From sudaneseonline.com

بقلم :مصطفى عبد العزيز البطل
سنوات النميري: الصياغة القلندرية للتاريخ (1)/مصطفى عبد العزيز البطل
By
Sep 22, 2010, 13:27

غربا باتجاه الشرق

سنوات النميري: الصياغة القلندرية للتاريخ (1)

مصطفى عبد العزيز البطل

[email protected]

 

(1)

بين يدي نسخة من كتاب أهداني إياه مؤخراً الصديق العزيز ناظم إبراهيم علي، يحمل عنوان (سنوات النميري: توثيق وتحليل لأحداث ووقائع حكم 25 مايو في السودان)، وقد صدر عن مركز عبد الكريم ميرغني بالخرطوم. مؤلف الكتاب هو اللواء (م) محمود قلندر. وأنا أعرف عن المؤلف أنه حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة جنوب كاليفورنيا بالولايات المتحدة، وعمل محاضراً في جامعات عربية وعالمية، إلا أن اسمه يظهر في غلاف كتابه بدون حرف الدال. وليست هناك من غرابة في هذه النقطة تحديدا. إلا أنني لاحظت عند مطالعة النبذة التعريفية الواردة في غلاف الكتاب الجانبي أنها تحتفي برتبة "اللواء"، التي بلغها المؤلف أثناء خدمته بالقوات المسلحة احتفاءً ظاهراً، اذ يتم تثبيت المعلومة بزخم لا تخطئه العين، حيث تجد عبارة (وصل إلى رتبة اللواء)، فى الوقت الذى تهمل فيه لقب "الدكتور" إهمالاً تاماً فلا تذكرها بالمرة، ولا تشير من قريب أو بعيد الى حصول المؤلف على الدرجة، ولا المؤسسة الأكاديمية المانحة، ولا موضوع اطروحة الدكتوراه، وهو أمر يسترعي النظر. لا سيما وان درجة الدكتوراه في هذه الحالة بعينها تعزز أهلية المؤلف وتعضدها من الوجهة الموضوعية، وتمنحه مشروعية، وتسبغ عليه سلطة علمية تضيف الى قيمة العمل الذي نهض اليه.

غير أن تلك الملاحظة أعادت الى ذهني على الفور وقائع لقاء اجتماعي قديم بيني وبين ممثل السودان السابق في الأمم المتحدة، الفاتح عروة، أثناء حفل زفاف بأحد فنادق نيوجيرسي بالولايات المتحدة. قلت للرجل: (أنت الآن سفير، وقد شغلت من قبل منصب وزير دولة فهل تريدني أن أناديك سعادة السفير أم سيادة الوزير؟) رد على الفور: (لا هذا ولا ذاك. نادني اللواء الفاتح عروة، فهو أحب لقب عندي. أنا عسكري، ومهما كانت رفعة أي لقب دستوري أو وظيفي أو أكاديمي يحصل عليه ضابط القوات المسلحة في حياته، فإن رتبته العسكرية تبقى أعز شيء عنده، لا يستبدلها بألقاب الدنيا ومناصبها). ويبدو أن مؤلفنا على دين اللواء عروة ومذهبه. والحال كذلك فمن الخير لنا أن نناديه كلما احتجنا الى استدعاء اسمه باللقب الذي يبدو انه يعتز به أكثر من غيره: اللواء محمود قلندر.

(2)

استوقفتني في عنوان الكتاب كلمتي: "توثيق وتحليل". فهو إذن كتاب يوثق للأحداث والوقائع ثم يحللها. ولا ريب عندي في أن المؤلف مؤهل تماماً لممارسة هذين الفعلين. ليس فقط من حيث الكفاءة العلمية وقدرات التثبّت المنهجي، بل ولأنه من المعاصرين، معاصرةً لصيقة، للحقبة الزمانية التي يعالجها، بل من المشاركين الى حد ما في صناعة أحداثها ووقائعها. وأكاد أجزم بأن الله لو كتب لنظام مايو أن تمتد حياته فلا يسقط وينهار بنيانه في أبريل 1985م لكان للواء محمود قلندر شأن في الدولة المايوية، وأي شأن. إذ كان الرجل رئيساً لتحرير صحيفة "القوات المسلحة" لست سنوات متوالية، امتدت من 1979م وحتى اندلاع الانتفاضة الرجبية في 1985م. وكان نجمه قد بدأ في السطوع والالتماع عند أخريات العهد المايوي. ذلك الصنف من الالتماع الذي يعرفه ديوانيو القصور الرئاسية المايوية من القريبين الى دوائر السلطة. وآية ذلك أن الرئيس السابق جعفر نميري كلفه شخصياً بصياغة بعض خطبه الرئاسية. واذا عرف النميري اسمك الثلاثي، ووقف على بعض قدراتك ومهاراتك الى حد أن يكلفك بصياغة خطبه، فذلك معناه أن تأخذ مكانك في طابور الاستيزار. والأمر هنا أمر وقت لا غير!

كان قلندر إذن على درب سلفه، رئيس تحرير صحيفة "القوات المسلحة" السابق المغفور له العقيد محمد محجوب سليمان، الذي أصبح مستشاراً ووزيراً مقمراً كامل الاستدارة ضمن حاشية القصور الرئاسية المايوية. وقد تتلمذ قلندر على يد العقيد محمد محجوب سليمان. وتلمذته عليه تحدث عن نفسها، فما أن تقرأ السطور الاولى من "استهلال" المؤلف عند الصفحة التاسعة من الكتاب، ثم تتابع صفحاتها حتى نهاية الاستهلال فى الصفحة الرابعة عشر، حتى تدرك التشابه الكبير بين اسلوب الرجلين فى نحت الحروف وتخليق الكلمات وتعبئة الأفكار فى القوالب اللغوية ذات الجرس، على نحو يترسم خطى عملاق الصحافة العربية محمد حسنين هيكل.   ما علينا، فهذا أيضاً مدخل من مداخل النميمة، التي ما نلبث أن نجد أنفسنا - أنا وأنت - أعزك الله، وقد وقعنا بين حبائلها غداة كل أربعاء نلتقى فيها. غفر الله لي ولك، ووقانا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وجعلنا من عباده المتواصين بالحق، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

(3)

كتب مقدمة الكتاب البروفيسور حسن أحمد إبراهيم، رئيس شعبة التاريخ بكلية الآداب بجامعة الخرطوم، وعميد كلية التربية الأسبق. وقد لاحظ في مقدمته - محقاً - أن الفترة الممتدة عبر تاريخ السودان الحديث بدءاً من غزو الوالي العثماني محمد علي باشا للسودان عام 1820م، وانتهاءً بتحرير البلاد من قبضة الاستعمار في منتصف القرن العشرين قد نالت نصيباً وفيراً من البحث والتحقيق تمثل في الأعداد الكبيرة من الأطروحات والرسائل الجامعية والكتب والتراجم. بينما بقيت حقبة نصف القرن الممتد من الاستقلال في 1956م وصولاً الى يومنا الحاضر، والتي يطلق عليها البروفيسور تسمية "السودان المعاصر"، في أمس الحاجة لعناية الباحثين والدارسين. ومن هنا تجئ قيمة الكتاب الذي نعرض فى يومنا هذا لبعض صفحاته فنقلبها تقليباً. كما استحسن كاتب المقدمة اختيار المؤلف لعنوان كتابه "سنوات النميرى"، بحسبان ان الرئيس الأسبق كان مركز ذلك العهد ومحوره، وهو العهد الذى تقلبت خلاله الدولة النميرية من أقصى اليسار فى بداياته الى أقصى اليمين فى نهاياته.

(4)

بيد أنني عجزت تمام  العجز عن إدراك مغزى تطرّق البروفيسور حسن أحمد إبراهيم في تقديمه للكتاب لسيرة مقال كتبه اللواء محمود قلندر عقب انقلاب الإنقاذ مباشرة في العام 1989م. وقد جاء في المقدمة: (ولعله من المناسب أن نذكر هنا مقاله الشهير بعنوانه الاستنكاري "هل هؤلاء الرجال جبهة؟"، الذي نشرته جريدة "القوات المسلحة" عن هوية النظام الحالي في السودان). والحق أن اللواء قلندر الذي عهدت اليه العصبة المنقذة، عقب انقلابها في يونيو 1989م، بالاستمرار في رئاسة تحرير صحيفة "القوات المسلحة"، كان قد كتب بالفعل ونشر ذلك المقال. ومحتواه الأساس هو نفي ما تردد وقتها من أن الجبهة الإسلامية القومية تقف وراء الانقلاب، والتأكيد بكلمات قاطعة على أن مدبري الانقلاب وقادته لا صلة لهم بحزب الحركة الإسلاموية. السؤال الذي جال بخاطري هو: لماذا وجد البروفيسور (من المناسب) أن يذكّر القارئ بذلك المقال؟! ما هو "المناسب" في تذكير الناس بنقطة من نقاط الانخفاض في سيرة المؤلف الذاتية عند التقديم لكتابه؟ بينما التقليد السائد هو أن يحيط كاتب المقدمة مؤلف الكتاب بعين العطف، فيعمد الى تنوير القارئ عن البؤر المضيئة في حياة المؤلف، التي تقدمه لقارئه كعقل ذكي ومضئ وصائب، لا كمحلل مرتبك وقمئ وخائب!

المؤكد بما لا يدع مجالاً للشك هو أن المقال المشار اليه لا يمثل  نقطة بروز، ولا يشكل معلماً إيجابياً في مسار المؤلف الاحترافي ككاتب قيادي وكمحلل سياسي. بل على العكس فإن زعم المؤلف وتأكيده في مقال منشور بأن الانقلاب لا تقف وراءه الجبهة الإسلامية إنما يأتي - عند التقويم الموضوعي - خصماً من رصيد المؤلف، وقدحاً في قدراته التحليلية، بل وربما تشكيكاً في كفاءته الأخلاقية. إذ لو كان المؤلف يؤمن بالفعل أن الانقلاب لم تكن وراءه الجبهة الإسلامية، وبشر الشعب بذلك، في وقت كانت فيه الحقيقة - التي هي بخلاف ذلك - متوفرة عند رعاة الضأن في الخلاء لكانت رزيته كبرى. أما لو كان الرجل على بصيرة من الأمر، ولكنه اختار طوعاً واختياراً أن يشارك في مخطط التدليس والتلبيس فإن الرزية أمحق وأشنع  وأضل سبيلا. وعموماً فأنا أنصحك - رعاك الله - إن كنت تفكر في تأليف كتاب وطرحه على الناس، وتبحث عن شخصية ذات وزن علمي وثقافي تأنس اليها فى أمر تقديم نفسك وكتابك الى القارئ، أن تتفادى بطلبك البروفيسور حسن أحمد إبراهيم. هو عالمٌ جليل بغير شك. ولكن أن يقدّم لكتابك فيفضحك بين الورى حيث يجب الستر، فلا، وألف لا!

ويبدو لى - والله تعالى أعلم - أن شبح ذلك المقال الشهير ظل يطارد المؤلف عبر دورات الزمان، مثلما حذاء الطنبورى. وليس أدل على ذلك من أنه عاد بعد مرور أكثر من عشرين عاماً فتطرق اليه فى مقال نشرته صحيفة "الرأى العام" بتاريخ الرابع من يوليو 2010 واختارت له عنوانا: (عودة بعد عشرين عاماً)، وقد جهد صاحبنا من خلاله  فى صد الشبهات عن نفسه فكتب: (وما لم اتصوره هو ان يذهب الظن بكثيرين ليقرروا ان كاتبه تآمر بليل، وعقد صفقة مع أصحاب الحركة، او ان صاحبه بيّت النية ليكون جزءاً من منظومة الخدعة التى يعتقد البعض ان مدبرى الحركة دبروا أمرها قبل تنفيذ تحركهم). ثم قدم صاحبنا تبريراً لمسلكه وتفسيراً لمقاله فكتب: ( كان المقال دعوةً ورجاءً ألا يكون للجيش ميل. كان المقال تذكيراً بما ينبغى ان يكون عليه الحال، وأملاً فى أن يظل الجند ملتزمين بشعب ومتجاوزين لكل حزب). ولأننا مؤمنون بالله، والمؤمن صديق، فاننا نبادر فنبلغ المؤلف بصفةٍ رسمية، من فوق منبرنا هذا، أننا نصدقه ونقبل عذره، فليقر عيناً ويهدأ بالاً.

(5)

 جاء الفصل الأول من الكتاب تحت عنوان (سنوات ما قبل نميري). وقد أُريد من هذا الفصل أن يبسط أمام القارئ الواقع السياسي والعسكري الذي تضافرت عناصره لتشكل خلفية انقلاب الخامس والعشرين من مايو 1969م، وذلك بطبيعة الحال من وجهة نظر المؤلف، الذي يعتقد اعتقاداً جازماً بأن أحوال البلاد السياسية كانت من السوء والتردي بحيث كان الانقلاب مخرجاً طبيعياً من الحال الذي آل اليه أمر السودان. وقد وجدت نفسي على خلافٍ بيّن مع المؤلف في تقويمه للواقع السياسي للفترة ما قبل 1969م. بعض الخلاف موئله الحقائق كما هي على أرض الواقع ومعالجة المؤلف لها. وبعضه الآخر يدور حول ما بدا لي انه ميل شاطح من لدن صاحبنا الى تهويل الأمور وتضخيمها على نحو انتهى به الى تصوير بعض التطورات السياسية التي شهدتها بلادنا خلال سني الديمقراطية الثانية وكأنها شرور ماحقة وكوارث ساحقة، بينما هي في تقديرنا لا تعدو ان تكون في جوهرها بعضاً من مقتضيات التنمية السياسية الطبيعية في دولة نامية مثل السودان، لم تكن قد عرفت من الديمقراطية في عمرها منذ جلاء المستعمر غير سنين قلائل وأشهر معدودات.

من أكثر العبارات التقريرية تداولاً في تحليل المؤلف عبارات مثل (الانشطارات والانشقاقات داخل الكيانات السياسية)، و(استشراء داء التشقق في كل الكيانات بصورة وبائية). وقد بذل صاحبنا جهداً جهيداً في رصد ما حسب انها "حالات الانقسام" التي شهدتها الأحزاب السياسية السودانية خلال السنوات الاربع الممتدة بين عامي 1965 و1969م، ثم جعل من تلك الحالات عاملاً مركزياً من العوامل التي عجلت بـ(الثورة) وحتمتها وجعلت منها أمراً واقعاً لا محيص عنه. ولكن التاريخ المعاصر يحدثنا أن التجربة الحزبية في السودان خلال ذلك العهد كانت - كما سبقت الإشارة - تجربة وليدة. والواقع أن انقسام الأحزاب وانبلاج قوى وتيارات جديدة من داخلها ظاهرة عالمية عرفتها أعتى الديمقراطيات سواء في العالم المتقدم، أو في مصفوفة الدول النامية. وفي عالم اليوم فإن أحداً لا يرى في انشطار حزب الليكود وخروج حزب كاديما من أحشائه معرّة تنتقص من التجربة الديمقراطية الإسرائيلية. كما أن أحداً من الذين عاصروا تقلبات الأحزاب السياسية في الهند، أرقى ديمقراطيات العالم الثالث، أو أولئك الذين شهدوا انشطارات الأحزاب السياسية في إيطاليا وقصر عمر حكوماتها في سبعينات وثمانيات القرن المنصرم، التي أضحت مضرب المثل في زمانها سبباً للحكم بالإعدام على ديمقراطيات إسرائيل أو الهند أو إيطاليا أو غيرها.

(6)

ومع ذلك فإن عرض اللواء قلندر للواقع السياسي السوداني خلال الفترة موضع التقييم يتطلب منا ومنه وقفة مدققة عند تطورات الحياة السياسية خلال عهد الديمقراطية الثانية، نميز من خلالها بين "حساب" التاريخ و"كوار" قلندر. صحيح أن السيد الصادق المهدي قاد انشقاقاً في حزب الأمة، فانقسم الحزب الاستقلالي إلى قسمين. ولكن القائد المنشق كانت له أفكار واضحة خالف فيها القيادة التقليدية للحزب، ولم يكن الرجل معزولاً في أفكاره وتصوراته بشأن تطوير الكيان السياسي الذي انتمى اليه، بقرينة أن أعداداً مقدرة من قياداته في هياكل الحزب وأعضائه في البرلمان وجماهيره في الشارع آزرته وساندته وارتقت به الى سدة رئاسة الوزارة. وفكرة انقسام حزب وخروج كيان سياسي جديد من جلبابه نتيجة لمخاض فكري ورؤية سياسية معينة ليست ممارسة مستجده على مستوى الديمقراطيات العالمية، بل هو واقع معتاد يكون النظر اليه على انه صيغة من صيغ التنمية السياسية والتطور الديمقراطي، فلا تصلح بالقطع أن تكون سبباً لقيام انقلاب عسكري تحت دعاوى "التشقق" و"الانقسام" المستندة الى مقولات فشل التجربة وإخفاق القائمين عليها.

ويستطرد اللواء قلندر في مهمة وصم التجربة الديمقراطية بالفشل بسبب مزاعمه عن "الانشقاقات الحزبية" التي صدّعنا بها تصديعا، فيكتب عن الحزب الاتحادي: (أما على صعيد الحزب الاتحادي فقد شهدت أعوام الستينات صراعاً داخلياً  شبيهاً ولّد هو الآخر انشطاراً وانشقاقاً خرجت به ثلة من شباب وكهول الاتحاديين..). والعبارة فيما نرى تفتقر الى الدقة وانضباط المعنى وتميل الى التعميم المخل والتهويل الجزافي. فليس صحيحاً أن الحزب شهد انشطاراً من أي نوع. اذ ان الثلة التى التى أشار اليها اللواء قلندر وعرض أسماءها لم يحدث ان قادت انقساماً انشطارياً داخل الحزب، بل ان الحزب هو الذى قام بفصل هذه العناصر من خلال بيان شهير أصدره الزعيم اسماعيل الأزهرى، وكان من بين المفصولين الراحلين الاستاذ صالح محمود اسماعيل  والاستاذ موسى المبارك. الذي يقوله التاريخ هو أن هذه الشخصيات من ذوي التفكير الراديكالي قامت بعد فصلها من الحزب بانشاء صحيفة خاصة بهم أسموها (أكتوبر)، على أساس أنهم يتمثلون قيم ثورة الحادي والعشرين من أكتوبر، ويخالفون قيادة الحزب في بعض مناهج تفكيرها وإستراتيجياتها، وذلك اتجاه حيوي في الممارسة السياسية لا بأس به. ومهما يكن من شئ فقد انتهت هذه الجماعة الخارجة عن الحزب واقعياً الى ما يشبه الانتحار السياسي، إذ لم يتحقق لها في الواقع نفوذ ذو أثر في الحياة السياسية. واستمر الحزب الاتحادي بقوته وجبروته وسلطته الجماهيرية الضاربة دون أن يناله من هجران القوم شيء ذو بال. كيف إذن يؤخذ مثل هذا التطور على التجربة الديمقراطية فتعيّر به، وتُشتم، ويُنال من عرضها، ويتخذ من ذلك سبباً يسوّغ الانقلاب ويسوق له، بل ويجعله الحل الناجع لأزمات مصيرية مفتعلة لا وجود لها إلا في العقول الانقلابية القلندرية؟!

(7)

ويثير حيرتنا أن المؤلف واصل مسيرته القاصدة، يختلق الأسباب اختلاقاً لإثبات فساد الحياة السياسية ويبرر للانقلاب على الديمقراطية، فوقف عند حزب الشعب الديمقراطي، الذي ترأسه الشيخ علي عبد الرحمن فكتب عن الحزب: (وعلى مستوى الحزب الثالث الكبير وقتها، حزب الشعب الديمقراطي، فإن الأمر لم يكن بعيداً عن صورة غيره من الأحزاب). غير انه تذكر بعد مقولته تلك أن هذا الحزب بالذات لم يشهد أي تشرذم أو انقسام من أي نوع، فترك سيرة الانقسامات جانباً وانطلق لينعى على  الحزب ما أسماه بـ"تناقض مواقفه"، متخذاً من ذلك سبيلاً لتثبيت وتأكيد فساد الديمقراطية الثانية. أما "تناقض المواقف" فدليله عند قلندر هو أن حزب الشعب الديمقراطي الذي كان يستند على تعضيد طائفة الختمية، وهي طائفة دينية، اتخذ في واقع الممارسة نهجاً انتهى به الى التحالف مع القوى اليسارية. بل إنه بحسب قلندر تبنى في بعض المواقف شعارت الشيوعيين فوقف مواقف اليسار واستخدم تعبيرات الأدب السياسي التقدمي. اقرأ عند قلندر: (واستخدم الحزب من تعبيرات الأدب السياسي التقدمي ما بدا متناقضاً تمام التناقض مع واقع الحزب والطائفة، فقد استعمل قادته وصحافته عبارات الإمبريالية والرجعية والاشتراكية، وذخرت لياليه السياسية بترداد المقولات التي اشتهر بها التقدميون في ذلك الزمان). هذا إذن سبب جديد للانقلاب. كيف تكون حزباً يستند على دعم طائفة الختمية، ثم تتخذ مواقف سياسية يسارية؟! هذا عبث، ولا بد من معالجته بفوهات البنادق والدبابات!

والرصد التاريخي لحقائق تلك الحقبة يكشف لنا أن حزب الشعب الديمقراطي كان يضم في تياره الغالب عناصر مؤيدة للتجربة المصرية الناصرية، وهي تجربة اشتراكية يسارية في جوهرها. والمعروف أن طائفة الختمية قيادة وقاعدة ترتبط بمصر تاريخياً، أوثق رباط. واتخاذ حزب كهذا لمواقف يسارية بصفة عامة، أو الدخول في تحالفات مع الحزب الشيوعي السوداني، في إطار العلاقة الجدلية بين التيارات الناصرية والقومية والماركسية من ناحية، ومنتجات الواقع السياسي السوداني المحلي من ناحية اخرى، لا يشي بأي شكل من أشكال التناقض التي يحدثنا عنها اللواء قلندر.  ومعلوم أن قيادات بارزة في حزب الشعب الديمقراطي كانت، قبل اندلاع ثورة أكتوبر وقيام النظام الديمقراطي، قد اختارت المشاركة في البرلمان المعيّن الذي شكلته حكومة الفريق إبراهيم عبود العسكرية، والذي اصطلح على تسميته بـ"المجلس المركزي". كما أن الشيخ علي عبد الرحمن الذي سيترأس بعد ثورة أكتوبر حزب الشعب الديمقراطي، كان واحداً من الموقعين على مذكرة عرفت اصطلاحاً باسم مذكرة "كرام المواطنين"، قام فيها بعض القيادات من الأعيان والشخصيات العامة بالتعبير عن تأييدهم للحكم العسكري. وقد تسببت هذه الصورة من الاختيارات السياسية الكئيبة الى ضمور شعبية قيادات حزب الشعب الديمقراطي بعد الانتفاضة الأكتوبرية. وهكذا فإن الاتجاهات والمواقف اليسارية والراديكالية التي اتخذها الحزب لاحقاً، أدت في نهاية المطاف الى تحسين صورة الحزب، ورفعت الحصار الشعبي عن قادته، وضاعفت من شعبيته بصورة ملفته للنظر. وهي في جملتها اتجاهات ومواقف سياسية تصحيحية منطقية وسليمة، ولا غبار عليها. ولا يجوز بأي منطق سياسي منصف اتخاذها سلماً ومطية لتشويه صورة التجربة الديمقراطية الثانية  والانقضاض عليها ووأدها.

[ نواصل ].

 

عن صحيفة "الأحداث" - 22 سبتمبر 2010



© Copyright by sudaneseonline.com