From sudaneseonline.com

مقالات و تحليلات
الفشل في التربية الوطنية شرط لدخول حكومة "البلد الماعندو وجيع"/د.علي عبدالقادر/ باحث أكاديمي/ باريس
By
Apr 5, 2011, 12:40

 

الفشل في التربية الوطنية  شرط لدخول حكومة "البلد الماعندو وجيع"

د.علي عبدالقادر/ باحث أكاديمي/ باريس

جاء جدي لمدينة الخرطوم قادماً من قريته الصغيرة في نهاية القرن التاسع عشر وكان يردد بأنه لن يمتلك بيت بالعاصمة لأنه سيرجع لقريته في نهاية المطاف، ورغم أنه بقى بالخرطوم قرابة المائة عام وأصبح كشكه لبيع الليمون )مرطبات السنجك  (بالمحطة الوسطى بالخرطوم من المعالم الرئيسية حتى بداية الثمانينات، ولكن ظل حنينه دائما لقريته و مسقط رأسه مرتع طفولته بالقرير باقياً حتى مماته. إذن كان حبه لأرضه صادقاً لم تغيره السنين و"لا الظروف ولا غيرته محنة"  ولعل أصدق تعبير عن ذلك الحب  هو قول أبو تمام:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى *** ما الحب إلا للحبيب الأولِ
كم منزل في الأرض يألفه الفتى *** وحنينه أبدًا لأول منزل

انتماء جدي وجدك وقبلهم أجدادهم وأجدادنا جميعاً وحبهم لأرض آبائهم وبذلهم الغالي والنفيس لإصلاحها وتعميرها كما أن التضحية بالأرواح لأجلها كما حدث فعليا وفي جميع  أنحاء السودان وخاصة ضد الانجليز والأتراك يوضح لنا الوطنية الصادقة التي رضعوها مع لبن الأمهات ودليل لأسمى معاني الانتماء والولاء.

بعد أن استطاع الأجداد تطهير وتحرير البلاد سلموها لأجيال ما عرفت ماذا تعني الأرض والوطن. بل انقلب الأمر رأسا على عقب فبدل أن يسخر كل فرد قدراته وطاقاته لخدمة الوطن، جاءت أجيال جديدة بعقلية أخري تتمثل في كيفية تسخير كل خيرات الوطن للمصلحة الذاتية. 

في البدء جاءت طرائق محببة لزرع حب الأرض والوطن بصورة عفوية في العقول والصدور من خلال أنغام " عجبوني الليلة جو ترثوا البحر صددوا " وهي تشيد وتمجد الإعمال البطولية والأخلاقيات الطيبة لشباب الوطن واستمتاع الجميع برائعة الخليل "عزة في هواك، عزة نحن الجبال*** وللبخوض صفاك، عزة نحن النبال"، وحفظ الأطفال لأناشيد "بلادي بلادي فداكي دمي*** وهبت حياتي فداً فأسلمي"  ورغم ذلك ظل الهم الوطني وحب الأرض لا يمثل للفرد السوداني سوى أناشيد حماسية ثورية " قسماً قسماً يا أكتوبر*** نحمي شعارك ونجني ثمارك، ونرفع راية الثورة الغالية * عالية ترفرف فوق السارية " أو تمييع للموقف بأهازيج  " أبدا ما هنت يا سوداننا يوما علينا *** بالذي أصبح شمساً في يدينا" وأغاني يتراقص على أنغامها مثل "لو زرت مرة جبل مرة *** يعاودك حنين طول السنين" أو "يا مسافر جوبا يلا لي جوبا"  أو يعلن حبه على إيقاعها الموسيقى" حبيت عشانك كسلا واخترت ارض التاكا" أو غيرها، ثم يفتر حب الوطن بانتهاء أخر مقطع في أغنية وطنية رمزية مثل" الساقية لسع مدورة".

 ثم جاء زمان أخر ربطت فيه  محاولات زرع الوطنية والانتماء للبلد من خلال تظاهرات تنظيمية اختيارية تسعى في المقام الأول لتقوية المحبة بين الطفل والحاكم وهي تجارب لمناصرة النظام الحاكم ليس إلا، ومن تلك الأمثلة نجد الكشافة وطلائع مايو و"الكديت"- صغار الجيش- بالمدار س الثانوية ثم برزت تنظيمات أكثر صرامة وأشد قسوة مع فرضيتها كخدمة إجبارية وفيها يتم التركيز علي الجوانب النفسية التعبوية وغسيل الأدمغة كالدفاع الشعبي، والخدمة الإلزامية وانتهاء بالدبابين.   

. ويأتي السؤال لماذا لا يؤمن الفرد السوداني  بحب الوطن ولو من باب المقولة "حب الوطن من الإيمان" ؟

يجيب البعض بان ضعف الروح الوطنية يرجع لأن الربط لم يكن بين الفرد والوطن بل بين الفرد والنظام الحاكم ممثل في الرئيس وزمرته" يا حارسنا وفارسنا، جئتنا وفيك ملامحنا" والدليل على ذلك صور الرئيس التي امتدت من العملة الورقية إلى الوزارات مروراً بمكاتب الدولة بل نزلت مفهوميه تمجيد الحاكم وإعلان البيعة الصورية من الرئيس إلي من ينوبه حتى إن صور الوالي أو المحافظ أصبحت تملا الطرقات والعربات ومحلات الباعة المتجولة وقد تجد لها يوماً مكانا عند أخواتنا من ستات الشاي. وعلى نفس النسق وفي إطار تمجيدنا لشخصنا هنا نحيلكم للعم" قوقل"ومقالنا السابق "أحلام محمد أحمد السوداني مابين حارس الأباريق ورئيس الجمهورية"، لمزيد من الإيضاح والربط!

إذن تحول مفهوم الوطنية من انتماء للأرض والشعب بكل عاداته وتقاليده إلى مفهوم يحصر علاقة الفرد بالوطن في علاقة نفعية تتمثل في أحسن الأحوال في كلمتين حقوق وواجبات وحتى هذه تحولت بمرور الأيام إلي حقوق للفرد علي عاتق الوطن يسعى لامتلاكها بكل الوسائل المتاحة شرعية كانت أو غيرها.

ينشأ الطفل ويجد أن أباه يستغل منصبه أينما كان موقعه و بغض النظر عنه لتحصيل منافع ذاتية ثم يكبر ويجد أن هناك جهتين منتفعتين حاكمة ومعارضة كلا منهم يتهم الآخر بعدم الوطنية وأن قلبه ليس على الوطن بل على مصالح خاصة. فتتهم المعارضة الحكومة بأنها قد باعت البلاد ورضت بتفتيتها مقابل أن تترك بلا مضايقات من قبل المحافل الدولية وغيرها لتظل ممسكة على مقابض السلطة. وتتهم الحكومة المعارضة بأنها تعمل بليل ولأجندة خارجية للانقضاض على السلطة. ثم يتهم الاثنان المواطن ورجل الشارع بأنه لم يتصد للطرف الآخر بما فيه الكفاية بحيث تتضح فيه جهة الولاء والبراءة  "أنت معانا ولا مع التانين"!.

والغريب في الأمر هو أن مبدأ الصراع ليس في من هو الأفضل لخدمة الشعب وتحقيق أمانيه بل في من هو الأحق بالاستمتاع بمنافع السلطة. أي أن الصراع حول السلطة من أجل السلطة" لعبة من يبقى على الكرسي".

كلنا كأفراد من الشعب السوداني نعاني من عقلية تقيس نجاح الفرد من خلال اعتلائه المناصب وامتلاكه الأموال وخاصة المال الذي يظهر للعيان كبناء الفيلات على ضفاف النيل بأرقى الأحياء بالعاصمة، وكذلك من خلال سفره وتجواله بالطائرات وقضاء الإجازات القصيرة بالقاهرة والإسكندرية والعطلات السنوية بعاصمة الضباب لندن، بل لعل )عقدة النقص( لدى كثير من السودانيين هو زيارة مدينة لندن والإقامة بها، اعتقادا منهم بأن في ذلك ارتفاع ووصول لمستوى المستعمر السابق أي مستوى الرجل الإنجليزي.

السؤال الذي يطرح نفسه  :ماذا يعني حب الوطن وماذا تعني الوطنية لنا إن لم تكن تعني إكرام المواطن الآخر؟ الكثير من الناس يفضل المصلحة الذاتية ولو على حساب المواطن الآخر ويدعي في الوقت نفسه حب الوطن.

وفي إطار السعي لتحقيق تلك المصالح، نجد أن أغلب السودانيين يبحث عن الواسطة على نطاق الأسرة أو الأصدقاء والمعارف ولو كان ابن عم جار سواق المدير أو المسئول الفلاني. حتى لو أدى تدخل تلك الواسطة لغمض حق الآخرين ولا يرى في ذلك ظلم للمواطن الآخر وعدم وطنية وخيانة للوطن.

يدعى  الجميع التشبع بالروح الوطنية ولكن لا يمنعه ذلك من الاستعانة بقريبه الفلاني لتجديد جوازه أو الحصول على تصريح أو تسهيل ما، بما في ذلك اقتناء الأراضي السكنية أو الزراعية، بل تجد البعض لا يتورع عن امتلاك العديد من القطع السكنية بطرق غير قانونية دون أن يرى في ذلك خرق لوطنيته وقبلها حرمان للآخرين من حقوقهم ؟

وهكذا ينبغي لكل من أن يسأل نفسه هل الواسطة في المعاينات ودفع الرشاوى أو استلامها لا ينافي الروح الوطنية؟ هل استخراج رخصة قيادة ورخصة بناء ورخصة استيراد وغيرها يتماشى مع إدعاء الوطنية؟ هل شتم المواطن الآخر بصفة قبلية، أو مهنية "فاقد تربوي" يتوافق مع إدعاء الوطنية!  هل كتابة المقالات وإطلاق التهم الجزاف فلان "عميل" و فلان في الاستخبارات أو الأمن ويقوم بتعذيب الناس، أو حتى الاتهامات الدينية "مارق" و"كافر" وغيرها لا يتعارض مع إدعاء الوطنية؟ 

نجد أن الجميع إلا من رحم ربي حاكم ومعارض ومواطن يتأرجح مابين المنزلتين لا يرى غضاضة في ذلك الاستغلال غير الشرعي لمنصبه ومعارفه في الحصول علي المنافع الدنيوية بل على العكس لعل عدم استغلال تلك الفرصة تعتبر من العبط وكما قالها بعض عديمي الأخلاق في فترة مايو " الغنى غنى والما غنى ....”.

بل رأينا كبار التكنوقراط وأساتذة جامعيين وكبار المطربين المعارضين الذين قالوا "ما هنت يا سوداننا يوماً عليناً"وغيرهم بمجرد استلامه "للكاش الذي يقلل النقاش" يتناسى هم الوطن ويبيع القضية ! بل تحول بعضهم من معارض لوزير وقبض المنافع ثم تحول لمعارض مرة أخرى في انتظار وزارة مرة أخرى، وتحول بعضهم من معارض شرس لمنظر للنظام. أي أن الفشل في التربية الوطنية أصبح من شروط تقلد المنصب الحكومي "القروش دي بنشتري بيها الزيك ديل"! ومن ناحية أخرى استفاد البعض وجعل من ارتمائه في حضن الحكومة أو ادعاء المعارضة تجارة رابحة ومصدر رزق لا ينقطع. بل دعونا نقول أن بعض هؤلاء المبدعون يعملون علي تنفيس غضب الشعب الكامن في الصدور حتى لا تتفجر من خلال الانتقاد للحاكم ولكن بصورة وصفها الأخير بقوله " دا كلام ساكت"، وهذا التنفيس في حد ذاته يزيد من عمر النظام.

نصل في الختام لتأكيد ما قلناه في المقالات السابقة، بأن أزمة الحكم في بلادنا هي أزمة أخلاقية وتربوية في المقام الأول، وأنه لا يمكن للمواطن العادي ناهيك عن الحاكم والمعارض ادعاء حب الوطن أو الوطنية قولاً وفي الوقت نفسه القيام بكل ما هو منافي للوطنية فعلاً. 

 

 

 



© Copyright by sudaneseonline.com