From sudaneseonline.com

بقلم : مصعب المشرف
أدبيات الإنفصـال (حلقة 16) .. الجزء الثالث من تاريخ العلاقة بين الشمال والجنوب ... / مصـعـب المشــرّف
By
Dec 26, 2010, 07:49

أدبيات الإنفصال ... أوراق مبعثرة

حلقة (16)

تاريخ العلاقة بين الشمال والجنوب

[ الجـزء الثالث ]

مصعب المشرّف:

ملخص الحلقة السابقة:

تناولت الحلقة السابقة (رقم 15) تاريخ الجنوب خلال الفترة ما بين عامي 1865 – 1884م والتي إتضح من خلالها أن الجنوبي لم يساهم بأية مظاهر جدية في إستقلال السودان عن الخديوية المصرية بقدر ما كانت ثورات قبائل الجانقيه (الدينكا) في بحر الغزال قائمة على التمرد الداخلي الخاص بمصالحهم وتواجدهم في حدود أراضي قبيلتهم . دون إنشغال بما يجري حولهم في بقية أنحاء الجنوب أو كافة أنحاء السودان الأخرى من شمال وشرق وغرب....... أو بما يؤكد أن مواطنة الجنوبي كسوداني فاعل لم يجري تعميدها حتى تاريخه بدماء مجاميع شهداء ومناضلين لأجل إستقلال السودان عبر العصور على عكس ما يحفظ التاريخ لقبائل الشمال الأخرى الذين إنشغلوا بهموم الوطن عامة وساهموا كافة وقدموا القدر الوافي من القادة تلو القادة والكتائب تلو الكتائب من الجنسين للإستشهاد بالآلاف العديدة دون إنقطاع في ساحات النضال الوطني...... وإنه من المثير للشفقة أن يجعجع البعض بأن البطل علي عبد اللطيف كان جنوبي الأصل ..... فهو بذلك كأنه يأخذ بالشـاذ الذي ينفي القاعدة. إذ نحن هنا نتحدث عن سيرة وتوجه جمعي لشعب بأكمله وليس ومضات فردية لأسباب خاصة تتعلق بطبيعة التربية والبيئة الشمالية الصالحة التي ولد ونشأ فيها البطل علي عبد اللطيف بالإضافة إلى أن هذه الومضة تظل إستثنائية عديمة الكم والكيف حال مقارنتها بتضحيات قيادات ومجاميع القبائل الشمالية الذين إرتوى بدمائهم تراب وصخر وأشواك مليون مربع هذا الوطن الغالي.

تمرد الجّانقـَيهْ: (Al Jangaih)  1882م – 1884م

يعدها البعض ثورة .. لكنها وعلى مقياس النظرية والتطبيق تظل تراوح نفسها داخل دائرة التمرد المعهود لدى أبناء الجنوب في علاقتهم بالحكم المركزي والإقليمي على حد سواء . فعقب إنتشار أخبار إنتصارات المهدية في كافة أنحاء السودان بدأت الوفود والمجاميع وفرسان القبائل تتوجه للقاء ومبايعة المهدي عليه السلام في منطقة جبل " قَـدِيـر" ثم مدينة  "الأبََـيـِّضْ" بإقليم "كُرْدُفـَانْ" .

وقد كان من ضمن تلك الوفود مجموعة من الجانقيه وهم فرع من قبائل الدينكا التي تستوطن إقليم بحر الغزال . والذين كانوا قد دخلوا الإسلام على يد الزبير باشا في فترات تاريخية سابقة .....

وعادة ما كان المهدي عليه السلام يوزع وفود القبائل وفرسانها القادمة لمبايعته ويستوعبها تحت رايات المهدية الخمسة الرئيسية في تنظيم قواته المجاهدة بحسب مناطقها الجغرافية .....  

ولكن المثير للرصد والتحليل أن المهدي عليه السلام وبعد لقائة بوفد الجانقيه وعقب مفاوضته لهم ، وكأنـّه قد لمس فيهم عدم الإستعداد النفسي الفطري لتحمل تبعات النضال الوطني أو القناعة بمعناه وكيفية ممارسته لسبب أن قبائل الجنوب بوجه عام لم يكن لها تواصل وإتصال ثقافي وتداخل عرقي يعتد به أو يذكر بقبائل الشمال . ولطبيعة البيئة الجغرافية المنغلقة لم يكن للجنوب إتصال أيضا بالحضارات الإنسانية العالمية القديمة السائدة كالحضارة الفرعونية أو الفارسية أو اليونانية أو الرومانية مثل ما كان قد توفر لأهل شمال السودان من إتصال وإشتيعاب وهضم وإبتكار لحضارات ذاتية بهم معترف بها عالميا وأهمها أكسوم ونبتة ومروي ثم الإسلامية العربية.

ربما من جانب آخر ولسبب أن الجنوب قد ظل لقرون قبل الثورة المهدية مجرد "فردوس رقيق" في نظر الآخر المتمدن. وقد عانى إنسانه نفسيا جراء هذا التعامل تجاهه من جانب الحضارات التي كانت تحكم العالم آنذاك وتستنزف موارده وثرواته المعدنية والحيوانية والبشرية .... ربما كانت للعبودية أثرها في إرهاقه نفسيا ومحو كل مقومات ومحفزات الشخصية المنتجة والنضالية التي تفرض نفسها على الغير في داخله. 

كذلك كان لنمطية سبل كسب العيش داخل الغابة وتشابهها سبب آخر في غاية الأهمية وعلى نحو فرض فيه (منطق الغابة) نفسه على قناعات وممارسات الفرد الجنوبي. فجعلت منه لصيقا بقبيلته وحدها دون غيرها . ودون أن يشغل نفسه بهموم ومصير غيره من القبائل الأخرى. بل وكان التنافس في كسب العيش على مقياس قاتل أو مقتول هو المولد الأساسي للضغائن والمثير للحروب الأهلية الوحشية فيما بينهم . والباعث لديهم لتحريض الأجانب المغامرين الوافدين عليهم من عامة التجار وتجار الرقيق على بعضهم البعض . وحيث كان ولا يزال هذا التوجه هو الذي يفرض نفسه داخل الجنوب حتى تاريخه .... بل ويلاحظ أن النفور القبلي قد إمتد ليغطي فشل أبناء الجنوب في إتخاذ لغة واحدة للتفاهم فيما بينهم ... فالدينكاوي يأنف بالطبع في التخاطب بلهجة النوير والشلك على سبيل المثال ... والنوير يأنفون من التخاطب بلهجة الشلك أو الدينكا .. وهكذا دواليك ... وهو ما جعل هؤلاء يختارون إما اللغة العربية المبسطة التي تسمى (عربي جوبا) وسيلة لتخاطب العامة فيما بينهم وسط التجمعات المدنية والأسواق القروية ... وكذلك اللجوء إلى اللغة الإنجليزية التي يقتصر التخاطب بها على القلة المتعلمين من خريجي التعليم الأكاديمي .

إذن ومن جملة هذه المعطيات التي لمسها فيهم الإمام المهدي عليه السلام والذي عرف بعبقريته في تأليف قلوب أصحابه ... فقد إكتفى عليه السلام بأن وجّهَهُم لمحاربة قوات الخديوية المصرية في أراضيهم على أن تكون لهم وحدهم الأرض والحكم بعد إزالتهم لسلطة الخديوية هناك والتي سامتهم الخسف والجور في مجال جباية الضرائب وتجنيد نخبة مختارة من الصبيان في جيش الخديوية بالقوة الجبرية. فكان أن فرح قادة الجانقيه بهذا العرض ووجدوا فيه بغيتهم وقناعتهم وفق ما إعتادوا عليه من الإكتفاء بتحمل مسئوليتهم في حدود ممتلكاتهم وجغرافيتهم دون الإنشغال بمشاكل غيرهم أو الإنخراط في الكفاح والجهاد النضالي الوطني العام أو التفكير في إجهاض أحلام الخديوية في السيطرة على منابع النيل وطرق الملاحة في سواحل البحر الأحمر وغرب المحيط الهندي . كما وجدوا فيه تعهدا غير مباشر بعدم عودتهم إلى الخضوع لحكم الجَلاّبة المسلحين وتجار الرقيق من الأوروبيين والعرب على حد سواء.

كانت فحوى ونص قرار الإمام المهدي عليه السلام بشأنهم والذي أورده "نعوم شقير" في كتابه "تاريخ وجغرافية السودان" على لسان المصري "محمود المحلاوي" الذي كان وقت الثورة المهدية يعمل مفتشا لمنع تجارة الرقيق في بحر الغزال والذي ذكر في إفادته أنه ولما بلغ مشايخ الجانقيه والجور خبر المهدي ونصرته على رجال الحكومة (يقصد الحكومة الخديوية) في أبا وقدير هاجروا إليه وبايعوه فأمرهم بالعودة إلى بلادهم وقال لهم:

[إذهبوا وأخرجوا الترك من بلادكم فإن الله ناصركم ومتى أخرجتموهم فلتكن بلادكم لكم لا ينازعكم فيها منازع]

 

فشل تمرد الجانقيه:-

عقب تلقيهم دروس دينية ووطنية سريعة وكيفية ترديد عبارة "الدائم الله الدائم هو" توجه مشايخ وقادة الجانقيه لتحريض قواعدهم القبلية ضد الإدارة الخديوية في بحر الغزال .. ولكنهم سجلوا فشلا واضحا في القدرة على تسجيل إنتصارات نوعية على معسكرات الخديوية التي كانت تحت قيادة مديرها العام الإنجليزي "لبتن بك" وإستمر تمرد الجانقيه على هيئة حرب العصابات واللجوء إلى الغابة من عام 1882م حتى عام 1884م دون جدوى. وقد تصاعدت خسائرهم البشرية بنيران بنادق الرمنتون وأب روحين. فلم يجد المهدي عليه السلام مفـر من الإستعانة "بكرم الله الشيخ محمد" لتحرير بحر الغزال وتعيينه أميرا عليها . – وكرم الله أنصاري صميم من أبناء قبيلة الدناقلة الذين سبق لهم العمل في بحر الغزال -  فتوجه إليها بقيادة مجاهدين من الأنصار بلغ عددهم 8,000 وكان معظمهم من عرب كردفان ودارفور والجلابة.

وصل الأمير "كرم الله الشيخ" إلى بحر الغزال في أواخر فبراير 1884م .... وما أن جاء ابريل من عام 1884م حتى كانت بحر الغزال قد خضعت له بأكملها وإستسلم له مديرها العام "لبتن بك" ..

وأما الإستوائية التي كانت لا تزال في قبضة الخديوية المصرية وعلى رأس إدارتها "أمين بك" فقد إنشغل عنها الأنصار بحصار الخرطوم ثم وفاة المهدي عليه السلام والصراع الداخلي على السلطة الذي خاضه خليفته عبد الله التعايشي في مواجهة منافسيه . ولم يعد للإلتفات إليها إلا عام 1888م فعقد لواء الأمارة للجعلي "عمر صالح"  على رأس جيش من أولاد الجعليين بالإضافة إلى مجاهدين من أبناء القبائل العربية النيلية ..... كان خروج الأمير "عمر صالح" من أمدرمان في منتصف يونيو 1888م فاحتل الرجاف في أكتوبر من نفس العام وبذلك خضع إقليم الإستواية لسلطة المهدية.

 

المحصلة:

ربما يمر السرد التاريخي أعلاه مرور الكرام على البعض .... ولكن المتأمل حتما سيتساءل وعلى نحو عفوي عن دور الجنوبي في تحرير بلاده طوال هذه الفترة ما بين عامي 1882 وحتى نهاية 1888م؟ .... ثم لاحقا ما بين عامي 1898م وحتى عام 1956م...... بل وعن دور الجنوبي الغائب في التنمية والإستقرار ورفد الحضارة الإنسانية السودانية خلال الفترة من عام 1956م وحتى 9 يناير من عام 2011م ؛ عوضا عن التمرد التخريبي المزمن المعهود .....

وهذا التساؤل المنطقي هو الذي يعيدنا إلى واقع وحيد مفاده أنه لم يكن للجنوبي دور يذكر في  حراك النضال الوطني السوداني بقدر ما كان له من دور تخريبي وتعطيل لمسار التنمية والنهضة .... ثم أن إنعدام الدور النضالي هذا ، هو الذي شكل في النهاية إنفصاله العفوي ويفسر إغترابه الطبيعي والحضاري عن الشمال. وهو أمر يجعل من الإنفصال خير علاج لمرض عضال يعاني منه سودان المليون ميل مربع ، يظل تشخيصه المباشر هو إصرار البعض من الحرس القديم في الشمال على "الوحدة القسرية" بين كيانين متنافرين.

     



© Copyright by sudaneseonline.com