From sudaneseonline.com

بقلم :د/عبدالله علي ابراهيم
امريكا والأوطان المفروشة: لماذا تـأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ /عبدالله علي ابراهيم
By
Sep 29, 2010, 03:49

 امريكا والأوطان المفروشة: لماذا تـأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟

عبدالله علي ابراهيم

 

وما كل هاو للجميل بفاعل     ولا كل فعَّال له بمتمم (المتنبيء)

 

دعتني طالبتي النجيبة كريستل بيرنال، الأفريقية الامريكية، لحضور طقس ترحم علي ليولد لينول قينز، الطالب الأسود الذي اختفي عام 1939  في ملابسات غامضة خلال صراعه العنيد الصبور للالتحاق بجامعة ولاية ميسوري بمدينة كولمبيا حيث أٌدَرس انا الآن. كنت سمعت بطرف من مأساة قينز في مناسبات مضت تضرب مثلاً في تباطوء الجامعة الطويل (والمجتمع الامريكي الواسع أيضاً) عن الحق الابلج متورطة في العزة بالعرق واستدامة الاسترقاق بوسائط اخري. ومع أن اعداد الطلاب والاساتذة السود ماتزال خافتة بالجامعة ويتداعي الناس الي دعمها بالمعاملة التفضيلية لرفع غبن السنين الأول عن السود، الا انه مما يفرح ان علي رأس جامعة الولاية بأقسامها الاربع، أكاديمي امريكي اسود. وهذا من باب العودة الي الرشد والتكفير عن الذنب لجامعة اوصدت بابها في وجه طالب اسود منذ ستين عاماً.

كان يوم احياء ذكري قينز هو يوم نهاية انذار الرئيس بوش لصدام حسين ان يهجر العراق او يلقي حرباً تقضي علي حكمه وتبدل العراقيين بأفضل منه. وكان موعد طقس الترحم هو الخامسة مساء ونهاية الانذار السابعة مساء. وكان يوماً ماطراً. ومع انني غالباً ما اعتذر بتقدم العمر عن الخوض في مثل هذه الطقوس الا انني وجدت في نفسي ميلاً قوياً لحضور الترحم علي قينز. لربما رغبت أن ادفن نفسي، والحرب تؤذن بالاندلاع، في حشد بعيد من الحرب بمعني وقريب منها بمعني. 

تجمع المترحمون أمام قاعة جيسي التي هي مقر ادارة الجامعة وتشرف علي ميدان جليل خضير تقام عليه المناسبات الغراء مثل حفل التخريج أو اللقاءات المشهودة. وقد حضرت فيه لقاءاً لهنري كلينتون خلال الحملة الانتخابية عام 2000 . وللميدان حرمة اذ يحتوي علي عدد من الاعمدة الرومانية المعمار. وقد كانت هذه الاعمدة في أصل قاعة جسي قبل ان تحترق عن بكرة ابيها في 1892  .وقد أٌعيد بناء القاعة علي مسافة من الاعمدة التي بقيت نصباً تذكارياَ به شبهة قداسة. واذا نظرت من القاعة فوق تلك الأعمدة وعلي امتداد الشارع نحو الشمال علي جهة وسط المدينة رايت اعمدة أخري منسوخة من اعمدة الجامعة ومقامة أمام مبني المحكمة في المدينة. وقد اصبحت هذه الاعمدة المتناظرة  رمزاً للمدينة وميزة اثرية وسياحية لها.

بدأ طقس الترحم علي قينز بكلمة من منظم الحفل وهو هيئة الطلاب الجامعيين السود بالجامعة. صمتنا دقائق وأصابع الشمع بين أيدينا بلهبها الخافت الذي هو لسان حال الامريكيين متي اصابتهم مصيبة وطلبوا السلوي والذكري واليقظة والغفران. ثم القي الدكتور والس، مدير الجامعة، كلمة قصيرة جداً وتلاه نائبه الاسود، مايكل ميدلتون، بكلمة روي فيها  قصة قينز من الفها الي يائها. وطلب المنظمون منا في ختامها أن نسير في موكب نحو الاعمدة التي امام المحكمة ثم نفترق بعد كلمة اخري أقصر. ولم اتبين فطنة خط مسار الموكب بين مقر ادارة الجامعة والمحكمة الا حين وقفت من كلمة مدلتون علي أطوار نزاع قينز الذي تعاورته الجامعة والمحكمة قبل ان يتلاشي الرجل في ليل شيكاغو البهيم. فقد بدا لي ان منظمي الطقس  قد ترسموا هدي المسيح ورتبوا موكبهم ليرسم طريق آلآم قينز بين جامعة جاحدة ومحكمة متلجلجة. وكان هذا عذاب المسيح يحمل صليبه علي كتفه في طريق الالآم.

ليولد لينول قينز من اهل مدينة سنت لويس بولاية ميسوري. تخرج من جامعة لينكن، وهي جامعة للسود الامريكيين بمدينة جيفرسون سيتي عاصمة ولاية ميسوري، عام 1935. وسعي للالتحاق بكلية القانون بجامعة ميسوري بمدينة كولمبيا التي تقع علي مسافة نحو نصف ساعة بالسيارة شمال جيفرسون سيتي. وهي جامعة دولة غير انها اقتصرت علي البيض علي عهدها. فقد كانت فرص السود في التعليم علي تلك الأيام محكومة بقرار المحكمة العليا المعروف ب "بلسي ضد فيرغسون" لعام 1895 الذي قضي بدستورية فصل البيض والسود في مدارج التعليم شريطة ان توفر الحكومة للسود تعليماً مساوياً للذي يتلقاه البيض نوعاً وكماً. وبناء علي هذا الحكم كان من حق الطالب الأسود أن يتلقي العلم مجاناً في جامعة سوداء خارج ولايته اذا كان التخصص الذي يريده معدوماً في جامعات ولايته السوداء. ولما لم تكن بالولاية كلية قانون للسود فقد حولت جامعة ميسوري طلب قينز الي مدير جامعة لينكن ليدبر له الدراسة بجامعة خارج الولاية علي نفقة الحكومة. ولم يقبل قينز هذا الترتيب. وكتب الي مدير جامعة ميسوري يلتمس منه النظر في طلبه لان رأيه قد قر علي الالتحاق بها ولايريد عنها بديلا. وبهذا يكون قينز قد سبق السيدة روزا باركس الي خرق العازل العرقي. وبارك هي السوداء التي رفضت أن تترك مقعدها في مقدمة بص بمدينة مونتغمري بولاية الباما الجنوبية عام  1954 وأن "تتزاخر" الي الخلف حيث مربط السود في المركبات العامة. وبموقفها الحارن هذا يؤرخ الناس هنا لتفجر حركة الحقوق المدنية التي قادها القس الشهيد مارتن لوثر كنج. وقد أتي الفيلم المسمي "مشوار طويل إلى البيت" علي جهاد سود المدينة لنصرة بارك واضرابهم عن ركوب البصات والسير راجلين الي مقاصدهم حتي تلغي المدينة قانون المركبات العامة العنصري. وذلك البص التاريخي معروض الآن بأحدي المتاحف التي تعني بآثار حركة السود في امريكا.

لم يتلق قينز رداً علي طلبه. واضطرت الربطة الوطنية للدفاع عن حقوق الملونين لرفع قضية للمحكة الجزئية في كولمبيا تطلب رداً من مدير الجامعة علي طلب قينز. وجاءها الرد برفض الطلب لأن مجلس امناء الجامعة متمسك برفض شعب ولاية ميسوري أن يتلقي السود التعليم في جامعة ميسوري. واشتكت الرابطة الي المحكمة العليا في الولاية التي قضت في يناير 1936 أن الفرصة المتاحة لقينز لدراسة القانون خارج الولاية  عادلة بحسب قرار "بلسي ضد فيرجسون" الحاكم لدستورية العدالة في تعليم السود. وحملت الرابطة المسألة الي المحكمة العليا الأمريكية التي قضت في ديسمبر 1937 أن علي الولاية ان توفر لقينز تعليماً جيداً في القانون في حدود الولاية ذاتها لا خارجها. وكان هذا نصراً كبيراً للسود آنذاك لانه ربما سمح لطالب أسود بدخول جامعة ميسوري لاول مرة بالنظر إلى أن ليس بالولاية كلية قانون للسود. ولتفادي دخول قينز جامعة ميسوري وجه مجلس الولاية التشريعي جامعة لينكن ان تشرع في انشاء كلية للقانون تبدأ بقينز ومن سيتبعه وأن يفرغ من تأسيسها في سبتمبر 1939. واحالت محكمة الولاية العليا الأمر لمحكمة جزئية كولمبيا لتقرر ان كانت كلية القانون السوداء الجديدة قد توفرت بها المزايا التي تجعل منها فرصة تعليمية علي قدم ما يتلقاه البيض. ولما تدافع ناشطو منظمة الدفاع عن الملونين الي كولمبيا لنقض القول بتوافر تلك المزايا بحثوا عن قينز في كل مكان فلم يجدوه. وبالتحقق من والدته علموا أنه كان بمدينة شيكاغو يبحث عن عمل حتي يأذن يوم التحاقه بجامعة ميسوري. واشتكي لها من انسداد ابواب الرزق في وجهه لأن سمعته في طلب ما لايستحق من مخالطة البيض لم تحببه لأرباب العمل. ولم يسمع احد عن قينز أبداً وكأن الأرض قد انشقت وبلعته.   

وختم ميدلتون كلمته عن قينز قائلاً: "في حين ظل اختفاء قينز لغزاً فان نضاله للفرص العادلة في تعليم السود مشهود ومشكور. فقد كانت قضيته في المحاكم لنقض "بلسي ضد فيرجسون،" التي قننت الفصل العنصري في التعليم بشرط المساواة في فرص ونوع التعليم، هي فاتحة لقضايا توالت حتي جاء النصر والفتح بقرار المحكمة العليا المعروف ب "بروان ضد لجنة التعليم" (1954) الذي قضي  بلا دستورية التعليم المفصول للاجناس لأنه لن يعدل بين البيض والسود في التعليم ابداً. وهو القرار الذي به بدأ دمج الطلاب البيض والسود وسط غبار كثيف من الاحتجاج والمقاومة مايزال بعضه يلبد الحياة الامريكية. وأضاف مدلتون أنه ربما لن نعرف ابداً ما وقع لقينز غير اننا نعلم علم اليقين خيره العميم علي تعليم السود. فلقد جازف بالخطوة الأولي في الطريق الغامض المنذر بالخطر. وفتح بذلك لشعب ميسوري من بعده بوابة جامعة الدولة وفرض علي امريكا ان ترتفع الي وعدها في الحرية والكرامة لمواطنيها قاطبة. إننا لنطأط الرأس تواضعاً لصنيعه الجميل فينا واننا بذلك لفخورين و ممنونين."

الموكب هو تسيس للمشي. وقد استفدت هذا التعريف من مارتن أميس، الكاتب البريطاني ابن الكاتب ابن كنقيسلي اميس الشيوعي الذي خرج علي حزبه بعد أحداث المجر في 1956 . فقد عاب مارتن في كتابه الجديد "كوبا (اي ستالينن وكوبا اسمه الحركي) البعبع" علي الشيوعيين الروس انهم سيسوا النوم وقد بد كبيرهم لينين ذلك. فقد قال ناقد للينين عام 1910 إنه قد وجد صعوبة في التعامل معه. وأضاف كيف يمكن للمرء ان يتعامل مع أمرؤ تأخذ الثورة بشغاف نفسه وعقله علي مدار ساعات اليوم الأربع وعشرين، والذي لايطرأ علي باله غير الثورة شاغل، والذي لا  يحلم حين ينام بغير الثورة. تم تبعه خرتشوف الذي قال ان  البلشفي يحس ببلشفيته حتي في النوم.

والموكب تسييس للمشي بوجهين. فالموكب الماشي نفسه كتاب سياسي مفتوح يقلب صفحاته علي طول الشارع ليقرأه الناس. ومن الجهة الاخري فالمشارك في الموكب، والموكب الماشي الصامت بالذات، تستغرقه السياسه وتغلب عليه بما في ذلك سياسات ليست الاصل في الموكب. وقد وجدت نفسي في سيري الصامت اخلو الي نفسي وافكر في الحرب التي لا مهرب من وقوعها بعد أقل من ساعتين في ذلك اليوم. وهي حرب تحور هدفها بشكل درامي الي تغيير نظام العراق، ووفق برنامج لم يتفق بعد علي سرعة انجازه، بآخر قائم علي الديمقراطية ومتمتع بالحداثة. ومن زوايتي في هذا الموكب بدا لي فساد هذا المطلب في بناء الامم. فقد بدا لي الموكب نفسه شاهد إثبات علي خطل المطلب. فأهل الموكب قد استحضروا ذكري قينز الذي لم يكن بعض الامة الامريكية منذ ستين عاماً وهي التي تأسست منذ  قرنين علي دستور صريح في خلق الناس السواسية علي صورة الرب وأمام القضاء وفي طلب السعادة الدنيوية. ولم يستحضر الطلاب السود ذكري قينز اعتباطاً بل لتعكس اكثر حسهم بأن الأمة لم تظلهم بظلها بعد. ودونك هجمة المحافظين والجمهوريين علي جامعة ميتشغان التي تنهج سياسة تمييز السود الايجابي في القبول بكلية القانون حرصاً للحاقهم بقطار الامة الذي فاتهم حين أوصدت تلك الكليات بابها في وجه قينز وغير قينز.

وددت لو أن الرئيس بوش ثبت علي خطه الانتخابي الذي دعا فيه الي أن تكف امريكا عن بناء الامم مفروشة للآخرين مما كان تفعله إدارة كلينتون. وهي الادارة التي ركبها النازع الخيري الإنساني الذي جسدته السيدة اولبرايت. وقادها ذلك الي التدخل في نزاعات اقليمية نجحت في إطفاء نارها في حين لم تنجح بعد في الخروج من تورطها العسكري فيها علي تطاول الزمن. كما استخدمت ادارة كلينتون العقوبات الاقتصادية باسراف لفرض مثالها الاخلاقي علي الدول. ووعد بوش أن يراجع كل ذلك وأن يرد الولايات المتحدة الي التواضع حيال الآخرين وتقديم خبرتها لهم بغير غرور. ووقعت احداث 9-11 . والباقي معروف.

لو ثابر بوش علي خطته في بذل الخبرة الامريكية بتواضع لقال إن بلده لم يبن بغير بنيه ولم يبن ايضاً دفعة واحدة. لقد بدأت امريكا وطناً للذكور البيض البروتستانت من ساكني الجنوب الامريكي مما جري اختصاره في عبارة (wasp ( . فامريكالم تكن( وماتزال بشكل ما) وطناً نهائياً للكاثوليك او السود والاقليات عموماً أو النساء. ولم تتوطن هذه الجماعات في الوطن الا بعد لأي وكدح طويل مثل المعروف من تارخ السود أو النساء. فلم تنل النساء حق التصويت الا في 1919  ولم يدخل السود في حساب الوطن بصورة ما الا بعد حركة الحقوق المدنية التي قادها مارتن لوثر كنج في ستينات القرن الماضي. غير أن مما يحسب من عقل وسداد أمريكا أن دستورها بمرونته ومعانيه السامية العامة اتسع للجماعات التي اهملتها الامة متي ما صدق عزم تلك الجماعات وصابرت في استرداد نفسها إلى الوطن الذي خلعها  ودفعت مهر حريتها ومواطنتها. فلم تقم أمريكا من أول يوم وطناً للجميع كما قد يخطر للإدارة الامريكية حالياً في سياق مشروعها المنفلت لبناء الامم نيابة عن من ضاقت بتباطؤهم في بنائها بانفسهم. ومع ذلك لم تتأخر صفوتها الحاكمة عن "استرداف" هذه الجماعات الخالفة عن الأمة متي لم يعد يجدي التعامي والاهمال. وماتزال امريكا،كأمة، عملاً يتخلق اي أنها "work in progress "  كما يقولون.

ولو تواضعت امريكا بالكف عن التبرع ببناء الأمم المفروشة لتوقفت عند متاعب اؤلئك الذين لم ينجحوا في بناء دولهم علي معاني الحداثة والديقراطية. فمن الاسئلة الشاغلة للدارسين كيف أخفق المسلمون في تنزيل المشروع الحداثي الذي اقبلوا عليه منذ طرق ابوابهم بعنف فظ بعد هزائم الدولة العثمانية الباكرة وبعد حملة نابليون علي مصر في 1798. فقد شغفت الصفوة المسلمة التي عركت الحداثة بمعانيها واخذت منها أخذ واثق ودعت لهها دعوة تنوير تريد أن تصطحبها في تجديد حياة المسلمين. فقد روي ان رفاعة رافع الطهطاوي (1801 -1883)، الذي عاش في باريس لخمس سنوات، قد عاد لبلده مؤمناً بتحرير الرقيق وحقوق المرأة ايمان ممارسة لا ملاسنة. فأوقف من اطيانه 63 فداناً خصصها للانفاق علي الارقاء الذين اشتراهم وحررهم. وجعل العصمة في الطلاق لزوجته أذا تزوج باخري او حتي تسري. فهي طالقة ثلاثاً بمجرد العقد وكذلك اذا تمتع بجارية ملك يمين. وقد تزوج بعد وفاة زوجته من إحدي الجواري واحسن اليها. وقد فاق بصنيعه في طلب الحداثة معاصره الرئيس الامريكي توماس جفرسون (1743 -1826)، الذي كان الخيال المدبر وراء صياغة الدستور الامريكي الذي قضي بأن الناس سواسية كأسنان المشط. فقد احتفظ جيفرسون برقيقه وتسري بواحدتهن هي سالي هيمنغ. وكان هذا حديث الخاصة و العامة منذ نحو سنتين بعد كشوف ل (DNA) طابقت بين دم حفدة سالي ونسل جيفرسون.

 ومن اغرب ما وقع في باب اقبال المسلمين علي الحداثة بغير عكر قرار أحمد بيه حاكم تونس (1833-1855 ) (من قبل الخلافة العثمانية) بالغاء الرق قبل ان ثقدم تركيا نفسها علي هذا الالغاء. ففي 1842 أوصد البيه ابواب سوق الرقيق وازال الضريبة المفروضة علي التداول فيه ومنع استيراد الرقيق أو تصديره وأعلن أن كل من يولد في منبت رق فهو حر من تاريخه. وزاد في 1846 بان قرر تحرير كل الرقيق في البلد. والذين تساءلوا عن دوافع البيه لهذا الموقف من الرق اعتبروا أثر موقف اوربا المحارب للرق وحضورها الكثيف القوي في دولة آل عثمان. كما اعتبروا رغبته في قراره المبادر ان يستقل بأمره عن السلطان العثماتي ما استطاع. غير ان الدارسين ميزوه بقولهم أيضاً أن البيه شغف بالحداثة والتزم بلوازمها. وقد خاطب البيه مجلس تونس التشريعي في 1846 قائلاً إنه قد قضي بتحرير الرقيق لما انتهي اليه من أن اصحاب الرقيق يسومون رقيقهم الخسف الذي لا مسوغ له في الشريعة التي  تجعل الحرية مطلوباً عزيزاً علي الناس وتلزم الحاكم بتحرير الرقيق اقتداراً متي ما صح له اضطهادهم بواسطة اسيادهم. وسأل البيه اهل الزوايا الدينية ان يستخرجوا وثيقة الحرية لكل من جاء من الرقيق يطلب ذلك. ومن الطريف ان مبادرة تونس جذبت انتباه امريكا التي لم تكن حررت رقيقها بعد. فقد بعث قنصل أمريكا في تونس رسالة الي حسين باشا والي تونس في 1863 يسأله عن توفيق دولته في تحرير الرقيق. وجاءه الرد ينبيء بنجاح التجربة وينعي علي امريكا تشبثها باسترقاق الناس ناصحاً القنصل أن يعلم ان تحرير الرقيق لن ينتقص من شوكة بلده وانما يزيدها حمداً للرب الذي اسبغ عليها من فيض نعمه الكثير.  وتابع الباشا قوله: "لقد بلغتم مقاماً سنياً من الحضارة لا يجمل بكم بعده ان تتمثلوا بمن غطى الله علي ابصارهم وقلوبهم وقنعوا من خير الدنيا بما علموا من سلفهم." وواصل قائلاً أن الشفقة الانسانية والمودة تقتضيكم أن تنقوا حريتكم من وسخ شح النفس الذي يؤذيها ويفسدها." واظهر الوالي حزنه الشديد للحرب الأهلية التي تدور رحاها في أمريكا وقال إنها حرب تثقل علي الانسانية قاطبة وأكد له تعاطفه المؤكد مع رقيقها البؤساء وصداقته المؤكدة لدولتها. فتأمل.

 لو وقفت أمريكا اليوم علي سبب انهيار المشروع الحداثي بين المسلمين لعلمت ما وقاها شر ما تتورط فيه الآن من انتهاك لبلدان مسلمة وقوم مسلمين. فقد تساءل باحث مثلاً لماذا استدامت الحداثة في اليابان، وكانت أخذت بها مرغمة في ظل حكم ملوك الميجي في القرن التاسع عشر، ولم تدم حداثة مصر التي تبناها الخديوي محمد علي باشا في نفس التاريخ. وأكبر الاسباب علي سداد حداثة اليابان وخيبة حداثة مصر أن اليابان ظلت متمتعة بسيادتها الوطنية بينما خضعت مصر للاستعمار البريطاني بعد احتلالها في 1822 واستمرار سيطرته علي مقاليد الامور فيها حتي بعد أن استقلت في 1923. ويضرب الباحثون مثلا آخراً في كيف تفسد الحداثة بالاستعمار. فقد توصل صفوة شعب الفانتي بغانا الحالية في  1867 (وهو نفس العام الذي تبنت فيه اليابان دستوراً حداثياً) الي دستور لدولتهم مستلهماً من أوربا. وهذه الصفوة كانت تأثرت بالوجود الانجليزي التبشيري والتجاري علي شواطيء بلدهم منذ القرن السادس عشر وتعلموا علماً غربياً هداهم الي اصطناع ذلك الدستور. وظنوا أنهم قد بلغوا أوج الحداثة والرقي. غير ان بريطانيا قررت في نحو آخر القرن التاسع عشر، وفي حمي اقتسام افريقيا بواسطة اوربا، أن تغزو الفانتي وكل شعوب غانا الحالية وان تمدنهم وتحدثهم بالقوة الجبرية. ولم تبلغ غانا من الحداثة شيئا مذكورا حتي استقلت في 1957.

ليس في خبرة امريكا ولا العالم كما عرضناهما ما يفيد أن بناء الأمة هي شغل يتم بالوكالة او يطرد بسرعة لم تتهيأ لها الأمة. ومن الثابت فوق ذلك كله أن هذا البناء يتم في شرط السيادة الوطنية بالغاً ما بلغ البلد المعني من السوء. فاكبر عدة بناء الوطن الخيال الطليق الذي لا يعقب عليه محتل او مستعمر او مشفق. وقد كتبت في حديث الاسبوع الماضي اصف كيف استصحب جيل مؤسسي امريكا طلاقة الخيال لبناء أمة كانت علي وشك أن تتفرق أيدي سبأ.

وكان مشواري المسيس لاحياء ذكري قينز مناسبة لاسترجاع منطقة من مناطق النقص التي بقيت في بناء الامة الامريكية بعد قرنين من تأسيسها علي عال خيال صفوتها المسترسل .وأفقت من تأملاتي هذه إلى من نبهني الي قوس قزح الذي انتشر علي حافة السماء من علي يسارنا. واشتغل من حولي بتدوال ما يرمز اليه قوس قزح في ثقافتهم. وقال قائل إن الايرلنديين يعتقدون أن عند طرف النهاية من القوس برمة ملئية بالذهب من وجدها اغتني حتي جني الجني. وقال آخر إن للهنود الحمر أسطورة ذكية عن القوس. فمن حكاياتهم في منشأ قوس قزح أن الالوان اجتمعت يوما وأخذ كل لون في اطراء جماله وبهائه حتي تصايحت الالوان وعلت أصواتها واضحت علي شفا خصومة وفتنة. وفجأءة شلع براق، وارزمت السماء وارعدت، وانهمر المطر بغير وازع. وارتعدت فرائص الألوان من فرط الخوف وتقاربت وتحاضنت تلتمس الأمن. وهنا تحدث المطر اليها ووبخها علي طيشها ونزقها وخصومتها وطلب منها متي صب المطر في المستقبل أن تتلاقي وتتعانق وتأتلف في قوس من الألوان تذكيراً لها أن الأمن في العيش بسلام.

ماذا أراد قوس قزح ذلك اليوم ان يوحي لنا في خطونا المسيس ندعو فيه بالرحمة لقينز وقبل ساعتين من انذار بدء الحرب العراقية التي وقعت واقعتها بالفعل؟ ماذا؟

 



© Copyright by sudaneseonline.com