From sudaneseonline.com

مقالات و تحليلات
ثورة الفاتح من ابريل العالمية/محمد الأمين نافع
By
Apr 4, 2011, 10:11

ثورة الفاتح من ابريل العالمية

محمد الأمين نافع

 

لقد بدأت المستعمرات السابقة التي استنزفت مادياً وبشرياً تستعيد أو تمتلك بعض عوامل القوة، بل إن بعضها قد أعاد الي الحياة نظرية الاستبداد الشرقي والمستبد العادل الذي ينفذ كل المشاريع العملاقة مستبداً برأيه في وضعٍ أقرب الي المغامرة منه الي التعقل وأخذ المشورة، فالمحللون اليوم يرون أن اليابان قد استعادت بناء قوتها المدمَّـــرة في الحرب العالمية الثانية مستعينةً بروح الانضباط العسكري وتقاليد الطاعة العمياء للقادة الموروثة عن ديانة عبادة الامبراطور، إذ علي الرغم من إلغاء هذه العبادة رسمياً بعد الانهزام العسكري المريع لليابان في الحرب الأخيرة، ظلت روحها والتقاليد المستنبطة منها سارية المفعول الي يومنا هذا، وتروي طرائف تقاليد الانضباط العسكري بصورة حرفية لدى اليابانيين أن أحد جنود اليابان الذي اختبأ في الغابات بناءاً علي أوامر صادرة اليه من قيادته العسكرية في حقبة الحرب الكونية الثانية ظل مكيـِّـــفاً حاله علي العيش في الغابة في انتظار تعليمات جديدة تأمره بالعودة الي وحدته، ولم يكترث بمرور أكثر من أربعين عاماً علي الحرب ولم يحاول الاستجابة لصوت المنطق بأن هذه المدة الطويلة كافية للقضاء عليه أو علي قائده أو علي أعلى رأس في بلاده، وأن آمره لو كان علي قيد الحياة وفي وضعٍ عادي لما مطله ولا أهمله كل هذه المدة، لقد عثر علي هذا الجندي في ثمانينيات القرن الماضي بزيه وعهدته العسكرية وإحساسه بالزمن هو إحساسه بآخر يوم فارق فيه وحدته بناءاً علي أمر قائده المباشر له ولزملائه بالتفرق في الغابة حتى إشعار آخر لم يصله حتى لحظة العثور عليه.       

أما العملاق الشرقي الآخر، الصين، فقد استطاع هو الأخر عبر صب ملايينه البشرية التي تقترب الآن من المليار الثاني في قالبٍ أخلاقيٍّ واحد أن يتحول الي واحدة من معجزات العصر في القدرة علي توفير الطعام لكل فم من تلك الأفواه البليونية، فبينما نسمع في أقل من عقدٍ واحد عن مجاعة هنا أو هناك تجتاح بلداً لا يتجاوز سكانه عشر مساحته ويفوق معدل نصيب الفرد من خيراته المعدنية والزراعية ما يكفي لإطعام ثلاث أضعاف تلك البلاد، لم نسمع يوماً عن ضائقة معيشية في الصين ولا حيث يكثر الصينيون في أي مكان في العالم. وعندما حارب المستعمرون الانجليز الشعب الصيني باستدمانه الأفيون فيما عرف في التاريخ بحرب الأفيون ليتحول الشعب الصيني المعروف بالانضباط وغزارة الانتاج الي شعب مسطول يصرف ثمار عرقه في مضغ الأفيون واستنشاق مشتقاته، وعندما تواصلت هذه الحرب حتى بعد خروج المستعمر من الصين، لم يتوان قادة الصين في اشتراع قانون جريء لمحاربة واستئصال هذه الحرب اللعينة، فكان أن سنـُّــوا الإعدام عقوبةً لكل صيني يثبت عليه تعاطي الأفيون أو يضبط في حيازته، ولم يكترثوا بضجيج العالم ونقيق منظماته الحقوقية باستفداح واستهجان هذه هذه العقوبة والاستخفاف بالجريمة المعاقب عليها، فانتصرت الصين بشريعتها هذه في حرب الأفيون وحررت بالتالي طاقات شعبها الروحية والمادية فعادت سيرتها الأولى في تسيــُّــد العالم سكانياً واقتصادياً، ولقنت السوفسطائيين المتاجرين بحقوق الإنسان درساً في التشريع، مفاده أن التشريع ملك وشريعة أصحاب الحق في التشريع وليس أي كائن آخر من خارج المجتمع وبيئته التشريعية.

في مصر القربية دي، كما نقول نحن في جنوب الوادي، يتفق المحللون أنه لولا قرار عبد الناصر الجريء والمغامر، يعنون قراره بتأميم قناة السويس وتحريرها من قبضة القوى الاستعمارية التي جعلت منها حصان طروادة في مصر والعالم الثالث، أنه لولا ذلك القرار الذي هو من خصائص عقلية المستبد العادل، لما تحررت مصر نفسها دعك من قناتها، ولما تمكنت من دخول نادي الصناعة الثقيلة وليس صناعة التوليف والتركيب والتجميع بل وترقيع وتلميع الخردة، كما أن مصر وبسيرها علي ذات الطريق التي اختطها لها عبد الناصر وبالاستعانة أيضاً بروح المصري المحب للعمل والانتاج والادخار تمكنت مؤخراً عبر علماء من صلبها المعطاء من دخول النادي النووي الذي من شفرات اللغة المتفق عليها بين أعضائه أنه نادٍ للأغراض النووية السلمية. كذلك مستعينةً بمرونتها الدبلوماسية استعادت مصر أراضيها المحتلة من الكيان الاسرائيلي واستفادت من الهدنة الطويلة مع الأخيرة في بناء وترميم قوتها العسكرية الأمر الذي جعلها قوة عسكرية مهابة في منطقتها ورقم لا يمكن تجاوزه عالمياً في تقرير مصائر الاقليم. لاحظ ما ظهر مؤخراً من النتائج والثمار العاجلة لهذا التشكــُّـــل الاقليمي الجديد والمتمثل في الخضة التي تعرضت لها هيبة مصر في المنطقة بعد أحداث انتفاضتها وفصل جنوب السودان المتزامن معها، حيث اجترأت اثيوبيا مؤخراً علي إقامة سدها المؤثر علي حجم حصتي مصر والسودان من مياه النيل بشكلٍ خطير، وهي التي لم تجرؤ يوماً علي الإقدام علي فعل من هذا النوع تجاه مصر والسودان ربما من عهد عيزانا، لذلك طرقت اليوم علي حديد مصر الجريحة وهو ساخن ومائع.

الدول الغنية بترولياً مثل دول الخليج والعراق وليبيا هي الأخرى خرجت من شرنقة استجداء خبرات التنقيب المحتكرة من قبل دولة أو دولتين من الدول الاحتكارية العملاقة، كما تجاوزت مرحلة البداوة والعيش علي نمط الاقتصاد الريعي، أي الاعتماد الكلي علي ريع البترول الخام، بل توسع من كان منها صحراوياً في الزراعة واستصلاح الصحاري وتحويلها الي حدائق غناء وثمار غذائية كافية ووافية، أيضاً بدأت هذه الدول تسير بثبات في طريق التطور الصناعي الخفيف منه والثقيل وتنتج الكثير من حاجتها التي اعتادت تصديرها خاماً واستيرادها مصنعة.              

عندما أدركت قوى الاستكبار والامبريالية العالمية خطورة هذه القوى المضطردة النمو والمتسارعة الخطى نحو مدارج التأهـُّـــل للمنافسة السياسية والاقتصادية اقليمياً وعالمياً وظهور الدعوات بينها الي اعتماد المزيد منها في عضوية نادي الفيتو العالمي، استماتت في التفكير ملياً في وسائل ومحاولات تمريغ هذه القوى الفتية في مستنقع حرب الاستنزاف الداخلي والدخول فيما يشبه أو يساوي حرب أفيون جديدة، وبذلك تتخلص القوى الأولى من الثانية بالإمكانات الذاتية للدول المستنزفة دون خسائر من جانب الأولى، اللهم إلا الخسائر المدفوعة التعويض مقدماً، كما تفننت هذه القوى في ابتكار الوسائل النظيفة مثل السفن حاملات الطائرات والطائرات بدون طيار التي تجنبها أكبر قدر ممكن من الخسائر وإلحاق أكبر قدر منها بالقوى الأخيرة تحت مختلف الحجج والذرائع. وأخيراً فإن القوة الاستكبارية المرعوبة من تنامي قدرات منافسيها بمعدلات ووتائر مرعبة قررت تحطيم قوة تلك الدول بما تسميه الفوضى البناءة أو الخلاقة، تلك الفوضى التي تسمح لها بإعادة خلط الأوراق وصهر السبائك السياسية والاقتصادية وتشكيلها من جديد علي الشكل الذي يجعلها تحت السيطرة الكاملة والدائمة.

 وبعد فشل محاولة صرع العملاق الصيني في أسبوع آلام دول المعسكر الشرقي في نهاية الثمانينيات وبداية تسعينيات القرن المنصرم عبر تحريك الاضطرابات الداخلية "أحداث ميدان تيان آن مين"، أغلقت غرفة العمليات الامبريالية الباب علي نفسها في خلوة فكرية آلت فيها علي نفسها ألا تخرج منها إلا بفكرة جهنمية لتحطيم جميع منافسيها بأدوات داخلية وبأقل كلفة ممكنة، فكانت أولى الخطوات في هذه الحرب الاستيلاء الكامل علي الوسائل والتقنيات والقدرات الاعلامية الأحدث أينما كانت، سواء بوضعها تحت الإشراف والتوجيه المباشر أو استئجار أو ابتزاز خدماتها بالباطن، وهذا ما ظهر جلياً في الاستخدام الانتقائي للأضواء الاعلامية بتسليط أنوارها الباهرة علي هذا وحجبها عن ذاك وكأنها كشافات إضاءة للإيجار في خدمة من يدفع أكثر أو من يـُـخـْــشـَـى خطره. وبذلك صار اعلام اليوم قادراً علي صناعة قضايا من لا شيء وقتل قضايا حقيقية وعادلة في المـهــد والعنــفــوان. 

بعد ذلك كان للحرب إياها أن تبدأ بالحلقة الأضعف والأقرب، أي بالشرق الأوسط وشمال افريقيا كما يطلق عليه اليوم أو الشرق الأدنى كما كان يطلق عليه في السابق ثم تنتقل شيئاً فشيئاً الي الشرق الأقصى، فبدأت الأحداث بأقرب نقطة في الشريط البحري المتاخم للعالم الغربي، أي المغرب العربي، ولكن ولحسابات لم تكن في حسبان المخططين آتت العملية أكلها في تونس في مدة وجيزة لم تكن في حسبان أحد، ثم انتقلت العدوى في لمح البصر الي مصر وهناك أيضاً نجحت العملية في وقتٍ قياسي لعب فيه الدور الكبير التذاكي المصري في الالتفاف علي اللعبة المدبرة وإخماد لهيبها قبل أن تتوغل نيرانها في الشحم أو اللحم المصري، خاصةً وقد بدأت محاولات الصيد في الماء العكر منذ الأيام الأولى كما حدث في محاولة نهب المتحف المصري وإخلائه من الحراسة الرسمية، بل وسحب كامل الشرطة من تقديم أية خدمات أمنية هي من صميم عملها. 

أما موضوع ليبيا، فقد كان منذ البداية مختلفاً عن نمط الثورات الشعبية التي حدثت وانتصرت في كلٍّ من مصر وتونس ولا تزال تشتعل في اليمن ودول أخرى، فبينما تميزت الثورة في هذه البلدان بالشعبية والمسالمة وعدم سفور أقنعة التدخلات الدولية والاقليمية فيها بطريقة فجة وملحوظة للعيان، بدأت أحداث ليبيا عنيفةً وغير مسالمة من الطرفين الحاكم والمعارض، الأمر الذي بدا معه جلياً أن الأمور هنا دفعت دفعاً سافراً الي تمهيد المسرح للتدخل الدولي وتدويل القضية الليبية الداخلية بغية إضفاء الشرعية علي أية خطوات تتخذها الدول الكبرى ذات الأجندة الخاصة تجاه ليبيا، وكالعادة في مثل هذه التدخلات تـُــسلب الجهة المتدخـَّــل في شؤونها كل القدرات القتالية الممكنة ويباح للجهة المتدخــِّـــلة استعمال كل ما يحرم علي الجهة الأخرى ويتم ممارسة الإخراس والتعتيم علي كل الأصوات الدولية والاقليمية المنادية بحماية المدنيين وتتوجه كل أسلحة الأضواء الكاشفة والمكبـِّـــرة الي دماء بعوضة تسفك في الجهة المستهدفة، يتم ذلك بأسلوب كل شيء الي وفي سبيل المعركة، وهو ذات الأسلوب الذي دأبت الدكتاتوريات علي سلوكه والذي كثيراً ما يلقى الاستهجان والشجب من قبل جيوش المدافعين عن حقوق الانسان، تلك الجيوش التي تحذو اليوم حذو الاعلام العالمي في نظم نفسها في سلك قوات الدعم والتوجيه المعنوي المساعدة لجميع الغزاة الامبرياليين.

اليوم وبغض النظر عن شرعية أو لا شرعية، أو صحة أو خطأ موقف نظام القذافي والأنظمة المماثلة، فإن الحرب هناك بين طرفين من صميم ليبيا وكل خسائر بشرية أو مادية سوف توهن عظم ليبيا، كما أن أي تدخل من طرف ثالث لن يخفف من النزيف الليبي البشري والمادي بقدرما يضاعفه ويعمق شرخه أكثر فأكثر، أليس من يموتون بنيران المتدخلين ليبيين؟ خاصةً إذا علمنا أن حوادث من يموتون بالنيران الصديقة في مثل هذه الحروب أكثر من أن تحصى، أليست حجة التدخلات الثابتة إنقاذ المدنيين؟

إذاً يجب ألا نسمح لأنفسنا بأن نجيز انتهاك مبدأ أساسي عام تجاه الآخرين في الوقت الذي لا نقر فيه هذا الانتهاك علي أنفسنا تحت أي ظرفٍ من الظروف. كما يجب أن نتمسك بالحكمة الباقية علي مر العصور أن أية محاولة مسلحة للإصلاح بين فريقين غالباً ما تكون أكثر دماءاً وإدماءاً مما يفعلانه بأنفسهما، بل من المأمول جداً أن يصل المتحاربان إذا تـُــرِكا وشأنهما الي نقطة التعادل السلبي أو الإيجابي فيجنحان للصلح طوعاً واختياراً. 



© Copyright by sudaneseonline.com