From sudaneseonline.com

بقلم :مصطفى عبد العزيز البطل
عن خيبة المحصول الاسلاموى وبواره...الشرائع والذرائع: سمسم القضارف وشريعتها/مصطفى عبد العزيز البطل
By
Dec 29, 2010, 04:00

غرباً باتجاه الشرق

 

عن خيبة المحصول الاسلاموى وبواره

الشرائع والذرائع: سمسم القضارف وشريعتها

مصطفى عبد العزيز البطل

[email protected]

----------------------------------------------

 

(1)

من مخزون ذكريات الطفولة ان واحداً من أقرب اقربائى كان يترنم دائماً بكلمات اغنية، ربما كانت الوحيدة التى يعرفها، اذ لم أسمعه قط يدندن بغيرها، يقول مطلعها: (ياسمسم القضارف / الزول صغير ما عارف). وقد وقر فى ذهنى أن الزمان قد طوى تلك الاغنية طيّاً، وغيّبها عن حناجر المغنين، وأخرجها من نطاق التداول الفنى، كما تخرج العملات التى انقضى عمرها الافتراضى من نطاق التداول النقدى. فلا أذكر اننى سمعت بها أو عنها غناءً او كتابةً ردحاً طويلاً من الزمان. ولأمرٍ ما، أظنه استكن فى عقلى الباطن وإن استغلق علىَّ ظاهره تماماً، كانت كلمات تلك الاغنية بعينها هى اول ما قفز الى ذهنى عندما تناهى الىّ أمر خطاب البشارات - أو النذارات حسبما يكون موقفك - الذى القاه مؤخراً الرئيس عمر البشير فى ذروة احتفالات مدينة القضارف بعيد الحصاد، وجاهر فيه أمام الدنيا والعالمين بأن من شأن انفصال الجنوب أن يفتح الباب على مصراعيه امام التطبيق الكامل لأحكام الشريعة الاسلامية فى شمالى السودان.

(2)

خطر لى ان اكتب الكلمات: "يا سمسم القضارف" فى محرك البحث العالمى غوغل، لأعرف ما عسى ان يحمله المحرك من خبر حول تلك الاغنية.  ولله دره غوغل، فقد أدهشنى ما رأيت من وفرة الغلة وروائها وخصوبتها. الاغنية لم تعد نسياً منسيا كما حسبت، فها هى ترد فى قوالب واطر وسياقات متعددة. وقفت عند كتابات ماتعة للاستاذ على المك عن حياة عالمنا الكبير الدكتور عبدالله الطيب، رحمهما الله. واستمتعت اكثر بقطعة بديعة كتبها المهندس بدر الدين العتاق، جاء فيها عن عبدالله الطيب: (أحياناً يدندن بأغاني الحقيبة، وتسمعه بصوت خفيف عندما يحرك قطعة من الشطرنج وبأداء جيد به تقليد المؤدي: "يا سمسم القضارف.. الزول سغير ما عارف" .. كش ملك! أو يرمي من ورق الكوتشينة الدو ويقول : "الحرفا مابدو"، أو ينزل مضطرًا خوفاً من الهزيمة مردداً: "الأصل في الكونكان ألا تنزلا /  وجوّزوا النزول إذ لا أملا"). لم يكن اذن من بأس على قريبى ان يدندن بكلمات الاغنية، فها أنا ذا أعرف ان عبد الله الطيب بجلال قدره كان يدندن بها. مع ان المشهور عن عالمنا الكبير الراحل انه لم يكن منشغلا بالغناء او عالما بدروبه، فقد قاطعه المذيع ذات يوم من ايام الثمانينات، وهو فى منتصف حلقة اذاعية وطلب منه ان يختار اغنية، فرد عبد الله الطيب معتذرا: ( يا بُنى، قد طال عهدى بسماع الغناء، فما ادرى ما حسن منه وما توسط وما كان دون ذلك، فأترك لك الخيار). وقد اختار المذيع، غفر الله له، اغنية "انتى كُلِّك زينة، وعايمة كالوزّينة" للفنان حمد الريح!

ثم تحلقت لبعض الوقت حول سلسلة مقالات عن "الجنيه السودانى" للكاتبة الصحفية حليمة محمد عبد الرحمن، أشارت فى احداها الى اغنية "سمسم القضارف"، ووقفَتْ عند أبيات فيها تقول صياغتها الأصلية: ( يا أُمّاتو ماتْدُقَنُو / العُقَر ما بـِلْدَنُو / ميتين جنيه من أُمّو ما بجيبنو). وقد لاحظت الكاتبة ان المغنى قد تكرم فى وقت لاحق فرفع المبلغ من مائتى جنيه الى "الفين جنيه"، فصار يغنيها:(ألفين جنيه من أُمّو ما بجيبنو). واعتقد انها ملاحظة ذكية تشير الى حيوية الغناء السودانى من حيث قدرته على التطور ومجاراة مؤشرات التضخم الاقتصادى!

(3)

حسناً. نعود لنقف امام الفيل، وجهاً لوجه. العين فى العين. فنعالج خطبة القضارف ذات السمسم، معالجةً سافرةً مباشرة. فما أحسب انه سيواتينا الفرج او يزايلنا الحرج، لو أننا لذنا بما يصفه الفرنجة Beating around the bush . ونحن على أية حال نتوسم الخير، كل الخير، فى "فيلنا"، حفظه الله. فهو فيلٌ طيب الأعراق كريم الأرومة، ينحدر من سلالة الشريف حمد أبو دنانة سليل الدوحة النبوية. أصلح  الله فيلنا وأصلح به، ونفعنا بعلمه، وأدام علينا بركته.

وقد قرأت بالأمس على صفحات "الصحافة" الغراء مقالاً للكاتب صلاح عووضة عنوانه "دولة الغربان العباسية"، يسخر فيه من الفيل ومن خطابه فى القضارف ذات السمسم مُرَّ السخرية، ويعيد صياغة كلمات الخطاب فى أشكال قلمية كاريكاتورية. فعجبت لهذا الصحافى المتغطرس عديم الحياء. يسخر من الفيل، سبط الشريف حمد أبو دنانة، سليل الدوحة النبوية؟! ولكننى ما برحت ان ذكرت رسوم الكاريكاتيرست كارورى، التى كانت تجعل من رئيس وزراء عهدنا الديمقراطى الزاهر، فى كنف الديمقراطية الثالثة، مادةً كوميدية مبذولة للضحك والتندر كل صباح، ورئيس وزرائنا صامدٌ كالطود، يُطالع كما يطالع غيره من عامة الناس، ويضحك كما يضحك غيره من عامة الناس. ألا ما أرق نسيم الديمقراطية. وما أعذب وجه الانقاذ، وما أحلى قوامها السمهرى، وما أبهى انفراجة صدرها وانشراحة قلبها، وما أروع اتساع افقها ورجحان عقلها، إذ تتقبل الرأى الآخر وتساكنه، فلا تضيق به ذرعاً، شأن من غرّه بالله الغرور. وتتحمل الفكر المغاير وتصاهره، فلا تضطره الى أضيق الطريق، حال الذمى فى فقه المهابيل المخابيل!

(4)

منذ المفاصلة الاولى التى قادها الدكتور حسن الترابى فى ستينات القرن المنصرم، وانشطرت معها الحركة الاسلاموية الى تيارين، تيار دعوى بقيادة الشيخ الصادق عبدالله عبد الماجد، وتيار سياسى حركى منظم تزعمه الترابى نفسه، اصبح الوصول الى الدستور الاسلامى وتطبيق الشريعة الاسلامية هى الغاية الاولى والأخيرة لتيار الاسلام السياسى. بل ان الدستور الاسلامى و الشريعة أصبحا هما جوهر مادة الحركة، وكيانها ومرجعيتها، ووسبب وجودها الاوحد. وقد كانت اكبر انتصارات الحركة الاسلاموية على الاطلاق خلال عمرها المديد الذى بلغ خمساً واربعين عاماً، رميةٌ من غير رامٍ، اذ القى الرئيس المخلوع جعفر نميرى على حين غرة - كما حواة الهند - بورقة القوانين السبتمبرية فوق طاولة السياسة السودانية فى العام 1983، فى إطار مناورات سياسية انتهازية خبيثة أبتغى من ورائها - عبثاً - توظيف الدين لتثيبت اركان حكمه، كما فصلنا فى مقالنا السابق. ولكن الخذلان كان حليفه، فمضى الى منفاه وأذيال الخيبة معلقة وراء ظهره. غير أنّ أهل الاسلام السياسى - ورثة القوانين وسدنة معبدها - مافتئوا يدقون طبل الشرائع السبتمبرية وينفخون مزمارها، منذ القى النميرى بورقته تلك وحتى زمان الناس هذا.

تجلى ذلك عقب انتفاضة ابريل 1985، ثم فى سنى الديمقراطية الثالثة، من خلال الخطط والتحالفات السياسية المستثمرة لتناقضات الاحزاب التقليدية. وقد نجحت هذه الاستراتيجيات فى احباط كل مسعىً باتجاه الغاء القوانين السبتمبرية او استبدالها بقوانين جديدة. وقد أظهرت الحركة الاسلاموية الحمية للشريعة والاستعداد لبذل المهج فى سبيل الدفاع عن قوانين سبتمبر فى مواجهة القوى التى سعت حثيثاً الى التنصل من عارها وتخليص البلاد من أوزارها. بلغت حماسة الجبهة الاسلامية القومية حد انها وجهت فى العام 1988 أنذاراً شهيراً الى رئيس الوزراء منحته فيه مهلة ستين يوماً لتطبيق القوانين وانفاذ الحدود الشرعية فى كافة انحاء البلاد، ثم سيرت التظاهرات الجماهيرية - بغرض بناء حركة ضغط شعبى - تجوب انحاء العاصمة وتهتف: (شريعة شريعة ولاّ نموت / الاسلام قبل القوت).

وقد كان مما جاهر به قادة الحركة الاسلاموية فى صدد تفسير انقلاب 1989  - بعد سقوط القناع القومى عنه - هو: وقاية الوطن وانقاذه، وحماية شرع الله وانفاذه. وقد أوجز اولئك القادة مبررات الانقضاض على السلطة فى المهددات التى واجهت الشريعة الاسلامية نتيجةً لتنامى انتصارات الحركة الشعبية لتحرير السودان فى النصف الثانى من الثمانينات، واتجاه القوى السياسية الى تقديم تنازلات على صعيد الشريعة مقابل تحقيق السلام. والشريعة عند الاسلامويين خط أحمر لايجوز تخطيه. وقد كان التعبير الدرامى الاكثر رواجاً فى ادبياتهم عهدذاك فى شأن وصف تقدم الحركة الشعبية هو ( البلاد تُنتقص من أطرافها)، إشارة الى احتلال الحركة الشعبية لعدد من المدن!

عظيم. هذه هى خلفية الانقلاب، وتلك هى دواعيه. وقد يكون اول ما يخطر على البال هنا هو ان رأس اجندة الانقلابيين بعد وصولهم الى الحكم سيكون هو تطبيق الشريعة وانفاذ الحدود. فهل طبق الاسلامويون شرع الله وانفذوا حدوده بعد أن دانت لهم السلطة وأذعنت اليهم خالصةً مصفّاه؟ أبداً. وبطبيعة الحال فان السؤال الاكبر الذى يفرض نفسه هنا هو: ما الذى حال - فى المبتدأ - بين الانقاذ وبين تطبيق شرع الله وحدوده، وهى التى نظمت التظاهرات ووجهت الانذارات الى الحكومات السابقة من اجل انفاذها، وأقامت الدنيا ولم تقعدها، ثم قلبت نظام الحكم نفسه بدعوى المحافظة عليها وتطبيقها؟! حكمت الانقاذ ستة عشر عاما حسوماً حتى أسفر صبح ذلك اليوم من العام 2005 الذى فيه نكست أعلام الجهاد، ورفعت الراية البيضاء، ووقعت اتفاقية السلام الشامل مع الحركة الشعبية لتحرير السودان فى 2005م؟! فأين تطبيق الشريعة واين إنفاذ الحدود؟! عرفنا ان الحكومات الديمقراطية الحزبية سوّفت فى تطبيق الشريعة وماطلت فى انفاذ الحدود. قاتلها الله. فما بال هؤلاء الثوريون الفوريون يقدمون رجلاً ويؤخرون أخرى، حتى بلغت جملة الاعوام ستة عشر. عاماً ينطح عاما، ولا تطبيق ولا انفاذ لشرع الله الذي صدّعونا به تصديعاً؟!

(5)

يتكئ وعد الرئيس - أو وعيده - فى احتفالات أعياد الحصاد بولاية القضارف، بتطبيق احكام الشريعة الاسلامية، حال انفصال الجنوب، على فرضية نظرية مؤداها أن وحدة الشمال والجنوب واتفاقية السلام الشامل تنطوى على موانع ومقتضيات وأحكام تحول دون تطبيق القوانين الاسلامية فى الشمال، ووفقاً لهذه الفرضية فإنّ النظام القائم امتنع مكرهاً عن تطبيق القوانين الشرعية فى شمالى السودان انصياعاً لتلك المقتضيات والاحكام. فهل يجوز اذن ان يكون هذا هو السبب الرئيس الذى يكمن وراء استخذاء الجماعة الاسلاموية وتخاذلها عن تطبيق شرع الله وحدوده خلال السنوات الخمس الماضيات؟  لا أعتقد. لأن الحقيقة التى تقف عارية أمام نواظرنا تقول غير ذلك. بل انها تنفى تلك الفرضية تماماً. الثابت ان اتفاق السلام الشامل، وهو الاطار الدستورى الذى ظل يحكم السودان منذ نيفاشا 2005  لم يضع سوى قيد واحد على العاصمة القومية. فقط العاصمة القومية. ولكن تطبيق الشريعة الاسلامية على سائر السودان الشمالى لم يقع عليه قيد من أى نوع - ونصوص نيفاشا كتاب مفتوح ومبذول للغاشين والماشين إن كان هناك من يراوده الشك حول ما نزعم - فلماذا لم تطبق حكومة الانقاذ  الشريعة على سائر أنحاء السودان، بما فيه ولاية القضارف نفسها التى صدر منها وعد الرئيس، او وعيده؟! ما الذى حال دون إنفاذ القوانين السبتمبرية طالما ان تلك هى رغبة العصبة المنقذة وهواها؟!

لنترك الشريعة جانبا، فهل نذكر التاريخ القريب - على عهد الديمقراطية الثالثة - والحركة الاسلاموية تملأ الدنيا ضجيجاً عن الخطر الذى يتهددنا من تلقاء زحف التمرد وانتصاراته، ونقصان البلاد من اطرافها. وتحشو رؤوس الناس حشواً بالمخاوف ان الاحزاب السياسية ليست مؤتمنة على وحدة السودان؟ ثم افتعلت الجبهة الاسلامية العلائق واصطنعت الصلات مع القوات المسلحة، وفرضت نفسها وصياً أوحد على ضباط الجيش وجنوده، فهى التى تفهم قضيتهم، وهى التى تدرك معاناتهم، وهى التى ترعى حقوقهم، وهى التى تساندهم بمواكب "أمان السودان" وتبرعات الذهب والفضة. لها وحدها الحمية والغيرة على شرف السودان ووحدته، ولسائر الناس قلائد الخيانة وايقونات التفريط فى الأمانة. ثم هى لا تنى تسرّب الاخبار وتعلّب الروايات، تزعم ان الاستاذ على عثمان محمد طه التقى الدكتور عمر نورالدائم وعرض عليه تأسيس مليشيات شعبية مقاتلة مشتركة من خمسين الف رجل من كوادر الجبهة الاسلامية والانصار لتدافع عن العروبة والاسلام، وتحمى ذمار شمال السودان، ثم تزحف على مواقع الحركة الشعبية فى الجنوب فتسحقها سحقاً، ولكن الآخرين جبنوا وتخاذلوا!

عظيم: أين الحركة الاسلاموية اليوم من مبادئها وغاياتها التى تمثل جذع شجرتها ولب كيانها وأصل وجودها، الا وهى: الشريعة الاسلامية والحدود وتطبيقاتها؟ ثم أين هى من قضية وحدة السودان، طوعاً او قسراً، التى فرضت عليها وصايتها، فخوّنت الاخرين ورمتهم بكل رزية، وأخذت عليهم ضعف بصيرتهم وقلة حيلتهم وهوان أمرهم على الناس، ثم سطت على الحكم بليل بدعوى انفاذ الشريعة وحماية وحدة البلاد؟! هذه المبادئ والغايات التى تمثل كيان الحركة الاسلاموية وأصل وجودها هى اليوم - يا ولداه - فى خبر كان. لا هنا ولا هناك. لا فى العير ولا فى النفير. لا بعير ولا شعير. لا شريعة ولا وحدة. صفرٌ فى الشريعة، وصفرٌ فى الوحدة. يا مولاى كما خلقتنى!

(6)

العصبة المنقذة  تعرف تماماً العامل المركزى والعناصر الاخرى المتضافرة التى ظلت تمحق ارادتها وتكف يدها وتشل خطاها عن المضى قدماً فى تطبيق القوانين السبتمبرية وانفاذ الحدود الشرعية خلال العقدين المنصرمين من عمرها. الولوج الى حلبة هذه العوامل يجلب الحرج، ودهاقنة الحركة الاسلاموية يكرهون أن يلج احد الى هذه الحلبة او يحوم حولها، والله حليمٌ ستار! العامل المركزى هو ان جماعة الاسلام السياسى فى السودان تدرك تماماً ان قوانين سبتمبر، التى ظلت تطلق عليها صفه "شرع الله"، غير قابلة للتطبيق إبتداءً. وهى تدرك أيضاً ان الطروحات العتيدة التى بسطها فى شأن هذه القوانين الراسخون فى العلم وأهل الحل والعقد من لدن القائد السياسى وداعية الصحوة الاسلامية الإمام الصادق المهدى، مروراً بالمفكر العملاق، شهيد الفكر، الاستاذ محمود محمد طه، وصولاً الى الآلاف من دعاة الدولة المدنية على مسارح السياسة والثقافة والمجتمع السودانى، طروحاتٌ عتيدةٌ صلدة يصدقها الواقع ويمنحها ثقته فلا سبيل لجحودها، ولا مجال الى القفز من فوقها. قوانين الشريعة الاسلامية السبتمبرية لا تصلح للتطبيق، ولو صلحت لما كان الحال هو الحال. الجميع يعلم ذلك. ولا نزيد!

لماذا اللجاج اذن؟ الاجابة تكمن فى سربال حقيقة هينة للغاية، سبق ان تطرقنا لها فى متن هذا التحليل، وهى أن جوهر مادة الحركة الاسلاموية، واكسير حياتها، وأصل وجودها، والسبب الأوحد لبقائها، مما يعبر عنه الفرنجة بمصطلح ((Raison d'être يتمثل فى تطبيق الشريعة الاسلامية. ولو سلّمت الحركة الاسلاموية بأن القوانين لا تصلح للتطبيق فإن ثمرة جهادها وحصيلة كدها، عبر نصف قرن من الزمان تصبح هباءً منثورا، وهنا مربط فرس الأزمة. وذلك عمر طويل صالت فيه الحركة وجالت فى ميادين السياسة، وسعت الى فرض ارادتها على الامة بمنطق الوصاية على المجتمع، واقحمت عليه الدساتير والقوانين الاسلامية بغير إحسان. ثم اذا بهذه التشريعات تنقلب امام أعينها الى فرانكشتاين جديد فما تدرى ما تصنع بها بعد ان جاءت الى سدة الحكم وانسدل الستار على زمان المعارضة المجانية حيث أسواق المزايدات السياسية!

الحركة الاسلاموية اليوم مثل المقوقس، الذى مُلّك ملكاً عظيما، فلم يهن عليه ملكه وصولجانه حتى بعد ان تبين له الرشد وعرف الحق، فكتب:(ولولا أنى مُلّكت ملكاً عظيماً لكنت اول من سار اليك لعلمى أنك خاتم الأنبياء وسيد المرسلين وإمام المتقين). يستنكف الاسلامويون أن يقروا بأن قوانين القطع والبتر والجلد والتنكيل لا تصلح لنا، وأن لا مقام لها بين ظهرانينا، وان ما أفتى به الثقات من المفكرين وأهل الذكر وقادة الرأى هو الأولى بالاتباع. اذ هم يخافون على الملك والصولجان وميراث الخيبة، ولولاها لساروا - أحراراً من رق السلطان - فتلاقوا مع أهل السودان على كلمةٍ سواء.

(7)

ولا نبرح مقامنا هذا حتى نتوجه بنداءٍ صادق، لا الى قيادات الانقاذ ورموزها،  بل الى قواعد الحركة الاسلاموية من بنى وطننا الغالى، التى آمنت بالدعوة الى تحكيم الشريعة الاسلامية وجعلت منها قضيتها الاولى. تلك القواعد التى تراصت صفوفها عبر السنوات وراء هتاف ( شريعة شريعة ولاّ نموت / الاسلام قبل القوت). نقول لهؤلاء بقلبٍ مفتوح، وبكل الحب فى فؤادنا: بأن لا إسلام قبل القوت. بل القوت قبل الاسلام. لم يخلق الله سبحانه وتعالى الانس والجن الا ليعبدون. العبادة موئلها صفاء العقل ونقاء النفس. وليس هناك عقلٌ صافٍ ينتصب فوق بطن جائعة. ونقاء النفس مرادفٌ للكرامة. ولا كرامة لمعوز يعيش حياة الهوان والمسغبة، التى يرزح تحت ويلاتها السواد الاعظم من أبناء السودان وبناته.

انتم الأولى والأجدر. بل انتم الأحق - قبل غيركم- وقد انفرجت امامكم تجربة سبعة وعشرون عاماً من المداورة والمناورة والمماراة واللجاج (1983-2010)، تجلت فى نماذج انتقائية للتطبيق، شوهاء مرذولة تنضح بؤساً، زعم المفترون بهتاناً انها شريعة الاسلام الغراء. واستبان امام نواظركم الخيط الابيض من الخيط الاسود، فرأيتم رأى العين كيف تعثرت وتخثرت محاولات تطبيق الشريعة وانفاذ الحدود، وتكسرت موجاتها فوق صخور الواقع، الموجة بعد الموجة. ولم يجن أربابها ونصراؤها من ورائها غير سرابيل الخزي. أنتم الأولى والأجدر أن تصدعوا بالحق وتنطقوا بالصدق، فالدين لا قوام له بلا عمل.

انتم الأحق بأن تقولوا باسمنا جميعا الى رئيس الدولة الذى اعلن فى عيد الحصاد على رؤوس الاشهاد أن:(لا مجاملة ولا مداهنة فى تطبيق الحدود الشرعية)، ان تقولوا له: نعم يا سيادة الرئيس، نحن معك، الكتف بالكتف، والحذاء بالحذاء. والسودان كله معك: لا مجاملة ولا مداهنة فى تطبيق حدود الله. المجاملة والمداهنة فى حدود الله انما تتجلى، كأظهر ما تتجلى، فى جلد المستضفين بالسياط، وبتر أياديهم وارجلهم باسم الاسلام، فى مجتمعٍ غابت عنه قيم الدين ومضموناته، وسادته الفرقة والميز العرقى فلم يعرف المساواة بين الناس، واضطربت فيه مفاهيم سيادة القانون فلا تقع الاحكام الا على العاجزين قليلى الحيلة، وبلغ فيه التفاوت الطبقى كل مبلغ، يموت الرجل من الجوع، بينما يموت جاره من التخمة!

كلا وحاشا. لا نريد لبلادنا المكلومة الممحونة ان تعود القهقرى الى كنف عهودٍ مظلمةٍ سوداء، بلونا عارها واصطلينا نارها. وشهدنا فى سوحها - باسم تطبيق الشريعة - الفعائل الدميمة الذميمة، التى قبّحت الاسلام وصغّرته ونفرّت عنه، وأساءت الى شعبنا أبلغ إساءة،، وأحطت من قدره بين الورى.

 

سمسم القضارف؟ نعم. شريعة القضارف؟ يفتح الله!

 

عن صحيفة "الاحداث" - 29 ديسمبر 2010

 



© Copyright by sudaneseonline.com