From sudaneseonline.com

مقالات و تحليلات
سودانياتٌ قبلَ قرار ٍبقابل ِالأوْطاَن/محجوب التجاني
By
Mar 26, 2011, 11:08

سودانياتٌ قبلَ قرار ٍبقابل ِالأوْطاَن

"يا ثائر ّفجر بُركانك"

من أناشيد الموسيقار محمد الأمين

محجوب التجاني*

الخميس: 17 مارس 2011

 

أرغفة ناشفة

بوصفٍ دقيق، سطر وُل سِوينكا، أديب إفريقيا الشهير، الحاصل علي جائزة نوبل في الآداب، وصفا دقيقا لسير العملية الإنتخابية الديمقراطية في  نيجريا وبلدان القارة الأخري خلال العقد الأخير من القرن الماضي: "نري مزيدا من الأرغفة الناشفة [عوضا عن لا شئ] ُتقدم للناخبين في غرب إفريقيا"، صرّح من منفاه. نذكر هنا طائعين قول الحق جّلَ وعَلا في الغاشية عن طعام الضريع: "لا ُيسْمِنُ ولا ُيغنِي مِنْ جُوع"، أي إنه  لَا يحصُل بِه مقصود، ولَا يَنْدَفِع بِه محْذُور - في تفسير إبن كثير.

علي صيغته، يؤكد الباحث السياسي وايزمان الذي أشرنا لنقده إنتخابات القامبيا في لقآئنا الماضي: "أن التزييف الواسع الذي قلع به الديكتاتور يحي جاما نتائج الإنتخابات الرئاسية في وطنه، لم يقتلع إرادة المعارضة الديمقراطية العتيدة التي وحّدت صفوفها، وألقت بكافة خلافاتها ورآء ظهرها، لتطلق صرخة داوية في وجه تآمره علي الشعب والدستور، وإن تمكن بالغش من إعلان فوزه." وقفت معارضة الديكتاتورية في بلادنا نفس الوقفة الثابتة في إنتخابات أبريل 2010. والنصر يأتي للشعوب علي "صِرَاطٍ مُستقِيم".

ستينيات القرن الماضي، طرح المفكر الإفريقي علي مزروعي من كينيا مخاوفا كبيرة من ترسخ عُقد القيادة في دول إفريقيا، "كأنها طقوس الطائفة؛ لا يبدلها انتخاب"، قال ناقدا. "القارة مشلولة بتوارث القيادة مع معوقاتٍ أخري أقعدت بها عن النهوض والتقدم" - شدّد. وكان مزروعي، مثل نظيره الأديب سوينكا، يحاضر من منفاه في أرقي جامعات الغرب؛ يحّرض مثقفي القارة علي الإنخراط في مؤسسات الغرب الأكاديمية "ليؤثروا علي رأيها العام وسياسات حكوماته، ما ُأتيح لهم نفاذ لصالح شعوبنا الإفريقية ".

ألا ما أبعد سوينكا والمزروعي، بقاريتهم البهية، عن مجالس الثوراتية التي تعيد سير دويلات الفتات في إفريقيا المستعمرة سيرتها الأولي، تستجلب اعتراف الخارج المتربص بالجميع، قبل أن يستقر لها داخل. فما هي فاعلة إذا أتبَع الفرنجة إعترافهم الدبلوماسي غير المسبوق برعافٍ سياسي مشتبق ٍواحتلال ٍعسكري مطروق؟! باق ٍعلي أمانة المحققين أن يكشفوا: مًنْ الذي أحال تظاهر الشباب السلمي في شوارع ليبيا في أقل من ساعاتٍ لتسلح ٍشامل و"حربٍ أهلية، لا ُتبقي أخضرا ولا يابس" – نري الآن فضائيات العرب تتأسي عليها وتحزن مليا. "أألآن"؟!

إنتقال الظاهر واستبداد الباطن

تسآءل مارتن أوتاواي (1998) في تسعينيات إفريقيا: "هل يمثل يُوري موسفيني، وملس زيناوي، وسياس أفورقي، وبول كيجام حلولاً إفريقية لإشكالات القارة المحلية والإقليمية؟ إن دفعهم بأن المجتمع الدولي ينبغي عليه أن يتفهم المشاكل الخاصة التي تواجهها أقطارهم، ويسمح لهم بسّن طرائقهم الخاصة للديمقراطية، يمكن أن يجري تأويله كتقييم واقعي؛ ولكنه يحمل تأويلا آخرا، كونه مبررا ضعيفا لفرض السلطوية ومصادرة الحريات."

"نهضت الدول المذكورة من الإنهيار، وواجهت تحديا مماثلا لبنآء كيان، وسلطة، ونظام سياسي". إن القادة الإفريقيين "الذين تشاركوا التزاما مسبقا بالمُثل الإشتراكية، إستبدلوا التزامهم بسياساتٍ رأسمالية موجهة للسوق"، وكانوا علي قناعة بضرورة إستعادة قدرات الدولة، وإيجاد علاج لتسيس العرقيات، وفتح قنوات جديدة للمشاركة الشعبية قبل أن يعيش القطر تنافس الأحزاب المتعددة ويمارس الديمقراطية. وتعليقنا، إنهم بعد حقبٍ من الإنفراد بالحكم، ما رأوا بعد حاجة ًلتعددٍ أو ديمقراطية.

"رواندا الأصعب علي التقييم... ربيع 1994، أهدرت أرواح مليون توتسي في مذابح أحدثها فيهم متطرفو الهوتو المناوئين لأي تصالح مع مليشيا جبهة رواندا الوطنية وأغلبها من التوتسي... وفي غياب الوجود الفعلي لأحزاب المعارضة والمؤسسات السياسية المقيدة لسلطات القيادة في قمة السلطة، بقي النظام سلطويا علي حاله. لكنه علي درجةٍ من الرفق نسبيا - إلي حينه [1998ٍٍٍ] - يُحتمل أن ينحدر إلي نوعية الحكم التي دمرت هذه البلدان آنفا" في رأي أوتاواي.

يثير الإهتمام فرقٌ بين آراء الدارسين عملية الإنتقال لحكم الديمقراطية في إفريقيا وقارات أخري. ريتشارد جوزيف (1998) مقتنع، كمثال، بإنفتاح إفريقيا السياسي علي التحول الديمقراطي في التسعينيات "خلا استثنآءات قليلة... توجت "ديمقراطية في الظاهر" ذلك التحول صوراً مختلفة... إن ما يميز أنظمة الظاهر توهم الديمقراطية السائد بين مؤسساتها وممارساتها. تتظاهر بديمقراطيتها عمدا لإرضآء معايير العالم الخارجي ليتقبل وضعها." كذا يفضح باحثون في جلآءٍ تآمر أنظمةٍ علي الحقوق والحريات.

مع ذلك، بالنظر إلي الإنتخاب الرئاسي في غانا الذي أدي إلي تمدين حكم جيري رولنقس العسكري، يقتنع الباحث جيماه-بوادي (1998) بأن "مرتكزات الحكم الليبرالي وتعزيزاته بالديمقراطية أرسيت، بالرغم من بقآء عقباتٍ ووقوع إنتكاسات. ولئن كان لإنتخاباتٍ تعددية حرة ومنصفة أن ُتطبّق كمعيار جزئي، فإن تقدم إفريقيا نحو الديمقراطية يُعّد عملا أخاذا."

تخريب اللامركزية

تطبيق نموذج اللامركزية، أيا كان حالها في الأقطار الإفريقية، "لم تلعب فيه الأحزاب الرئيسة والجماعات المنظمة في النظام الديمقراطي التقليدي دورها"، أخبرنا الباحث أوتاواي.

يواصل: "إن موسفيني أقام نظاما توجيهيا أكثر منه تمثيلا ديمقراطيا؛ فوقع بسهولةٍ في يد الحركة السياسية خارج الحكومة - الجماعات المنظمة وحدها، لا غيرها". وفي إثيوبيا، "صارالأمن موضوعا عسكريا ليس إلا. فلم تحصل المشاركة الشعبية إلا علي قسطٍ ضئيل [من شؤون الحكم]". لم تصحب اللامركزية زيادة في مشاركة الشعب. ُعقدت ثلاث إنتخابات منذ 1991 بأحزابٍ متعددةٍ إفتراضا. ما أتت إلا بضيق المشاركة، ما بتوسيعها". 

عقب هزيمة نظام الطاغية منقستو في مايو 1991، كانت الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا في تحالفٍ مع الجبهة الشعبية لتحرير التقراي "دولة في الإنتظار"، سرعان ما أنشأت "نظاما موحدا، أعطيت فيه السيطرة أكبر شأن ٍعلي المشاركة الديمقراطية." ولنضال الإرتريين للتحرر من هيمنة الإثيوبيين نصرة وإثرة لدي السودانيين، أهل الإثنين. نصح الديمقراطيون السودانيون منقستو بمنع العنف والإنفراد بالحكم. لم يسمع ُنصحا. تحمل شعبه طاغوته عهدا. ثم اكتسحه مُغضبا. فهلا أطلق الأهل في إرتريا الرحاب وعدا، تمضي به جماهيرهم إلي العصر عهدا؟

برطع المشروع بما حمل

ربما يكون للتسيطر الأمني حظه من الأولية "في مبدأ الأمر، لتأمين مصالح العامة ودرء الفوضي"، فيما نفهم من منظور الشيخ المودودي في فكره السياسي حولها. لم يخالفه في هذه القضية مفكرو الغرب. وأجاز فقه القانون الدولي الضرورة نفسها بقدَر، شرط ألا تخرق حقا ولا تمنع حرية. خالف كل هذه المصادر مصاحبو الحكم وهواة السلطة والتسلط. جعلوا همهم الأوحد التعلق بدست الحكم لزرع الفوضي وجني مصلحة الأقارب وتسمين الأتباع: "قوماً يتسّمَنون" - من علاماتِ آخر ِالزمانِ - في حديث سيد الخلق المرسل "رَحْمَة ًللعَالَمِين".

عندنا، أرسل الإنقلابيون الإسلاميون فكرة إستبدادية لإلغاء نظام الإدارة الأهلية القديم في دارفور، واستبدال ألقابها الشعبية "المقدم والشرتاي" بأمير الجماعة وما إليها من ُلغوب. أرادوا بمرسوم حزبي توهم "تحديث" نظام إجتماعي لا يملكون فيه ناقة ًولا جمل. "برطع" بهم جمل مشروعهم بما حمل. فأشعلوا لغيظهم حربا أهلية زعزعت أركان حكمهم، بمثلما حرقت نيرانها مدن الإقليم، وأحالت شعبه المنتج المضياف الكريم نازحين يتناقص حجمهم السكاني يوماً بعد يوم ٍعلي رمال الصحرآء. أبشع جرائم العصر بحق الأبريآء.

خلاصة هذه الفقرات من "حقوق الإنسان في إفريقيا" تشير إلي أن دعم قوي خارجية لأنظمة الإستبداد في القارة الأم، وتواصل أعبآء الديون، وكبت منظمات المجتمع المدني تمّكن بها الإستبداد من إعمال السلطوية في أعناق الشعوب علي دوام، في مجتمعاتٍ أخليت منها قواعد الحياة المعاصرة: الحقوق الجوهرية والحريات الأساسية.

الوحدة وكابوس الفرقة

يوليو 2001، نشر موقع المنظمة السودانية لحقوق الإنسان القاهرة مقالا لهذا الكاتب بعنوان "تأملاتٍ في حُلمُ ٍمؤجل"، تعقيبا علي مقال ٍللكاتب جمال نكروما في الأهرام الأسبوعي، نفس الفترة. قدم جمال بقلمه الرشيق تحليلا واقعيا للموقف الجاري في القارة الأم.

آنفا، صارع الزعيم كوامي نكروما موروثات التخلف الإجتماعي والسياسي طوال حياته. رأي"معظم حدودنا الوطنية مصنوعاتٍ إستعمارية، لا تلائم محتوي الأمة الإفريقية". فاعتبرها عاملا من أكبر العوامل المسببة لتخلف القارة وقيادتها. وفيما كتب إبنه جمال، "إن إفريقيا حرة من الإستعمار، بالرغم من أن القارة عليها أن تتحرر من أغلال الإستعمار الحديث. وهذه عبارة صاغها نكروما [الأب] ليصف العلاقة الخنوعة مابين دول ٍإفريقيةٍ مستقلةٍ إسميا، وأسيادها الأوربيين الإستعماريين السابقين، المسيطرين [في الحاضر] علي إقتصادياتها المهزوزة".

منذ صدور ملاحظة مزروعي السائدة إلي اليوم، لم يحدث "تغيير في الأحوال القائمة ما بعد مرحلة الإستعمار"، يؤكد جمال. " ُيسْخر من المثالية، وُتعتبر الأيديولوجية أمرا لا داعي له. المال يهم كما لم يكن من قبل. والشجاعة الأدبية خروجٌ لا ثمر له عن طرق جمع المال. بدأ التغيير الرجعي بما وقع لكوامي نكروما، أول رئيس لغانا. خاض معركة إنشاء ولاياته الإفريقية المتحدة، وخسرها. إن رفقاءه نظروا إلي دوافعه نظرة محفوفة ًبالشك. وتبّنوا مدخلا تدريجيا لوحدة إفريقيا".

مّثل كوامي نكروما بحق ٍالقيادة القارية المخلصة للإرتقاء بفكرة الولايات الإفريقية المتحدة وتأسيس منظمة الوحدة الإفريقية. وكان ويليام دو بويس، ألمع أستاذ أمريكي-إفريقي في علم الإجتماع، مؤسسا سابقا لحركة إفريقيا الكبري التي تقع أفكار نكروما في حوقها. ومن ضمن روادها الأوائل فريدريك دوقلاس في الولايات المتحدة وفي زمن ٍبعده فرانتز فانون، الناشط في ثورة الجزائر. وكان نكروما شديد العداء لقوي الثورة المضادة التي ارتدت رداءا جديدا لإخفاء نفس محتويات الإستغلال السياسي والإقتصادي القديم، حتي تتحكم في مصير القارة ونضالها للتحرر والنماء بعد الإستقلال. هذا اللباس المزور هو ما أطلق عليه الزعيم الإفريقي الكبير في بلاغةٍ "قوي الإستعمار الحديث".

الإستعمار الحديث

لمواجهة هذه المرحلة المستجدة من "المد الأوروبي لأحوال التخلف وإنحطاط التنمية علي القارة الأم"، بإستعارة عبارة المفكر جلبرت رودني، لا تزال لكلمات نكروما التالية رصانتها: "أولا، علينا أن نتحد وننقذ قارتنا؛ أو ثانيا، أن نواصل الفرقة والتفتت؛ أو ثالثا، أن نذعن ونطأطي رؤوسنا أمام قوي الإمبريالية والإستعمار الحديث. إن كل عام يمر، يدعم فيه فشلنا في الوحدة أعدآءنا، ويؤخر الإنجاز المطلوب للإيفآء بطموحات شعوبنا". ثم يبين نكروما، كما نقل عنه إبنه جمال، "إن التنمية الإقتصادية والإجتماعية لا يمكن أن ُتحّقق إلا في نطاق مدار مناسب من التنمية، وحده لا غيره، وهو قارة إفريقيا بأكملها تحت توجيه حكومة وحدة إفريقية، تثابرعلي سياساتٍ إشتراكية".

قال جمال نكروما: "حقيقة الأمر أن القذافي حّذر من الإفتقار إلي المشاركة الشعبية في عمليات إتخاذ القرار في منظمة الوحدة الإفريقية في الماضي [أي قبل قيام الإتحاد الإفريقيٍ]. فقد كان ذلك الإفتقار واحدا من النواقص الأساسية في كيان إفريقيا الكبري". وكان تعليقنا أن العقيد القذافي لا يختلف عن القادة المستبدين في القارة الأم. ومع استمرار الوضع علي ما هو عليه، نعلم أنه حكم أربعة عقود بتنظيم سياسي منفرد بالرئاسة والسلطة، وقمع الخصوم السياسيين بما لا يميزه عن أحوال الحكم في البلدان الإفريقية الأخري، الرازحة تحت إنتهاك الحقوق.

الديمقراطية التي نادي بها قذافي وطبقها في بلاده ليست ديمقراطية مألوفة مبنية علي المنافسة الحرة بين المرشحين، وليست نظاما إداريا يقوم علي التمييز الدقيق بين أفرع الحكم التشريعية والقضائية والتنفيذية لتسهيل الرقابة الرسمية والشعبية علي القرار والتنفيذ والمتابعة والتقييم. أما ما تحتاجه إفريقيا فهو ما تحتاجه شعوبها، لا ما يبتدعه حكامها. وما تحتاجه إفريقيا أكثر من أي شئ آخر، أن تتنفس الحركة الجماهيرية الإفريقية بأحزابها ونقاباتها ومنظماتها المستقلة عن الحكومة في كل قطر إفريقي هواءا نقيا حُرا من كل قيدٍ حكومي أو كبتٍ قانوني.

مع تأييدنا المعارضة المبدئية الدائمة لخرق حقوق الشعب في التظاهر السلمي والإضراب السياسي لإسقاط الأنظمة السقيمة وتغيير الحكومات السفيهة، تقول إننا، وطنيين ديمقراطيين، لا نريد لقارتنا استعمارا جديدا يفتت وحدتها، يستلب إستقلالها، ويستبيح أرضها ليذيق أهلنا الهوان، ولو بدعوي انتشالهم من طغيان الحكام. لا نؤيد أبدا إستبدال إستعمار بإستعمار.

نسأل مرارا وتكرارا: أي قويً وقفت ورآء تحويل التظاهر السلمي إلي حربٍ أهليةٍ لا ُتبقي ولا َتذر؟ وأي ثوريةٍ تلك التي تفتح أبواب وطنها لقواتٍ أجنبية؟! لعلنا نتذكر نكروما: هذه يا صاحبي قوي الثورة المضادة، تحالف إستعمارا حديثا في حُلةٍ جديدة.

وغداً يومٌ جديد...

____________________

*الأيام، المقال الأسبوعي:  مارس 2011



© Copyright by sudaneseonline.com