From sudaneseonline.com

بقلم :الدكتور نائل اليعقوبابي
شيء يشبه الحرية/بقلم: الدكتور نائل اليعقوبابي
By
Dec 11, 2010, 08:09

                                                   شيء يشبه الحرية

                                                                                بقلم : الدكتور نائل اليعقوبابي

( الحرية

أن تعاش

خارج مراقبة أعين وآراء الآخرين

هي حرية )

            - فيرنر شبرنغر -

               شاعر ألماني

   .. شيء يشبه الحرية أن تختار خطوتك في المنفى إلي أين تعبر ، وأين سوف تستقرّ ، وفي أيّ الدُّروبِ تمضي ، وإليّ أيّ الجهات تسافر .. وإلي أيّ مدىّ يمكن أن تصل دون أن يبُاغتها صهيلُ المنافي : إلي أين !؟

   شيء يشبه الحرية أن تنام كما تشاء، وأن تحلم كما تشاء ، وأن تختار أفكارك في الحلم كما تشاء ، وأن تبثها في الحلم من تشاء ، وأن تمنحها لمن تشاء ، وأن تقرأها على من تريد عندما تشعر أن الوسائد ضاقت بأحلامها ، وأن الرؤوس ضجت بأفكارها ، وأن العشب لم تعد تدتدغُه أصابع الانهار ، ولا تستميله صبوة الضفاف .

   شيء يشبه الحرية أن تختار منافيك بنفسك ، وأن تبث للمساءات حزنك ، وأن تسافر في الريح والغيم بلا تأشيرات .. وأن تستقل قطارات الأفلاك باتجاه أحلامك العذبة .. ولا تكن أسيراً لشبر من التراب .. أو حفنة من العشق لأنين الجذور السَّاحق .. ولا تعيش مستوحشاً في أقبية النفس المكسورة كالراياتِ التي بين دم ٍ ودم علقوها لتصدح بالبُكاء كلما حانَ وقت رحليها عن ذراها باتجاهِ انكسارها .. وأنا كيف يمكن لي أن أقدم خبز الحرية ، منكسراً على ظلي أقبُع في محطات العواصم ، وظلي يلتمس تأشيرة الدخول ِ لتلك العواصم كيما أوزع خبزي على جياع العالم !!؟

 كثيراً ما ينهض صوتي في الحلم صاخباً مدوياً ثائراً عليَّ مُعاتباً : كيف لا أبعد عنه تلك الأفكار التي تحاصره بأسئلتها الحادة ، ورنينها العاتب : أين هو الوطن !!؟ ذاك الذي يمتد من الماء للصحراءِ ثم تقسمهُ بينها الخرائط والمتاريس والقبعات التي لا تفقه كثيراً ولا تفرق بين الخوذ وآنية الزهور .. ونحن لا نفقه كثيراً بما ترسم القبعات تحت رنين النياشين الغامض .. صوتي يشُبه الحرية .. وصوتك ِ الحرية ذاتها تلك التي أُهربها في قصيدة سراً في عباءة الليل إلي أصابع الصباح التي تبثَّها في الشوارع واللاّفتات وعشاق لأرصفة المنبوذين .. شيء من الحلم يمضي ، وشيء من الحلم يبقى ، وعندما أصحو أجد صوتي وظلي قابعين خلفي يستصرخان يقظتي ألا تغامر بالخروج إلي الحياة من أقبية الذات المنسية المستوحشة كهجليج كوجا كاجي الحزين ، وكنخل الله الغارق في أساهُ فوق ضفاف عيون القاش والنيل الحزينة . شيء يشبه الحرية أن أكتب القصيدة التي أريد ، وألايمنعني أحد من أن أبثها دمي وصوتي وأفكاري الساخطة التي أفلتت من جموحها ووحشة الجنون التي تتعقبها في منافيها .. والحرية تشبه شهقة دم ٍ قامت من شواهد قتلاها تصرخ في الوجوه التي نسميها مجازاً وجوهاً .. إلي أين تحت ظل النعوش ِ المُريبة تقفزين فوق التراب والدم والوطن باتجاه ِ الهاوية !!؟ آه ِ أيتها الوجوه الداكنة التي خطف بريق سمرتها الآسر ذاك الأفَّاق من سلالات الموبقات المارقة !!! وفق ما يشتهي المريدون .

   شيء يشبه الحرية أن تذبح أحلامك بيديك إذا عصتك تلك الأحلام ، ولم تمنحك فسحة الانتقال فوق تراب السُّودان كما الريح التي تجوب ذاك التراب بحرية مطلقة ، وشيء يشبه الاستلاب أن يذبح أحلامك الآخرون ليقطعوا الصلة بينك وبين الأحلام ورنين الجذور الحارق .

    في الراهن الصَّعب يحتملُ الحلم التأويل ، وتحتمل النظرة التأويل ، وتحتمل الرعشة التأويل .. فتجاوز تماماً كل ما يحتمل التأويل .. وأخطر تلك الاحتمالات تأويل الفكرة في الذاكرة وهي تهمُّ بالنهوض من رفضها ، والقصيدة وهي تهم بالانفجار .. عندها عليك أن تبحث عن منفى آخر خارج الكوكب المعولم الذي نعيش فوقه ونحن نتحسس رقابنا ورؤوسنا وجباهنا التي تبحث عن سمائها مثلما يفعل النخيل الذي يبحث عن ذُراه رغم أنوف الذين لا تستهويهم إلا تلك السراديب الموحشة ، وأقبية الليل الملعونة .

  نتحسس أفكارنا المصادرة في أحلامها إلي أين سيقذفون بها لو جاهرت في الواقع بأحلامها .. آه ِ لو جاهرت بأحلامها المستلبة !!؟

  يظلُّ الفكر مصباح الشعوب إلي النور والحرية والحياة ، وخبزها المتوهج بالمعرفة ، وتظل الثقافة نبض الملايين اليوميّ الذي يمدها بأسباب الحياة ، وموجبات البقاء ، ويظل الشعر التطلع الأهم في الأجيال لعلاها وغاياتها فإذا سقطت كل موجبات الفكر في أن يكون فكراً ، وسقطت كل موجبات الثقافة في أن تكون ثقافة ً ، وسقطت كل موجبات الشعر في أن يكون شعراً خلاقاً قيادياً .. موحياً وملهماً .. باثاً في الأجيال جذوة تطلعاتها التي تشكل حقها المطلق في الحياة والحرية واكتمال نصابها الوطنيّ الجماعيّ فوق تُرابها الوطنيّ الكلي الأرحب من حدود الأفلاك بعضها من بعض .. إذا غاب هذا كله عن ساح فعله وحقه ووجوده ، فهل يمكن لأصابع الرّماد أن تعيد صياغة وتشكيل ما يبدو مستحيلاً أمام جنون العاصفة الكونيّ الذي يطحن العالم من أقصاه إلي أقصاه ، ويعبر فوقه باسم المسميات الوهمية المارقة !!؟ كثيراً ما تمرُّ أصابعُ الأنهار على العشب فتجتثه من جُذوره ِ لأنه عشب واه ٍ لاحول له ولا قوة فوق سفوح تتلاطم فوقها العواصف والأحداث .. ولكن أصابع الأنهار ، وفوق كل العواصف العابرة .. لكننا نحن .. أين نحن : في كتاب الحياة السَّاحقة .. في كتاب العُشْب ِ الذي طحنتُه العاصفة ، وذرت رماده للريح ، أم في كتاب الشجر الذي لاتطاله أبداً ضراوة المستحيل !!؟ ربما ، ولبعض الوقت ، قد تنجح أصابع الشيطان في اللعب بمصير العالم كما تشاء وتستمتع بأحجار الشطرنج كما يحلو لها ، ولكن هل ستظل أصابع العبث تلعب لعبتها إلي ما لانهاية !!؟ وتلك نظرة الحزن والغضب والانكسار السَّاحق تخفي في أنينها الجارح كل ضراوة الطوفان .. آن تنعقد موجبات الانفجار على أنين راياتها .. وأن تستلهم الصرخة جذوة ً من رمادها لتنهض .

    شيء ما في  هذا الوطن يمدنا بالحياة .. وشيء ما في هذه الأمة سيبقى .. شيء يشبه المستحيل ، وشيء يشبه الخرافة في صهيل التحديات .. شيء يشبه الدم والحرية وأنين التراب الوطنيّ ينبث بين الدم والجذور والأفكار يُعيد صياغة الوطن / الحلم الذي ترصده الملايين في أفكارها الحية التي لا تنتهي ، وفي ثقافتها التي تتجدد بتجدد دم خلاياها الوطنية التي تمدها بأسباب الحياة ، وفي طموحاتها الفذة ، وفي شعرها الذي تعيد ترتيله السَّماء ، وتمجده الكائنات .

   شيء يشبه الحرية أن تبث أفكارك في الحلم فتتلقفها الخيالات التي ترسم على الوسائد أوطانها وطموحاتها وأمانيها ، وشيء يشكل أصول الحرية ويصوغها ذاك هو صوت دم ٍ شكل الوطن ، وكفاح شكل الذمة ، وصوت شعر كتب تاريخ أمته ووطنه بمداده الاحمر فوق ترابه الحزين .

 [email protected]



© Copyright by sudaneseonline.com