From sudaneseonline.com

مقالات و تحليلات
الاعتزال أفضل!/محمد وقيع الله
By
Dec 22, 2010, 08:27

الاعتزال أفضل!

محمد وقيع الله

استكثر علي البعض أن أقول إن الصادق المهدي غير متسق في أفكاره وإن الكثير من أقواله وتحركاته يسودها التعارض ويكتنفها التضارب.

والذين استكثروا قولي هذا هم بعض السطحيين المنبهرين بشخصيته الذين يظنون أن كل من يكثر من الكتابة والخطابة من أمثال الصادق المهدي، وهم ببلادنا كثر، إنما هو مفكر بارع أو عالم ثاقب.

ويجهل هؤلاء السطحيون أن أبجديات الفكر والعلم توجب أن تتسق أفكار المفكر أو العالم (أو الرجل العادي) وأن تسلم من التنافر والتخالف.

وتستوجب أن يكون لرجل الفكر والعلم (وللرجل العادي أيضا) منهج محدد يفكر به ويتعامل به مع صروف الدنيا وتقلباتها.

بل إن الحكمة العادية تنهى أن تتضارب أفكار الإنسان وأن يعدو بعضها على بعض وأن ينقض بعضها بعضا أنكاثا.

وتحذر الإنسان، أي إنسان، من أن يختط لنفسه خطة اليوم، ثم يرجع عنها غدا، ويعود إليها بعد غد.

وهذا التحذير العادي الذي تكرر كثيرا في تراث الحكمة الشعبية لا يتجافاه ويصم عنه أذناه إلا من فقد بوصلة التفكر والتدبر.

وأعوزته آلية التحرك السليم القاصد.

وأدمن الحديث ذا الذيول المستطردة المتشعبة فلم يعد يعي اليوم ما فاه به بالأمس.

وغدا حالما هائما لا يبالي ولا يحفل بالنذر.

المثال الطازج:

ودعونا ننظر إلى هذا المثال الطازج، من ممارسات الصادق المهدي السياسية المتأرجحة، وهو مثال له من الأمثلة البائتة في تاريخ الصادق تراث عريق.

ونرجو أن يخضع هذا التراث المتطاول والمستعرض في مجال الممارسات السياسية التي لا يقودها نهج، ولا يؤودها نسق، ولا يضبطها مبدأ، ولا يجذرها أصل، للدراسة الأكاديمية العلمية النزيهة المدققة في المستقبل.

كان الصادق المهدي قد صرح في اليوم الثاني عشر، من الشهر الثاني عشر، لهذا العام، أن محاولة الإطاحة بالمؤتمر الوطني عقب الاستفتاء ستفتح على بلادنا أبواب جهنم.

وهو قول هلل له السطحيون كثيرا وصفقوا له طويلا وظنوه حديثا وطنيا حكيما مخلصا لن يحيد عنه قائله في أيام معدودات.

ولكن هذا القول الذي فاه به الصادق في الأسبوع الماضي لم ينطل على أي من لبٍّ متمرس بمتابعة تناقضاته التي لا أول لها ولا انتهاء.

وهكذا لم يطل الانتظار حتى جاء اليوم الثامن عشر من هذا الشهر فأعلن الصادق المهدي أنه قد قرر منازلة الحكومة الإنقاذية وإزاحتها أو اعتزال العمل السياسي نهائيا.

ولم يفته وهو في أوج انفعاله وحماسته إلا شيئ واحد وهو أن يتمثل بقول أبي فراس الحمداني فارس العرب وناطقهم الذرب:

ونحن أناس لا توسط بيننا           لنا الصدر دون العالمين أو القبر!

وهو بالضبط المعنى الذي عناه!

ألا تهتدون؟!

وهذا الإعلان المتطرف الذي أزجى به الصادق المهدي نواياه لم يكشف عن تضارب عزائمه وتناسخ تصريحاته في غضون ستة أيام فقط، وإنما كشف أيضا عن بعض ملامح نفسيته العجولة اليائسة.

فقد مَرَدَ الصادق المهدي من قديم على انتظار الكوارث المتلاحقة لكي تحيط بنظام الإنقاذ وتدمره وتخلصه منه.

وظل مداوما على هذه الخلة لا يبرحها منذ أن هبط جنود المارينز في الصومال في أوائل تسعينيات القرن المنصرم.

وحينها كتب مقالا عجولا بصحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية لمح فيه إلى أن الخطوة التالية هي هبوط المارينز بالخرطوم لإزالة نظام الإنقاذ.

وذلك ما لم يحدث بالطبع.

ولكن الصادق بقي على خطة الإرجاء والترقب يقتات من أوهامه الرخوة النسج.

ولذلك فعندما اندلعت حرب الخليج ظن أن عقابيلها ستزيل نظام الإنقاذ. وبشر المعارضة بذلك، وقام بالتفصيل طويلا في رؤيته غير الثاقبة تلك.

ولما لم يحدث شيئ مما توقع وقع أسير وهم آخر من أوهامه فظن أن دول الجوار الإفريقي ستزيل نظام الإنقاذ وطبل لذلك الزعم كثيرا.

بل عمد إلى الخروج المتخبط في (لا تهتدون) حتى يأتي في طليعة جيش الفتح الظافر.

ولما لم يحدث شيئ من ذلك آثر أن يستثمر في خلافات الإسلاميين التي ظن أنها ستزلزل طود الإنقاذ فعرج سراعا إلى جنيف ليشارك حسن الترابي في تآمره على الإنقاذ.

ثم ما عَتَّم أن نفض يده من يد الترابي ليضعها في يد البشير في جيبوتي.

ثم خلع يده عن يد البشير ليضعها في يد الترابي مجددا.

ويومها صرح لأتباعه بأن الشخص الوحيد القادر والمؤهل للقيام بخطة خلخلة نظام الإنقاذ هو مهندس الإنقاذ وفيلسوفها الأول حسن الترابي.

ولذلك هرول إلى استقباله بدار حزب المؤتمر الشعبي يوم خروجه من السجن.

ثم عاد لمغازلة الإنقاذ وسطر وثيقة في تحالف حزبه معها ما أدري ما كان اسمها!

لأنه سريعا ما عاد ونسخها وولى وجهه شطر قوى التمرد في دار فور وقام بتحريضها ضد الإنقاذ.

ثم دلف إلى مضمار السباق الانتخابي الرئاسي الأخير ظانا أن الانتخابات ستثب به إلى الكرسي الذي لا يرف خياله عنه.

ولكنه ما لبث أن تذكر عاداته في التراجع عن مساراته فانسحب من الانتخابات قبل يومين من إجرائها.

حديث غير ذي جدوى:

وتخبط بعد ذلك كثيرا يمينا ويسارا، ثم جاء اليوم ليتربص بالإنقاذ، مغتنما فرصة الفتنة، التي ستعقب الانفصال، متوهما أنها ستقلص ظل الإنقاذ، وتقوض حكمها شديد الرسوخ.

وظن أن هذه الفتنة ربما حملته على أجنحتها لكي يتربع على سُدَّة السلطة التي ظلت تستبد بأهوائه وتعصف به منذ الشباب.

ولكنه ما يدري، وهو يتقلب في أحلامه تلك، أن دون ذلك خرط طويل للقتاد.

وطالما تباعد عن الصادق تحقيق حلمه المجنَّح بامتطاء حصان السلطة، فإن خياره الثاني، وهو خيار الاستقالة، يصبح هو الخيار الأجدى.

ولكن أي حديث عن استقالة الصادق إنما هو حديث غير صادق وحديث غير جدي.

وحديث ليس بذي جدوى!

 

 



© Copyright by sudaneseonline.com