From sudaneseonline.com

بقلم : سالم أحمد سالم
الجماعات الباطنية احتلت السودان .. وتتربص السعودية والخليج ومصر /سالم أحمد سالم
By
Dec 21, 2010, 02:53

 

الجماعات الباطنية احتلت السودان .. وتتربص السعودية والخليج ومصر

 

سالم أحمد سالم

[email protected]

 

"لا تعذب القطة يا ابني .."

هكذا تقول معظم أمهات السودان لأطفالهن عندما يلاعبون القطط الصغيرة بنوع من شقاوة الأطفال مثل حمل القطة من ذيلها أو جذبها من فروتها .. !

شعب تمنعه قيمه عن مداعبة قطة بقليل من "خشونة" الطفولة البريئة، هو بالتأكيد شعب لا يعرف ما هو تعذيب البشر! على أن طهارة المجتمعات السودانية من دنس تعذيب البشر لا تعني أنه شعب ضعيف. فهناك فرق بين الرحمة وبين القسوة وانتزاع الرحمة. وفي يقيني أن الرحمة من خصال الأقوياء، والقسوة هي استخدام القوة في غير موضعها فهي من خصال ضعاف النفوس. فالإنسان الرحيم يكون عادة من أصلب البشر وأقواهم في مواقف الحق، فالرسل والأنبياء وخاتمهم الرسول الكريم، الرحمة المهداة، كانوا أكثر الناس رحمة مع البشر سلوكا ومع الحيوان وفي التبليغ بالحسنى بلا فظاظة قلب ينفض عن حولها الناس، وهم أيضا أصلب البشر عودا وموقفا مهما تأذوا.

والشعوب السودانية في مجملها سليلة تراث عريق مزاجه الرحمة والصلابة وسجلوا على صحائف التاريخ ملاحم مشهودة مثل المعركة التي أرّخ لها المؤرخ اليوناني هليودور والتي دارت في القرن السادس قبل الميلاد بين السودانيين بقيادة الملك هيدسبأ أو هود سابا ضد جيوش الفرس التي كانت تحتل مصر بقيادة اورونديت نائب إمبراطور الفرس، والتي انتهت إلى هزيمة قاسية للفرس ولحلفائهم من الليبيين والمصريين، إلى مجالدات السودانيين العسكرية في الشام وفلسطين وإجبارهم أكبر قوة عسكرية آنذاك على الانكفاء. ونقرأ من إرشادات الملك بيي (بعانخي) في القرن الثامن قبل الميلاد إلى جنوده: "وإذا قال لكم (يقصد جيش الخصم) انتظروا المشاة وسلاح المركبات القادمة من مناطق أخري، فتريثوا لحين وصول جيشه ولا تبدأوا المعركة إلا عندما يطلب ذلك، وإذا كان حلفاؤه في مدينة أخري فأصدروا الأوامر بالانتظار حتى يصلوا .. قولوا يا هذا أسرج أفضل ما في إسطبلك من جياد وهيئ نفسك للمعركة" ولأن التاريخ ليست به فجوات، فقد ظلت هذه القيم تتعتق داخل المجتمعات السودانية وتتفاعل مع غيرها من قيم الشعوب. وإلى التاريخ الحديث نقرأ صحائف الثورات ضد الاستعمار التركي البريطاني فالبريطاني إلى معركة كرري التي أبانت عزائم الرجال وعرّت خواء الحكام إلى ميس ثورة أكتوبر الشعبية 1964 إلى ثورة أبريل التي أطاحت حكم مايو العسكري.

واليوم تتجلى شكيمة المجتمعات السودانية في أبلغ صورها في فشل الجماعة الحاكمة في أن "تمكّن" لنفسها وفي عجزها الصراح أن تصبح واقعا مقضيا. إذن لا غضاضة أن يجتمع الرفق والرحمة مع الصلابة في نفس واحدة ليشكلان معا الطبائع العامة للشخصية السودانية، إذ ليس من فراغ مقولة أهل الخليج: السوداني لطيف مثل الكولا، لكن لا ترجّه! والجمع بين الرفق واللطف والصلابة أكثر وضوحا عند فئة الشعراء والمطربين والكتاب السودانيين، وهي فئة من المفترض جدلا أن تتسم بالرقة والفن، لكن بعضهم وقف ويقف بصلابة مع قضايا الشعب مهما كلفه ذلك من مهيرة وبنونه بت المك إلى الشاعر خليل فرح حادي حركة الاستقلال إلى صالح عبد القادر صاحب القصيدة المشهورة "أبا الطيّب اسمِعْني ..." التي ألقاها في حفل أقامه الاستعمار، إلى شعراء وكتّاب وأدباء الحركة الوطنية إلى طائفة من الشعراء والأقلام السودانية المعاصرة وإلى المطربين مثل محمد الأمين ومحمد وردي اللذان حفظا عن ظهر قلب جدران زنازين الحكومات الدكتاتورية فما ارتخى لهم وتر. سخيم العقل وحده من يظن أن اللطف والصبر السوداني دالة ضعف، والأيام حبلى وليكذبني التاريخ في مقبل أيامه.

 

منابت العنف

اتخذنا من مشهد الأم السودانية التي تسمّي ملاعبة طفلها للقطة تعذيبا دالّه على عدم تفشي العنف السياسي والاجتماعي داخل المجتمعات السودانية. لكن هذه الصورة تقابلها صور مغايرة لدى شعوب أخرى أوشك العنف والقسوة أن تصبحا من سماتها الغالبة. ولنأخذ على سبيل المثال الشعوب في المنطقتين العربية والأفريقية بحكم القرب. فالتاريخ يحدثنا عن بعض طرائق عمليات الإعدام التي كانت سائدة في المناطق الممتدة من الشام إلى العراق وإيران حتى تخوم آسيا مثل الإعدام بالتوسيط بالسيف، أي قطع الشخص بالسيف من وسطه إلى نصفين وهو حي، أو التجليس على الخازوق، والخازوق لمن لا يعرفه هو عبارة عن ساق أو فرع شجرة مبري الرأس مثل قلم الرصاص يتم نصبه وتثبيته عموديا ثم إجلاس المحكوم عليه على الجزء الحاد فيموت الشخص موتا بطيئا ومؤلما. أو القتل الجماعي بالحرق " قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ" وفي التاريخ القريب كان سحل الخصوم مثل سحل نوري السعيد في العراق، وفي أيامنا القريبة كنتم تتابعون عمليات الإبادات الجماعية التي طالت مئات آلاف المدنيين في الجزائر على يد الجماعات الإسلاموية، ومشاهد الفجيعة عندما تقتحم الجماعات الإسلاموية الجزائرية المدارس وتبيد الأطفال داخل الفصول ورياض الأطفال بالأسلحة الرشاشة. واليوم في العراق لا يمضي شهر دون مشاهد تفجيرات السيارات المفخخة في الأسواق العامة حيث يزدرد الموت بصعوبة اللقم البشرية الكبيرة فلا تمر اللقمة من مريء الموت إلا بجرعات كبيرة من الدم البشري القراح. بل سمعنا لأول مرة بتفخيخ الأطفال والدواب، وفي إيران كان للشاه مقابر كاملة، وبعد الشاه لم تتوقف مطاحن الدقيق البشري، وإلى أفغانستان يكفي أن تقول "طالبان" حتى يفرك الموت كفّيه وفي لبنان كانت "مدرسة" التفخيخ" وإبادة أسر كاملة بأطفالها على الهوية الدينية. وفي أفريقيا مذابح الهوتو والتوتسي في رواندا حيث تعب الموت شبعا وشاب الوالدان وأذهلت كل مرضعة بساطور ووضعت كل ذات حمل حملها بنصل حاد وترى الناس سكارى برائحة الموت .. همجية من الموت المجاني للمدنيين لا تدانيها إلا فظائع الجماعة الاسلاموية الحاكمة اليوم للسودان "جهادا" في الجنوب وقتلا مجانيا لآلاف الأبرياء في دارفور، إلى بيوت التعذيب الرسمية. عنف هذه الجماعة هو مقصدنا من السياق .. من أين جاء وإلى أين يتجه ..

     

بالتأكيد لسنا في وضع مفاضلة بين مجتمعات وأخرى، ولا نزعم أن المجتمعات السودانية مثالية طوباوية، لكنها المقارنة بين سمات تتفاوت بين المجتمعات وداخل المجتمع الواحد حسب حركة التاريخ والظرف السياسي والاجتماعي. فقد نهضت مجتمعات السودان وحضاراته بفضل التنوع على التعايش السلمي وقبول الآخر والمشاركة. بالمقابل فقد تفاقم العنف قبل مئات السنين في بعض المجتمعات العربية والآسيوية بسبب سلطة الفرد (الأباطرة) واستغلال الأديان والأعراق وبالتالي ساد فيها عدم الاعتراف بآدمية المجتمعات الأخرى وكل من يعارض سلطة الفرد، فيتم قمعهم تعذيبا وإبادتهم زرافات. ثم تفاقمت الحالة في المناطق العربية والآسيوية التي ذكرنا بعد انتشار الحركات الباطنية الإسلاموية التي تبنّت العنف وطورته واتخذته، إلى اليوم، أقصر الطرق لفرض هيمنتها مستعيضة بالعنف عن قلة عددها بغية إرهاب المجتمعات وإخضاعها. فقد مضت الدويلات الاسلاموية التي نشأت في الشام وبلاد ما بين النهرين وفارس على نفس منهج القمع والعنف الذي طال آلاف الضحايا وأئمة عظام، وكربلاء مركوزة في تلك النواحي.

وبسبب تأثير موروثات العنف السياسي الاجتماعي واستمرار حكم الفرد، نجد أن الأحزاب السياسية الحديثة في المناطق التي ذكرنا قد قامت على نفس موروث عنف الحركات الباطنية واتخذت من العنف وسيلة للسيطرة والحكم بما يجعل من هذه الأحزاب مجرد حركات باطنية متسترة. مثلا إذا رفعنا غلالة الشعارات الاشتراكية عن حزب البعث العراقي في عهد صدام حسين سنجد أن الحزب قد نشأ على موروث عنف الحركات الباطنية كغيره من أحزاب المنظومة التي نهضت في هذه الرقعة من خارطة الاجتماعية العربية الآسيوية. فهي أحزاب ظاهرها اشتراكي ومنهجها وجوهرها موروث عنف باطني، إذ لا يقبل العقل جدلا أن تدعو للاشتراكية وتقتل الشعب! لذلك تختلف هذه الأحزاب عن منظومة الأحزاب الشيوعية الغربية في زمن المعسكر الشيوعي بسبب اختلاف المورثات الاجتماعية. فبرغم جنوح الأحزاب الشيوعية "الأصلية" للعنف، إلا أن عنف الأحزاب الشيوعية الغربية كان هدفه تثبيت سلطة البروليتاريا، أي طبقات العمال والمزارعين، بينما عنف أحزاب المنطقة هدفه تثبيت سلطة الفرد الدكتاتور. وكذا الحال في إيران، فقد ذهب الشاه وبقي ميراث العنف والتعذيب وتقتيل الخصوم على مشانق الملالي برغم سماحة الإسلام، حيث تم توظيف الإسلام نفسه كغطاء لإكساب العنف المشروعية الربانية!

ثم ضربت رياح العنف الاجتماعي السياسي أفريقيا في نموذج رواندا لعدة أسباب منها محاولة بناء حكومة أو قطر على هياكل قبلية هشّة، إضافة إلى استنهاض غريزة البقاء بإفناء الآخر ورسم حدود سياسية لا تعتد بالواقع الاجتماعي القبلي وتداخلاته الاجتماعية والمعيشية، ثم التمايز الذي زرعه الاستعمار خاصة الألماني بالإيحاء لكل قبيلة بين القبائل الثلاثة الرئيسية أنها تتحلى بصفات وراثية وعقلية أفضل من الأخريات، وأخيرا تلك الأصابع الخفية التي أدارت روليت الموت الاثني بذكاء. (وأخشى أن يحدث في "جمهورية جنوب السودان" ما حدث في رواندا بسبب محاولة بناء الدولة على هيكل وهيمنة القبيلة، فالحركة الشعبية نفسها قائمة على هيمنة القبيلة ويصعب عليها الخروج عن هذه الفكرة)

  

العنف بالتأكيد لا يوجد في الجينات الوراثية لدى هذه الشعوب العربية والآسيوية والأفريقية التي ذكرنا بقدرما هو نتاج لظروف وسياسية كالتي أشرت إليها، وهي ظروف بالغة التعقيد عصية عن الحصر الكامل ومفهومة. لكن ما يجعل العنف سمة هو أن هذه الشعوب قد رضخت للعنف السياسي وتعايشت معه فدخل في تفاصيل حياتها اليومية العادية وأصبح من مكونات المجتمع. مثلا في عراق اليوم يلتهم الموت أربعين بريئا في سوق من الأسواق، وبعد بضعة أيام يعمر نفس السوق من جديد! فالتعايش مع العنف أو رفضه يحددان مدى التصاق سمة العنف بمجتمع من المجتمعات. لذلك، وبسبب ديمومة القتل الإجباري المفروض، ركنت شعوب هذه المناطق إلى توظيف الإيمان بالقضاء والقدر كآلية أو "ميكانيزم" دفاع نفسي، وهو إيمان يشبه الحلم الذي أتى بغير اقتدار حتى كاد أن يخرج الإيمان بالقضاء والقدر عن مقاصده. ولذات الأسباب فقد نشأت " القدرية" في هذه المجتمعات حتى صارت مذهبا.

  

طبعا المجتمعات السودانية ليست وحيدة عصرها لجهة عدم تمدد العنف في السلوك الاجتماعي. ففي الهند قاد المهاتما غاندي "ثورة اللاعنف" التي أحرزت الاستقلال فنهضت في الهند أكبر ديموقراطية في العالم على ميراث اجتماعي عريق برغم حوادث اغتيالات الزعماء بما فيهم غاندي وأنديرا، وهي بالمناسبة ليست ابنة الزعيم غاندي، واغتيال أولادها. وبالمقارنة نجد باكستان مرتعا للعنف والدكتاتوريات والفساد وحكم العسكر لكونها أنشئت أنشاء قسريا على العرق والدين وعلى قرار الفرد منذ أن "قرر" محمد علي جناح الانفصال عن الهند. وفي نموذج الهند وباكستان يتضح التلازم بين الديموقراطية وبين الاستقرار السياسي في الهند، وأيضا التلازم بين الدكتاتورية وحكم الفرد وبين العنف الاجتماعي والفساد كما في باكستان .. وحال باكستان لا يختلف عن حال السودان اليوم، وهكذا الحال في كل مكان في العالم. وفي السياق هناك أيضا العديد من أقطار المنطقة التي تكاد تخلو عن سمات واضحة للعنف الاجتماعي السياسي مثل مصر والمغرب والسنغال وموريتانيا وأقطار أخرى في العالم. وبرغم تعرض بعض هذه البلدان إلى اضطرابات وحالات عنف بسبب الانقلابات العسكرية والفساد السياسي، إلا أن العنف السياسي وجرائم التعذيب ظلت مرفوضة من العقل المجتمعي العام في هذه الأقطار. فالعنف يتحول إلى ظاهرة اجتماعية متى قبله الرأي العام الغالب وتعايش في كنفه.

 

استيراد العنف .. "إرهاب بلا حدود" ..

واضح إذن التباين الفاقع بين خصائص المجتمعات السودانية، وهي خصائص قائمة منذ آماد بعيدة على صيغ السلام والديموقراطية الاجتماعية، وبين العنف الوحشي الذي تمارسه الجماعات الاسلاموية الحاكمة اليوم من أصناف التعذيب والقتل غير الرحيم وغير المبرر والقتل الجماعي للمدنيين في الجنوب ودارفور، وما يحف كيكة القتل المطهّمة بالدماء من زقوم البطش وكرز التنكيل. فالحوار الوحيد الذي تتقنه هذه الجماعات هو حوار بين أسلحتها ورصاصها وسلاسلها وأغلالها وسيطان شرطتها وبين أجساد ضحاياها المدنيين.

هو إذن عنف مستورد استوردته الجماعات الاسلاموية الحاكمة للسودان. هو نسخة مستوردة غير معدّلة عن القسوة والعنف وإرهاب المجتمعات الذي برعت فيها الجماعات الاسلاموية الباطنية المنتشرة اليوم من أفغانستان إلى العراق حتى الجزائر والآخذة في التمدد. والواقع أن الجماعات الاسلاموية الحاكمة للسودان ظلت تمارس العنف والترويع قبل انقلابها العسكري. وبعد الانقلاب قامت الجماعات بإرسال خلاياها من السودانيين لتلقي المزيد من التدريب على طرائق التعذيب والقتل في إيران وغزّة وأفغانستان طالبان و"معاهد" تنظيم القاعدة في تورا بورا. كما استجلبت الجماعات خبراءها في التعذيب والقتل وكسر أنفة الشعوب. قد يستغرب البعض أن أفراد الخلية السودانية في هذه شبكة الجماعات الاسلاموية العالمية سودانيون لهم جلود وسحن وأصول سودانية، ومع ذلك "لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً" ولا تأخذهم في أهليهم رحمة ولا صلة رحم، يتصرفون بضمائر غرباء وسلوك غرباء ومناهج غرباء. لكن يزول الاستغراب عندما يعلم السودانيون أن الجماعة الحاكمة في السودان لا تعدو كونها خلية من ضمن خلايا الجماعات الباطنية الاسلاموية المنتشرة التي تشكل في مجموعها جسدا واحدا، وأن الولاء والانتماء الحقيقي لهذه الجماعة هو انتماء لهذه الخلايا، وأن خلايا هذه الجماعات لا تعترف بالحدود الجغرافية ولا بالانتماءات أو الهويات الوطنية أو حتى القبلية ولا بصلات القربى، وهذه مسائل واردة فعلا وفي مواثيقهم واعترافات أقطابهم. ها هم يفصلون الجنوب عمدا وقد أعلنوا ذلك عشية انقلابهم العسكري، ويتخلون عن حلايب والفشقه وغيرها من تخوم السودان لأنها لا تعنيهم في شيء لأنها حسب معتقداتهم تقع داخل خارطة حلم سلطتهم تماما مثل حلم إسرائيل التي لا حدود لها حتى اليوم. ولا يكترثون لأواصر القربى لأنهم في الجزائر قتلوا أمهاتهم ومرضعاتهم وأخواتهم وإخوتهم وجيرانهم الذين نشأوا معهم في الأحياء وقد اعترفوا بذلك في تسجيلات بعد إعلان "الرحمة" الذي أصدره الرئيس الجزائري الأسبق اليمين زروال، وفي السودان عذبوا زملاءهم واغتالوا رفقاء السلاح ووشوا بجيرانهم والأقرباء وساموهم العذاب الغليظ في بيوت الأشباح. ألم تر كيف تلذذ جند الحكومة "السودانيين" وسياطهم تلتهم مطايب لحم تلك الفتاة السودانية؟

من هذا المنظور الذي لا تحده حدود ولا يعترف بالقطر أو الأهل أو الأخلاق، تتحرك الجماعات الاسلاموية بمختلف جنسياتها أو أصولها وتنتقل من قطر إلى آخر لضرب المجتمعات من أفغانستان إلى العراق إلى السعودية واليمن والسودان إلى الجزائر. السعودي مع اليمني والجزائري إلى جوار السوداني والكويتي مع العراقي. فالانتماء عندهم هو لجماعاتهم والوطن عندهم هي الأرض التي يحتلونها. فاليوم تحتل هذه الجماعات السودان احتلالا استعماريا استيطانيا كما سوف نرى. ومثلما هنالك "أطباء بلا حدود" لعلني أقتبس الاسم لأقول هذا أيضا "إرهاب بلا حدود" هذا الإرهاب الذي لا يعرف الحدود في طريقه إلى أن يحيل السودان إلى أسوأ مما هو عليه اليوم.

 

أيها السودانيون أن خلايا الجماعات الاسلاموية لا تعترف إلا بكينونتها هي فقط وتسقط ما غير ذلك من هويات قطرية أو روابط دم وقربى. ومن حيث أن الانتماء للوطن والشعب هو الذي يحدد الهوية. فالجماعة الحاكمة لها هوية أخرى وانتماء كامل للجماعات الاسلاموية وأسقطوا نهائيا هويتهم السودانية فلا يرونكم منهم ولا يروا أنفسهم منكم لذلك يسمونكم القتل والعذاب ما بقيت هذه الجماعات الاسلاموية الأجنبية تستعمركم. نعم هي جماعات استعمارية أجنبية، ولو كانوا جماعة محلية وطنية ضالة لما صمد حكمهم أكثر من عام أو بضع عام، لكنهم جزء من آلة جهنمية أخطبوطية لها مدد خارجي من المشورة والعتاد والخبرات الكبيرة في عمليات قمع الشعوب وفرض الهيمنة. نعم أعضاء "خلية الواجهة" لهم سحن وأسر وأصول سودانية، لكنهم ليسوا بسودانيين من حيث الانتماء الوطني والمعاملة .. فلا يخدعنكم المظهر والعمائم وأكل الكسرة .. "وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ" التوبة "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ" آل عمران

 

أيها السودانيون أنتم مستعمرون

يرسو بنا السياق أمام جملة من الحقائق:

أولا: ترتكب الجماعة الحاكمة الفظائع وتسوم الشعب السوداني سوء العذاب وتفتك بالملايين من الأبرياء المدنيين بأساليب عنف وقسوة وافدة استجلبتها خلايا الجماعات الاسلاموية كما رأينا من خارج جغرافية السودان ولا تمت بصلة إلى مواريث شعبه وطبقتها بتعسف مبالغ فيه فقطعت الأعناق والأرزاق وشردت الناس عن وظائفهم وعن قراهم وعن حدود الوطن،

ثانيا: الجماعة الحاكمة هي خلية من بين الخلايا المكونة لشبكة الجماعات الاسلاموية العالمية وتنتمي إليها انتماء كاملا في تفكيرها وممارساتها وخططها وترتبط معها ارتباطا عضويا من حيث التكوبن والنمو. وتعترف الجماعة الحاكمة بروابطها الأوثق مع أطرافها الخارجية ولا تؤمن بالحدود أو السيادة الوطنية ولا هوية المواطنة السودانية،

ثالثا: شبكة الجماعات الاسلاموية العالمية هي التي تحكم اليوم قبضتها على كل مفاصل الحياة والاقتصاد والحكم في السودان. وتقوم عناصر شبكة الجماعات الاسلاموية، سودانية وغير سودانية، بعمليات القهر والقتل والتعذيب وفرض السيطرة على المجتمعات السودانية وإلباس السودانيين ثياب الذل،

رابعا: تحكم الجماعة السودان بقوة السلاح، واستولت على الحكم عن طريق عمل عسكري،

 

هذه الحقائق الأربعة الواردة كافية وبالزيادة أن تؤكد أن نوع الحكم الراهن في السودان هو حكم أجنبي يجسد حالة استعمار استيطاني كاملة بمعاونة عناصر سودانية هي جزء أصيل ضمن خلايا الجماعات الاسلاموية العالمية ولا تنتمي في وجدانها إلى الحقوق والقيم السودانية ولا إلى الشعب السوداني بأي حال أو صفة عدا المظهر. وعليه فإن الجماعة الحاكمة من رئيس ووزراء وخلافهم هم مجرد واجهة محلية لابد منها لأنه ليس من الممكن وضع رئيس ووزراء ومدراء من أصول غير سودانية.

 

ليس انقلابا عسكريا ..

ومن حيث أن أي استعمار هو حالة مفروضة بقوة السلاح، فقد قامت خلايا الجماعات الاسلاموية العالمية بعملية الاستيلاء على السودان بالقوة العسكرية والسلاح. فمن الخطأ بمكان أن نقول أن ما جرى كان انقلابا عسكريا تقليديا. فالانقلاب العسكري كان الوسيلة الوحيدة لتحقيق الحالة الاستعمارية من الداخل. فقد كان في حكم المستحيل أن تستخدم شبكة الجماعات الاسلاموية الأسلوب الاستعماري التقليدي الذي تزحف فيه الجيوش الأجنبية من الخارج وتستعمر البلاد. وإذا كانت جميع الحالات الاستعمارية التقليدية لها عناصر محلية يستخدمها المستعمر، أو ما يطلق عليهم اسم العملاء أو أذناب الاستعمار، إلا أن الحالة الاستعمارية الجاثمة على السودان تختلف عن ذلك. فالخلية السودانية المشاركة ليست مجرد عميل أو ذنب، بل هي خلية أصيلة من خلايا الجماعات الاسلاموية العالمية التي تستعمر السودان اليوم. وقد قامت الخلية ذات الأصول السودانية بتنفيذ الجانب العسكري من الخطة الاستعمارية مستغلة تغلغلها داخل القوات المسلحة السودانية متخفية تحت تمظهرات الانقلاب العسكري. ولما كانت الخديعة من أهم أدوات الحركات الباطنية، فقد خدعت شبكة الجماعات الاسلاموية كل القوات المسلحة عندما أعلنت فجر الانقلاب الاستعماري أن تحرك القوات المسلحة يتم بناء على تعليمات القيادة العامة! ومن ثم قدمت لها الشبكة الاسلاموية العالمية كل ما يلزم لإحكام قبضتها من خبراء وسلاح ومال ونفط وإعلام وتمويه. وقد جرى الإعداد لعملية الاحتلال قبل سنوات من الانقلاب من خلال السيطرة على حركة الاستثمار والمال والمصارف واحتكار السلع الضرورية. ونسبة لحساسية الشعب السوداني من سيطرة الغرباء، فقد كان من البديهي أن تظل الخلية ذات الأصول السودانية هي الواجهة والذراع المنوط إليها تنفيذ العمليات القـذرة ضد المجتمعات السودانية، وكواجهة تدير القصر الجمهوري والوزارات بالأصالة عن الشبكة الاسلاموية العالمية وبالأصالة عن نفسها كونها خلية فاعلة في جسد الشبكة الاسلاموية.  

 

الجماعات الاسلاموية .. نسخة يهود الشتات!

لقد درج الناس على المفهوم الكلاسيكي القديم للاستعمار، والذي يتجسد في دخول جيوش غازية أوروبية بيضاء تستعمر البلاد مثل الاستعمار البريطاني والفرنسي والبرتغالي والاسباني والبلجيكي وغيرها من القوى الأوروبية التي احتلت العالم وسلبت الشعوب حرياتها وثرواتها. ذلك النوع من الاستعمار قد اندثر لأنه أضحى يكلف باهظا. أميريكا نفسها فشلت أن تكون مستعمرا كلاسيكيا من فيتنام إلى بنما إلى كوبا وتاهيتي حتى عراق اليوم. الاستعمار في ثيابه "الوطنية" تمثل لاحقا في الدكتاتوريات التي خلفها الاستعمار الكلاسيكي من أجل رعاية مصالحه عبر وجوه محلية لها نفس السحن وتأكل نفس الطعام الوطني مثل بوكاسا والجنرال أوغستو بينوشيه دكتاتور تشيلي الذي قاد انقلابا عسكريا نيابة عن الحكومة الأميريكية واغتال الرئيس المنتخب الليندي، وغيرهما كثر. لكن سرعان ما اضمحلت موجة الدكتاتوريات خلفاء الاستعمار الكلاسيكي بعد استنفاذ الغرض منهم. ومن ثم نهضت الانقلابات العسكرية كبديل دكتاتوري فوجدت الدول الكبرى بما فيها الصين ضالتها في الأحكام العسكرية. فالحكم العسكري يضع السلطة في يد حفنة قليلة يمكن للدول الكبرى فرض الشروط عليها، وبالتالي حافظت الدول الكبرى على مصالحها من خلال الدكتاتوريات العسكرية. زد على ذلك أن الدكتاتوريات العسكرية تدمر النمو الاقتصادي الوطني وتعيق ازدهار الصناعة، وكلها تصرفات تصب في مصالح الدول الصناعية الكبرى في إبقاء أقطار العالم الثالث كمصادر للمواد الخام رخيصة الأسعار.

 

نسخة عن يهود الشتات ..

على أن الحالة الاستعمارية الماثلة اليوم في السودان هي آخر صيحة في عالم الاستعمار وإن كانت نسخة مكررة عن عملية احتلال فلسطين بواسطة يهود الشتات. فشعوب الاستعمار الكلاسيكي مثل الشعب الفرنسي والبريطاني والهولندي أو خلافهم لهم أقطار انطلقوا منها الاستعمار العالم. لكن شبكة الجماعات الاسلاموية كانت قبل احتلالها السودان عبارة عن "خلايا شتات" بلا وطن. بذلك فإن الجماعات الاسلاموية العالمية أقرب إلى حالة يهود الشتات من حيث أنهم كانوا يبحثون عن وطن يحتلونه استيطانا. وبالفعل وجدت الجماعات الاسلاموية العالمية ضالتها في السودان فاحتلته واستولت على أراضيه، فاستعمرت السودان استعمارا استيطانيا ماثلا. كذلك الجماعات الاسلاموية أقرب إلى يهود الشتات من حيث التعدد الاثني وأنهم تجمعوا من أصول مختلفة، وأقرب إلى يهود الشتات من حيث اعتناقهم معتقدا واحدا بعد أن قاموا بتحريفه. فيهود الشتات حرفوا الديانة اليهودية لتشريع الاحتلال والجماعات الاسلاموية المحتلة حرفت الإسلام أيضا لشرعنة الاحتلال واستعباد الشعب السوداني. والجماعات الاسلاموية أقرب إلى يهود الشتات من حيث أن جزء من يهود الشتات كانوا من سكان ارض فلسطين، وهو ما يطابق الخلية ذات الأصول السودانية في تركيبة خلايا الشبكة الاسلاموية المستعمرة للسودان. والجماعات الاسلاموية المحتلة اقرب إلى يهود الشتات من حيث أنهم كانوا يبحثون عن وطن يحتلونه وينطلقون منه لتحقيق دولتهم بالتوسع في الأقطار المجاورة تماما كما فعلت إسرائيل، والخطوة القادمة بعد السودان هي بالضرورة احتلال مصر أو السعودية باعتبار أن مصر والسعودية هدف استراتيجي والسودان هدف تكتيكي. والجماعات الاسلاموية العالمية أقرب إلى يهود الشتات من حيث أنهم ساموا شعب السوداني الويلات والعذاب كما تفعل إسرائيل بالشعب الفلسطيني أو كما فعلت ألمانيا النازية أو كما فعل الاستعمار الاستيطاني في جنوب أفريقيا وانغولا والجزائر وموزامبيق. والجماعات الاسلاموية العمالية أقرب إلى يهود الشتات من حيث أنهم استملكوا الثروات والأموال وانتزعوا الأراضي الجيدة على غرار ما يفعله أي استعمار استيطاني. فالاستعمار الاستيطاني يستهدف استملاك الأرض واستلاب الثروات، حيث يعيش المستوطنون في نعيم الثروات بينما يعيش الشعب صاحب الثروات إلى هامش الحياة حيث الفقر والمرض والجوع والإهمال وانتشار الفاقة والسجون والحرمان التام للحرية والكرامة وكلها أشياء حاصلة اليوم في السودان. هذه الصورة من البؤس الشعبي كنا نراها حتى وقت قريب في أقطار تتمتع بثروات هائلة مثل جنوب إفريقيا وأنغولا والجزائر إبان الاستعمار الاستيطاني العنصري. واليوم تتجسد الصورة في فلسطين حيث الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي وفي السودان حيث الاستعمار الاستيطاني للجماعات الاسلاموية المحتلة. والجماعات الاسلاموية العالمية أقرب إلى يهود الشتات من حيث أن المحتل اليهودي شرد الفلسطينيين خارج بلادهم، والجماعات الاسلاموية في السودان أجبرت قرابة سبعة ملايين مواطن سوداني على مغادرة البلاد قسرا بعد إحالة مئات الآلاف إلى ما أسموه بالصالح العام. والجماعات الاسلاموية المحتلة للسودان أقرب إلى يهود الشتات من حيث تهديمهم البنى التحتية للتعليم ونشر البطالة والمخدرات في أوساط الشباب، وأقرب إلى يهود الشتات والحركة النازية والفاشية الايطالية من حيث إقامة مراكز خاصة ومجهزة بالأدوات والجلاوزة القساة لتعذيب واغتيال الوطنيين .. إلى غير ذلك من وجوه التشابه الذي أضحى تطابقا كاملا.

 

إسلاميون وعنصريون .. !   

إسلامويون وعنصريون نعم، وأنا وغيري على معرفة وتجارب طويلة مع جذورهم الاجتماعية العربية والآسيوية حيث تتفشى العنصرية، وأنا أيضا شاهد حضر وسمع جانبا من عنصرية زعامات الاسلامويين واحتقارهم للشعب السوداني ونظرتهم الاستعلائية التي اصطكت في نفوسهم منذ طفولتهم. حدث ذلك عندما عقد حسن الترابي في تسعينات القرن الماضي ما اسماه المؤتمر العربي الإسلامي وأتى الترابي بزعامات الجماعات الاسلاموية لفيفا ولفائف من فجاج الأرض وكهوفها. في ذلك المؤتمر وفي حديث جانبي قال زعيم الجماعة الجزائرية بحركات تنم عن استصغار واستكبار ".. السودان قطر أفريقي وشعبه أفارقة إلمامهم ضعيف باللغة العربية ومعرفتهم محدودة بالدين الإسلامي .. لذلك لا يصلح السودان لقيادة العالم الإسلامي .. ودوره هامشي في العالم العربي .."  كنت قد دعيت للمؤتمر ضمن مجموعة من الكتاب والصحافيين الأوروبيين، وتشاء الصدف إنني كنت أقف وسط "غرزة" من زعامات الجماعات الاسلاموية عندما قال زعيم الجماعة الجزائرية كلامه، فسمعت حديثه .. وطبعا جاوبته بما يستحق! وظل الرجل يلاحقني باعتذاراته وتوسلاته أن لا أذكر اسمه! قد انشر الحوار لاحقا.

ما يهمنا هنا، مع أكيد فخارنا غير المحدود بسودانيتنا وتأثيراتها الكبيرة أفريقيا وعربيا وعلى الثقافات الإنسانية، أن معظم زعامات وأفراد الجماعات الاسلاموية ترى الشعب السوداني في أحسن الحالات كونه شعبا أفريقيا دون المقام العربي! وفي أدنى الحالات مجرد عبيد سود! والمسالة كما تعلمون لها جذورها الضاربة في هذه المجتمعات. فالثابت تاريخيا أن بعض الأقطار العربية عارضت انضمام السودان لجامعة الدول العربية من هذا المنظور، وقبل شهور سمعتم بالفضيحة العنصرية ضد السودانيين في لبنان، ثم "المحكيات" العنصرية الفلسطينية تجاه السودان والسودانيين، والتي لا أجد لها سببا موضوعيا! وحتى عندما احتضن السودان اللاجئين الفلسطينيين بقرار من الدكتاتور جعفر نميري، فقد بدرت عن بعض اللاجئين الفلسطينيين سلوكيات وأقاويل متعنصرة ضد الشعب السوداني المضياف، وظهر ذلك في كتابات وأحاديث الفلسطينيين الذين ارتحلوا عن السودان مثل مقولتهم "منظمة التحرير أرسلتنا إلى بلد العبيد" وفي السياق، فقد روى لي الراحل صلاح أحمد إبراهيم أنه شاهد فيلما وثائقيا يكشف أن العراقيين كانوا يضعون الشبان السودانيين في الصفوف الأولى أثناء المعارك ضد إيران ساترا بشريا للجنود العراقيين. وأذكر أن صلاح كان في غاية الغضب والحزن. وطبعا لا تخلو حياة سوداني خارج السودان من تجربة مماثلة صغرت أم كبرت!

لا حياء في قول الحقيقة ومجابهتها، والسياق العلمي يقتضي ذكر مثل هذه السلوكيات التي نعلم أنها إسقاطات شعوبية. فمثلما تسقط الشعوب الأوروبية الدونية على الشعوب العربية،  تسقط بعض الشعوب العربية بدورها ما أثقل كاهلها من الميز العرقي على شعوب أخرى من واقع اللون الذي تلون به السلوك العنصري العالمي في القرن السادس عشر. وهو سلوك لا يهبش الوجدان السوداني شديد الاعتزاز بذاته. والأمر لا يختلف عن إسقاطات بعض السودانيين على إخوانهم في الجنوب.

مقصدنا هنا أن زعامات وأعضاء الجماعات الاسلاموية العربية والآسيوية وحتى عناصرها السودانية قد فشلت في الفكاك عن هذه المفاهيم السائدة في مجتمعاتهم التي تربوا عليها منذ طفولتهم. وليس من داع أن يأتينا أحد بمباخر مبررات "الأخوة والعروبة والإسلام" فهذه حقيقة لا يمكن إنكارها، موجودة ومتداولة داخل هذه المجتمعات نفسها. ويزيد من بؤس الفكرة أن فهم الجماعات الاسلاموية للدين لا يعدو السطح بضع بوصات، والدين عندهم مجرد وسيلة لقهر الشعوب، ثم جعلوا منه مطية للميز العرقي الذي له أهمية كبيرة في هذا السياق كما سوف نرى.

 

محصلتان مهمتان للغاية من هذه الجزئية ينبغي أن نقرأهما معا. أولا: شبكة الجماعات الاسلاموية العالمية تحتل الشعب السوداني. وثانيا: تنظر زعامات الجماعات الاسلاموية للشعب السوداني نظرة استعلاء عرقي. هاتان المحصلتان تفسران معا جملة من الحقائق:

أولا: الوحشية والتعذيب والتشريد والقتل المنظم الذي تمارسه الجماعات الاسلاموية في السودان كأي مستعمر استيطاني يشعر بدونية الشعب الذي استعمره،

ثانيا: تكسير هياكل الاقتصاد وتحطيم الزراعة والتعليم وتحويل الاقتصاد من الإنتاج إلى المضاربة، والمشاريع التي تنفذها الجماعات إما لمصالحها التمويلية أو ضمن خططهم الإستراتيجية في المنطقة مثل مشاريع السدود لاستدراج مصر. فالجماعات الاسلاموية المستعمرة لم ترغب بتاتا في تطوير البلاد إلا بالقدر الذي يخدم مصالحها، والواقع الملموس يؤكد بذاته أن الجماعات المحتلة لم تقدم مشروعا واحدا لتطوير البلاد وسد احتياجات الشعب على مدى 21 عاما من الاحتلال. زد على ذلك تبديد الأموال الطائلة بغير حساب وتهريب وسرقة عائدات البلاد إلى خارج السودان لتمويل عمليات الشبكة الاسلاموية وأرصدة زعاماتها،

ثالثا: التصرف في الأراضي والممتلكات العامة والمشاريع الوطنية المهمة مثل مشروع الجزيرة والسكة حديد والاتصالات بتدميرها أولا ثم تحويل ملكياتها إلى الجماعات وشركاتهم في الداخل والخارج كأي مستعمر استيطاني،

رابعا: ككل محتل آخر استجلبت الجماعات الاسلاموية قوانينها معها وفرضتها قسرا لأجل تكريس وحماية مصالحها بصرف النظر عن حجم الحيف والضرر الذي أصاب الشعب السوداني جراء هذه القوانين التي لا تتوافق مع التراث الأخلاقي والقانوني والإداري والاجتماعي السوداني.

خامسا: تستغرق الجماعات المستعمرة وقتا طويلا في اتخاذ بعض القرارات البديهية التي تهم مصلحة المواطن، ثم يجيء قرارها منافيا لأقل التوقعات إذا لم يصب في غير مصلحة الشعب السوداني. البطء دليل على أن القرار النهائي يتم اتخاذه خارج السودان، وأن القرار يتم اتخاذه وفق أولويات أخرى ليس من بينها مصلحة المواطن السوداني.    

هذه البديهيات توضح بما لا يحتاج إلى توضيح وشرح أن الجماعات الاسلاموية مجرد غرباء يستعمرون الشعب السوداني استعمارا استيطانيا لئيما .. وتوضيح الواضح من المعضلات! ..  

 

مواقف أقطار المنطقة ودول العالم:

أولا يجب أن نضع قيد الاعتبار أن الجماعات الاسلاموية العالمية قد أعيد تأسيسها على نظم حديثة وخطط منظمة وأموال ومصارف واستثمارات ضخمة ومخابئ للأسلحة وعلاقات دولية وإقليمية واسعة وتخدمها شخصيات سياسية إقليمية مرموقة لا تبدو عليها علاقة مع هذه الجماعات، ولم تعد الجماعات الاسلاموية في مظهرها على هيئة تلك الجماعات الباطنية القديمة ذات السلوك الهمجي المندفع، وإن احتفظت في باطنها بنفس أفكارها الباطنية وفي مقدمتها الاستيلاء على الحكم في كل الأقطار الإسلامية. لذلك أصبح من العسير تحديد هوية واحدة للجماعات الاسلاموية العالمية التي أضحت تحمل أكثر من بطاقة وترتدي أكثر من قميص ودشدادشة! لذلك، وإلى اليوم، لم يفطن غالبية الشعب السوداني إلى حقيقة الوضع الاستعماري القائم وصعب عليه التعرف على هوية الجماعة التي تحكمه من وراء حجاب وجلد سوداني. وبالمثل اختلط الحال على بعض الأقطار المجاورة للسودان. زد على ذلك أن شبكة الجماعات الاسلاموية قامت في ماضيها وفي حاضرها الباطني على شعبتي المكر والخديعة، في ماضيها منذ "أنزع علي كما أنزع سيفي هذا .. وأثبّت معاوية كما أثبّت سيفي هذا" وفي حاضرها في الانقلاب الاستعماري الذي خدعوا به القوات المسلحة السودانية والشعب السوداني واحتالوا به على جميع أقطار الجوار.

 

السعودية وأقطار الخليج ..

لا ينكر أحد أن بعض الأقطار المجاورة مثل المملكة العربية السعودية سبق أن مدت في بادئ الأمر يد العون للانقلاب العسكري على فهم أنه حكم إسلامي، لكن هذه الأقطار عميت أن ترى آنذاك أن المختبئ داخل الماكينة العسكرية الانقلابية ويديرها ويحرك تروسها وواجهتها السودانية هو شبكة الجماعات الباطنية الاسلاموية. وطبيعي أن لا تدرك هذه الأقطار مخاطر الانقلاب على كل المنطقة خاصة وأن الجماعات الاسلاموية تتقن حرفة التخفي والمكر. لكن عند غزو العراق للكويت اضطرت الجماعات الاسلاموية أن تكشف جانبا عن وجهها عندما أعلنت حكومة الجماعات الاسلاموية في الخرطوم مساندتها للعراق. والواقع أن موقف الجماعة المستعمرة للسودان شكل صدمة للسعودية وأقطار الخليج. ولم تتضح الصورة إلا بعد انكشاف أمر التحالف الوثيق الذي كان قائما آنذاك بين صدام حسين وبين فصائل شبكة الجماعات الاسلاموية التي كانت موعودة بحصة من الغنيمة في كل أقطار الخليج. فمهما كان صدام حسين أحمقا أو بليدا أو ما قيل عن أن أميريكا قد خدعته، لم يكن له أن يقدم على تلك الخطوة دون سند قوي من داخل المنطقة. إذ لا يقبل عقلا أن صدام حسين، وهو رجل عسكري يعرف الأصول العسكرية، قد فكر وقرر أن يسيطر بقواته الشحيحة على المنطقة الممتدة من ميناء البصرة إلى ميناء عدن. وها هي الجماعات الاسلاموية تفتك بالشعب العراقي كنوع من رد الجميل!

كذلك أحدث الموقف المساند للعراق صدمة للشعب السوداني الذي لم تكن له مصلحة في تأييد غزو الكويت ومناصبة السعودية وأقطار الخليج العداء .. اللهم إلا في حال أن تكون المصلحة هي إلحاق الضرر بوظائف مئات آلاف السودانيين العاملين في السعودية وأقطار الخليج! الاستهتار بمصالح ملايين السودانيين كان فيه الدليل الكافي أن مصالح الشعب لم تكن في وراد اهتمام الجماعات الاسلاموية. ثم إن عدم مراعاة مصالح الشعب السوداني يقيم الدليل أن قرار تأييد صدام حسين جاء من خارج السودان لخدمة أجندة خارج السودان.

 

مصر .. في الفخ !

الحكومة المصرية بدورها هللت للانقلاب العسكري .. وكمان اعتبرتهم أولادها! فانطلت عليها خدعة الجماعات الاسلاموية البارعة في المكر والخديعة. لكن محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك، مثل غزو الكويت، كشفت استهداف الجماعات الاسلاموية لمصر عن طريق خلق فوضى سياسية، ومن ثم فتح جبهات عنف داخل المجتمع المصري وفق خطة إطباق تعقب الفوضى. ثم إن اختلاف جنسيات العناصر التي شاركت في محاولة الاغتيال قدمت الدليل المادي على تواجد خلايا الجماعات الاسلاموية من شتى أنحاء العالم داخل السودان علاوة على سيطرة الجماعات على مفاصل القرار وتمتعها بحرية الحركة والفعل مهما كانت درجة خطورته.

 

وبعد فشل المحاولة بذلت الجماعات ظهرها وبطنها ودموعها لمصر لعلها ترضى، فرضيت مصر! تركوا لها حلايب وبنوا لها سد مروي وغيره لتخزين حصة مصر من مياه النيل وتمرير الطمي ورفع الضغط عن السد العالي، ثم وقفوا يساندون مصر أمام أقطار حوض النيل وأفردوا لمصر ملايين الأفدنة في أطيب أراضي السودان الخصيب في مشروع الجزيرة والشمال وغيره وفتحوا الأبواب أمام العمالة المصرية غير المدربة. وهكذا استبشرت مصر بالخير الوفير والماء والزرع والضرع السوداني الذي سوف يحل ضائقات أمرها. لكن الواقع أن مصر قد بلعت الطعم وأدخلت رأسها في حلقة حبل الشرك الذي نصبته لها الجماعات الاسلاموية بعناية، ومصر تظن أنها تحقق مكاسب في السودان! ذلك أن محاولة دخول الجماعات الاسلاموية دخولا مباشرا للسيطرة على مصر من شأنه أن يخلق ردة فعل قوية مصرية وعالمية. لذلك كانت خطة الجماعات هي إدخال مصر للسودان بإغراء مصر و"تمييع الحدود" وبالتالي فإن دخول مصر السودان يعني تلقائيا دخول الجماعات الاسلاموية إلى مصر بلا حدود ولا غربال! وأشد ما يحيرني أن مصر لم تدرك إلى اليوم أنها هي الهدف الاستراتيجي للجماعات الاسلاموية انطلاقا من السودان.

 

فماذا أنتم فاعلون يا أقطار الجوار؟ !

مصر معقل الكثافة السكانية ذات الموقع الاستراتيجي والسعودية وأقطار الخليج ذات النفط تظل الهدف الأساسي لهذه الجماعات وليس السودان. والواقع وحقائق التاريخ تؤكدان معا أن احتلال الجماعات الباطنية للسودان هو احتلال تكتيكي لأن السودان بتنوع اثنياته ونزوع مجتمعاته للديموقراطية والحرية كمطلب أول وأزماته الاقتصادية خاصة بعد انفصال الجنوب الوشيك، ثم تراث الحكم في السودان الذي لا يقبل تفرد شخص أو فصيل واحد بالحكم، كلها عناصر تجعل في حكم المستحيل استمرار احتلال السودان لفترة طويلة. فقد فشل "التمكين" والشعب يدفع بقوة نحو الحرية حتى لو تصدّعت البلاد كما قشرة البيضة.

مأزق أقطار الجوار أن السودان يشكل اليوم الأرض الثابتة لهذه الجماعات للانقضاض ولو بعد مائة عام على الأهداف الإستراتيجية في السعودية وأقطار الخليج حيث النفط كسعلة ذات مردود وسلعة ضغط على القوى الدولية، علاوة على الموقع الاستراتيجي. وبذات المستوى سوف يظل الخطر يتهدد مصر ذات الموقع التاريخي والجغرافي والكثافة السكانية طالما ظلت شبكه الجماعات الاسلاموية تستعمر السودان. ذلك أن وقوف هذه الجماعات على أرض صلبة في السودان يجعل خلايا الجماعات الاسلاموية في مصر تقف على نفس الأرض الصلبة، فهي جماعات لا تعترف بالحدود ولا بالهوية القطرية .. وما أقصر المسافة بين قصر عابدين والقصر الجمهوري عند مقرن النيلين! والمشكل مع هذه الجماعات أنها لا تحيد عن أهدافها مهما بلغ حجم الترضية المادية المبذولة لها، فهي تريد "الأصول الثابتة" وليس فائض القيمة ولا تقبل بالقسمة! فلا تغرنكم دعوات "دولة العروبة والإسلام وشرع الله واللغة العربية" فهي حبل من مسد! والهزات العنيفة التي أخذ يتعرض حكم الجماعات للسودان سوف يدفعها دون شك إلى الإسراع في تنفيذ خططها في المنطقة قبل أن تصبح بدون ارض. وإذا جانبني الصواب في هذه القراءة، فإنني أفضل أن أقولها اليوم عن الندم على عدم قولها في حينها الآن .. خذوا حذركم على الأقل، ولا تعينوا المحتل على شعب كريم نبيل ... فالأيام دول!

 

أميريكا وأوروبا

الحقيقة المهمة التي يجب أن لا نغفل عنها لحظة واحدة أن الإدارات الاميريكية هي التي استنهضت الجماعات الاسلاموية  وسلحتها ودعمتها بالمال والإعلام لكي تحارب نيابة عن أميريكا في أفغانستان. وفي السياق فإن حركة حماس تمت صناعتها من طينة الجماعات الاسلاموية كمعادل لحركات تحرير فلسطين آنذاك، وقد اعترفت إسرائيل بدور الموساد في صناعة حركة حماس. لكن الحركات الاسلاموية شبت عن الطوق وتمددت وكبرت وبدأت تبحث لنفسها عن قاعدة ثابتة في قطر تحكمه وتتحكم فيه وتنطلق منه. ومن حيث أن الثابت في سياسات الإدارات الاميريكية هو الإبقاء على نوع من التواصل حتى مع أعدائها مثل العلاقة القائمة بين طهران وواشنطن، فقد أبقت واشنطن الجسور قائمة والقنوات مفتوحة بينها وبين هذه الجماعات إلى اليوم وباكر سواء مع تنظيم القاعدة أو غيره من الجماعات الاسلاموية. والملفات التي نقلتها الجماعات الاسلاموية جوا من الخرطوم للمخابرات الاميريكية تؤكد العلاقة، وفي نفس الوقت تدحض أي مسعى لدى الإدارات الاميريكية للقضاء المبرم على هذه الجماعات لأن الملفات كانت هامشية ولم تلمس اللحم الحي لهذه الجماعات. وفي معطى هذه التوافقات بل والتنسيق بين الأجهزة الاميريكية وبين الجماعات الاسلاموية، والتي تبدو بعض جوانبها مثل أفلام الخيال الهوليودي زمن الحرب الباردة، تم "تلبيس" تنظيم القاعدة مسؤولية ضرب مركز التجارة الدولي، وهو عمل خارق لا يقدر تنظيم القاعدة ولا حتى كل أوروبا تنفيذ مثله داخل الأراضي الأميريكية. فقد ثبت بكل القرائن المادية والشهادات أن حادثة 11 سبتمبر "صناعة منزلية" أميريكية خالصة النكهة والتوابل. لكن تنظيم القاعدة قبل تحمل المسؤولية الذي لا يضير تنظيم القاعدة في شيء!

  

في ضوء هذه العلاقة "الباطنية" بين الإدارات الاميريكية والجماعات الاسلاموية نقرأ موقف الإدارة الأميريكية الذي يبدو في ظاهره مناهضا لحكومة الجماعة الاسلاموية في السودان. لكن بتدقيق النظر في مستويات العقوبات والمواقف الاميريكية، يتضح أن العقوبات الأميريكية هي نوع من الدعم لحكومة الجماعات الاسلاموية في الخرطوم، وأن العقوبات الأميريكية لا تعدو كونها وسيلة جيدة لتضليل للرأي العام السوداني والأميريكي! قد يبدو ذلك غريبا للوهلة الأولى، لكن إدارة أوباما عقدت مع حكومة الجماعات الاسلاموية أخطر صفقة في تاريخ السودان الحديث وذلك بمقايضة تمرير واشنطن للانتخابات المزورة، أي الإبقاء على استعمار الجماعات الاسلاموية للسودان، مقابل تمرير كل الأجندة الاميريكية في السودان وأفريقيا والشرق الأوسط، وعلى رأس هذه الأجندة طرد فرنسا وأوروبا عن مناطق الثروات الأفريقية وتخليق كيان قطر في جنوب السودان تريده أميريكا كقاعدة متقدمة في الحزام الأفريقي في ضوء تآكل الحكومات الأفريقية التابعة للمجرّة الأميريكية مثل الحكومة الأوغندية. فقد نزلت أميريكا بكل ثقلها وكارترها ومندوبيها لتمرير التزوير، وحصلت على دولة جنوب السودان. فأميريكا لن تجد أفضل من حكومة الجماعات لتمرير هذه الصفقة الفادحة .. طبعا دون أن تعتد واشنطن، حامل لواء الحرية والديموقراطية، بما يصيب الشعب السوداني على يد هذه الجماعات من قمع وتقتيل ودكتاتورية مفرطة وإفقار وتجويع وترويع. زد على ذلك أن الإدارات الأميريكية تبقي على هذه الجماعات كذريعة لدخول المنطقة في أي وقت "لمحاربة الإرهاب" كما يحدث الآن في اليمن، وأيضا كأداة لتخويف الأقطار المجاورة في الخليج ومصر. ففي التاريخ القريب كانت واشنطن وتل أبيب تنفذان العمليات تحت اسم التنظيم الوهمي "الجهاد الإسلامي" واليوم تنظيم القاعدة موجود ومعترف به دوليا .. يصطاد السياح الأوروبيين ويحولهم إلى رهائن .. وأميريكا يعميها ما شافت!

 

لماذا اختفت موجة التفجيرات "الإرهابية" ؟

اللافت حقا أن موجة التفجيرات "الإرهابية" قد اختفت منذ سنوات في الولايات المتحدة وأوروبا، طبعا باستثناء التصرفات المعزولة البدائية أو التهديدات الأخيرة الجادة التي تعرضت لها فرنسا من قبل هذه الجماعات، ولا نستطيع الزعم أنها تمت بمعرفة أميريكية أم لا! ما يهنا هنا أن اختفاء التفجيرات داخل أميريكا لا يخرج بصورة أو أخرى عمّا ذهبنا إليه فوق من جسور مفتوحة بين واشنطن وبين قيادات الشبكة الاسلاموية. فالتفجيرات "الإرهابية" هزت المجتمعات الاميريكية وكانت وسيلة ضغط فعالة في إقلاق مضاجع الإدارات الاميريكية .. لذلك لابد أن تتوقف! لوجه الله؟

 

طالبان والعرب الأفغان .. في الخرطوم ومدن السودان!

عقدان ونيف من السنوات، ومع ذلك بقيت الجماعات الاسلاموية المستعمرة للسودان مثل الخراج أو الدمّل أو "الحِبِنْ" الملتهب الملفوظ ينشر إفرازه السام على جسد المجتمعات السودانية فيصيبه بالحميات والمسغبة والغبن. ولحسن الحظ فقد ظلت القيم الاجتماعية السودانية عريقة وقوية بحيث لعبت بنجاح دور عناصر المناعة المكتسبة فبقي جسد الأمة حيا لم يمت برغم تداعيات السهر والحمى. وكل تجارب التاريخ قطعت الشك أن جسد الأمة سوف يتمكن من الخلاص من هذا الدمل الوافد. ومن المؤكد أن الخلاص سيكون جراحيا بعد أن فشلت كل العقاقير، فقد كانت آخر جرعة تزوير الانتخابات وضرب التحول الديموقراطي.

 

والخلاص بالجراحة تعني وبلا مواربة أن الشعب السوداني في مؤسساته المختلفة بما فيها بعض فصائل القوات المسلحة سوف تدخل في مواجهات عنيفة وحرب تحرير ضد الجماعات الاسلاموية المحتلة. والتداعيات الراهنة وعلى رأسها انفصال جنوب البلاد وتداعياته، وحرب دارفور ومذابح الشمال والشرق ثم الضائقة المعيشية والغلاء وما احتبس في صدر الأمة من مراجل الغيظ على الظلم والقمع علاوة على فشل الأحزاب الطائفية وعجزها، كلها مسببات تؤكد أن المواجهة قد تقع في أي لحظة خاصة لحظة إعلان انفصال جنوب البلاد .. فالثورة لها أشراطها التي نعرفها ونثق فيها وما أكثر أشراطها وعلاماتها هذه الأيام ..

ومن حيث أن الحكومة الاستعمارية سوف تعجز لا محالة عن مواجهة المد الاجتماعي خاصة في حال انحياز متوقع لبعض الوحدات العسكرية إلى جانب الشارع، من البديهي أن تلعب شبكة الجماعات الاسلاموية ورقتها الأخيرة للحفاظ على استعمارها للسودان باعتباره الأرض الصلبة التي تقف عليها. فإذا تحرر السودان، تعود الجماعات الاسلاموية تلقائيا إلى حالة الشتات عدا بعض مخابئ وكهوف تورا بورا. الورقة الأخيرة ستكون استقدام آلاف كوادرها من مختلف أركان الدنيا لتثبيت حكمها للسودان. لكن تحت أي ذريعة؟

 

هي الحرب الدينية إذن ..

لا توجد ذريعة أخرى عدا الحرب الدينية .. عدا العودة إلى رفع المصاحف على أسنّة الرماح. والحرب الدينية مخطط لها عن طريق جذب الحركة الشعبية إلى مواجهة عسكرية، ومن ثم تنطلق نداءات الجماعات الاسلاموية من أجل حماية الدين وحماية القيم وحماية الأسر والنساء من الفجور والفساد وحماية الشباب من الخمر والفاحشة .. وأن الله لن يعبد في السودان إذا انهزمت "العصابة" المؤمنة! وهكذا تعلن شبكة الجماعات الاسلاموية الجهاد في سبيل الله "للحفاظ على ارض السودان طاهرة من رجس الكفار !" .. وتنفتح المطارات والحدود لنقل طالبان والعرب الأفغان وكل سكان كهوف تورا بورا ومن كل أرجاء المعمورة.

 

بكل تأكيد هذا الجهاد المعلن على الهواء لن يكون ضد "الكفار" الجنوبيين، لكنه سيكون ضد المواطن في بقية السودان! فالجنوب المستقل سوف يكون تحت حماية دولية صارمة، فالجيوش العالمية موجودة ومن السهل تدعيمها بجسور جوية. وسوف تقوم حكومة الجماعات الاسلاموية بالتوقيع الفوري على وقف القتال، لكن بعد فوات الأوان بالنسبة لما تبقى من السودان الذي سوف تكون قد انتشرت فيه الجماعات الاسلاموية المسلحة وأحكمت قبضتها على مدنه وقراه وشوارعه، وكل من يعترض سوف يقمع قتلا وحدا لأنه خان الله ورسوله وتعاون مع الكفار، وكل شاب يتخلف عن التجنيد للقتال ضد أهله سوف يعتبر من الخوالف الذين يستوجب نحرهم على سنة الله ورسوله، وسوف يتم توسيع بيوت الأشباح ودعمها بجلاوزة غلاظ من الوافدين الذين لن يرحموا امرأة ولن يوفروا عرضا ولن يوقروا كبيرا .. ألم نقل أنهم لا يعترفون بالحدود والهويات الوطنية؟ أرض السودان أرضهم والشعب السودان ذبيحة على مذبح الشيطان ..

 

أيها السودانيون .. أنتم مستعمرون استعمارا استيطانيا لم تعرف جنوب أفريقيا نظيرا له في السوء والاستبداد .. قوموا إلى تحرير أنفسكم وبلادكم قبل فوات الأوان .. أيتها الحركة الشعبية أذهبي بالجنوب إلى حين، لكن نحذرك من التعامل بردود الفعل حتى لو اغتالوا سيلفا كير نفسه أو ضربوا جوبا بأطنان القنابل ..

 

سالم أحمد سالم

20 ديسمبر 2010     

 



© Copyright by sudaneseonline.com