From sudaneseonline.com

بقلم :د/عبدالله علي ابراهيم
عبد الخالق محجوب )1927-1971): في كلمتين تلاتة/عبد الله علي إبراهيم
By
Sep 26, 2010, 01:28

 

 

عبد الخالق محجوب  )1927-1971): في كلمتين تلاتة

عبد الله علي إبراهيم

قال كاتب ماكر للشيوعيين على منبر السودانيزأونلاين مرة إن كان بوسعهم تعريفه باستاذنا عبد الخالق محجوب "في كلمتين تلاتة". ولا أذكر من أروى غليله أو حاول. وعاجوا إلى "عتالة" النصوص الشعرية والغنائية من مراثي المرحوم العتيقة من لدن "الفارس معلق" حتى ما شاء الله. وربما كانت هذه البضاعة الشعرية هي التي كرهها السائل وأرد للشيوعيين أن يحكوا نثراً عن رجل بكوه بالدمع الغزير . . . المقفى. ولا يحسنون مع ذلك تقديمه لمن قد يبكي معهم متى ميزوا بكائهم نثراً. وبالمناسبة ينسى الشيوعيون ذكر واحدة من أفضل مراثي أستاذنا وهي التي كتبها الشاعر الخواض. ففيها سليقة عجيبة.

وضعتني "موسوعة التراجم الأفريقية" (تصدر عن دار أوكسفورد للنشر) حيث وضع الماكر شيوعييّ سودانيزأونلا ين. قالت لي نريد لك أن تكتب لنا النبذة عن عبد الخالق في "كلمتين تلاتة" وهي 750 كلمة تنقص ولا تزيد. ووجدت عنتاً كثيراً في كتابة مطلوبهم. بدأت بنحو 3000 كلمة ثم اقتصدت. وجاء وقت بلغت الألف كلمة ورفعت يدي لأنه في ما بدا لي لم يبق من الرجل شيء. بل قلت للمحرر خذ ما عندي وافعل ما بدا لك به فالرجل لن يحتمل مزيد "سولبة". ولا اريد أن أشهد هذه السولبة متى وقعت. وعدت مكرهاً ووفقت إلى ما أترجمه أدناه في مناسبة مرور 83 عاماً هذا الشهر على مولده رحمه الله وأحسن إليه وبارك في ذريته.

 

كان عبد الخالق سكرتيراً للحزب الشيوعي (الذي تأسس في 1946) منذ 1949 حتى إعدامه بصورة تراجيدية في 1971 على يد الرئيس جعفر نميري بعد انقلاب فاشل منسوب للشيوعيين. ويتذكره جيله دؤوباً في التفكير حسن الإطلاع. وقد أسف الطيب صالح، الروائي المعروف وزميل دراسته، ترك عبد الخالق مواهبه الأدبية بعد إدراك السياسة له.   

احتك عبد الخالق في مصر، التي طلب العلم فيها بعد تركه كلية غردون التذكارية في 1946، بالحركة الشيوعية المصرية الحامية. والمفتاح لفهم تحوله إلى ثوري متبتل في درس زمالته لهنري كوريل الزعيم الشيوعي المصري من أصول يهودية. ورد عبد الخالق دعوته بين الطبقة العاملة ولأجلها إلى عطلة جامعية قضاها في عطبرة في 1947 بصحبة نقابيين جذريين إبان تكون أول نقابة لعمال السكة الحديد. وتذكر تلك الأيام في دفاعه أمام المحكمة العسكرية (1959) بأنها عزيزة عليه كشفت له عن حيوية الطبقة العاملة السودانية وفحولتها.

    اكتنف صعود عبد الخالق لقيادة الحزب صراع كثير وانقسام. وكدارس جيد باكر لتاريخ الحزب اعتقد عبد الخالق بأن نمو الحزب وتجذره بين العمال يكمن في تصفيته من افكار وظلال أفكار الطبقات غير العمالية. ففي تاريخه للحزب الصادر في 1965 تجده يطابق بين صعوده لقيادة الحزب وإطراد "برتلة أو عملنة" الحزب أي صيرورته بروليتارياً أو عمالياً. ويتفق معه في هذه الخلاصة الدكتور محمد نوري الأمين، المؤرخ المثالي للحزب الشيوعي، مع اختلافه في زاوية النظر ومنطلقها. فقد وثق نوري بدقة لفتح عبد الخالق الشيوعي في الحزب خلال صراعه صوب القيادة. وينظر نقاد عبد الخالق بإنزعاج لصعوده المدوي الذي خاض فيه بحر الانقسامات غير هيَّاب ويصفونه بالمكر والقسوة. فوصفه الشاعر صلاح أحمد إبراهيم، وعضو الحزب الشيوعي السابق، بأنه مثل "أنانسي" وهو العنكبوت الماكر (مثل ابو الحصين عندنا) في مأثور غرب أفريقيا.

وأحاط غبرائيل واربوغ، المؤرخ الإسرائيلي للسودان، بمرونة عبد الخالق محجوب في مسائل القومية والدين وقال إنها جعلت منه أكفأ القادة الشيوعيين في المنطقة. وردت رقية ابو شرف، الأنثربولجية وبنت أخت  عبد الخالق، هذه المرونة إلى سودنته للماركسية. وقد أبان عن هذه السودنة في دفاعه أمام المحكمة المذكور أعلاه. فبرغم عزته بالماركسية إلا أنه عَلِم كلينيني أنه لن يجد حلاً لمسائل السودان مطوية بين دفتي كتاب شيوعي. وقال في دفاعه إن الماركسية هجمت عليه بين جيل ما بعد الحرب العالمية الذي صحا على صوت الوطنية وظل شقي الروح يطلب وطناً حراً. وأزدوجت أزمة هذا الجيل. فجاءته من جهة التعليم الاستعماري الضنين كما جاءت من جهة الوطنيين الذين تسمروا عند مجد السلف العربي الإسلامي بصورة لم تخاطب المستقبل أو تأخذه في الاعتبار. ووقع عبد الخالق وهو يتخبط مع جيله بين المؤثرين على كتاب ستالين "مسألة الاستعمار" فدفعه ليعيد التفكير في مسائل الإمبريالية والرغائب الاستعمارية والعتو والعنف والحوكمة. وخلص إلى أن نضالاً تحررياً مثل الحركة الوطنية لا بد له أن يسترشد بنظرية تهز  هزا علم الاستعمار وإزرائه بشعوب بأسرها . 

إنشغل عبد الخالق بجدوى الماركسية لحركات إجتماعية في بلد مسلم. فالماركسية عنده ليست اعتزالاً للتقليد. ولم ير في قبوله لها "تحولاً عن دين إلى دين". وجاءت أفضل نظراته في هذا الشأن بعد حل برلمان جائر لحزبه في 1965 بتهمة الإلحاد. فحين احتج على "استغلال الدين" لم يرد للناس ان تفهم أنه إنما يدافع عن فكر "مستورد" غريب الوجه واليد واللسان. وبدلاً عن الدفاع أوصى بالهجوم بأن يأخذ الشيوعيون بناصية "يوتوبيا" الإسلام التي ينفعل بها المسلمون العاديون في طلبهم الحثيث لمجتمع طيب. فأفضل ما تكون الماركسية حين نقدمها للناس كخدمة فكرية يجدد بها المسلمون هويتهم وينعشون مصادرها في إبتلائهم بعالم متغير. فمتى اشتبكنا مع "خيال المسلمين" في طريق الابتلاء هذا ضعف تأثير مؤدلجي الدين ومستغليه. 

كان عبد الخالق، النائب البرلماني في 1968، ذا عقيدة قوية في الطريق الديمقراطي للاشتراكية. فكان من رأيه أن للحقوق الديمقراطية فعل السحر. فقد أفاق بها العمال للنقابة وخطرها في حياتهم. وهم سيصِلون  في وقتهم المناسب إلى الاشتراكية من فوق ممارستهم للحقوق الديمقراطية البرلمانية. وتفسر قناعته هذه وقفته الصماء ضد فرض" الديمقراطية الجديدة" بإنقلاب عسكري. وأسس بذلك لعلاقة استراتيجية بين النضال للديمقراطية والنضال للاشتراكية. ولم تفت هذه المأثرة على بن تركوك، الناشط الماركسي جنوب الأفريقي، فوصفها بأنها "عجيبة جداً" لأنها برغمانية ولكنها مبدئية في نفس الوقت. وهي التي ميزت الحزب الشيوعي السوداني عن غيره ممن راوغتهم هذه الاستراتيجية طويلاً.

وبلغ عبد الخالق الغاية من موازنة قوميته وأمميته وشقي في الأثناء. فقد رفض مرتين عرضاً سوفيتياً ليتأخر الشيوعيون لتتقدم عليهم قوى وطنية أخرى استصفاها السوفيات. فبينما استبشر بعلاقات نظام عبود (1958-1964) الحسنة مع الاتحاد السوفيتي إلا أنه احتفظ لحزبه بحق تحليل الوضع الطبقي السوداني ومترتباته بغير تدخل من أحد. وثارت عليه ثائرة شيوعييّ شرق أوربا حين رفض أن يتأخر ليتقدم  نميري وزمرته (ممن يسميهم السوفيات بالديمقراطيين الثوريين) الركب الثوري ووصفوا موقفه المستقل من انقلاب نميري "الاشتراكي" بأنه "غير مفهوم" و"عقائدي قح".

سأله نميري وهو بين يديه بعد فشل انقلاب يوليو 1971: "ماذا فعلت للسودان؟" قال: "قليل من الوعي". وكانت تلك شهادته التي سارت بها الركبان.

 

 



© Copyright by sudaneseonline.com