From sudaneseonline.com

بقلم : مصعب المشرف
أدبيات الإنفصال .. أوراق مبعثرة (حلقة 14) تاريخ العلاقة بين الشمال والجنوب / مصـعـب المشــرّف
By
Dec 16, 2010, 19:19

 

 

أدبيات الإنفصال ... أوراق مبعثرة

حلقة (14)

الجزء الأول

حقيقة العلاقة بين الشمال والجنوب عبر العصور

مصعب المشرّف

في الوقت الذي تتجذر وتمتد فيه العلاقات التاريخية والنضال السياسي والكفاح المشترك والتمازج العرقي والثقافي والأطر والتنظيمات الإدارية بين القبائل داخل شمال السودان إلى عدة آلاف عام قبل الميلاد والإسلام . ثم ومن بعد الإسلام وحتى تاريخه . فإن العلاقة التاريخية ما بين الشمال والجنوب كإقليمين يضمهما رسميا وطن واحد لا تتعدى الفترة ما بين ديسمبر 1898م و يناير 2011 م ... بل هي علاقة تبدو غامضة لدى الكثير من أهل الشمال والجنوب على حد سواء ... ولعل أقصى ما يتحدث عنه العامة والخاصة إنما يدور حول دور الإستعمار البريطاني في غلق الحدود بين الشمال والجنوب ، وعدم السماح للشماليين بوجه خاص بدخول أرض الجنوب طوال فترة الحكم الثنائي للسودان التي إمتدت ما بين عامي 1898م إلى يناير 1956م.

وبالكاد نستطيع القول أن العلاقة الرسمية المعترف بها بين الشمال والجنوب داخل إطار الوطن الواحد لا تزيد عن 112 سنة منها (57) سنة أبقى فيها الإستعمار البريطاني الجنوب منطقة مغلقة معزولة عن الشمال ... ثم منها (55) سنة قضاها الجنوب في تمرد عسكري وحرب عصابات في مواجهة الجيش السوداني النظامي.

وفي حين أفلحت الثورة المهدية في ضم بحر الغزال والإستوائية منذ عام 1884م وحتى عام 1888م وبسط الخليفة عبد الله التعايشي سلطته في الجنوب حتى الرجاف على يد قادته العسكريين "كرم الله" و "عمر صالح" . إلا أن قصر الفترة التي تغلغل فيها الشمالي في ظل الثورة المهدية داخل الجنوب لأسباب دعوية إسلامية نضالية وطنية تحررية إنسانية سامية (بعيدا عن ممارسة الرق وقناعات الجلابة التجارية) ...... كان لقصر هذه الفترة الأثر الواضح في فشل تشكيل اللبنة الطبيعية وخلق اللُّحْمَة الوطنية بين الشعبين الجنوبي والشمالي وضاعت الفرصة الأولى والأخيرة إلى الأبد بإعادة الجنرال كتشنر فتح السودان عام 1898م.

ومن جملة ما تقدم فإن المرء العاقل يحتار فعلا من بكائيات وحسرات وعبرات القلة القليلة من دعاة الوحدة بين الشمال والجنوب ..... ويندفع هذا المرء بالفعل للتساؤل عن أي رابــط يتحدث هؤلاء؟

إن المؤسف له أنه لا توجد روابط إجتماعية فكرية ثقافية جمعية أو حتى ثنائية بين الشمالي والجنوبي رغم مشاركتهما الحياة داخل وطن واحد .. بل ولعل الأطرف أنه لا يمكن مشاهدة شمالي على علاقة نسب أو صداقة شخصية مع جنوبي ... حتى الزمالة في مجال العمل ومقاعد الدراسة مفقودة بين الطرفين الذكر منهم والأنثى على حد سواء...... أو بما معناه أن كلاهما لا يعترف بإنسانية الآخر منذ الأزل وحتى هذه اللحظة ...... فعن أية وحدة يتحدث البعض الرومانسي الحالم؟

من جهة أخرى إن الذي يغيب عن الذهن والذاكرة الشمالية وربما الجنوبية في آن واحد هو التساؤل عن طبيعة العلاقة بين الشمال والجنوب خلال الفترة ما قبل عهد الحكم الثنائي المشار إليها أعلاه .......

كيف كانت العلاقة بين الشمال والجنوب خلال التاريخ المنظور على أقل تقدير؟

في واقع الأمر لا يرصد التاريخ علاقة إنسانية يمكن الإعتداد بها بين شعبي الشمال والجنوب ... بل على العكس من ذلك فقد نشأت ولا تزال هذه العلاقة تجارية بحتة لا تحكمها العواطف والحب والتقدير المتبادل بين الطرفين. ثم تحول الأمر قبل نيل السودان إستقلاله بسنة واحدة إلى تمرد جنوبي عسكري في مواجهة الحكومة المركزية بالخرطوم.

الطريف أن بعض المتحزلقين من أبناء الجنوب يشطح بهم الخيال الجارف أو لربما يحاولون إيجاد المبرر الأخلاقي لإقامتهم في الخرطوم هربا من أحراش وأدغال جنوبهم المتغلغل في التخلف وممارسات العصر الحجري ؛ فيزعمون لأنفسهم سلطنة الفونج ويدعون أن حدود الجنوب الشمالية الأصلية إنما كانت مدينة الخرطوم وأن إسمها كان "كادا دوم" متجاهلين أن الخرطوم كمدينة لم تنشأ إلا عام 1826م تقريبا .... أو بما يعني أنها مدينة حديثة مقارنة بغيرها من مدن وعواصم القارة الأفريقية ..... ثم أن مسألة أن الإسم كان كذا ثم تم تعديله ليصبح كذا ..... هذا المنحى السطحي في الإثبات باتت أكثر من مضحكة ... وعلى رأي العقيد معمر القذافي فإننا كعرب وعلى هذا النسق يمكننا إدعاء أن "شكسبير" كان عربيا وأن إسمه الحقيقي كان "شيخ زبير" .. ثم تم تحريفه وفق النطق الإنجليزي فأصبح شكسبير..... وعلى ضوء ذلك يمكننا إذن كشماليين الزعم بأن ملكال في جنوب السودان هي مدينة عربية وأن أسمها الأصلي كان " مَـلِـكْ أكـّـالْ " نسبة إلى وجود ملك يحكم هذه المنطقة وما جاورها أشتهر بحب أكل الطعام أو أكل أموال شعبه بحسب الأحوال .... ولكنها ومع مرور السنوات وهحرة الشماليين منها نحو الشمال وغلبة الرطانة الجنوبية في نطق المسميات العربية فقد أصبح إسمها "ملكال" ..... وعلى هذا المذهب الأسمائي الكاريكاتوري المغرق في الإستهزاء والضحك يمكننا نسبة واو و جوبا ونمولي إلى العرب ونجادل في بحور الجبل والغزال والعرب بضفتيه إلخ..... ولكننا برغم ذلك نتمسك بأن مسمى أبيي إنما هو مسمى شمالي خالص بالفعل ، لأن المسمى الحقيقي إنما هو "أب ييي" ... وكلمة "أب" هذه لا تكون إلا في لغة أهل الشمال مثل أب قرجة و أب درق و أب عاج ...... إلخ.

على أية حال نعود لموضوعنا الأساسي فنقول أن العلاقة بين الشمال والجنوب قد شهدت وفق ما تم رصده من تاريخ توترا عرقيا لا يمكن إغفاله أو إنكاره بسبب أطماع التجار الذين وفدوا للجنوب من إتجاه الشمال . وقد تعددت جنسيات هؤلاء التجار ما بين البريطاني واليوناني والشركسي والتركي والمصري ثم تشرب المهنة منهم لاحقا تجار شماليين لعل أبرزهم هو "الزبير باشا رحمة" الذي فتح بحر الغزال وأقام مملكة حقيقية لنفسه في هذا الجزء الواسع من الجنوب.

تركزت العلاقة في وادي النيل بين الشمال والجنوب منذ عهد الفراعنة في مجال تجارة الرقيق (العبيد) وسن الفيل وريش النعام الذين يتم مقايضتهم عادة ببضائع يجلبها هؤلاء التجار من الشمال أهمها السكسك والمشغولات الزجاجية الملونة والبراقة التي يعشق أهل الجنوب التزين بها بالإضافة إلى المواد الغذائية الصناعية مثل السكر والدقيق والذرة وفوانيس الإنارة الزيتية البدائية.

بعد الغزو المصري لشمال السودان الحالي وإحتلاله عام 1821م على يد إسماعيل محمد علي أغا باشا  إلتفت تجار الرقيق إلى وجود ثروات بشرية ضخمة في تلك المناطق التي يضمها إقليم جنوب السودان الحالي ... بل ولا ننسى أن من بين أهم الأسباب التي دفعت بمحمد علي أغا باشا والي مصر حينذاك لغزو السودان إنما كان الحصول على رجال أشداء لتجنيدهم في جيشه تمهيدا لتحقيق طموحاته في إحتلال الشام وشبه الجزيرة العربية .....

ومن ثم فقد شجع العهد الخديوي المصري ممارسة نشاط تجارة الرقيق وفتح الباب واسعا لكافة التجار المغامرين. فكان أول من دخل بحر الغزال من الشمال تاجر يقال له "الحبشي" دخلها سنة 1854م في قارب صغير ثم اقتفى أثره العديد من التجار أشهرهم المصريين : "السيد أحمد العقاد" و "علي أبو عموري" و "محجوب البصيلي" و "غطاس القبطي" ....... ثم من الأتراك كان أشهرهم التاجر "كوشوك"...... وأما من أبناء شمال السودان فقد كان أشهرهم الدنقلاوي "إدريس أبتر" ثم الزبير باشا رحمة الذي طبقت شهرته الآفاق.

وفي الوقت الذي تغفل فيه (عن قصد) مراجع تاريخ تجارة الرقيق الأفريقي عن ذكر أسماء كبار التجار الأوربيون الذين أشرفوا أو مارسوا أو قاموا بتمويل نشاط تجارة الرق إلا أن اليد الأوروبية البيضاء كانت هي الأكثر فعالية لما تمتلكه من إمكانات مالية وتكنولوجيا الأسلحة النارية التي أتاحتها لوكلائها من تجار الرقيق المحليين.  

ومن ضمن ما يقال ؛ فإن هؤلاء التجار الكبار وغيرهم من المئات الصغار الآخرين بدأوا تجارتهم في سن الفيل وريش النعام والحيوانات البرية ثم إلتفتوا إلى تجارة الرقيق فوجدوها رائجة فاحشة الأرباح . فانقلبوا إلى ممارستها يشجعهم على ذلك الملوك والسلاطين الجنوبيين أنفسهم الذين ما فتئوا يخوضون حروبا أهلية ويشنون حملات إنتقامية في مواجهة بعضهم البعض فيأسرون فتيان وفتيات وأطفال القبائل الجنوبية الأخرى ويبيعونهم إلى هؤلاء التجار ليرحلوا بهم إلى الشمال فيبيعونهم من سنار والأبيض جنوبا ونجد والحجاز شرقا حتى أوروبا شمالا مرورا بمصر والشام.

حتى هذه اللحظة لم تكن هناك علاقات أو أطـر إدارية رسمية تجمع  بين الشمال السوداني والجنوب داخل إطار وطن واحد .. بل ولم يكن أحد في الشمال يتعامل مع الجنوب ومواطن القبائل الجنوبية على إعتبار أنه يشاركه الحياة في بلد واحد وداخل حدود سياسية مشتركة.

من ناحيتها لم تشأ الخديوية المصرية وقف تجارة الرقيق ، وإنما إكتفى كل من محمد علي أغا باشا عند زيارته للسودان عام 1839م وكذلك محمد سعيد باشا عند زيارته للسودان عام 1858م إكتفيا بمناشدة التجار وقف الإتجار في الرقيق ... وعليه فقد ظلت هذه التجارة رائجة إلى حلول عام 1865م وهو العام الذي شهد إحتلال الخديوية المصرية لمنطقة فاشودة رسميا وضمها لأملاكها متجاهلة إعتبارها جزءا من أملاكها في السودان ... أو بما معناه أنها وكأنها قد إحتلت بلدا ثانيا جنوب الأراضي الشمالية للسودان الحالي.

أدى إحتلال الخديوية المصرية لفاشودة من أرض الشلك إلى إغلاق المنطقة فبالة النيل الأبيض في وجه حرية نقل الرقيق من أرض الجنوب إلى أسواق الشمال وتشدد السلطات في جباية الضرائب من التجار . ثم تزامن ذلك مع  تنامي إحتجاجات المجتمع المدني في بريطانيا ضد تجارة الرقيق وكذلك في العديد من الدول الإستعمارية الرئيسية وهي فرنسا وبلجيكا والبرتغال . كل ذلك أدى إلى مغادرة تجار الرقيق الأوربيون منطقة بحر الغزال والإستوائية بعد بيعهم لزرائبهم الشوكية هناك إلى التجار المصريين وعلى رأسهم السيد أحمد العقاد الذي بات المحتكر الرئيسي لهذه التجارة الرائجة على الرغم من مساعي الخديوية لمحاربتها بإصدار العديد من الفرمانات الرسمية ... ولكنها كانت فرمانات لا تكاد تبرح بلاط قصر عابدين في القاهرة وسرعان ما تصبح حبرا على ورق ، ويجري تجاهلها في حكمدارية الخرطوم لأسباب تتعلق بالخوف من قدرة تجار الرقيق على شن حروب عصابات ضد الحكومة تارة ، ولأسباب تتعلق تارة أخرى بلجوء هؤلاء التجار إلى إغراء القائمين على نقاط التفتيش بالرشاوي والهدايا الثمينة.

في الجانب الأوروبي نشأت جمعيات مجتمع مدني مناهضة للرق فكانت الدنمارك أول دولة أوروبية تلغي تجارة الرقيق عام 1792م وفي مؤتمر فينا عام 1814م عقدت الدول الأوروبية معاهدة منع تجارة الرقيق وحررت كل من بريطانيا وفرنسا وهولندا عبيدها ..... وفي عام 1865م نص الدستور الأمريكي على إلغاء العبودية...

كان هذا على ما يبدو كافيا لتوجيه ولفت أنظار الخديوية المصرية في القاهرة إلى ضرورة العمل الجاد لوضع حد لتجارة الرقيق في السودان . فكان أن أصدر الخديوي إسماعيل باشا أوامره بإحتلال الأراضي الإستوائية (جنوب السودان الحالي) وضمهما إلى الأملاك المصرية ..... وعليه فد أوكلت مهمة تنفيذ هذا القرار إلى البريطاني السير صموئيل بيكر الذي سبق له أن قام بإكتشاف بحيرة البرت .....

(يتبع حلقة أخرى إنشاء الله)



© Copyright by sudaneseonline.com