From sudaneseonline.com

مقالات و تحليلات
الدولة الموحّدة، خطة السودان الإستراتيجية/محجوب التجاني
By
Dec 27, 2010, 08:30

 

 

الدولة الموحّدة، خطة السودان الإستراتيجية

 

محجوب التجاني*

 

بروفسور ريتشارد لوبان، أستاذ الانثروبولوجيا [علم المجتمعات، أجناسها، واصولها الثقافية بشقيها الآثاري والمعاصر] باحثٌ أمريكي من ولاية رودآيلند. تعمق في الشئون السودانية لأربعة عقودٍ متواصلة. أصبح بأبحاثه وعلاقاته الوثيقة مع السودانيين في أنحاء الوطن والخارج منارة معرفية سامقة، يتعلم علي يديه دارسو بلادنا الإفريقية التي خبرها في أكثر من دولةٍ ومجتمع، ويستقي الحقائق من كتبه العديدة إستراتيجيوا الغرب وبيوت خبرته الظنينة بمثقفينا، فوق عشرات التقارير والبحوث الموثقة التي أعدها في شتي المسائل الثقافية والسياسية بنهج ٍأكاديمي رشيق.

 

آخر ما أخرجت مطبعة برايقر للباحث كتابا للناشر Global Security Watch  عنوانه "السودان". والناشر بيت خبرة غربي ضليع، معني بحالة البلدان النامية وخلفياتها التاريخية وأوضاعها الجيوبوليتيكية، واستيعاب حصيلتها الراهنة من الأزمات، وتقييم صراعاتها، وكشف احتمالات علاجها بتوصيف أنصبتها من التقدم والرشاد، في خضم ديناميات التحول الإجتماعي الواسع الذي تدور في رحاه حياة شعوبها ونضالاتها المريرة. إن الدارس ليسعد حقا بإقبال قلوبال سكيورتي بشأوها التحليلي العليم علي صديق شعبنا ريتشارد لوبان ليعد لها هذا السفر الهام عن أوضاع سوداننا في الفترة الراهنة، وقد تراجعت في خطي التوحد في الأرض والتوثب لمراقي النمو والإستقرار سلطاته القابضة حقبتين من الزمان، نازعت خلالها حقوقه وحرياته السياسية لتعيق حركته الجماهيرية دون بلوغ آجالها. إنقضت عليه بخائنة سلطانها لا تحسن فكرا ولا حفلا بنول مناسجه الرفيعة، لتنأي وأعقابها ذرا هشيما.

 

ريتشارد لوبان، الأكاديمي، الباحث، المعلم، الصحفي، المستشار، المرشد لزوار بلادنا من ولاياته المتحدة البعيدة، ومؤسس جمعية الدراسات السودانية-الأمريكية ومديرها التنفيذي، قال في تقديم مؤلفه "السودان": "لكيما يصير هذا العمل توليفيا، تحليليا، وميسرا للقراءة، قللت من الهوامش والمذكرات، وأكثرت من السّير الذاتية لمن يود المزيد من المصادر والدراسة العميقة عن السودان." والإستفادة بينة في كتابه من معرفة الكاتب الغزيرة بتاريخ السودان الشمالي الذي كرّس له من قبل "قاموس تاريخ نوبيا القديم والوسيط" مجلداً كاملاً، إلي جانب ما أصدره من قواميس عن السودان ودولتي كابفيرد وغينيا-بيساو، ومقالات في مصر وتونس.

 

درسٌ في تاريخ أمن الدولة

الفصل الأول من إصدارية قلوبال سكيورتي "السودان"، مؤسسة علي افتراضات لوبان البحثية: "المصالح الإستراتيجية الدائمة للسودان الحديث يمكن أن تُري في التاريخ السياسي لدوله القديمة، كرمة، كوش، مروي، ونوبيا، ودوله المسيحية والمسلمة في العصور الوسطي. فمنذ فجر التاريخ ل5000 عاما، هنالك أنماط مثابرة بشكل ملحوظ بين هذه الدول "السودانية" ومصر، دار القوة الممتلئة بالشمال، ومثيلها دولة دارفور غربا وأكسوم شرقا، والموارد البشرية والطبيعية صوب الجنوب. إن هذا المدي التاريخي يُفصح عن تكتيكات وإستراتيجيات متواصلة تلقي ضوء الماضي علي ديناميات الأمن الحاضر."

 

مهمٌ هنا أن نستحضر ما يعنيه بروفسور لوبان من معاني لمصطلحات الأمن والإستراتيجية والتكتيك والصراع: "الأمن مبدئيا يعني الخلوُ من القلق أو الخطر؛ علي أن أمن النظام عندما يكون فقدانا لأمن جماعةٍ تُدار شؤؤنها، يجوز أن يكتنف قدرا خطيرا من سوء الفهم. أضف إليه، أن المرء يمكنه أن ينعّم في وجود الشرطة والقوة العسكرية بأمن الصحة، والحقوق المدنية، والضمانات القضائية أو القانونية، والحقوق الدستورية، والملكية الخاصة، والإستثمار، وهلم جرا. وعليه يجب أن نحذر لدي إستعمالنا مصطلح الأمن الزلق." أما الإستراتيجية "فتنبئ عموما بتكوين خطة عامة تستخدم مصادرا مواتية لتحقق نتائج محددة أو أهدافا مرتجاة. وهذه أيضا يمكن أن يتراوح مداها من الإستراتيجية العسكرية إلي إستراتيجيات سياسية وإقتصادية، وأخري ثقافية ولغوية، إلي مركبات لكل هذه الأهداف."

 

"وأخيرا، يعني التكتيك الطرق والوسائل والقوي التي يجري إستغلالها لإنجاز الأهداف الإستراتيجية. وينتج الصراع عندما تواجه أنظمة سلطةٍ حالية تناقضات معينة لا تستطيع حلها بالحلول التي يوفرها القانون، والدبلوماسية، والقوة. وبإدراك نقطة التلاقي الكلي للسياسة، والإقتصاد، والقوة العسكرية، يتضح أن تحقيق فصل ٍواضح [بين هذه العناصر] صعب التحقيق دائما علي أرض الواقع" (xvii).

 

مصالح الخارج تتضارب مع السودان

في ملاحظة هامة يدرك الكاتب: "بالضرورة أن مصالح الغرب الأمنية الحديثة في السودان (المتعلقة بالنفط، والإستقرار، و"الإرهاب"، والإهتمام بالصين، وحقوق الإنسان، وما إلي ذلك) ليست مطابقة للهموم الإستراتيجية المشتركة التي يحملها السودانيون مصالحا قومية خاصة. والحقيقة أنه يحدث التقدم في دفع مثل هذه المصالح بالمنفعة الإسترتيجية المتبادلة عندما تُتقاسم كمصالح إستراتيجيةٍ وحسب. يضاف إليه أن الإدارات المتغيرة في أوروبا أو الغرب، والشرق الأوسط، وأمما إفريقية أخري، وجماعاتٍ معارضةٍ في داخل السودان، تعقد الصورة إلي حد معتبر."

ثم يمضي قائلا: "إنه بالرغم من الأنواع المتفاوتة من الحكومات السودانية – من الممالك إلي السلطنات، وإتفاقات الحكم الإقليمي الذاتي، إلي ديمقراطية الأحزاب المتعددة، واشكال متنوعة من الحكم العسكري، والإئتلاف القائم للوحدة الوطنية – تعمل الإدارات السودانية كدول "طبيعية"، أي أنها تحتاج إلي الشرعية ممكنة التحقيق بالإنتخاب، والدين، والإتفاقات الدستورية، والقمع، والإئتلافات، والمعاهدات, وما شابهها، وتتصرف، أو تحاول أن تتصرف، في المحيط المحلي والدولي كهيئاتٍ ذات سيادة" (1-2).

 

أما الفرضية الأكثر أهمية وإثارة في رأي الباحث فهي "أن كل الأنظمة السودانية من الماضي إلي الحاضر، وهي علي ما هي عليه من إرتباط بكل من الشرعية والسيادة علي ذلك النحو، تبرز نفسها بالضرورة كدول وحدوية بغض النظر عن الملامح المختلفة التي ربما تدعو للتساؤل عنها علي غرار نماذج الدولة الفاشلة، او غير المستقرة، أو العاجزة، أو الدولة المجزأة بالإستفتاء، أو الدولة بفضاء ٍغير محكوم. ولأن المقصد السياسي من إقامة الدولة بالغ الديمومة، علي الاقل في المستوي الدولي، يمكن للمرء أن يخلص إلي أن خطة السودانيين الإستراتيجية هي أن يرفعوا لأعلي المستويات، أو أن يحاولوا التأكيد علي حكومة وحدةٍ شرعيةٍ وذات سيادة" (2).

 

معارضة السودانيين لمن يعارض وحدتهم

يري الأستاذ الأمريكي ريتشارد لوبان "إن أي خطط أو سياسات من الخارج معارضة أو يعتقد أنها معارضة لهذه الأهداف الإستراتيجية السودانية الجوهرية سوف تلاقي قطعا أقوي معارضة، وقليلا من الأمل في تطبيقها بفعالية. وإذا جرّت معاملة السودان علي أنه دولة قصية عن المركزية أو دولة فاشلة، فمن الصعوبة أن يُعّد مسئولا عن مسائل الإدارة أو سوء الإدارة. وبإيجاز، من الأيسر علي العالم الخارجي أن يعتبر السودان دولة طبيعية، حتي عندما يضحي إتفاقا عاما أنه لا يؤدي دوره بكفاءة. وهذا جزء من المشكلة التي يواجهها الواحد في تكوين سياسةٍ إستراتيجيةٍ للسودان:

 

"هل نتعامل مع السودان من منطلق ما تود له رغباته أن يكون، وكما هو متقبلاً في معظم المنتديات السياسية؟ أم يجب علينا أن نتعامل مع السودان كهيئةٍ لا تعمل بشكل سليم، وبالتالي فالعالم الخارجي "يحق له" أن يضع أحكامه وسياساته الخاصة به التي، في الحقيقة، تقوض قدرة السودان في أن يصبح الدولة التي يدعيها؟ مثل هذه الأنماط الإستراتيجية مودعة ٌفي تاريخ السودان شديد العراقة، وهي علي العموم حاضره الذي لا يختلف عن تاريخه كثيرا" (ص 2). نكتفي في هذا الأسبوع بما عرضنا من بعض فرضيات الباحث لما لها من مضامين ثقافية وسياسية أثيرة.

 

تعليق

أكايميوا أمريكا من جيل ريتشارد لوبان وتيموثي كارني وجاي إسبولدنق وثلة من السابقين، حكماء في إدراك مايجمع السودانيين شعبا ويفرقهم رهبا؛ رحماء بإشكالياتهم بحثا عن هويتهم الموحدة تاريخا، وإن فرطت بعض أنظمتهم وحكوماتهم في تقديرها والحفاظ العاصم لعملتها النادرة. مررنا علي عَمدةٍ منهم في الإستراتيجية والدبلوماسية وسائر فنون السلطة العصرية، أو بحاثة عارفين. وفي الأخيرين ذكرا، نري ريتشارد لوبان من أكثر كتاب الغرب عدلا في تبيان قوي السودان بكل مواقعها في الحكم وخارجه، علي غير ما لم يأبه به موظفون أم كتاب عجلون. ولما لا، وهو عالم أصول الشعوب الحاصل علي مادة علمه الصائب من مدونات تاريخنا السديد والمعايشة المباشرة مع شعبنا الحبيب، والتحدث بلغة شارعه، واستنطاق ما اندثر من خلايا وحدته بالتنقيب عن آثارها، وربط ماضيها الرهيب بحاضره الغريب.

 

في فاتحة مؤلفه الذي شرفنا أبهي شرف بكتابتها، لخصنا شيئا من أفكاره وإليها نعود. أما الآن فنذكر حول ما جاء بها إن بحاث الغرب الأكاديميين، وفي مقدمتهم علامة الانثروبولوجيا الثقافية البريطاني إيفانز بريتشارد وسودانيين خبيرين في مقدمتهم العالم الراحل أسامة عبدالرحمن النور وبروفسور علي عثمان، فطنوا إلي القصور الواضح في التنبه إلي اعتزاز السودانيين الجنوبيين بالجنوب كأرض جغرافيةٍ مميزة بطبيعتها الخلابة، وحب كل السودانيين لديارهم ومجموعاتهم السكانية، ما يُسمي "بالقبائل"، وروابطهم العائلية، وعقائدهم الروحية، وثرواتهم المختلفة - خاصة أبقار كوش الشهيرة منذ أقدم العصور وفقا لنظريات آثارية. إن فلسفة الجنوب الحياتية الإفريقية القديمة قائمة علي التعرف علي الإله بالروحانية التأملية، مثلهم في ذلك مثل البوذيين والهندوس والهنود الأمريكيين ودياناتٍ أفاريقية لا تزال حية في نيجريا واثيوبيا.

تتعلق بعض آثار هذه الثقافات في السودان ومصر بين المسلمين والمسيحيين بطقوس الزار، والإحتفال بفيضان النيل، وبعض عادات الأعراس والحصاد. وفي أبحاث السنغالي الشيخ أنتا ديوب دلائل وعلامات علي أصول حضارات السودانيين والمصريين في ثقافات الأفارقة غرب القارة. ولما لا، ومكتشفات الأنثروبولوجيا المعاصرة أغلقت بأبحاث الأشعة الكربونية في أجساد الموتي والثقاقات المقارنة منافذ الشك في أصل البشرية في التربة الإفريقية وإنسانها الأزرق المليح "بيضا وحُمرا وغرابيب سود" – ساروا في المعمورة قارة قارة، وتناسل من ظهورهم ستة مليار إنسان أو أكثر يسكنونها اليوم، فهل من مزيد؟

 

خطل الرأي في حق الثقافة

من خطل الرأي أن يعتقد أناس بأن سودانيي الجنوب لا يحسنون الإيمان بالأديان السماوية الآحادية بسبب ثقافاتهم الإفريقية العريقة ومعتقداتهم الدينية الروحانية. فالإيمان من أمور الخالق. ولا يحق لإنسانٍ علي أي حال أن ينّصب محكمة تفتيش علي ضمائر الخلق. الحق وحده يعلم ما في قلوب خلقه ويحاسبهم عليه. الشاهد أن الإفريقي المسلم أو المسيحي يمارس إعتقاداتٍ قد تتناقض مع مبادئ الإسلام أو رسالة المسيح، ومن ذلك ما يؤديه مسلمون ومسيحيون من ختان البنات في أقطار القارة بالرغم مما ينطوي عليه من أضرار جسيمةٍ بجسد المرأة وبنائها النفسي. أما ما يحيط بختان البنات من تكافل إجتماعي فيجب الحفاظ عليه، مع التجنب التام لإجراء جراحة الختان في جسد الإناث.

 

ومن العادات الصرف الباذخ في حفلات الزار وإستبدال إرادة الفرد بإرادة غيرها، بالرغم مما يكتنف الزار نفسه كممارسة إجتماعية من وسائط روحية قد تعين علي العلاج أحيانا فيما خلصت إليه أبحاث العلامة التجاني الماحي، وما يراه علماء من ضرورة إزالة التناقض ما بين بعض جوانب الممارسة وموجهات الدين الحقة. والفكرة أن ممارسة هذه الثقافات ليست سببا للحط من كرامة ممارسيها علي الإطلاق، أو نعتهم بالكفر والجّد في إجبارهم علي ترك عاداتهم بالسخرية أو الإرهاب.

 

ومن خطل الرأي أيضا أن يفقد البعض الإحساس الإنساني والوطني الواجب لتحريم تأذي السوداني في جنوب البلاد أو شمالها أو غربها أو شرقها من الإشارات العرقية والتوريات بقلة الدين، ناهيك بالمخاطبات الصريحة التي تحط من كرامته أو تصوره إنسانا ناقص الأحاسيس، بل وربما تعامله كمواطن ٍمن الدرجة الثانية، فإذا عّبر مثلا عن رفضه لدين غير دينه، رُمي بالكفر وتعرض للعقاب والإنتقام. الأعدل أن يذكر المعتدون أيا كانوا أمر القرآن القطعي "لا إكراه في الدين" و"لكم دينكم ولي دين". وأن يعملوا بمحبته والإنجيل: بين الناس المسرة وعلي الأرض السلام.

 

من أتعس ما يُذكر في باب المعاملات العدوانية تجاهل البعض لحق السوداني -  الذي يعود أصله العرقي للجنوب أو أنه يقيم به - في التعبير الواضح عن آرائه السياسية والمجاهرة بأفضلياته الحياتية. ومن ذلك إستكثار ولائه السياسي لحزب جنوبي مثلا، والإندهاش من دفاعه عن دياره وقبائله ومعتقداته وصلاته وأمانيه وطموحاته ضد الإعتداء من أي جهة جاء. وهي واجبات إلزامية بالدين والأخلاق وقانون الدفاع عن النفس والعرض المكفول بالقرآن والإنجيل والتوراة ومعتقدات القارة. كأنا بمثل هؤلاء المعتدين لا يرون في السوداني بالجنوب سوي ظلا للسوداني في الشمال فلا يصح أخذه بالتساوي، ولا يجب السماح بممارسته التفكر والعمل بمحض ما له من إرادةٍ وحقوق ٍلا تختلف البتة عن حقوق سودانيي الشمال أو أي إنسان آخر في الأرض.

 

وخطل الرأي في أمن الدولة

قال الباحث لوبان: "الأمن مبدئيا يعني الخلوُ من القلق أو الخطر؛ علي أن أمن النظام عندما يكون فقدانا لأمن جماعةٍ تُدار شؤؤنها، يجوز أن يكتنف قدرا خطيرا من سوء الفهم. أضف إليه، أن المرء يمكنه أن ينعّم في وجود الشرطة والقوة العسكرية بأمن الصحة، والحقوق المدنية... وهلم جرا. وعليه يجب أن نحذر لدي إستعمالنا مصطلح الأمن الزلق." وما أصدق هذه العبارة الرصينة في ضوء تجربة شعبنا الطويلة "بنظريات أمن النظام" الإستبدادية وممارساتها البغيضة القائمة علي إحلال أمن المواطن وتمتعه بالحياة والصحة وكافة الحريات الأساسية والحقوق الجوهرية "بأمن النظام" – ذلك الحلزون اللئيم الذي يتخفي وراءه إجرام السلطة أيا كانت، ويتستر في جُبه دون حق ٍكل قاتل وزان ٍوسارق ومنافق وفاسق ينتعل حذاء الردع، تهربا من مستحقات الشرع بالتوبة إلي الله وإنصاف المظلوم والتماس رضاه، خشية القانون والعقاب والمبالغة في قطع طرائق الهلاك إمعانا في قهر الضعفاء.

 

ومن أسوأ ما تمخض عن كل هذه المظالم فشل الحكومات والأنظمة الديكتاتورية خاصة في فرض التعامل المتساوي بين أبناء الوطن الواحد، وتعميقها التفريق الميكانيكي بين الشمالي والجنوبي في التعيين الرسمي بمواقع الدولة، والحصص القومية للمؤسسات التعليمية والصحية، والبناءات التحتية من طرق وكباري. وتدميرها علي رؤوس أهلها بالحروب الآثمة، عُلوُاً في الأرض وتجّبرا بالسلطة. هذه السياسات الجائرة منذ إستقلال السودان عام 1956 إلي اليوم تحورت إلي ممارسات "سلطوية ثقافية معتادة" تتمثل بشكل ٍ يومي في إنكار حق السوداني من جنوب الوطن أو غربه في شرب جعته المحلية"المريسة" وجلده عليها، مع قيام الشرطة والسلطات المحلية مراتٍ كثيرة بالإستيلاء علي أثمانها خارج نطاق القانون، تماما كما أدانها بيان السودانية للحقوق القاهرة (ديسمبر 2010).

 

يحدث كل هذا الخرق إلي اليوم في مدن السكن العشوائي المحيطة بالعاصمة القومية ولم يرمش لحاكم ٍجفن. والكشات، "حملات تطهير العاصمة"، تمارس إرهابها علي المساكن العشوائية ليل نهار. كنا نري في دراساتنا للظاهرة ما قبل حكم الجبهة ومؤتمرها أن الحملات الأمنية إستعراض سلطوي ضال عن القانون والدستور. ولكن حكم الإسلاميين الإنقلابيين أضاف إلي ضلال الحكومة ضلالا أشد وأنكي، هو شن حملات تنظيف العاصمة من السودانيين الذين أطلق عليهم إعلام الجبهة "الكفار" ليل نهار، لتبرير الجهاد المطلوب لإذلالهم وإهدار حرياتهم وإستلاب حقوقهم. وأفتي علماء سلطتهم بتحريم الرقص"كونه خلاعة"، وهو من ثقافات السودان العريقة؛ ومنعوا اختلاط الجنسين في العلن"كونه مدعاة للخلاعة"، وهو لب الحضارات القديمة والحديثة؛ وسوغوا لشرطتهم ومحاكمها تعذيب أجساد النساء علنا "درءا للخلاعة"، وهو أقبح مسلكٍ في تقاليد أهل البلاد.

 

ومن حق المواطنين وعلمائهم أن يلقوا بعيدا بإفتاءات السلطة المخلاعة لتأسيسها الدين المستقيم العليم الرحيم علي "استنظار الخلاعة" بثقافة الإزدراء: التشفي بالسياط وأخلاق الإنتقام، واستدامة إذلال المساكين والفقراء، ومُضي حكامها المومنين بدعاوي الخلاعة بالعقاب تغافلا عن واجبهم الرسمي والإنساني نحو حقوق المسحوقين والغلابة، "ومن لم يخطئ فليرمها بحجر" قال كلمة الله المسيح عيسي ابن مريم مصطفاة الخالق أنقي نساء العالمين. وعلي الجميع إزاء هذا البهتان أن يستعيدوا في قوةٍ وتشددٍ حين يأتي حديث أو يُدّعي عملٌ من سلطان ٍ بإسم الإسلام الرائع الشروق شريعة نبيه الكريم المرسول من رب الأكوان الجبار"رحمة ًللعالمين": الذي مس بثوبه الشريف وجه صحابي شرب خمرا تذكرة له لا سيطرة، ومنع عنه سب الصحابة والضرب "حتي لا تعينوا عليه الشيطان"، وهي أرقي معاملة عرفها البشر في أخذ المخطئ بالرحمة، والنهوض بحقوق الإنسان التي لا يقدر عليها إلا الأنبياء والصالحين والمقتدين والحقوقيين صدقا.

 

هل للعالم الخارجي حقٌ علي وحدتنا؟

لم يكن أمرا غريبا في إنتخابات أبريل المزيفة إنصراف الناخب التام في الجنوب عن منح صوته لرئيس النظام الديكتاتوري وممثلي جبهته وسلطتها في جزئي القطر، حسب نتائج الإنتخابات علي علاتها؛ انصرافا عبّر أجلي  تعبير عن رفض الجنوب الديمقراطي للقهر والكبت والإزدراء، علي صعيدٍ واحدٍ مع قوي الشمال الوطنية. كان متوقعا إصرار الجنوب علي حق تقرير المصير، ولا نقول الإنفصال دون أن نؤكد معه خيار الوحدة الطوعية ومساندة القوي الديمقراطية لهذا الحق، مع التنبيه والتحذير للحكومة للإنتهاء فورا عن سياسات الإنفصال القائمة علي تكبيل الحريات وكبت الجماهير - عين السياسة التي عربدت بها جبهتها القومية الإسلامية منذ عام 1989 وهيأت بها جماهيرا كبيرة في الجنوب للتسليم بأن الوحدة الطوعية ليست طريقا وحيدا أمام خياراتهم الوطنية.

 

"هل نتعامل مع السودان من منطلق ما تود له رغباته أن يكون، وكما هو متقبلاً في معظم المنتديات السياسية؟ أم يجب علينا أن نتعامل مع السودان كهيئةٍ لا تعمل بشكل سليم، وبالتالي فالعالم الخارجي "يحق له" أن يضع أحكامه وسياساته الخاصة به التي، في الحقيقة، تقوض قدرة السودان في أن يصبح الدولة التي يدعيها؟" تسآءل بروفسور لوبان في تلخيص بليغ. وحقا نقول، إن علي قوي الغرب والشرق وهيئاتها وبيوت خبرتها أن تتعامل بادئ ذي بدءٍ مع ما تود للسودانيين رغباتهم أن يكونوا، حقا أصيلا بمواثيق الأمم المتحدة وحقوق أعضائها المرعية، لا يتدخلن عضو في شئون الأعضاء الأخّر. وحقا كذلك للأمم المتحدة أن تتدخل لمنع الفوضي والجرائم ضد الإنسانية حماية للبشر بإجراءات وضوابط عُسّر في تعاون ٍ رشيدٍ مع أهل البلد.

 

بيد أنه ما للعالم الخارجي – دولا منفردة أو جماعات مجتمعة – حقٌ علي وحدة وطننا ورغبات أهله، فيبيحوا إنقسامه أويهللوا لنزع أرضه وتشطير شعبه. يعارضهم السودانيون في الجنوب والشمال، فمعارضة التجني والظلم تجري في دماء قبائلهم وأحزابهم ومجتمعهم المدني. لا يحبون بكل ثبات ٍمسارات الإنفصال العّوجة لسببٍ أساسي يتخلل بنور الحقيقة سحابات إداراتهم المذبذبة: "خطة السودانيين الإستراتيجية هي أن يرفعوا لأعلي المستويات، أو أن يحاولوا التأكيد علي حكومة وحدةٍ شرعيةٍ وذات سيادة" – تقول حقائق التاريخ وآثاره البليغة عن سوداننا الواحد الواعد المُوّحَد، وتحت راياته أعظم شهداءٍ وأنبل حشد.

 

 

____________________________________

 

* الأيام الأسبوعي: ديسمبر 2010

 



© Copyright by sudaneseonline.com