From sudaneseonline.com

مقالات و تحليلات
نعم الشعب يريد إسقاط الدولة ؟. /محمد جمال الدين لاهاي/هولندا
By
Mar 27, 2011, 16:04

نعم الشعب يريد إسقاط الدولة ؟.

 

محمد جمال الدين لاهاي/هولندا

 

قرأت مقالآ مثيرآ للتأمل بقلم الكاتب فادي العبد الله نشر بصحيفة النهار اللبنانية ليوم  الجمعة  18 مارس            2011تحت عنوان: الشعب يريد... فمَن هو الشعب؟.

شدني المقال لما فيه من أفكار وتصورات ممتازة تستند على محاولة قراءة  الإنتفاضتين الشعبيتبن في كل من تونس ومصر على خلفية مقال  للفيلسوف الفرنسي ألان باديو، في صحيفة "لوموند" بعنوان "تونس، مصر: حين تكنس ريح الشرق غرور الغرب". وبعد إكمالي لقراءة المقالة المعنية مباشرة شعرت أن الكاتب كان غرضه من جل ما كتب الدفاع عن "الدولة" بشكلها المطلق  لكونها ضرورة  حتمية لا مناص منها بحسب الكاتب  وقد خصص فادي العبد لله عنوانآ جانبيآ يقول: الشعب يريد الدولة... أنتقي منه المقاطع التالية بغرض مناقشتها لاحقآ:

 (أن أحداً منهم "المصريين"  لم يرفع شعاراً بإسقاط الدولة، بل بإسقاط النظام. التمييز هنا ليس سياسياً فحسب، بل تأسيسي، بخاصة في بلد توظف الدولة فيه ملايين الأشخاص. لم يعد لمجتمع حديث ألا يطالب بإقامة دولة. تجاوز الدولة في ظل قيام دول مجاورة فاعلة وعدوانية، إنما هو انتحار شعبي، فضلاً عن كونه نكوصاً عن أقصى ما بلغته هذه المجتمعات حتى هذه الساعة، في مجال الفاعلية والتضامن الشامل، وذلك مستمر إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً أو يصبح مفهوم الاتحاد، سواء على النمط الأوروبي أو الأميركي قبله أو أنماط أخرى قد تلي، سبيلاً إلى تجاوز الدولة بمفهومها الحالي، إلى ما يتخطاه لا إلى ما يتراجع عنه!
إلى ذلك الحين، تبدّى أن النظام الحاكم هو الذي حاول اسقاط الدولة، وربما في بعض الدول هو نجح إلى الآن في فعل ذلك، مستبدلاً إياها بميليشيات خاصة أو عامة و/ أو بتشابكات قبلية، عشائرية، مناطقية، تتماسك قبتها ببناء مافيوي نفعي. أما الشعب في تونس ومصر فكان يثور لإحداث تغيير في دولته، لا لإلغائها. أي أن هدف الثورات على الأرجح أن يتسنى للناس أن يصيروا مواطنين، أفراداً وأحراراً. ليس من قبيل العبث أن أحد أول بيانات المجلس العسكري الأعلى في مصر كان لتأكيد أن كرامة الوطن لا تعني إلا جماع كرامة أفراده فرداً فرداً، وهو فهم للكرامة كان "الملحق" منذ سنوات يحتضن مطالبات مشابهة به، ردّاً على اساءة استغلال مفهوم الكرامة في السياسة
لذا أيضاً، لم يكن من قبيل العبث، في مصر مثلاً، أن تحريك جمر الفتنة، التي لم يتخلص المجتمع منها، كان رد فعل مباشراً على ابتكار المصريين لمسيرة جديدة في تاريخهم بعد حدثين ضخمين (اسقاط الرئيس، واسقاط ملفات جهاز أمن الدولة). فالفتنة، تعريفاً، تقع بين جماعات، أي أنها تعيد إدراج من يسعون إلى المواطنة في شبكات الجماعة أو الطائفة. وبدل أن تكون الدولة الأفق الذي يضمن المواطنة تصير اللاعب بالفتنة ضبطاً وإشعالا).

 

فادي عبد الله يرى أن الشعب يريد الدولة أي إبقائها لا إسقاطها وإنما الذي يمكن إسقاطه أو المطلوب إسقاطه هو " النظام" بمثلما نقرأه  تحت العنوان الجاني الأخير لدى المقال المعني: أيّ نظام لأيّ سقوط؟. 

المقال في مجمله عبارة عن مرافعة ساخنة عن "الدولة" كونها ضرورة حتمية لا مناص منها. جيد!. ولو أن هناك إشكاليات عديدة يثيرها مثل هذا الكلام وأولها حزمة من التساؤلات من قبيل: ما هي الدولة؟. وما هو النظام؟. وما الفرق بين الدولة والنظام؟. وما هي الحكومة؟. وهل هناك فرق بين الدولة والنظام والحكومة؟. وهل هناك دولة نمطية واحدة الشكل والمضمون وعلى الدوام؟. والسؤال الآخر المقابل: ما هو الشعب؟. وهو ذات عنوان المقال موضع الحديث هنا.  لا نجد إحابة على مثل هذه الإسئلة .

أم أن  الإجابة  معروفة للجميع؟. بمعنى أن الأمر بدهي ولا يحتاج مشقة السؤال (؟).  الأمر عندي بأي حال  ليس كذلك!. فبالإحالة للمقال المعني هناك إشكالية تتجلى في قبول تغيير "إسقاط" النظام مع الحفاظ على الدولة. وبالرجوع إلى جملة التساؤلات التي وضعتها أعلاه أستطيع أن أقول بشكل مبدئي أن الحكومة جزءآ من النظام والنظام  جزءآ من الدولة والدولة تقوم في مقابل الشعب.

ليس من أهدافي هنا مناقشة قناعات الكاتب أو إبراز قصور رأيته منه  في تعريف ما لم يتعرف ولا مماحكة تفصيلية مع قناعات الكاتب الموقر فأنا في الحقيقة لم تتح لي بعد فرصة الإطلاع على جملة كتابات وأفكار الكاتب فادي العبد لله كما أنني أعلم أن مقالته موضع الشأن هنا على جودتها وقيمتها الجدلية ما هي إلا ردة فعل لمقالة سابقة للفيلسوف الفرنسي ألان باديو كما هو واضح   من السرد. وإنما قصدي البناء على فكرته  الجريئة عبر الخروج منها إلى فكرتي الخاصة حول مسألة "الثورات" الهبات الشعبية التي  تجتاح  دول بعينها  في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

 

الشعب يريد إسقاط النظام ... فما هو النظام؟.

 

الشعب يريد إسقاط النظام كان شعارآ بارزآ وحادآ من شعارات التونسيين والمصريين في إنتفاضتيهما في مواجهة الأنظمة الحاكمة في بلديهما. وهو ذاته الشعار الذي ترفعه حشود من شعوب أخر مثل ليبيا واليمن والسودان.

ماذا  حدث في تونس ومصر عمليآ  بالإحالة إلى الشعار " الشعب يريد إسقاط النظام"؟.

سقطت الحكومة في كلا البلدين في لحظة تنحي الرئيس وحلت محلها سلطة إنتقالية في الحالين تبعها حل الحزب الحاكم بواسطة السلطة الإنتقالية وحل البرلمان كما تم حل الأجهزة الأمنية بشكل كلي أو جزئي . وكان ذاك هو الحد الأدنى الذي أرضى معظم الحشود الثائرة فهدأت معركتهم في ميدان التغيير. ولو أن البعض ما زال ينادي بتغييرات أشمل في مجالات مثل المؤسسة العسكرية والخدمة المدنية والقضاة والإعلام والقطاعيين العام والخاص.

 

قبل الإجابة الحصرية على  سؤال: ما هو النظام؟. أود أن أذهب بشكل أشمل وأجيب على  سؤال: ما هي الدولة؟. لظن مني أن الإجابة على "ما هو النظام" ستكون متضمنة في الإجابة على سؤال الدولة.

من المحتمل أن يكون من  التعريفات الأكثر تداولآ للدولة ما يلي: (الدولة هي كيان  سياسي/قانوني  يقوم فوق رقعة جغرافية محددة ويكون هذا الكيان ذو  اختصاص سيادي في حدود رقعته الجغرافية  ويمارس السلطة "في الغالب عبر القمع المادي والمعنوي"   عن طريق   منظومة من المؤسسات الدائمة.  والعناصر الجوهرية للدولة هي: الحكومة والشعب والأقليم، و السيادة و الاعتراف من الآخرين. وتلك صورة عامة للدولة  ربما كانت غير دقيقة تمامآ لكنها تبقى في حسباني ضرورية من أجل تقريب المفاهيم!.

وعندي أن الدولة في العادة تتمظهر عمليآ  في ستة أشكال رئيسية هي: 1-الجهاز التنفيذي (الحكومة) 2-الجهاز التشريعي "البرلمان" 3-الجهاز القضائي 4-المؤسسة العسكرية (الجيش والشرطة  بأشكالها المختلفة وأجهزة الأمن) 5-الخدمية المدنية و6- القطاع العام.

وبقفزة عجلى أستطيع أن أتصور أن المقصود من كلمة  "النظام" في عبارة "الشعب يريد إسقاط النظام" هما الجهازين  التنفيذي والتشريعي أي الحكومة والبرلمان وهما بمثابة عقل الدولة بينما تمثل التمظهرات الأخرى للدولة جسدها. وبسقوط أو إسقاط  الجهازين  التنفيذي والتشريعي ربما تسقط الدولة كلية. والسقوط المقصود ليس مطلقآ وإنما يكون مرادفآ للتغيير. إذ أنه يبدو أن  الجميع مجمعين على أهمية النظام و الدولة غير أنهم يرغبون في إسقاط النظام وربما الدولة في مجملها وفي خلدهم تغيير عناصرها في الشكل والمضمون بعناصر جديدة تواكب الحدث في فضاء الزمكان.

 

 كيف يؤدي إسقاط "النظام" إلى إسقاط الدولة؟.

لأن الدولة عندنا دولة آيدولوجية أو شمولية لا لبرالية تعددية في جوهرها...  وعندها تكون كل مؤسسات الدولة والقطاع العام، كل شيء تقريبآ تابع للجهاز التنفيذي "الحكومة" والتي بدورها تنتقي جهازها التشريعي. وعندما تكون جميع أجهزة الدولة تابعة للجهازين التنفيذي والتشريعي فمن المنطقي أن تسقط  بسقوطهما الدولة. فعندنا في الشرق قد يكون سقوط الجهاز التنفيذي وحده كافيآ لإسقاط الدولة. في الدولة ذات القيم اللبرالية الراسخة تكون المعادلة مختلفة إذ أن ما نسميه "النظام" هنا يعمل  في فضاء شبه مفصول عن مجمل جسد الدولة. ولكم أن تستحضروا معي ما حدث في هولندا، البلد الذي يقيم به كاتب هذا المقال، أن الحكومة انهارات "سقطت من تلقاء ذاتها" عدة مرات خلال العقد الماضي ولمدة عدة شهور في بعض الأحيان بفعل إختلال المنظومة التشريعية "البرلمان" لكن دون أن تتأثر بقية هياكل الدولة أو تنهار وكان كل شيء يسير على ما يرام: القضاء، البوليس، الأمن، قطاعي الصحة والتعليم والقطاعان العام والخاص وإلخ ولم يتأثر الإقتصاد في مجمله ويبدو أن لا أحدآ كان منزعجآ أو قلقآ من مصير يتهدد الدولة.

هل الشعب يريد إسقاط الدولة  بعمله على إسقاط النظام؟.

الإجابة العاجلة من عندي، نعم!. وكما كررنا أعلاه فإن السقوط يكون مرادفآ للتغيير. أي أن الشعب يريد تغيير "الدولة" بدولة مواكبة لتصوراته الجديدة من تلقاء الضرورات الملحة. فالناس تعرف أن تغيير النظام يقود في الغالب إلى تغيير جذري في  كل مفاصل الدولة أو على أقل تقدير تكون الفرصة عظيمة في تغيير جذري في بنية الدولة بسقوط "النظام"  وفق الفهم الذي قلنا به آنفآ.

لماذا يريد الشعب إسقاط الدولة؟.

قبل الإجابة على مثل هذا السؤال الذي يبدو سهلآ لأول وهلة أود  أن أحاول الإجابة على السؤال الصعب جدآ وهو: من هو الشعب؟. 

واضح جدآ أن الشعب شيء غير الدولة. أليس كذلك!. والدليل أنه يرغب ويريد ويستطيع إسقاط الدولة.  فهو إذن شيء ما يقوم  خارج الدولة أو بالأحرى في مقابل الدولة. الدولة بما هي جهاز رسمي ... (سأحتاج هذه الكلمة "رسمي" لاحقآ ). هل نستطيع أن نستلف عبارة "المجتمع المدني" من أجل مقاربة السؤال الصعب؟. سؤال الشعب. أنا سأفعل أو قل سأجرب!.

عندي زعم كثيرآ ما قلت به في مناسبات مختلفة أن الدولة تقوم في مقابل المجتمع المدني وطبعآ العكس صحيح بنفس القدر من الصحة. وقبل أن أجيء هنا بتصوري المعني للمجتمع المدني والدولة آمل في أن ألفت الإنتباه إلى أن ما أعنيه ب"المجتمع المدني" هو الكل المركب (كل شيء) بلا إستثناء في مقابل الدولة (الدولة أيآ كانت). أي أن فهمي للمجتمع المدني والدولة ربما خالف الأدب الرسمي السائد!. أي ليست تلك النظرة التقليدية الراسخة والقاصرة من وجهة نظري والتي تحصر المجتمع المدني في شكل واحد محدد (هو المديني من مدينة) من أشكاله غير المحدودة!. فالمجتمع المدني عندي هو الفضاء الإجتماعي كله (كله بلا إستثناء) في مقابل الدولة (الدولة أيآ كانت). تلك نقطة عندي في غاية الأهمية في غاية الجوهرية. لذا أشدد عليها كلما حانت المناسبة.

. "فمدني" في عبارة "المجتمع المدني" تعني لا "رسمي"، لا غير 

كلمة "مدني" في عبارة: المجتمع المدني تقوم ضد الرسمي "الدولة" على وجه الإطلاق. 

المدني هو المجتمع اللا رسمي والدولة هي المجتمع اللا مدني. 

مدني في مقابل رسمي (التكرار مقصود). 

وبهذا النحو فإن "مدني" في عبارة "المجتمع المدني" لا تحيل إلى أي معنى آخر من معاني التميز والإمتياز من قبيل مدنية بمعنى حضر أو حضارة أو حداثة أو علمانية. كما ان الكلمة "مدني" لا تحيل الى أي معنى من معاني الإلتزام الأخلاقي أو الأدبي أو الآيدولوجي. وإنما تعني فقط لا غير: غير رسمي (كل شيء أو فعل أو شخص خارج إطار منظومة الدولة). فالمجتمع المدني بهذا المعنى يكون هو محصلة حراك الناس "الهيكلي واللا هيكلي" خارج منظومة الرسمي "الدولة". وبغض النظر عن مغزى وشكل ذاك الحراك. ولا يهم ان وصف بأنه حديث أو تقليدي، تقدمي أو رجعي. كما لا يهم مكان حدوثه في الريف أو المدينة. وبغض النظر عن زمان حدوثه. فهو في كل الأحوال والأماكن والأزمان فعل "مدني": مجتمع مدني.

ووفق هذا الفهم البسيط فإن القبائل الليبية الثائرة وغير الثائرة تكون مجتمع مدني مثلها ومثل شباب الفيس بوك في مصر لحظة حشدهم المشهود في ميدان التحرير أو في أي مكان آخر وفي أي زمان، زمان الثورة أو اللا ثورة.

المجتمع المدني هو الفيض الفاعل مما يسمى بالشعب وفق أهداف وقيم ولوائح مكتوبة أو غير مكتوبة "مختزنة في العقل الجمعي". (انظر المقال المرفق بطيه "أدناه")

. 
وعندي أن جوهر "المجتمع المدني" يكون في مظهره، إذ لا ذات قائمة بذاتها للمجتمع المدني .. كما ان المجتمع المدني يتمظهر هيكليآ في ذات الوقت الذي يتمظهر فيه لا هيكليآ ودائمآ بطرق منوعة ومتمايزة. فإن جاز تشبيه المجتمع المدني بالبحر فان موج البحر هو تمظهره. وإذا تحقق أن نرى البحر في سكونه بأعيننا ونسبح فيه بأجسادنا، فالمجتمع المدني عكس ذلك تماما فهو لا يرى ولا يحس الا حينما يتمظهر. لأن لا ذات للمجتمع المدني قائمة بذاتها. لا يوجد جوهر للمجتمع المدني. فجوهر "المجتمع المدني" هو مظهره هو "تمظهراته" ليس إلا. المجتمع المدني مجرد خط بياني متصور الغرض منه قياس الحالة، ليس إلا. ولهذا لا تتحدث الناس عن المجتمع المدني والا تطابق حديثهم مع تمظهراته أي هياكله وأحداثه. كما لا يوجد مجتمع مدني واحد يحمل نفس الصفات والمواصفات ويتمظهر بنفس النسق والمنوال. كل تمظهر مدني عنده خصائصه المتفردة وفقآ للأسباب الواقفة خلف كل تمظهر من التمظهرات. التمظهر المدني مثل بصمات الأصابع لا يتكرر مرتين في نفس الآن والمكان، فعلى سبيل المثال النقابة المحددة لا تتطابق مع نقابة أخرى في كل شيء كما الأمر نفسه يكون لدي الطائفة والعشيرة وإلخ... تلك التمايزات "متفاوتة الحجم"  تجد خلفيتها في جدلية  الهدف والقيم واللائحة.

وعليه أستطيع أن أخلص إلى نتيجة مفادها أن المجتمع المدني هو الشعب متمظهرآ في أفعال "مدنية" في مقابل الدولة المتمظهرة في أفعال "رسمية". وكل دولة لا تكون إلا بنت مجتمعها المدني. وبقدر تنوع المجتمعات  المدنية  وتمايزها عن بعضها البعص  تتنوع طبيعة الدول. فالمجتمع المدني اليمني على سبيل المثال لا يشبه المجتمع المدني السوري أو المصري أو السوداني  وبنفس القدر تكون الدولة من حيث هي فاعلية لا أجهزة شكلية.

كيف تحدث الثورة "التغيير"؟

هنا نعود للسؤال " لماذا يريد الشعب إسقاط الدولة" في لحظة تاريخية محددة دون غيرها.  المجتمع المدني المصري "الشعب المصري في فاعليته" وقف في معظمه وقفة جبارة خلف الرئيس جمال عبد النصار في يوم ما  لكن ذات هذا الشعب خرج لا يأبه بالموت من أجل إبعاد الرئيس مبارك من ذات الكرسي الذي أجلس فيه من قبله سلفه جمال عبد الناصر.  كيف نجد تفسيرآ لهذا؟.

الدولة كما أسلفنا لا تقوم إلا في مقابل "مجتمع مدني" غير أن  الدولة في لحظة تاريخية  بعينها  ربما تقوم في الفراغ بفعل تصادمها مع مجتمعها المدني فتعمل على فرض قيم  إجتماعية  وآيدولوجيا بعينها  عبر القمع المادي في سبيل تخلق مجتمع مدني يناسبها "مجتمع مدني  زائف"  في سبيل البقاء...  في المقابل يبقي المجتمع المدني الحقيقي يتولد رويدآ رويدآ عن آيدولوجيات معادية للنظام وللدولة في مجملها ويقوم في الضد من الدولة القائمة في مقابل دولة المشروع "الدولة المتصورة". وتلك  هي  بإختصار شديد لحظة ما يمكن أن نسميه "الثورة" أي  التغيير الجذري، إسقاط الدولة. والتاريخ مليء بالشواهد.  وتلك هي جدلية المجتمع المدني والدولة.

وفي ختام هذه المساهمة القصيرة والتي أتمني أن تكون ذات قيمة ما في مجرى النقاش الدائر حول الأحداث الكبيرة الدائرة في منطقتنا على وجه العموم أود أن أحي الكاتب فادي العبد الله على مقالته القيمة والتي حثتني على الكتابة كما أرجو أن يأذن لي القاريء العزيز من كان وأينما كان أن أرفق "أدناه"  مقالة لي سابقة  متعلقة مباشرة بالشأن هنا تحدث فيها عن جدلية الدولة والمجتمع المدني مع تركيز على حالة السودان  من باب المثال.

 

  في سبيل الإجابة على سؤال "الهوية" (3-5) 


هل الحديث عن الهوية في السودان ممكن دون أن نتعرف على المجتمع السوداني نفسه!؟. 



في الحلقتين الماضيتين من هذه السلسلة الصغيرة التي أردت لها أن تجيء في خمسة أجزاء حاولت أن أقول بشكل مبدئي ماذا أفهم من مصطلح "هوية" مستندآ إلى شرح وجهة نظري مقابل وجهة نظر د. الباقر عفيف المتضمنة في ورقته "أزمة الهوية في شمال السودان: متاهة قوم سود...ذوو ثقافة بيضاء" من باب المقارنة الهادفة إلى البيان ليس إلا. 

وفي هذه الحلقة وما يليها سأعمل ما أمكنني على سبر غور الهوية من حيث الجوهر وكيفية تشكلها في الوجود وسيرورتها ومآلاتها وربما موتها بشكل نهائي أو إعادة تشكلها في ثوب جديد. وأرجو أن أذكر للمرة الثانية أنني أتحدث عن الهوية بمعناها السوسيولوجي في المقام الأول لا الثقافي أو السايكولوجي أو الفلسفي. 

كلمة "هوية" في اللغة تجئ من الضمير "هو". من "هو" ذاك الرجل؟. ذاك الرجل "هو" مولانا محمد عثمان الميرغني (مثال). لكل شخص رجل أو إمرأة سماته وقسماته وصفاته ومواصفاته التي تجعله مختلفآ ومتمايزأ بقدر ما صغير أو كبير عن الآخرين من الافراد. تلك ربما تكون محددات هوية الشخص الواحد "الفرد". 
غير أن ما يعنينا هنا بشكل أساس هو الهوية بمعناها السوسيولوجي. هوية جماعة أو مجموعة من الناس. ويبدو أن الجماعة كما الفرد تمامآ تكون لها سماتها وقسماتها وصفاتها ومواصفاتها التي تجعلها مختلفة ومتمايزة عن الجماعات الأخرى بقدر ما كبير أو صغير، كما يحدثنا الواقع. وربما أتصور أن هوية الفرد لا تكون ثابتة على الدوام بل هناك أشياء لا بد أن تتغير وتتبدل مع الوقت فلا أتصور أن شابآ عمره أحد وعشرين عامآ سيكون هو ذاته عندما يبلغ السبعين!. كما أتصور أن ذاك المنطق ربما أنطبق على هوية الجماعة بطريقة أو أخرى. 

وإن صح ذاك المنطق وهو عندي تصور معقول. فإننا لا نستطيع أن نلم تمامآ بهوية الفرد دون أن نتعرف على ماهيته (الحد المعقول من المعرفة بسماته وقسماته وصفاته ومواصفاته). كما الأمر ينطبق على الجماعة. هذا بالطبع إذا ما أتفقنا على مبدأ إختلاف وتمايز الأفراد والجماعات. 

أنا على قناعة تامة بأن لا فرد يشبه الآخر في كل شيء كما أن لا جماعة محددة تشبه الأخرى في كل شيء. هذا غير ممكن بحكم إختلاف عناصر النشوء إضافة إلى المعادلة الحاسمة وهي جدلية الهدف "هدف" تخلق الجماعة للوجود مع عاملي الزمان والمكان "الزمكان". 
وإستنادآ على هذا المنطق البسيط، أزعم أننا لا نستطيع الحديث بإطمئنان عن "الهوية" في الجغرافيا المسماة سودان دون أن نتعرف على طبيعة المجتمع المسمى "سوداني" في حد ذاته!. 

ولهذا سأجل الآن أي حديث مباشر عن "الهوية" في السودان وسأشد إنتباهي كله لما هو عندي أهم!. وهو المجتمع السوداني في حد ذاته. هو شنو؟. أعرف أنه سؤال صعب ومربك. لكنني سأحاول مستعينآ بآراء سابقة توصلت إليها من خلال الملاحظة عبر المعايشة. حاولت من خلالها أن أشكل نظرية صغيرة خاصة بي في النظر إلى المجتمع المدني السوداني والدولة. أحب هنا أن أشرككم إياها من جديد. 

وقبل أن أجيء هنا بتصوري المعني للمجتمع المدني والدولة في السودان آمل في أن ألفت الإنتباه إلى أن ما أعنيه ب"المجتمع المدني" هو الكل المركب (كل شيء) بلا إستثناء في مقابل الدولة (الدولة أيآ كانت). أي أن فهمي للمجتمع المدني والدولة في السودان يخالف الكل تقريبآ!. أي ليست تلك النظرة التقليدية السائدة والتي تحصر المجتمع المدني في شكل واحد محدد (هو المديني من مدينة) من أشكاله غير المحدودة!. ومعذرة لحدة العبارة، عنيتها قصدآ رجاء أن تشد الإنتباه وعلى أمل أن تثير الفضول المحمود. ليس إلا!. فالمجتمع المدني عندي هو الفضاء الإجتماعي كله (كله بلا إستثناء) في مقابل الدولة (الدولة أيآ كانت). تلك نقطة عندي في غاية الأهمية في غاية الجوهرية. لذا أشدد عليها كلما حانت المناسبة. 


تعريف المجتمع المدني في السودان (مفهوميآ وعمليآ) وفي مقابل الدولة... - نحو أفق جديد* 


1- "
مدني" في عبارة "المجتمع المدني" تعني لا "رسمي"، لا غير. 

كلمة "مدني" في عبارة: المجتمع المدني تقوم ضد الرسمي "الدولة" على وجه الإطلاق. 

المدني هو المجتمع اللا رسمي والدولة هي المجتمع اللا مدني. 

مدني في مقابل رسمي.** 

وبهذا النحو فإن "مدني" في عبارة "المجتمع المدني" لا تحيل إلى أي معنى آخر من معاني التميز والإمتياز من قبيل مدنية بمعنى حضر أو حضارة أو حداثة أو علمانية. كما ان الكلمة "مدني" لا تحيل الى أي معنى من معاني الإلتزام الأخلاقي أو الأدبي أو الآيدولوجي. وإنما تعني فقط لا غير: غير رسمي (كل شيء أو فعل أو شخص خارج إطار منظومة الدولة). فالمجتمع المدني بهذا المعنى يكون هو محصلة حراك الناس "الهيكلي واللا هيكلي" خارج منظومة الرسمي "الدولة". وبغض النظر عن مغزى وشكل ذاك الحراك. ولا يهم ان وصف بأنه حديث أو تقليدي، تقدمي أو رجعي. كما لا يهم مكان حدوثه في الريف أو المدينة. وبغض النظر عن زمان حدوثه. فهو في كل الأحوال والأماكن والأزمان فعل "مدني": مجتمع مدني. 


2-
جوهر "المجتمع المدني" في مظهره، إذ لا ذات قائمة بذاتها للمجتمع المدني .. كما ان المجتمع المدني يتمظهر هيكليآ في ذات الوقت الذي يتمظهر فيه لا هيكليآ ودائمآ بطرق منوعة ومتمايزة. 

فإن جاز تشبيه المجتمع المدني بالبحر فان موج البحر هو تمظهره. وإذا تحقق أن نرى البحر في سكونه بأعيننا ونسبح فيه بأجسادنا، فالمجتمع المدني عكس ذلك تماما فهو لا يرى ولا يحس الا حينما يتمظهر. لأن لا ذات للمجتمع المدني قائمة بذاتها. لا يوجد جوهر للمجتمع المدني. فجوهر "المجتمع المدني" هو مظهره هو "تمظهراته" ليس إلا. المجتمع المدني مجرد خط بياني متصور الغرض منه قياس الحالة، ليس إلا. ولهذا لا تتحدث الناس عن المجتمع المدني والا تطابق حديثهم مع تمظهراته أي هياكله وأحداثه. كما لا يوجد مجتمع مدني واحد يحمل نفس الصفات والمواصفات ويتمظهر بنفس النسق والمنوال. كل تمظهر مدني عنده خصائصه المتفردة وفقآ للأسباب الواقفة خلف كل تمظهر من التمظهرات. التمظهر المدني مثل بصمات الأصابع لا يتكرر مرتين في نفس الآن والمكان، فعلى سبيل المثال النقابة المحددة لا تتطابق مع نقابة أخرى في كل شيء كما الأمر نفسه يكون لدي الطائفة والعشيرة وإلخ... تلك التمايزات "متفاوتة الحجم" تجد خلفيتها في جدلية "الهدف والقيم واللائحة". 

3-
تمظهرات المجتمع المدني الأفقية والرأسية: 
يتمظهر المجتمع المدني أفقيآ كما رأسيا. أفقيآ في صورة أحداث وهياكل (هيكليآ ولا هيكليآ). كما يتمظهر رأسيآ (في نسخته الهيكلية) في صورتين 1- "أصيلة" = "تحتية" و2- فوقية (مولدة عن الأصيلة). النسخة المدنية الأصلية تستند على منظومة قيم إجتماعية تنقسم الى ثلاثة أنماط: 1- جسدانية "فروسية" 2- روحانية "غيبية" و 3- عقلانية "موضوعية". بينما يستند التمظهر الفوقي "المولد" إلى منظومة آيدولوجية "رؤيوية". 

أ- أحداث "لا هياكل" المجتمع المدني: 
يتمظهر المجتمع المدني لا هيكليآ في شكل أحداث متكررة وراتبة من خلفها قيم وعندها أهداف وأعراف وسوابق راسخة في العقل الجمعي. مثال ذلك التظاهرات الجماهيرية والألعاب الشعبية ومراسم الزواج وشعائر الجنازة والفزعة والنفير و"الظار" والمبارزة و "البطان" والحكاوي الشعبية و"القعدات" بأشكالها المختلفة كجلسات القهوة "الجبنة" و الشاي والخمر ولعب الورق "الكتشينة". 

ب- منظمات "هياكل" المجتمع المدني: 
يتمظهر المجتمع المدني هيكليآ في شكل تجمعات مجتمعية طويلة الأمد، وتسمى بأسماء مختلفة غير أن أكثر إسم شائع في الوقت الراهن هو: منظمة، وتجمع منظمات. والمنظمة هنا تشمل في الأساس القبيلة والعشيرة والطائفة الدينية (التمظهرات الطبيعية والوراثية و التقليدية وهي في الأساس تمظهرات المجتمع المدني "الريفي") يقابلها في الجانب الآخر تمظهرات المجتمع المدني "المديني" كالنقابات والإتحادات والنوادي والمنظمات الحقوقية والبيئية والإبداعية والعلمية والروابط الفئوية المختلفة ومصانع القطاع الخاص. فالمجتمع المدني بمثل ما يتمظهر "لا هيكليآ" في شكل أحداث فإنه أيضآ يتمظهر "هيكليآ" في شكل منظمات عندها أعضاء مسجلون أو غير مسجلين على الورق بغرض انجاز أهداف محدده وفق نظم وقيم ولوائح محددة مكتوبة أو غير مكتوبة على الورق. 

ج- شروط تمظهرات المجتمع المدني: 
لا يستطيع المجتمع المدني أن يتمظهر هيكليآ أو لا هيكليآ "على مستوى بنياته الأصيلة" إلا في حالة تحقق ثلاثة شروط في نفس الآن ودون نقصان: 1- هدف 2- منظومة قيم و 3- لائحة .. وقد تكون تلك الشروط اللازمة موضوعة على الورق "مكتوبة" في حالة النقابة مثلآ أو مرسومة في العقل الجمعي للجماعة المحددة "غير مكتوبة" في حالة "العشيرة" أو "شعائر الجنازة" مثلآ. 

د- كل حراك جمعي هيكلي أو لا هيكلي هو مجتمع مدني وعلى وجه الإطلاق: 
كل حراك مدني هيكلي هو منظمة مجتمع مدني بغض النظر عن أهدافه وشكل عضويته ومكان وزمان وقوعه وبغض النظر عن إعتراف الرسمي به أو لا، يكون منظمة مجتمع مدني حتى لو كانت عصابة إجرامية. كما أنه بنفس القدر كل حدث جمعي غير هيكلي يقوم على أساس هدف محدد وقيم محددة وأعراف وسوابق متعارف عليها هو حدث مدني أي مجتمع مدني، مثال ذلك التظاهرات الجماهيرية والألعاب الشعبية ومراسم الزواج وشعائر الجنازة والفزعة والنفير و"الظار" والمبارزة و "البطان" والحكاوي الشعبية و"القعدات" بأشكالها المختلفة كجلسات القهوة "الجبنة" و الشاي والخمر ولعب الورق "الكتشينة". 

ه- التمظهرات المدنية الهيكلية واللا هيكلية تمثل التمظهرات الأصيلة للمجتمع المدني والتي بدورها قد تتمظهر في أشكال أخرى "فوقية" بهدف الجدل مع الدولة = تمظهر مولد عن الأصيل ( جماعات وأحزاب سياسية "رؤيوية موضوعية" أي آيدولوجية). 

و- الأحزاب السياسية لا تكون ذات فاعلية وديمومة إلا إذا جاءت كتمظهر فوقي لتمظهر مدني أصيل. 

ز- البنية المدنية الفوقية هي مكان الرؤى الشتيتة = "آيدولوجيات متصارعة" في سبيل الفوز بأكبر قد من التاُثير في عملية بناء وسيرورة رؤية موحدة للعيش المشترك، بينما تكون الدولة هي مكان الرؤية الموحدة للعيش المشترك = "عقد إجتماعي". 

4-
المنظومات القيمية: 

نستطيع أن نلاحظ أن هناك ثلاث منظومات قيمية رئيسية تقف خلف مجمل تمظهرات المجتمع المدني في السودان. وتمثل سببآ جوهريآ في تنوع تمظهرات المجتمع المدني وتمايزها عن بعضها البعض، وهي: 
1-
منظومة قيم الجسدانية "الفروسية" 2- منظومة قيم الروحانية "الغيب" و 3- منظومة قيم العقلانية "الموضوعية". (مع الوضع في الحسبان إختلاط وتشابك القيم). 

أ- تقف منظومة قيم الجسدانية "الفروسية" خلف جل التمظهرات المدنية الإثنية "العرقية" وأهمها القبيلة والعشيرة. و"الجسدانية" تكون في إعمال طاقة الجسد في سبيل سيطرتها على العقل والروح في مواجهة الطبيعة والآخر. والهدف هو: (بقاء ومعاش وأمن ورفاهية الجماعة). وكل له حيلته. وأهم قيم "الجسدانية" هي: الرجولة والشجاعة والأمانة والكرامة والشرف والمروءة والشهامة والكرم. وهي قيم "نحن". وجسدها تمظهر هيكلي أس عضويته من الفرسان "أولى القربى = وشائج الدم". 
ورمز مكانها المادي هو "السرج" ورمز فعلها هو "السيف". وأسمى معانيها "التضحية" وأسوأ مثالبها "الإنحيازية العمياء" كما اللا "إنسانية".

ب- تقف منظومة قيم الروحانية "الغيب" خلف جل التمظهرات المدنية الدينية "بالمعنى الواسع للكلمة" وأهمها الطريقة الصوفية والطائفة والمسيد والمسجد والكنيسة والكجورية. و"الروحانية" تكون في إعمال طاقة الروح في سبيل سيطرتها على الجسد والعقل في مواجهة الطبيعة والآخر. والهدف دائمآ واحد: (بقاء ومعاش وأمن ورفاهية الجماعة). وكل له حيلته. ومن أهم قيم الروحانية: الزهد والتواضع والإيمان والإتكال على قوة ما ورائية. وهي بدورها قيم "نحن". وجسدها تمظهر هيكلي أس عضويته من المؤمنين ب"الغيب" = "عالم ما وراء الطبيعة المادية". ورمز مكانها المادي هو "السجادة" بمعناها الصوفي ورمز فعلها هو "الفزعة" بالمعنى الغيبي للكلمة. وأسمى معانيها "النزاهة" وأسوأ مثالبها "العبثية" كما "الإتكالية المفرطة". 

ج- تقف منظومة قيم العقلانية "الموضوعية" خلف جل التمظهرات المدنية "المدينية" ومثالها النقابة والمصنع. و"العقلانية" تكون في إعمال طاقة العقل في سبيل سيطرتها على الروح والجسد في مواجهة الطبيعة والآخر. والهدف دائمآ واحد: (بقاء ومعاش وأمن ورفاهية الجماعة). وكل له حيلته . ومن ضمن قيم "العقلانية": الإستنارة والتجربة والإنسانية والنظافة والنظام والإدخار. وهي قيم "أنا". وجسدها تمظهر هيكلي أس عضويته من الأفندية "الوطنيين" والمثقفين والمتعلمين بالمعنى الحديث للكلمة. ورمز مكانها المادي هو "المكتب" ورمز فعلها هو "القلم". وأسمى معانيها " الموضوعية" وأسوأ مثالبها "الإستغلالية" كما "الأنانية". 

د- "القيمة" تقوم من جسد الجماعة بمثابة الشفرة الجينية DNA من جسد الفرد. هي محور إالتقاء "تلاحم" الجماعة وإعادة إنتاجها "نسخها" كل مرة مع جعلها متمايزة عن الجماعات الأخرى ك"وحدة إجتماعية واحدة ذات خصائص متفردة". كما أن "القيم" هي القوة الخفية الدافعة الى الفعل الموجب في سبيل تحقيق الهدف الكلي والنهائي للجماعة وهو على الدوام (البقاء والمعاش والأمن والرفاهية). وبهذا المعني تمثل القيمة أيضآ معيار الجماعة للتفريق بين ما هو خير وما هو شر بالإحالة الى نجاعة الفعل من عدمه في نزوعه الى تحقيق "الهدف". 

5-
وظائف وأدوار البنيات المدنية الأصيلة و الفوقية: 
وظيفة البنية المدنية الأصيلة في الأساس تنحصر حول إنجاز هدف الجماعة الكلى أو الجزئي من (البقاء أو/و المعاش أو/و الأمن أو/و الرفاهية) للجماعة المدنية المحددة في مواجهة الطبيعة والآخر على وجه الإطلاق كما تشهد عليه الحياة العملية. إذ ليس من أهداف البنيات المدنية الأصيلة الجدل المباشر مع الدولة إلا في الحالات غير الطبيعية. تلك مهمة البنيات المولدة " الفوقية" لا الأصيلة "التحتية". 
مرة ثانية ليس من وظائف أو أدوار البنيات المدنية "الأصيلة" الجدل المباشر مع الدولة. كما ليس من مصلحة الدولة في شيء الجدل المباشر مع تلك البنيات المدنية الأصيلة. بل ذاك إن حدث من البنيات المدنية الأصيلة أو من الدولة سيؤدي على المستوى البعيد إلى التـأثير السالب من حيث المبدأ على وجودهما المادي على حد سواء، كون إذن منظومات القيم المثالية "المدني" ستصطدم بمبدأ المصلحة "المنفعة" المجردة = "الدولة". وهما حقلان وجبا أن يكونا متوازيان على الدوام لا يتقاطعان أبدآ وتقوم في الفضاء الفاصل بينهما البنيات الفوقية = الآيدولوجيات. وإلا هناك مشكلة دائمآ ما تتجسد في فساد الرؤية الموحدة للعيش المشترك. 

6-
المجتمع المدني كمصطلح تقني: 
المجتمع المدني يجوز أن ننظر إليه كمصطلح تقني بحت (لا قيمي و لا أخلاقي) لا يتعرف بالخير ولا الشر ولا الحداثة أو التقليدية ولا التقدم أو التخلف ولا العلمانية أو الدينية. تلك الفاظ قيمة تتعرف وفق منظوماتها القيمية المحددة ولا يجب أن تحيل بحال من الأحوال الى "المدني". فالمجتمع المدني يكون بمثابة الميدان المادي للصراع القيمي والآيدولوجي لكنه هو ليس ذاته الصراع. إنه الفضاء فحسب. الفضاء الذي تحلق فيه العصافير الملونة "الجميلة" والبريئة والصقور الجارحة والبعوض والحشرات العديدة. هو الفضاء فحسب، هو ليس العصافير الجميلة البريئة ولا الصقور الجارحة. إنه الفضاء الشاسع القابع في سلبيته. فضاء للخير بقدر ما هو فضاء للشر، فضاء للباطل والحق وللقبح والجمال. 


7-
جدلية الخير والشر "أ": 
يتعرف المجتمع المدني بخيره من شره القائم أو المحتمل لا ببنياته قديمة أو حديثة وإنما بحسب أفعاله الصالحة أو الطالحة من مجالات الفعل الموجب والتي يمكن رؤيتها في: 1- التنمية 2- السلام 3- الحكم الرشيد 4- الحقوق 5- الإبداع و6- المجال المفتوح (الثقافي-الإجتماعي- الترفيهي). وذلك بقياس المسافة بين الصفة الخيرة ونقيضها، من مثل: التنمية مقابل الدمار والسلام مقابل الحرب والرشد مقابل الطغيان والحق مقابل الباطل والإبداع مقابل التحجر و المفتوح مقابل المغلق. 

8-
جدلية الخير والشر "ب": 
في جميع الاحوال وفي كل الأوقات فإن الفعل في سياق المجتمع المدني هيكليآ أو لا هيكليآ يقود الى منفعة محددة تجد تعبيرها في مساهمة مادية نقدية أو عينية كما بذل الجهد المجاني أو مدفوع الأجر بهدف جلب الخير او درء الاذى، في فضاء خارج الرسمي "الدولة" وفق منظومة قيمية أو رؤيوية محددة ربما يكون نتاجها شرآ في نظر الآخر. 


9-
جدلية المدني و الرسمي: 
لا يكون "المدني" الا في مقابل "الرسمي" والعكس صحيح، وبإنتفاء أيآ منهما ينتفي الآخر بالضرورة، فلا مجتمع مدني بلا دولة ولا دولة بلا مجتمع مدني. فعلى سبيل المثال فإن أي منظمة تقوم خارج السودان "بحدوده كدولة" لا تمثل "مجتمع مدني" لأنها ببساطة لا تقوم في مقابل الدولة. والأصح (أي ربما يجوز) أنها تمثل مجتمع مدني فقط بالنسبة للدولة التي نشأت بها. وبالتالي فإن تسمية "منظمات مجتمع مدني" بالنسبة للمنظمات "الموصوفة بالمدنية" التي ينشأها السودانيون بالخارج لا تصح إلا كمجاز. إلا إذا حتم واقعها الموضوعي أن تكون فروعآ مرحلية لكيانات مدنية أصيلة أو فوقية تقوم بداخل البلاد وإستنادآ عليه تكون أهدافها ورؤيتها ورسالتها، وهو ما نلمسه في الواقع المعاش في حالة كثير من الأحزاب السياسية السودانية. 

10-
التمظهرات الهيكلية "العملية" للمجتمع المدني: 
يتمظهر "المجتمع المدني" في السودان عمليآ ويبدو للعيان بشكل "هيكلي" في أربع أنماط رئيسية: 
1-
تمظهرات عقلانية موضوعية "الشكل الحديث" ورمزها النقابة 2- تمظهرات جسدانية إثنية "القبيلة والعشيرة" 3- تمظهرات روحانية غيبية (الطرق الصوفية والمسيد والمسجد والكجور والكنائس) وأخيرآ 4- تمظهرات القطاع الخاص (بدورها عقلانية). 

11-
التمظهرات الهيكلية للدولة: 
تتمظهر الدولة على وجه العموم "هيكليآ" في ستة أشكال رئيسية هي: 1-الجهاز التنفيذي (الحكومة) 2-الجهاز التشريعي "البرلمان" 3-الجهاز القضائي 4-المؤسسة العسكرية (الجيش والبوليس وأجهزة الأمن) 5-الخدمية المدنية و6- القطاع العام. (كما أن الدولة بدورها تستطيع أن تتمظهر في أشكال غير هيكلية من قبيل مرموزات قيمية ومفاهيم آيدولوجية وهنا يكمن معزي تأثير الدولة على أحداث وهياكل "المجتمع المدني" سلبآ وإيجابا. وهنا تكون جدلية "المجتمع المدني والدولة" في أسطع صورها). 

12-
صراع الريف والمدينة و نزاع الذات: 
من خلال الملاحظة نستطيع ان نتحسس أن المجتمع المدني في السودان ينقسم في مستوى بنيته الأصيلة على وجه الإجمال في كتلتين هما كتلة الريف وكتلة المدينة. هذان الكتلتان تتوازيان مرة وتتقاطعان في بعض المرات، تختصمان في لحظة ما وتتصالاحان في لحظة اخرى، في نفس الوقت الذي يعتمل في داخل كل منهما مجموعة من التناقضات الذاتية بفعل اختلاف واختلال منظومة القيم الواقفة وراء تمظهرهما ( أي ان كل كتلة في ذاتها تتراكب من جزيئات تتشابه حينآ و تتمايز تراكيبها بعضا عن بعض أحيانآ أخرى). هذان المجتمعان يتمثلان بشكل مجمل في المجتمع المدني "المديني" والمجتمع المدني " الريفي". ولكل منهما تمظهراته المختلفة إختلافآ جذريآ عن الآخر كون تلك التمظهرات المعنية تقوم على سند من منظومات قيمية متمايزة "جذريآ". وهذا التمايز والإختلاف لدى البنية المدنية التحتية يسقط على التجلى الفوقي "الآيدولوجي" لكل منهما (مثال لذلك الصراع السياسي الذي وسم تاريخ السودان الحديث بين الطائفيين والأفندية). كما أن في الجانب الآخر كل كتلة من الكتلتين الأصيلتين موسومة بإختلال قيمي "ذاتي" يجعلها في نوعها متمايزة في تراكيبها وهذا التمايز في إطار النوع الواحد يسقط بدوره على البنية الفوقية (مثال لذلك الصراع السياسي بين العلمانيين والغيبيين "يسار يمين" على مدى تاريخ سودان ما بعد الإستقلال). 

13-
فرضية أخيرة: المجتمع المدني هو الاصل كما هو سديم الدولة: 

الأصل في الإجتماع البشري هو "المجتمع المدني" ببنياته الأصيلة ثم تأتي البنى الفوقية ومن ثمة تتشكل الدولة. فالمجتمع المدني هو بذرة الدولة. الدولة بكل بساطة هي: نقطة تلاقي المصالح/تعارضها. أي نقطة تلاقي/تعارض مصالح البنيات المدنية الأصيلة في حيز زماني وجغرافي محدد وما يقتضي ذلك بالضرورة من نظام لا مفر منه يسمى في شموله: الدولة. وإذ يقوم المجتمع المدني على "القيمي" في تمظهره الأصيل وعلى "الآيدولوجي" في تمظهره الفوقي تقوم الدولة على نظام "المنفعة = المصلحة" مجردة بلا قيم ولا آيدولوجيا في نسختها المثالية. وإلا ستتعارض الدولة وتتصادم بإستمرار مع كثير من البنيات الإجتماعية الأصيلة مما يؤدي في نهاية المطاف (في الغالب الأعم) إلى واحد من إحتمالين: موت "فناء" الدولة بشكل نهائي وبالتالي موت المجتمع المدني "موت القيم السائدة" أو إعادة تشكل الدولة في صيغة جديدة وبالتالي تمظهر المجتمع المدني في لباس جديد "قيم جديدة". 

محمد جمال الدين حامد، لاهاي/هولندا 28 نوفمبر 2009 

يتواصل... 4-5 


*
كلمتي "مدني – رسمي" وردتا بتكرار كبير في المقطع الأول من تعريفي للمجتمع المدني والدولة. هذا التكرار مقصود به تأصيل المعني وتثبيته، كون تلك من النقاط الأكثر جوهرية "وجدلآ" في محاولتي تعريف المجتمع المدني السوداني في مقابل الدولة. 
 



© Copyright by sudaneseonline.com