From sudaneseonline.com

بقلم :مصطفى عبد العزيز البطل
سنوات النميري: الصياغة القلندرية للتاريخ (2)/مصطفى عبد العزيز البطل
By
Oct 6, 2010, 10:50

غرباً باتجاه الشرق

 

سنوات النميري: الصياغة القلندرية للتاريخ (2)

 

مصطفى عبد العزيز البطل

[email protected]

 

 

(1)

في الحلقة السابقة من عرضنا التحليلي لكتاب اللواء "م" محمود قلندر الموسوم (سنوات النميري: توثيق وتحليل لأحداث ووقائع سنوات حكم 25 مايو في السودان)، أخذنا على المؤلف أنه استفاض دون ضابط أو رابط، وتوسع بغير احتراس أو تمييز في تبني الأطروحة المايوية حول فساد الحكم وعوار الحياة السياسية قبل مايو، وما انتهت اليه تجربة الديمقراطية الثانية من إخفاقات وعلل هيكلية مزعومة لم يكن لها من دواء إلا في صيدلية الجيش. ووقفنا عند بعض الشواهد التي رأى صاحبنا انها تشهد على ذلك الفساد والإخفاق، وهي شواهد بيّنا أنها لا تصلح للتدليل على خيبة الديمقراطية وفشل تطبيقاتها، بل وعلى العكس من ذلك ربما نهضت برهاناً على فاعليتها وحيويتها وقدرتها على التماهي مع مقتضيات النمو الديمقراطي السليم، لا سيما بالنظر الى حداثة عهدها، ولم تكن قد جاوزت في عمر تجربتها الثانية طور التسنين.

(2)

لم يكتفِ اللواء قلندر، في سعيه المتصل لتعضيد نظريته المتزيِّدة، حول ظواهر الانشطارات والانقسامات والتشرذم السياسي، بحسب وصفه، بالوقوف عند بوابة الأحزاب السياسية التقليدية. بل مضى قدماً فأضاف اليها الأحزاب العقائدية الحديثة. اقرأ: (انفلقت الأحزاب، وانقسمت القوى السياسية على نفسها.. وثناثر اليسار). ففي حالة حزب الإخوان المسلمين، الذي عرف في مرحلة الستينات باسم جبهة الميثاق الإسلامي، ذكر انه "لم يسلم بدوره" من ظواهر الانشقاق والانشطار والتشرذم فانقسم الى قسمين: (فريق يتزعمه البراغماتي الشاب، وقتها، حسن الترابي ومعه ربيع حسن أحمد، وأحمد عبد الرحمن محمد، وفريق آخر عرف فيما بعد بـ"الغرباء" ضم من بين قادته مالك بدري ومحمد صالح عمر وجعفر شيخ إدريس). وما أظن أن أحداً ممن عرفوا تاريخ السودان السياسي المعاصر حق معرفته يشتري مقولة قلندر هذه بفلسٍ واحد. في الحياة السياسية ألفاظ مثل "انشطار" و"انقسام" تعنى أن يضرب الخلاف حول المناهج السياسية الإستراتيجية أو الموجهات الفكرية العقائدية قلب التنظيم فيشله، ويتعمق الى جذره فيجتثه أو يكاد، فلا تكون للتنظيم بعد ذلك من حياة إلا بالإنفلاق الى كيانين متكافئين أو شبه متكافئين. أما أن يخرج فردين أو ثلاثة أفراد من نسيج تنظيمي عقدي معين باجتهادات مغايرة لاجتهادات قيادته الفكرية أو السياسية، فينتهي أمرهم الى الفصل أو الاستقالة ثم الانزواء الى الظل، كما كان الأمر في حالة مالك بدري وجعفر شيخ إدريس ومن لفّ لفهما، فإن ذلك لا يجاوز كونه تطوراً طبيعياً معتاداً في مسارات حيوات التنظيمات السياسية والعقائدية عبر التاريخ. ونحن نعلم أن "المنشقين" الذين سمّاهم قلندر، انتهى أمرهم سياسياً وفكرياً الى غياهب النسيان، بينما مضى الكيان الإسلاموي الأصلي في طريقه بخطىً ثابتة، لا يلوي على شيء، حتى أظلنا يومٌ ملك فيه ذلك الكيان زمام السودان كله، فأصبحت الامة بتمامها بين يدي ذلك التنظيم كالميت بين يدي غاسله. وتصوير خروج هؤلاء على أساس انه واحد من سلسلة "الانشطارات" و"الانقسامات" التي طبعت الحياة السياسية قبل مايو، وخصمت من رصيد التجربة الديمقراطية الثانية، ثم أصحبت تبعاً لذلك في جملة العوامل التي مهدت للانقلاب، لا يعدو - في تقديرنا - أن يكون من قبيل الشطط في التحليل والمغالاة في التقويم.

(3)

ولكن الذي حيَّرنا حقاً في رصد المؤلف للأرضية السياسية التي شكلت الخلفيات التاريخية للتغيير الثوري في 1969م، هو ما جاء في متن الكتاب بشأن "انقسامات" و"انشطارات" اخرى مفترضة ضربت الحزب الشيوعي السوداني، أحد أقوى الاحزاب واكثرها تأثيراً عهدذاك. وقد جرت إضافتها – في دفتر حساب قلندر – بدورها الى قائمة العوامل التي تُحسب على الديمقراطية الثانية وتقرعها وتدينها. ذلك مع أننا نؤمن - مع كثيرين غيرنا - بأن الحزب الشيوعي كان حتى صبيحة الانقلاب حزباً موحداً متماسكاً صليباً. صحيح أن الصحافة السودانية كانت شهدت في النصف الثاني من الستينات مناظرات سياسية وفكرية مفتوحة ومنشورة حول حاضر الحزب ومواقفه تجاه عدد من القضايا، شارك فيها عدد من قادته اللامعين، وبضمنهم السكرتير العام للحزب، الراحل عبد الخالق محجوب. وقد شفّت هذه المناظرات عن بعض التباينات في الرؤى العقيدية والتوجهات السياسية. ولكن خلافات الرؤى والتوجهات شيء، و"الانشطارات" شيء آخر. التاريخ المدون يحدثنا ان انقلاب مايو هو الذي تسبب في شق الحزب الشيوعي وتوهينه وانحسار تأثيره في مسارات الحياة العامة. أما ان يكون الحزب قد شهد انشقاقاً، بمعنى الكلمة، قبل الانقلاب فهو ما لم يقل به أحد، غير "الراسخين في العلم" وفي زمرتهم اللواء قلندر!

الثابت أن السكرتير العام لحزب الشيوعيين السودانيين، عبد الخالق محجوب، كان قد عرض على لجنة حزبه المركزية إبان مؤتمر الجريف الشهير عام 1966م تصوراً يتضمن اندياح الحزب الشيوعي في تنظيم حركي واسع للقوى الاشتراكية، بحيث يكون الحزب في نواته الأصلية بمثابة القلب للحركة المرتجاه (كان من رموز الحركة الاشتراكية آنذاك: أمين الشبلي، محجوب محمد صالح، عابدين إسماعيل، مكاوي مصطفى. وقد شكَّل هؤلاء، مع غيرهم، ما عرف بجبهة القوى الاشتراكية، وهي الجبهة التي رشحت رئيس القضاء السابق بابكر عوض الله لرئاسة الجمهورية). والذي عليه جمهور الراصدين لتاريخ الشيوعية في السودان هو ان قيادات نافذة في الحزب الشيوعي السوفيتي عبرت للسكرتير العام عبد الخالق محجوب عند زيارته لموسكو، عقب مؤتمر الجريف مباشرةً، عن قلقها وعدم رضائها عن الاتجاه لتذويب الحزب الشيوعي السوداني في تنظيم القوى الاشتراكية، لا سيما ان للحزب الشيوعي الجزائري سابقة في هذا المضمار لم تكلل بنجاح. وقد كان من ثمرة هذا المثاقفات الشيوعية، المحلية والإقليمية والعالمية، ان تراجعت قيادة الحزب الشيوعي السوداني عن الفكرة. وحول هذه القضية البالغة التعقيد اندلق حبرٌ كثير، وجرت مناقشات مكثفة بين قطاعات الشيوعيين. ولكنها في نهاية المطاف لم تعد كونها حوارات ومثاقفات، لا انشطارات وانقسامات.

غير ان الحزب الشيوعى، شأنه شأن الحزب الاخوانى الاسلاموى شهد حالات شديدة المحدوية لخروج بعض عناصره من عضويته خلال تلك الحقبة، وقد قلنا فى شأن هذه الحادثات بأنها لا يليق علمياً وصفها بأنها "انقسامات" فى الكيانات الحزبية، خاصة اذا كان الخروج من الحزب اختيارا شخصيا فردياً، ضعيف الاثر فى سياق الحياة العامة، كما هو الشأن فى حالة القيادى الشيوعى مختار عبيد، الذى غادر الحزب الشيوعى فى منتصف الستينات لينشئ حزب العمال والفلاحين، وهو حزب وهمى بوهيمى لم يكن له وجود حقيقى. وكانت اللجنة المركزية للحزب الشيوعى، فى العام  1968 ، قد كلفت مختار عبيد بنقل قرارها بعدم الموافقة على زواج السكرتير العام من الاستاذة نعمات مالك الى الراحل عبد الخالق محجوب ففعل. ويبدو ان الرجل كان من مؤيدى القرار، الذى تم اتخاذه فى غياب السكرتير العام خارج البلاد. ولكن اللجنة المركزية أعادت النظر فى قرارها لاحقاً بما يشبه الاجماع، بعد ان عقدت اجتماعا آخر فى حضور عبد الخالق توصلت فيه الى انه من حق السكرتير العام اختيار شريكة حياته، كما انه ليست هناك مسوغات او اسباب سليمة ومعقولة للوقوف ضد تلك الزيجة. وقد اعترض مختار عبيد وانتابته حالة من الاستياء الشديد من خطوة اللجنة المركزية بالتراجع عن قرارها السابق، فقدم استقالته وغادر الحزب مغاضباً. كما غادر الحزب فى تلك الحقبة عضو اللجنة المركزية محمد احمد سليمان، لأسباب اخرى تخصه. وقد ظهر هذا الشخص على مسرح الحياة العامة بعد قيام انقلاب مايو مباشرةً، اذ اصبح مسئولاً عن جهاز الامن العام فى وزارة الداخلية خلال الفترة 1969 وحتى 1971، ثم تفرغ بعد ذلك للتجارة، وكوّن ثروة هائلة بعد ان تخصص فى استيراد وبيع العقاقير المنشطة جنسياً. (ليت هذا الرجل الفريد يكتب مذكراته فيشرح لنا من خلالها الطبيعة الديالكتيكية ومكونات العلاقة الجدلية بين الماركسية والأمن وتجارة المنشطات).

(4)

ونحن نقرأ باستغراب بعض ما سطر اللواء قلندر في كتابه حول انشقاق الحزب الشيوعي قبل 25 مايو 1969م. ومن مثال ذلك قوله عن حكومة الانقلاب التي شكلها القاضي بابكر عوض الله إنها: (شملت اثنين من الشيوعيين المنشقين على سكرتير الحزب عبد الخالق محجوب). والحق أن الشخصيتين المشار اليهما، وهما محجوب عثمان وفاروق أبوعيسى، لم ينشقا عن الحزب ولا عن سكرتيره العام. ولا صحة للزعم بأنهما شاركا في حكومة مايو الاولى بغير إرادة الحزب وبغير رغبة سكرتيره العام. التاريخ الرابض بطون الطروس والمستكن في صدور الرجال يقول إن قيادة الحزب دعت الى اجتماع انعقد مساء الخامس والعشرين من مايو 1969م، بعد نجاح الانقلاب مباشرة، بحي الصافية بالخرطوم بحري، لمناقشة الموقف من تطورات الأحداث وأمر المشاركة في حكومة القاضي بابكر عوض الله. وقد أماطت اللثام عن أمر هذا الاجتماع الاستاذة سعاد إبراهيم إحمد، إحدى القيادات التاريخية للحزب الشيوعي، في حوار أجرته معها صحيفة "ظلال" عام 1993م. في ذلك الحوار ذكرت الأستاذة سعاد، إنها عند حضورها الى مكان الاجتماع بحي الصافية وجدت محجوب عثمان وفاروق أبوعيسى ينتظران خارج الصالون الذي كان الاجتماع منعقداً في داخله، فسألتهما عن سبب وجودهما هناك فأجاباها بأنه تم تعيينهما وإعلان أسمائهما كوزيرين في حكومة الانقلاب، وانهما ما برحا جالسين في مكانهما ذاك انتظاراً لقرار الحزب وتوجيهه لهما بشأن القبول بالمشاركة في الحكومة أو عدمه. ولم يغادر محجوب عثمان وفاروق أبوعيسى المكان إلا بعد ان انفضّ الاجتماع وتم إبلاغهما بأن الحزب قرر القبول بمشاركتهما في الحكومة (ليس بين يدي نسخة من المادة الصحفية المشار اليها، ولا أذكر نصوص الكلمات تحديدا، كما لا أذكر ما تم نشره منها على وجه الدقة، غير ان الإفادات المتقدمة وردت على لسان الأستاذة سعاد إبراهيم أحمد في حديث مباشر بيني وبينها أثناء تسجيل ذلك الحوار. والأستاذة سعاد حية ترزق، ترفل في ثوب العافية، أمد الله في عمرها وبارك فيه. وقد عرضت هذه الرواية فى وقت لاحق على القيادى الشيوعى، المؤرخ الدكتور عبد الماجد على بوب، فأيدها، وأضاف بأن اعضاء الحزب الشيوعى الذين وردت اسماؤهم كوزراء فى حكومة بابكر عوض الله الاولى كانوا فى واقع الامر اربعة، وهم موريس سدرة وزير الصحة، وجوزيف قرنق وزير شئون الجنوب، بالاضافة الى محجوب عثمان وزير الارشاد القومى وفاروق ابوعيسى وزير شئون الرئاسة. وانه يغلّب الظن ان الذين كانا يجلسان خارج الصالون بانتظار القرار هما فاروق ابوعيسى وموريس سدرة. أما محجوب عثمان وجوزيف قرنق فقد كانا ضمن حضور الاجتماع بداخل القاعة اذ انهما كانا عضوين فى اللجنة المركزية للحزب، وان كان هذا  بطبيعة الحال لا يمنع وقوف محجوب، مع فاروق، خارج القاعة لأى سبب من الاسباب، عند حضور الاستاذة سعاد).

أين الانشقاق إذن، وكيف يكون الرجلان (وفقاً لرواية قلندر) منشقين عن الحزب وسكرتيره العام وهما ينتظران ببابه، لا يبرحانه قيد أنملة، حتى تأتيهما كلمته؟! ولكن شيخنا قلندر له طريقته، ولكل شيخٍ طريقة، في إثبات أن الأحزاب التقليدية والعقائدية كانت قد ضربتها الانشقاقات والانشطارات قبل مايو، وان تجربة الممارسة الديمقراطية تبعاً لذلك كانت عاجزة وشائهة ومريضة تنتظر خلاصها على يد الانقلابيين. صحيح أن المؤلف أورد أسباباً اخرى للتدهور السياسي المزعوم، منها قرار حل الحزب الشيوعي نفسه عام 1966م، على يد تحالف الأحزاب التقليدية والإسلامويين، غير ان ذلك كله لا يبرر في تقديرنا ذلك الميل الشاطح لتوظيف العبارات الدراكونية المضمخة بأوصاف التهويل والمبالغة في تصوير واقع تلك المرحلة من تاريخنا المعاصر، مثل قوله: (.. واقع الساحة السياسية في الخرطوم بكل لا معقوليته وسيرياليته)!

(5)

ومما يدهشني كثيراً أن قطاعاً غالباً من الذين يتناولون بالرصد والتقويم مراحل التطور الدستوري والسياسي للسودان المعاصر، لا سيما من العسكريين، يميلون الى إهالة كثير من التراب على تجارب الحياة الديمقراطية الحزبية ووصمها بكل صنوف العلل والموبقات، وفي مقدمتها التشرذم وضعف الفاعلية. ولكن أحداً من هؤلاء لا يحدثنا عن أسباب كثرة انشغال ضباط الجيش بأمور الحكم والسياسة خلال ذات الحقبة التاريخية. ولا يفسر لنا الرقم المهول للتنظيمات العسكرية التي ابتغت السيطرة على الحكم عن طريق الانقلاب خلال الفترة المنبسطة منذ استقلال السودان وحتى يوم الناس هذا. كما أن أحداً من هؤلاء لا يتطوع فيبين لنا الأسباب الكامنة وراء كثرة التشرذمات بين المغامرين من ضباط الجيش داخل التنظيمات الانقلابية التي وصلت الى حد تسديد فوهات البنادق والدبابات في مواجهة بعضهم البعض، وذلك فضلاً عن العدد الكبير من الضباط وضباط الصف من المشاركين في هذه الانقلابات الذين تم إعدامهم رمياً بالرصاص أو سجنهم أو طردهم من خدمة القوات المسلحة عبر السنوات.

والغريب أن كتاب اللواء قلندر اشتمل على رصد تفصيلي دقيق لتاريخ الانقلابات كما عرفته المؤسسة العسكرية السودانية، وهو تاريخ حافل بالمدهشات والمعجِبات. وقد ورد في غضون السرد التفصيلي عدد كبير للغاية من أسماء الضباط يند عن الحصر فلا يكاد يبلغه الإحصاء. وذلك بالإضافة الى أسماء التنظيمات الانقلابية وهي في أغلبها ذات توجهات عسكرية سلطوية صرفة.       

وفقاً للمؤلف فإن أول تنظيم سري عسكري عرفته القوات المسلحة السودانية كان هو تنظيم "تجمع الضباط" الذي تم إنشاؤه في العام 1954م، أي قبل استقلال السودان، فتأمل! وقد كان من أعضاء ذلك التنظيم - بحسب المؤلف - حسن بشير وأحمد عبد الوهاب وحمد النيل ضيف الله ويعقوب كبيدة، ومحمود حسيب. وصاحبنا اللواء قلندر نفسه يحدثنا في كتابه انه عندما اكتملت عملية سودنة القوات المسلحة بعد الاستقلال، ووجد كبار الضباط انفسهم في رتب عسكرية رفيعة ومكانة اجتماعية محترمة، فإنهم انصرفوا الى حياتهم الجديدة واستغرقوا في رغدها، وتجاهلوا أمر التنظيم الذي شاركوا في تأسيسه، فلم يرضَ عن ذلك صغار الضباط من أعضاء الحركة. وكان من نتاج ذلك أن ابعد سكرتير التنظيم، وهو الضابط الصغير آنذاك "اليوزباشي" محمود حسيب، الى خارج العاصمة لبعض الوقت، قبل ان يتم إخراجه من الجيش نهائياً في وقت لاحق. ثم يحدثنا قلندر عن تنظيم آخر للضباط ظهرت ارهاصاته في المنطقة العسكرية بجبيت في حقبة الخمسينات، ضم عدداً من الضباط وقد شرع هذا التنظيم في نشاط محموم للتدبير لانقلاب عسكري عرف في الادبيات الراصدة باسم "محاولة كبيدة الاولى". ثم يمضي فيتناول انقلاب الفريق إبراهيم عبود عام 1958م، ثم ثلاثة انقلابات اخرى، تبعت بعضها بعضاً، في مارس ومايو ونوفمبر على التوالي من العام 1959م، أي خلال سنة واحدة فقط من عمر الحكم العسكري العبودي، وقد تورط في هذه الانقلابات الثلاثة عدد كبير من كبار الضباط وصغارهم، وقد نجح بعض هؤلاء في الوصول الى أرائك السلطة لبعض الوقت، ثم جرى إبعادهم وإرسالهم الى السجون في وقت لاحق، كما تم قتل بعضهم الآخر شنقاً على أعواد المشانق (لا علم لي بالأسباب وراء تنفيذ أحكام الإعدام على العسكريين في عهد الفريق عبود شنقاً، بدلاً عن الرمي بالرصاص، كما هو التقليد في الأعراف العسكرية. ومن كان عنده فضل نور حول هذا الأمر فلينورنا وله من الله الثواب).

(6)

يقف الكتاب عند انقلاب مايو 1969م، ولكننا نعلم بطبيعة الحال ان الفترة منذ ذلك العهد وحتى يومنا هذا شهدت بدورها عدداً مقدراً من محاولات الانقلابات العسكرية الناجحة والفاشلة، وهي انقلابات تورطت في حلقاتها أعداد كبيرة من الضباط وضباط الصف من مختلف الاتجاهات، ذاق بعضهم حمام الموت، بينما استطعم آخرون حلاوة الحكم وتمرغوا في نعيم السلطة.

هذا هو إذن تاريخ القوات المسلحة السودانية والمحاولات المتواترة للاستيلاء على السلطة بواسطة ضباطها. فإذا جاز لنا ان نصف الحياة الحزبية إبان الديمقراطية الثانية بـ (اللامعقولية والسيريالية)، بحسب قلندر، فكيف - يا هداك الله - نصف الحال داخل الجيش، حيث ظل الانقلاب واحلام الاستيلاء على السلطة واوهامها تشغل منام أولئك الذين ارتدوا النجوم المعدنية على اكتافهم، فما كفّت ادمغتهم يوماً عن التفكير والتدبير للوصول الى سدتها محمولين على ظهور الدبابات!

يحدثنا اللواء قلندر - وهو هنا يعيد تدوير حيثيات ومسوغات مستعادة كثيرة التكرار في الادبيات التي تعالج قضايا الجيش والسياسة - عن الخلفيات التاريخية التي صاحبت تكوين تنظيم "الضباط الاحرار" في صفوف القوات المسلحة السودانية. وفي هذا الإطار يتم التنويه الى الأفكار الثورية الجديدة عن دور الجيوش ومكانتها في العالم النامي في مرحلة الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ونقرأ عند قلندر كلاماً عن: (الدور والمسئولية التاريخية التي وجد الضباط الوطنيون انفسهم في مواجهتها بصفتهم فئة مستنيرة متقدمة لأمتها). الضباط فئة مستنيرة؟ نعم، بالحيل، هي كذلك. ولكن صاحبنا لا يبين لنا لماذا هي "متقدمة لأمتها"؟ وعلى أي اساس تقدمت هذه الفئة امتها؟ لماذا لا يتقدمها اساتذة الجامعات مثلاً، أو المهندسون، أو الأطباء، أو الزراعيون، أو البياطرة، أو المحامون، أو الصحافيون، أو العمال، أو الفنانون؟ العلم عند الله وعند قلندر!

ولكن دعنا نمضي قُدُماً فنقرأ، وأرجو أن تتمهل في قراءة هذا الجزء: (لا بد من التأكيد بأن الضباط كانوا على إلمام بفلسفة الثورة المصرية وفكرها التحرري... وقد وصل هذا التيار الفكري التحرري منذ وقت وأصاب عددا من الشباب الوطني ومن بينهم الضباط الشباب بالحمى والحماسة). معلوم ان مرض تدخل الجيش في السياسة والاستيلاء على السلطة بالقوة المسلحة كان قد ضرب مصر والعراق وغيرها. ولكننا لو اعدنا البصر كرتين لوجدنا ان مصر والعراق - على سبيل المثال - وهما الرائدتان في موجة - حتى لا نقول موضة - الانقلابات، كانتا ترزحان تحت أنظمة ملكية متواطئة مع الاستعمار. وفي حالة مصر فقد كان الجالس على عرشها أجنبياً صرفاً ينحدر من أصل ألباني. والى حد ما كانت الأسرة الحاكمة في بغداد أجنبية، بحكم أن الملك فيصل - نجل الشريف حسين بن علي، كان حجازياً لا عراقياً، والعراقيون كما المصريون أولى بحكم أنفسهم، لا يلومهم على مطلبهم ذاك لائم.

أما في الحالة السودانية، فقد كانت البلاد تحكم وفق نظام ديمقراطي ويستمينستري تحققت فيه الى حد كبير الحريات العامة والمساواة السياسية وسيادة القانون. وكان قادة وكادرات الأحزاب السياسية المتداولة للحكم هم ذات القادة الوطنيون الذين قادوا شعلة النضال ضد المستعمر وتحقق الاستقلال على أيديهم. ثم إن الساحة السياسية، تحت ذلك النظام، كانت مفتوحة على مصاريعها أمام كل الافكار والتوجهات التحررية الاقليمية والعالمية بدون قيد أو شرط. والحال كذلك، وأمام هذه الصورة العامة حق لنا أن نتساءل: ما هي الخصائص المشتركة بين الواقع السوداني من ناحية، والواقع العربي من ناحية اخرى، بحيث تجعل من الانقلابات العسكرية العربية - المصرية والعراقية - وغيرها نموذجاً يحتذى، وقدوة يتبعها ضباط جيشنا، ويتمثلونها في حياتهم فيقيمون التنظيمات السرية ويدبرون الانقلابات العسكرية بحجة التحرر.. التحرر ممّن ومن ماذا .. ولم يكن عندنا استعمار، ولا عروش، ولا أسر حاكمة اجنبية، بل حكام منتخبون من صلب الشعب، جاءوا الى الحكم بمشيئته الحرة وارادته المستقلة؟!

(7)

هذه الفيضانات الكاسحة من التنظيمات العسكرية السرية، وتلك الشلالات الهادرة من المحاولات الانقلابية العاجزة والفائزة، وهذا الهوس المرضي بالحكم وأرائكه، وهذه الطموحات السلطوية اللامتناهية، التي شلت قدرات القوات المسلحة وأحالتها من كيان وطني مناط به حماية الدستور والدفاع عن بيضة الوطن الى مصنع لتفريخ طلاب السلطة، كل ذلك لا يرى فيه اللواء قلندر ما يستحق التأمل، ناهيك عن الشجب، بل أنه يُعنى عناية فائقة بتوثيقها بحرص عنيد واعجاب وطيد، وكأنها مصدر للعز والفخار. أما الديمقراطية المدنية الثانية الوليدة، بسنواتها التي تعد على اصابع اليد الواحدة، والتي لم تكن قد شبت بعد عن الطوق، فإن صاحبنا يتمحك أمام سيرتها تمحكاً، ليجد في بعض المظاهر الطبيعية لنمو عناصرها، وتطور حركتها، وصقل تجربتها، عنواناً مثيراً لمشهد يطلق عليه: "السيريالية واللامعقول"، ثم يصدر عليها تبعاً لذلك، وبغير تردد، حكمه المبرم بالفشل والخيبة المفضية الى الموت الزؤام تفطيساً تحت جنازير الدبابات. ولله في مؤرخيه العسكريين شئون!

[ نواصل ].

 

عن صحيفة "الاحداث" - 6/10/2010

 

 

 



© Copyright by sudaneseonline.com