From sudaneseonline.com

بقلم :مصطفى عبد العزيز البطل
مدارج السالكين إلى مذكرات الرائد زين العابدين (2)/مصطفى عبد العزيز البطل
By
Mar 29, 2011, 22:19

 

غربا باتجاه الشرق

مدارج السالكين إلى مذكرات الرائد زين العابدين (2)

مصطفى عبد العزيز البطل

[email protected]

---------------------------------------

 

(1)

وقفنا الاسبوع الماضى عند محور العلاقة بين العصبة المايوية والعصبة الشيوعية فى مذكرات المغفور له الرائد زين العابدين محمد احمد عبد القادر المعنونة (مايو: سنوات الخصب والجفاف). وسعينا الى ازالة ما بدا لنا من تخليط حول المسئولية والتبعات السياسية لبعض القرارات الكبرى مثل ضرب معقل الانصار فى الجزيرة أبا بالمدرعات والطائرات، ومثل قرارات التأميم والمصادرة فى العام 1970. وتلك هى المسئوليات والتبعات التى تراوحت بين الفريق الشيوعى الاصيل الذى عارض الانقلاب المايوى من حيث المبدأ، ثم سانده على مضض توافقاً مع مقتضيات الامر الواقع، والفريق الشيوعى الآخر المنشق الذى ساند الانقلاب ودعمه، ثم هجر الحزب قولاً واحداً، بعد فصله من عضويته، فانخرط فى النظام المايوي، وانصهر فى بوتقته.

الثابت ان فريقاً من المنشقين والمفصولين من الحزب الشيوعى على رأسه المرحوم احمد سليمان، وزير الاقتصاد، والمرحوم معاوية ابراهيم سورج، وزير العمل، والدكتور احمد الأسد، المستشار الاقتصادى لمجلس قيادة الثورة (صاحب إمتياز فكرة التأميم والمصادرة بحسب المذكرات)، أطال الله فى عمره، هم الذين دبروا ونظموا تلك الحملة، ولا علاقة للحزب الشيوعى بمثل تلك القرارات التى اثبت التاريخ صدق تحليل السكرتير العام للحزب وتنبؤاته بأنها فى جوهرها قرارت كارثية تضر بالاقتصاد القومى. وقد قلنا، والحال كذلك، إنّ توظيف الرائد زين العابدين فى مذكراته لعبارات مثل(الكميونة الشيوعية) فى توصيف المسئولين عن مثل تلك القرارات ربما كان متعسفاً بعض الشئ. كما تطرقنا أيضاً لمعارضة السكرتير العام للحزب الشيوعى ورفقائه لضرب الجزيرة أبا الامر الذى ادى الى اعتقاله ونفيه الى خارج البلاد، وتحفظنا تأسيساً على ذلك على استخدام المذكرات لعبارات حول دور الشيوعيين، مثل (كانوا الاكثر حماسة لضرب الجزيرة أبا)، باعتبار ان مثل هذه التوصيفات المرتبكة ربما تؤدى الى خلط الاوراق وتغبيش الوعى بالتاريخ.

(2)

ونمضى قدماً الى روايات المؤلف بشأن وقائع انقلاب المرحوم الرائد هاشم العطا فى التاسع عشر من يوليو 1971 واستعراضه للأحداث من الزاوية التى عاصر منها ذلك الزلزال المدوى.  وفى هذا الصعيد نلاحظ، مرةً اخرى، شيئاً من الاختلاف بين الروايات الراكزة التى استقرت تحقيقاً وتدويناً عبر العقود الثلاث المنصرمة بوساطة عدد من المحققين اعتمادا على المصادر التى عايشت الاحداث بدورها من ناحية، وروايات الرائد زين العابدين التى تضمنتها مذكراته من ناحية اخرى. ولكننا لا نلقى بالاً لكل ذلك ونعود فنستعصم بعقيدتنا التى اجليناها فى الحلقة السابقة من انه لا عبرة عندنا باختلاف روايات المراقبين والمؤرخين المتواترة عن رواية صاحبنا، وكنا قد كتبنا: (إن زين العابدين من صناع الأحداث. وسلطة صانع الحدث تعلو على سلطة المراقب والمؤرخ. وفي وسع صاحب المذكرات بغير شك - وهو من هو - أن يمحق ما كتب الآخرون وثبتوه في العقول، وأن يبدلنا ما هو خير منه). تلك هى قناعتنا وما تزال.

غير أن ذلك لا يمنعنا من إثارة بعض التساؤلات المشروعة عن أسس ومنطلقات ومصادر  بعض الحيثيات والاحكام الاطلاقية التى وردت فى المذكرات. نلاحظ ان المؤلف يبدو شديد الثقة وهو يتناول مجريات أحداثٍ بعينها، مع ان الخلاف حول وقائعها ظل محتدماً طوال اربعين عاماً دون حسمٍ يقطع بيقين ويردُّ الأشياء الى نصابها. على سبيل المثال تقرر المذكرات بلغة قطعية حاسمة، بشأن مجزرة بيت الضيافة، أن منفذها هو الملازم أول أحمد جبارة، وأن من اصدر الأمر بتصفية الضباط المعتقلين تصفية جسدية هو المقدم عثمان حاج حسين ابوشيبة. ونحن نعلم - من واقع عشرات الافادات والتقارير والاستقصاءات والتحقيقات التى ادلى فيها بالاقوال عدد كبير من الضباط المشاركين والشهود، بل ومن المستهدفين بالقتل انفسهم داخل بيت الضيافة، ان هناك روايات متضاربة حول هذا الأمر بحيث تعذّر تماماً اثبات ذلك الادعاء فى كل مرة تم فيها فتح ملف هذه القضية بالغة التعقيد.

من بين اقوى الافادات تلك التى ادلى بها فى تسجيل صوتى، ضمن تحقيق اضطلع به احد الباحثين المقدم عثمان محمد احمد كنب، قائد كتيبة جعفر، وأحد الموالين للنظام المايوى، والذى كان معتقلا هو نفسه فى بيت الضيافة ولكنه نجا من الموت بينما قتل عدد كبير ممكن كانوا معه وبجانبه فى غرفة الاعتقال. وقد ذكر المقدم عثمان فى شهادته المسجلة صوتياً، والتى تم تفريغها ونشرها بصحيفة "الايام" فى العام 2003، ان الملازم اول احمد جبارة لم يكن هو الذى نفذ تلك المجزرة، اذ جاءت اجابته بغير لبس او تردد: (ليس هو احمد جبارة). وغير ذلك من الشهادات كثير، كما ان المتهم نفسه لم يعترف بتلك التهمة قط حتى لحظة مفارقته الحياة! من أين اذن للرائد زين العابدين بكل هذا اليقين الجازم؟

إقرأ - أعزك الله - هذه الفقرة من المذكرات: (استدعى أبوشيبة ثلاثة ضباط لتنفيذ ثلاثة مجازر وليس مجزرة واحدة. تم تكليف الملازم أحمد جبارة بتصفية المعتقلين فى بيت الضيافة.. أما الضابط الذى تم تكليفه بتصفية المعتقلين فى جهاز الأمن فقد وصل الى الجهاز وابلغ المعتقلين بأنه مكلف بتصفيتهم غير أنه لن يفعل ذلك، وطرح سلاحه أرضاً.. واما الضابط المكلف بتصفية مجموعتنا المعتقلة فى القصر الجمهورى ويدعى "......"  فقد دخل على نميرى وتحدث معه وقرر عدم تنفيذ التكليف وأطلق سراح نميرى). ونلاحظ ان المؤلف لا يشير هنا الى اسم الضابط الذى كلف بتصفية المعتقلين فى مبنى جهاز الامن، مع انه بالتأكيد يعرفه طالما عرف عنه كل هذه التفصيلات! ولكن الاشارة ترد الى اسم الضابط الذى كلفه ابوشيبة - افتراضاً - بتصفية مجموعة القصر الجمهورى، غير ان المؤلف، لأمرٍ ما، اختار ألا يورده، بل وضع مكان الاسم عدداً من النقاط كما رأينا فى النص الذى نقلناه. والسؤال الذى يقفز الى الذهن هنا هو: ما هى الحكمة وراء اخفاء الاسماء ونحن أمام حدث جلل كهذا؟ العمل الذى قام به هذان الضابطان - افتراضاً - عمل مشرف جداً، فقد تمردا على امر يلزمهما بقتل الابرياء، ولا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق. وذلك فى نهاية المطاف سلوك إنسانى شجاع ونبيل، يزين ولا يشين. فلماذا لا يريد صاحب المذكرات ايراد الاسماء التى يوحى لقارئه بأنه يعرفها؟ الاصل ان اخفاء الاسماء وحذفها والاشارة اليها بالنقاط والرموز يتم فقط فى حالات الخزى التى يراد فيها الستر، بديلاً للفضح، والحالة التى بين ايدينا لا يستخزى فيها الضابطان، بل يحق لهما ان يفخرا بصنيعهما وحكمتهما، فأين هما؟!  ولماذا يتواطآن، ويتواطأ معهما المؤلف، على الاستخفاء فى حين ان المقام مقام ظهور؟!

اننا نكره ان نفتئت على صاحب المذكرات، أو ان نظهره فى اوراقنا بمظهر من يروج الروايات المصطنعة خدمة للاجندة المايوية. بل انه لا مانع لدينا البتة من ان نثبت هنا ان من بين منفذى انقلاب 19 يوليو انفسهم من أيّد بعضاً من رواية زين العابدين حول مجزرة بيت الضيافة. هناك الصيغة الاولى من مذكرات النقيب عبد العظيم عوض سرور الذى سجّل بقلمه أنه شاهد الملازم اول احمد جبارة فى مساء 22 يوليو 1971 وتبادل معه بعض الاشارات باليد والرأس أثناء وجودهما معاً فى منطقتين متباعدتين داخل القصر الجمهورى بعد وقوع المجزرة، وانه فهم من الاشارات ان احمد جبارة قام بقتل المعتقلين. وقد نشرت تلك المذكرات فى مجلة "قضايا سودانية" عام 2001 . ولكن النقيب عبد العظيم عندما واجهه البعض بوجود تناقضات جسيمة بين روايته تلك وروايات اخرى وردت فى نفس مذكراته المنشورة، فإنه أقر على الفور بتلك التناقضات ثم سارع بشطب الجزء المتعلق بتبادل الاشارات بينه وبين الملازم اول احمد جبارة، بعد ان تبين له خطأ قراءته للاشارات المذكورة، واعاد نشر المذكرات مرة اخرى بدون ذلك الجزء فى صحيفة الايام فى العام 2003.

كل ما نريد قوله بين يدى تلك الاحداث وتقويم وقائعها هو أن الروايات كثيرة ومتشابكة، بل ومتضاربة ومتناقضة، ظلت تعلو وتهبط، تتقدم وتتراجع، عبر السنوات الاربعين الماضية، وان استخدام لغات قطعية وصيغ جازمة فى شأنها دون أسانيد حقيقية تدعهما وتؤكدها، أمر ينبغى ان نتوقف عنده كثيراً. ونحسب اننا قد فعلنا.

(3)

كذلك وجدت نفسى متحفظاً بعض الشيء إزاء نكوص الراحل زين العابدين وتردده فى الاقرار بما هو مرصود وثابت من أمر الاعتداءات البدنية البشعة المفارقة للقيم الانسانية على بعض المعتقلين فى معسكر الشجرة، وتوسله الى معالجة تلك النقطة السوداء فى الثوب المايوي بكلمات وعبارت حييّة مستأنسة تسعى الى تهميش الحدث وتقليص ظله، من شاكلة هذا النص، الذى تناول فيه اسلوب تعامل الضباط والجنود الموالين للنميرى فى معسكر الشجرة مع المعتقلين المشتبه فى مشاركتهم فى الانقلاب:(بعض المعتقلين تعرضوا للشتائم والاهانات من الضباط والجنود الذين كانوا مجتمعين فى الشجرة، وكنا نقول لهم دعوا الامر للمحاكم، فليس من الانضباط ان تنالوا منهم بأنفسكم). وفى ذلك استحياء شديد وتنصل عن الصدع بالحق، كنا نود لو ان المؤلف نأى بنفسه عنه. الشتائم والاهانات شئ، والضرب المبرح المفضى الى الموت بالايدى واعقاب البنادق شئ آخر. الغريب فى أمر معالجة المذكرات المضطربة لهذا الجانب ان العبارة التالية ترد فى مكان آخر:(عندما جئ بعثمان ابو شيبة لمحاكم الشجرة العسكرية، لم يتمالك نميرى أعصابه وضربه بقبضة يده "بونية"، وأطبق عليه يكاد يقتله بيديه)! إذن المؤلف نفسه يقر اضطراراً  فى هذا الموقع ان الامر تجاوز بالفعل، وبكثير، حيز الشتائم والاهانات!

يظل الاعتداء الوحشى، الموثق بشهادة عدد كبير من الشهود، على القيادى الشيوعى والزعيم العمالى المرحوم الشفيع احمد الشيخ معلماً فارقاً من معالم تلك الاحداث المؤسفة. وكما هو مسجل فى الافادات المنشورة فقد تولى قيادة حفلات الاعتداء على المعتقلين الرائد ابوالقاسم محمد ابراهيم. وربما كانت الصلة الخاصة للمؤلف مع الرائد ابوالقاسم هى التى ألجمت قلمه وكبحته عن الاستطراد فى ذلك الموقع (تشير المذكرات فى مواقع مختلفة الى طبيعة العلاقة المتميزة والودودة، بالغة الخصوصية، التى جمعت الاثنين على توالى السنوات والحقب). ومن بين الذين تم الاعتداء عليهم بصورة وحشية المرحوم حامد الانصارى، زوج القيادية الشيوعية سعاد ابراهيم احمد، الذى جاء به الاتهام كشاهد ملك فى محاكمة المرحوم عبد الخالق محجوب فإذا به يدافع عن المتهم ويرد عنه الاتهامات، مما اغضب  المحكمة والادعاء فتم اعلانه شاهداً عدائياً. وقد نهض الى مهمة الاعتداء على المرحوم الانصارى الرائد ابوالقاسم محمد ابراهيم، وقد ظل يضربه على الوجه والرأس ضرباً مبرحاً، بينما هو مقيد اليدين. وبحسب المرحوم حامد الانصارى فإنه عندما حاول حماية نفسه بتحريك رأسه فى الاتجاه المعاكس خاطبه الرائد ابوالقاسم بقوله: (ما تبقى راجل وتثبت). الامر الذى يعكس مفهوماً مختلاً للرجولة عند ابى القاسم الذى يعتدى على رجل مقيد اليدين، ثم يتهمه بعدم الرجولة لانه حرّك رأسه لتفادى الضربات المتوالية على الوجه!

أما الاعتداء بالضرب على المرحوم النقيب معاوية عبد الحى، عضو مجلس قيادة الثورة فى الهيكل الانقلابي، فقد سار بذكره الشهود والركبان. وقد حدث هؤلاء بأن مجموعة من الضباط والجنود بقيادة الرائد عبد القادر محمد احمد قامت بضرب المرحوم ضرباً هيستيرياً حتى انه عندما تم جرّه الى ساحة الاعدام جراً كان فاقداً للوعى بصورة كلية، وكانت ملابسه ممزقة تماماً. وغير ذلك من نماذج السلوكيات البربرية والممارسات الوحشية كثير. فهل يجوز بعد كل هذا ان يقال فى مقام توثيق وتوصيف مثل هذه الصور (بعض الشتائم والاهانات)؟!

(4)

ثم إننا نستعجب عجباً لا يدانيه عجب مما كتب الرائد الراحل فى تصويره لتداعيات احداث الانقلاب الشيوعى فى 1971 اذ نراه يصوّر المحاكم العسكرية الميدانية التى شكلها الرئيس المخلوع جعفر نميرى وسيق على اثرها الى فرق الاعدام واعواد المشانق عدد من السودانيين، وكأنها محاكم حقيقية جديرة بالاحترام وكفيلة بضمان القيم العدلية. من مثل ذلك ما جاء فى الجزء الثانى من النص السابق: ( وكنا نقول لهم دعوا الامر للمحاكم، فليس من الانضباط ان تنالوا منهم بأنفسكم). والنص يوحى بأنها كانت محاكم عسكرية منضبطة التزمت القانون وتوخت الاخلاق والقيم العدلية المستقرة. والرائد زين العابدين يدرك بغير شك طبيعة تلك المحاكم، وما هو متداول ومشهور من أمر الممارسات المخزية المنسوبة للرئيس نميرى وبعض اعضاء مجلسه القيادى الثورى فى سبيل تأمين صدور احكام الاعدام على الشخصيات التى الح الرئيس السابق على قتلها والتخلص منها مهما كان الثمن.

الثابت أن المحكمة العسكرية الميدانية التى شكلت برئاسة العميد تاج السر المقبول والى جانبه العميد فابيان اقامالونغ وضابط ثالث، لمحاكمة المقدم بابكر النور اكملت عملها على خير وجه، وفرغت من اجراءاتها وفقا لقوانين القوات المسلحة، ثم اصدرت حكمها على المرحوم بالسجن اثنى عشر عاماً. والمرحوم لم يكن من المنفذين للانقلاب ولم يعلم به اصلا اذ كان خارج البلاد. ولكن الرئيس نميرى غضب من الحكم واصر على حكم الاعدام وامر باعادة المحاكمة، فتمت الاعادة وصدر الحكم بالسجن عشرين عاماً. ماذا حدث بعد ذلك، وقد رفض النميرى الحكم الثانى ايضاً وركب رأسه والح على صدور حكم بالاعدام؟ كان هناك ضابط برتبة مقدم توفرت عنه معلومات لرئيس جهاز الامن القومى الرائد مامون عوض ابوزيد بأنه كان ممن أيدوا انقلاب الرائد هاشم العطا، وتمت موافاة الرئيس المخلوع بهذه المعلومة فاستدعاه بحضور رئيس جهاز الامن، وتمت مساومته والاتفاق على صفقة معينة يتم بموجبها الصفح عن هذا الضابط المقدم. ماذا كانت الصفقة؟! المعلوم للكافة أنه تم وعلى عجل تشكيل محكمة جديدة لمحاكمة المرحوم المقدم بابكر النور برئاسة ذلك الضابط. وبنفس العجلة اصدر ذلك الضابط حكماً بالاعدام على بابكر النور، وهو الحكم الذى تم تنفيذه فى عجلة ثالثة! وبعد أسابيع صدر قرار بتعيين ذلك الضابط المقدم وزيراً ضمن تشكيل وزارى جديد! لا بد انك عرفته أعزك الله، فلا داعى للأسماء!

وعند محاكمة الملازم أحمد عثمان الحاردلو أصدرت المحكمة العسكرية عليه حكمها المستند الى البينات والاجراءات القانونية بالسجن لمدة ثلاث سنوات. ولكن النميرى كان غاضباً على ذلك الملازم اذ انه حدثه حديثاً خشناً ولم يحسن الادب عندما واجهه النميرى فى معسكر الشجرة. ركب النميرى رأسه مرة اخرى ورفض الحكم واصر على اعادة المحاكمة واصدار حكم بالاعدام. ولما تعذر ذلك اذ رفض رئيس المحكمة اصدار حكم فوق ما اصدر، قام النميرى شخصيا بتعديل الحكم. اى والله. شطب الحكم الذى اصدرته المحكمة التى نظرت وتبينت واستقصت وحكمت، ثم كتب النميرى بخط يده: "الاعدام رمياً بالرصاص". وهكذا تم اقتياد الملازم الحاردلو الى الدروة واعدامه! وكذلك الحال بالنسبة للملازم صلاح بشير الذى صدر عليه الحكم بالسجن لأربع سنوات، ولكن الرئيس الهائج أمر باعادة محاكمته عدة مرات بدون طائل طلباً لحكم الاعدام، الا ان الاخير تمكن بفضل الله من الافلات من طاحونة الموت وكتب الله له عمراً جديداً اذ انشغل الرئيس ببعض شئونه ونسى قضيته! هكذا كانت المحاكم وأعمالها، وكانت الاحكام وطرق اصدارها، او بالاحرى استصدارها، كما عرفتها منطقة معسكر الشجرة في تلك الايام العصيبة.

(5)

الغريب فى الأمر ان الرائد زين العابدين يتطوع هو نفسه فيقدم لنا فى مذكراته - دون ان يقصد - مثالاً صارخاً للابتزاز السياسى والاخلاقى الذى مورس ضد شخصيات كبيرة فى النظام بغرض تطويعها لخدمة المآرب النميرية الانتقامية، بالمخالفة لكل القوانين الوضعية والدينية، والقيم الخلقية والانسانية.

كتب الرائد زين العابدين: (اكتشفنا ان معاوية ابراهيم سورج عندما أحس بأن الشيوعيين قد استولوا على السلطة خاف على نفسه). قاتل الله الخوف. الخوف هو المفاعل الذى ينتج أغلب مظاهر الضعف الانسانى. ولكن من هو معاوية ابراهيم سورج؟ لمصلحة الاجيال الجديدة نقول ان معاوية هو واحد من ابرز الشيوعيين السودانيين الذين قادوا الانقسام الكبير الذى ضرب الحزب الشيوعى عند وقوع انقلاب مايو  1969، وكان موقفه - المضاد لموقف السكرتير العام عبد الخالق محجوب - الى جانب مايو والانخراط فى مؤسستها، وهكذا هجر الرجل حزبه واصبح من قادة ومنظرى النظام الجديد. وتم بطبيعة الحال فصله من عضوية الحزب الشيوعى برفقة المنشقين الآخرين. اللافت للانتباه فى هذه النقطة هى الرواية العجيبة، التى وقفت عليها للمرة الاولى عند قراءة المذكرات. ووفقاً لهذه الرواية فإن الرائد محمد احمد الزين "ودالزين"، عضو المجلس الثورى القيادى لانقلاب يوليو الشيوعى، عندما كان يسير امام فرقة الاعدام متجهاً الى موقع الدروة حيث سيلاقى ربه رمياً بالرصاص توقف عن السير فجأةً، والتفت الى الخلف، وادخل يده فى جيبه واخرج ورقة سلمها الى أحد العسكريين المرافقين، ثم اعتدل فى سيره وواصل مشواره الى حيث تم تنفيذ حكم الاعدام. يا الله. هذا شئ مدهش، ينضح بالدراما. شئ مثير حقاً. ولكن ما الذى اشتملت عليه تلك الورقة؟! وفقاً للمؤلف فإن تلك الوريقة تم تسليمها للرائد مامون عوض ابوزيد رئيس جهاز الامن القومى، الذى عرضها بدوره على مجلس قيادة الثورة. كانت الوريقة عبارة عن رسالة موجهة من المرحوم معاوية ابراهيم سورج الى الرائد هاشم العطا يعبر فيها معاوية عن تأييده للانقلاب، و"يبارك ثورة التصحيح"، ويرحب بها. وبحسب الرائد زين العابدين فقد تم استدعاء معاوية ومواجهته بتلك الرسالة، فاعترف على الفور بأنه كاتبها، كما اعترف بأنه كتبها تحت تأثير الخوف!

ما الذى حدث بعد ذلك؟ ما هى ردة فعل النميرى وصحبه فى مواجهة هذا القيادى  الذى كان يشغل منصباً وزارياً فى حكومة مايو بعد ان ثبتت خيانته؟ هل اصرّ النميرى على محاكمته واعدامه؟ او على الاقل سجنه؟ هل طرده واذله واجاعه كما فعل مع آخرين؟ أبداً. لم يحدث اى شئ من ذلك، وانما استمر معاوية يشغل المناصب فى نظام مايو ثم اصبح سفيراً للنظام فى دولة السويد! عظيم. كيف يمكننا تفسير ذلك اذن؟ المذكرات لا تحمل تفسيراً. ولكننى قد اتطوع واقدم لك - رعاك الله - تفسيراً من عندى. الذين يعرفون تفصيلات محاكمات الشجرة يعرفون بالضرورة أن معاوية لعب دوراً أساسياً كشاهد اتهام فى مواجهة رفقاء سابقين له من قياديى الحزب الشيوعى. وبعض الدور الذى لعبه معاوية فى تلك المحاكمات، التى انتهت باعدام قادة مثل الشفيع احمد الشيخ، وجدت طريقها الى أشعار الشعراء، واصبحت حداءً يتغنى به الكثيرون. ففى قصيدته العامية الشهيرة التى مطلعها ( قَدَل أبو رِسْوَة للَمُوتْ الْكلَحْ بِتْضَرَّعْ)، يقول الشاعر الراحل صلاح احمد ابراهيم فى شأن معاوية ابراهيم سورج: ( جابوا معاوية يشهد / شوف معاوية وغدرو / لوّح خنجرو وطعن الشفيع فى صدرو). هل كانت المساومة اذن فى الشهادة امام المحاكم العسكرية ضد القادة الشيوعيين وارسالهم الى اعواد المشانق وساحات الاعدام؟! قد يكون هذا وارداً، بل ووارداً جداً، بدليل ان الرائد زين العابدين فى مذكراته أورد عند هذا الجزء عبارة شديدة الايحاء، لا يمكن ان يخطئها النظر الفاحص، يقول فيها ان معاوية عاش مرهق الضمير بعد ذلك، لأن الاحداث ودوره فيها كانت فوق احتماله. هكذا كتب زين العابدين عن الرجل:( أرسلناه سفيراً فى الدول الاسكندنافية، ولكنه لم يتوافق أبداً مع ضميره، وانتهى نهاية مؤسفة)!

(6)

هكذا كان النميرى وبعض رفقائه يعالجون الاحداث ويحكمون بين الناس فى أيام يوليو المظلمة السوداء وما بعدها. غلبت فورة النفس الامارة بالسوء على منطق الحكمة، وساد نداء القلب الحقود على صوت العقل، واستعلت نزعة الانتقام فوق سنن الرشاد، وبات منطق المساومة والابتزاز هو الطريق الى نيل الاوطار. تلك صحائف التاريخ الكوالح التي أرهقت نفوساً، وعذبت ضمائر، وقهرت رجالاً، وأهلكت الغرس والحرث.

ما كان ضر المغفور له الرائد زين العابدين لو انه مضى خطوة الى الامام، فاتخذ من كتاب مذكراته أداةً للتواصل المتهادى بينه وبين شعبه، فأقر بما شاب محاكم الشجرة وممارساتها من رِيَب، وما اعتورها من مظالم، وفتح الجراح القديمة وبادر الى تطهيرها، ومارس نوعاً من النقد الذاتى، فتحمل عن طيب خاطر قسطاً من مسئولية التجاوزات المؤسفة بحكم موقعه القيادى، ثم استبرأ لنفسه من أوزار كثيرة نعلم تماماً انه لم يكن طرفاً فيها، وان المسئولية عنها تنصرف الى آخرين؟

ومن الحق الذى لا مراء فيه أن المغفور الرائد زين العابدين محمد احمد عبد القادر كان من أنقى وأطهر قادة النظام المايوى من العسكريين، ان لم يكن اطهرهم وانقاهم على الاطلاق. شهد له الاعداء قبل الاصدقاء بأنه عاش متجرداً من أهواء النفس واطماع الدنيا. كان من القلة التى صانت ولم تبدد، حمت ولم تهدد، وجهدت ما وسعها الجهد لكى تجعل من مواقعها فى القيادة سبيلاً الى مرضاة ربها وشعبها. ولهذا كله فقد كنا نود له - من منطلق الحب والوفاء لسيرته الطيبة بين الناس - أن يختار ذات الطريق وهو يقدم حسابه الى شعبه بيمينه فى مواجهة وقائع يوليو 1971. ولو فعل لكان ذلك أجدى وأظهر وأبقى عند الله من غض البصر عن الحقائق واصطناع الجهل بها، أو محاولة القفز من فوقها بعبارات محايدة ومبهمة، او اخفائها تحت ابسطة الكلمات الطيبات، أو طمرها جملةً واحدة تحت ركام التاريخ!

[ نواصل ].

فى وداع الوزيرة!

قبل أشهر قلائل قامت زوبعة اعلامية فى دولة موريتانيا الشقيقة قادتها صحيفة "السراج" التى تصدر فى نواقشوط بسبب قصائد وصفت بأنها غزلية كتبها سفراء من وزارة الخارجية السودانية، فى مدح جمال وزيرة خارجية موريتانيا الناها بنت مكناس، عند زيارتها الاخيرة للسودان. كما اشارت وسائط اعلامية مثل ميدل ايست اونلاين الى ارتفاع أصوات غاضبة داخل موريتانيا تطالب بإقالة الوزيرة على خلفية القصائد الغزلية. ومن اشهر تلك القصائد قصيدة "محيا الناها" التى صاغ كلماتها احد رجال الدبلوماسية السودانية، ويقول مطلعها: (يا أعين الخيل قلبى اليوم مُستلبٌ من سهم عينى مهاةٌ كم تمناها / ما كنت أعرف كيف الشعر لولاها حتى تبدت ولاحت لي ثناياها)، الى ان يصل الى قوله: (اسائل الناس عن قلبي واحسبه قد ذاب في حسنها أوعند يمناها ).

الاسبوع الماضى قرأت خبراً من موريتانيا فحواه ان الرئيس محمد ولد عبد العزيز اصدر قراراً بعزل وزيرة الخارجية الناها بنت مكناس من منصبها، وتعيين وزير الدفاع حمادى ولد حمادى خلفاً لها. اول ما خطر ببالى هو ان يكون القرار نتاجاً لتداعيات القصائد الغزلية السودانية. ولكن اخباراً رشحت من هنا وهناك أفادت بأن الرئيس ولد عبد العزيز أقالها بسبب تعاطفها وموالاتها للعقيد القذافى، وتورطها فى تصريحات ومواقف أظهرت موريتانيا وكأنها تعاضد القذافى وتقف بجانبه فى محنته الراهنة، وهو الامر الذى رأى الرئيس انه لا يتفق مع مصالح بلاده العليا.

وقد تناهت الىّ على الفور أنباء من الخرطوم تفيد بأن أقالة الوزيرة أصاب عدداً من السفراء والدبلوماسيين المولهين فى مقتل، وان حالة من الغضب والحزن الشديد قد ضربت وزارة الخارجية السودانية. وتداولت بعض الاوساط سراً قصائد جديدة كتبها بعض هؤلاء فى التعبير عن الغضب والحزن الشديد والحنق على الرئيس محمد ولد عبد العزيز، ووزير خارجيته الجديد حمادى ولد حمادى. جاء فى احدى القصائد: (عبد العزيزُ لحاك الله من رجلٍ فظ تقصّد غادتنا فأرداها / أردى فأردى قلوباً في الهوى ولهتْ بلحظها وببرقٍ من ثناياها / يا زهرةً قُطفت من بعد ما ينعتْ، واحر قلبٌ عشوقٍ بات يهواها / روعتَ جؤذرةً تلهو بمسرحها آواه مما صنعتَ اليوم آواها / أما وجدت سوى حمّاد يخلفها ما كان حمادُ إلا من سباياها /  يا ابن العزيز لحاك الله من رجلٍ يُبقى القِباح ويُقصي الوردةَ "الناها / جزى الله من في البدء قد نسبوا في حسنها وتغنوا في مزاياها).

الى جانب قصائد السفراء والدبلوماسيين فقد اطلعت على قصيدة حلمنتيشية كتبها صحافى سودانى كبير، شاطر بها اصدقائه الدبلوماسيين نكبتهم، يلمّح فيها من طرف خفى الى العلاقة المزعومة للوزيرة بالعقيد القذافى، وقد جاء فى مقدمتها: (ألا يا وردةً عبقتْ سريعاً ثمّ شالوها / من البستان قد قُطفتْ و" للزنقات" ودّوها)!

 

عن صحيفة "الاحداث"- 30/03/2010

 

 

 



© Copyright by sudaneseonline.com