاسبوع وحلقات تالية في مناقشة بعض أدبيات التجمع الوطني الديمقراطي، وفي مقدمتها مسودة دستوره الإنتقالي القائمة علي ميثاقه المتين، وفي الخاطر ما ألم بالدستور الإنتقالي الحالي من تشويهٍ وتحريفٍ لأجندة الإنتقال الديمقراطي، وما أصيبت به الساحة السودانية في وضعها الراهن من غليان وتوتر واستقطاب بين نظام الإسلاميين الظلامي وقوي الإجماع الوطني، مع تواصل سياسات التدمير المادي والروحي لجماهير الشعب علي مختلف الأصعدة الإقتصادية والسياسية والثقافية، في نفس الوقت الذي تتراقص فيه وعود السلطة المذعورة من مواجهات الشعوب حكامها في كافة أنحاء المنطقة، وحتمية المواجهة السودانية في أي وقت، إذ لا منقذ لحكم فاسدٍ من صوت الحق وسيف العدل.

ماكان صوابا تقبل المعارضة إصرار الإنقلابيين علي إفراغ مسودة الدستور الإنتقالي التي اعدتها قوي التجمع الوطني الديمقراطي آنفاً من أغلي المواد وأهم البنود لصالح حزب مؤتمرهم عديم الوطنية، عرّاب الإنفصال، غراب السلطة الملون بحناء القومية وادعآء الإسلام. ثم ما أفدح المصاب عقب وضع الدستور المعيب موضع التنفيذ، وأول ضحاياه إنتخابات أبريل 2010 التي فتحت الطريق للسلطة الكائنة غصباً لتواصل الإستبداد بسياسات الإنفراد، وتامين الإنفصال؛ وتسعي حاليا لفصم دارفور، وتحضير السودان لحربٍ جديدة في أبيي لن يستقر بها جنوب ولن يهدأ بها شمال.

أودعت قوي السودانيين الديمقراطية حادية حركته الجماهيرية المستقلة بكل فصائلها وفضائلها مسودة دستورها الإنتقالي أماني شعبنا المُرّحلة من عهدٍ لآخر، وفقا لمبادئ الوطنية السودانية الصميمة. تقرا الديباجة: "نحنُ شعبُ السُودان... خارجين لتونا من حرب مكلفة، وممزقة، بعضنا ضد البعض الإخر؛ مستلهمين إنتصاراتنا علي الإستعمار ومختلف الوان الإستبداد وانتهاك الحقوق الاساسية؛ وممتلئين إيمانا بإقامة نظام ديمقراطي في بلادنا يتأسس علي التعددية السياسية والدينية والثقافية".

وعلي قواعد التراث الروحي التليد تعاهد السودانيون:" عاقدين العزم علي تأسيس نظام يزيل المظالم السياسية والإقتصادية والثقافية والدينية والإدارية التي أنتجت الشقاق بيننا... نظام يراعي  ويُنمي التسامح والإخاء والعدالة والوئام في وطننا, قد أصدرنا، بمشيئة الله وتوفيقه، هذا الدستور الإنتقالي للفترة التي تقررها أحكامه، وهاديا لمستقبل الحياة في بلادنا."

 

تخريب الإنتقال

حرص دستور التجمع الوطني الديمقراطي في المادة 14 علي تثبيت دعائم الإنتقال الديمقراطي علي الأجندة الشعبية الملزمة بالسلام وتحريم الفتنة والكراهية وقلقلة الحياة باجتثاث منابع العنف والإرهاب: "تعمل الدولة علي مكافحة الإرهاب والهوس الديني والعنف السياسي بكل أشكاله محليا وإقليميا ودوليا، وتصدر الدولة التشريعات التي تجّرمه وتعاقب عليه ولا ُتسقط جرائمه بالعفو العام او التقادم". وفي المادة 15: "(1) تلتزم الدولة في كافة سياساتها ميزة التعدد العرقي والديني والثقافي لشعب السودان. (2) تعمل الدولة علي تعزيز الوحدة الوطنية وترسيخ مبادئ التعايش السلمي والتسامح والتعاضد ونبذ التمييز العنصري، وتجريم أي دعاية او دعوة للحرب أو الفتنة الدينية، وتصدر التشريعات اللازمة لذلك".

ماذا تري أوقعت لجنة الدستور بهذه النصوص القوية؟

تجزأت المبادئ شتاتا بمنهج الحذف والتعتيم. أطاحت اللجنة بعبارات "الهوس الديني والإرهاب والعنف السياسي"، وخصصت المادة 6 "للحقوق الدينية" ممارساتٍ عادية لا ذكر بها لواجب الدولة الرئيس في إزالة ثقافة الحرب والكُره الإجتماعي التي زرعتها الجبهة القومية وإنقلابييها الإسلاميين في تربة السياسة السودانية، ولا تزال تقطف صراعا وتحصد حربا. وما ألحق بمواد السلام المجتمعي أودي بمحتويات مواد دستور التجمع الأخري:

أقامت المادة (16) واجب الدولة "(1) بإعادة بنآء الهياكل. وتضع السياسات والمناهج الدراسية والتربوية الجديدة لجميع المؤسسات التعليمية في البلاد بما يزيل آثار الخراب الذي لحق بها وبما يعزز مبادئ الوطنية وغرس قيم الفضيلة وحسن الخلق والشعور بالمسؤولية". حذفت موجهات "إعادة البناء لإزالة آثار الخراب". وتعامل الدستور الراهن بأحوال التعليم بإعتبار ما كان أمرا مسلماً به، فلا حاجة للوطن بإعادة تركيبه وبث الديمقراطية الحقة في شرايينه.

لم تحسن لجنة الدستور المشتركة بين ممثلي النظام الحاكم وقوي المعارضة عملها نحو الوطنية الدستورية. أخرجت للسودانيين وثيقة ناقصة الهيبة تكتظ بالعيبة. يكون لزاما علي أول مراجعة وطنية لهذا المسخ الشائه إعتماد مسودة دستور التجمع الوطني الديمقراطي الأصل وإجازتها والعمل بها نقلا للبلاد من الفساد والدمار. نعود في أسبوعيات قادمة بأمثلة دامغة اخري في شأن الفرق الشاسع ما بين دستور صاغته قوي الشعب السوداني بحريتها الكاملة، وآخر كل سطر فيه منبعجٌ بقرن السلطة المنفردة.

 

الوطنية في أربع حلقات

نسبت موسوعة إستانفورد في الفلسفة لإستيفن ناثانسن (1993) قوله: " إن الديمقراطية تشمل حبا خاصا لوطن الفرد، إحساسا بهويته الشخصية، عناءا خاصا برخائه، ورغبة في التضحية للإرتقآء بخيره". نقبل هذه المعايير. ونحاول تطبيقها علي أدآء الإنقلابيين الإسلاميين طوال إحدي وعشرين عاما من الإنفراد التام بالسلطة.

بدأوا القصيدة كفراً ساعة قبضهم السلطة بسياساتٍ أمعنت بطشا بالوطنية ومعاييرها الروحية والعدلية والشعبية المجيدة. بدّلوا أول سياساتهم الحزبية الضيقة خلقة الدولة بطرد خيرة عمالها وموظفيها المدنيين والعسكريين، وتوريث أنصار الجبهة القومية الإسلامية مواقعهم – حزبهم الذي يتباهي أفندية مخابراتهم وأمنهم بضمان بقائهم به، والبقاء لله وحده. ثم أشعلوا حربا أزرت بكل إنجاز تباهي به شعبنا بالسلام بين الأمم. فليس لطغمتهم ذرة حبٍ للوطن الذي استباحوا كرامة بنيه وداسوا علي تضامنه ومزقوا وحدته.

·        ليس لهم أحساس بالهوية الشخصية السودانية. لا تري الجماهير منها غير الجلباب الفضفاض والعمامة المتربسة.

·        وليس لهم عنآء برخاء شعبنا الذي لم تفقره سلطة أوتشيع الفلس بين قوته العاملة كما فعلوا.

·        ولم يُظهروا في يوم رغبة في التضحية للوطن. رغبتهم الدائمة سرقة خزانته والعبث بأموالها للتسمن والتمتع بحياة أفرادهم.

 

هؤلاء قومٌ لا وطنية لهم. فلا حق لهم في التشبث بحكم سودان الوطنية التليدة، والحريات الأكيدة، والحقوق السديدة.

 

وغداً يومٌ جديد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



© Copyright by sudaneseonline.com